Thursday, April 28, 2016

نَم قَرير العين


 
صحوت على هدير نهر "آرنو" الذي يعبق برائحة الزّان..
يا لهذه المدينة الساحرة، إنّها فيض فردوسيّ حتى وإن لم يمكث فيها "جوته" سوى ساعات ثلاث، فعلى الرغم من أنه يوم مطير تعذّرت فيه جولتنا الصباحية التي اعتدناها، إلاّ أنّ بهجةً غامرةً تجتاحك وأنت تصحو على هدير أوركسترا "آرنو" الفخم.
عندما نزلنا لتناول الفطور، إنسابت موسيقى عذبة، وباذخة، وكأنّها ملتحمة بالمكان فيصلان إليك معاً، جلال المكان والموسيقى.
كانت تنسكبُ مثل عطر فتضمّخ الروح والمكان بجمالها، آه ...... إنني أعرف هذه الأغنية، إنها أغنية أوهدهدة (نم قرير العين) من أوبرا (زايديه) لـ "موزارت"..
من يُصدّق أنّ (زايديه) عملٌ لم يكتمل؟
فما أن أتمّ "موزارت" فصله الثاني، حتى هجره إلى عمل آخر، ومكث مهجوراً في غياهب النسيان، ولم ينتبه النقاد إلى هذا البهاء المهجور، إلا بعد عقود على وفاة "موزارت"، فوجدوه منقوصاً من المقدمة والفصل الثالث، والخاتمة.
وبعد مرور قرن على ميلاد "أماديوس" المحبوب (موزارت) أكملوا العمل، وسدّوا نقصه، وعُرض للمرة الأولى، فتسلّق منذ ذلك الوقت سُلّم الخلود، ولم تلمس قدماه الأرض من ذلك الحين.
أغنيتان.... "آرنو" و "موزارت" وأنا بينهما
ياله من صباح سعيد ...
كلُ شيءٍ مِنْ حولي يُردّد هدهدة المحبوب: نَم قرير العين يا حبي العزيز....

Monday, April 25, 2016

البندقيّة





أنثى العنكبوت في الغرفة رقم 10
هل يمكنك أن تزور البندقية ولا تلم به؟ إنّه قصر الدوق الذي تقاسم مع ابن خلدون طرفيّ المتوسط، عاشا في ذات العصر، وشهدا معا صعود العثمانيين وسطوع نجم تيمور ودخوله الشام.
وإذا كان ابن خلدون قد فاوض المغول بعد أن أنزلوه من أعلى السور في قفّة ليستقبله تيمور في فازة، فإن الدوج "دندولو" الجد هو الذي رسم للحملة الصليبيّة الرابعة خارطة طريق للقسطنطينيّة بدل القدس، وكفى المسلمين شرّ دهماء أوروبا.
ها هو الحفيد يشيّد من ذاك المجد التليد قصرا، ليكون لائقا لتكريم وفادة ضيوفه من البابوات والملوك وومبعوثيهم والكرادلة.
فكرتُ في ما سيكون عليه حال ابن خلدون لو استقبله الدوج في قصره، لعلّه لن يتردد أن يعرض عليه خارطتة أيضاً لفتح إفريقيا عرفاناً، كما فعل مع المغوليّ.
بعد نحو خمسة قرون من هذا التاريخ، ستسقط البندقية وسيتم ترسيم جديد للحدود، تخضع فيه البندقية للنمسا، ثم يلغي "نابليون" منصب الدوجيّة، فيصبح العصر الذهبي للبندقية أثرٌ بعد عين، وطال البلى بعد ذلك كثير من شواهد المدينة العظيمة، وكان قصر الدوج من بينها.
بحلول عام 1822 كان القصر قد هُجر، وتثلّمت جدرانه وصار آيلا للسقوط. في الوقت ذاته وقف بايرون في الضفّة الأخرى من إيطاليا يراقب فزعا جثة صديقه الشاعر "شيللي" وهي تحترق، قبل أن يقفل عائداً إلى البندقية ليعزّي النفس قليلا بالتسّلل عبر نوافذ البيوت ومشربيّاتها، فالشاعر يقسم أنّه قادر للنفاذ إلى مخدع أي إمرأة فينيشيّة، ولو كانت حفيدة الدوج نفسه.
ولمّا اشترى "دانيل" الرجل الموسر القصر، حوّله إلى فندق أطلق عليه اسم (فندق دانييل) وراقه أن يضيف مفردة الملكيّ ليكون الإسم: فندق دانيلليّ الملكي.
واجتهد الرجل كما فعل الدوج من قبل، في تزيينه وجعله قبلة أنظار الملوك والأمراء فقصده "وليم" ملك بروسيا و"شارلز ديكنز" و"بلزاك" و"بروست" و"جورج صاند" و"الفريد دي موسيه".
فبين جنبات هذا القصر، جمعت أنثى العنكبوت "جورج ساند" قصة حب بضحيّتها المسرحي والروائي الفرنسي "الفريد دي موسيه" وكان حينها في الثانية والعشرين من عمره، حدث ذلك في الغرفة رقم 10 ، التي ما برحت مأوىً محبّباً لكلّ طائفة العناكب.
كتبت "ساند" من هذه الغرفة مجموعة من رسائلها التي تعدّ ظاهرة فريدة في دنيا الأدب.
ولمّا انتابت "دي موسيه" وعكة صحيّة، طلبت "ساند" لحبيبها طبيباً، وما أن بدأ يتعافي حتى اكتشف أن العنكبوت قد تحوّلت عنه إلى طبيبه، فاستسلم الروائي الشاب للأمر الواقع، وعاد حزيناً بعدها إلى باريس.
وإمعانا في النكاية به، تبعته مع طبيبها إلى باريس.
ولمّا سحرها أنف "شوبان" الذي كان يستخدمه لأغراض عدّة، أقلّها اصبعاً إضافيّاً للعزف على أصابع البيانو، دفعت بالطبيب البندقيّ من النافذة، فعاد من حيث أتى يضمّد جراحه.
فكرتُ بهذا كلّه وأنا أتملّى بهو قصر الدوج بمقوّساته ومقرنصاته وأعمدته المنقوشة وبلاطاته اللامعة وسقفه المرتفع، والحيوات التي ملأ عَبَقها تاريخ القصر وغرفه الفخمة، والتي فات الشيخ ابن خلدون أن يظفر ولو بليلة واحدة فقط، من لياليها الحمراء.
‫#‏محمد_أحمد_السويدي_مقالات‬
‫#‏أثنى_العنكبوت‬
‫#‏قصر_الدوج‬
 

Sunday, April 24, 2016

Al Mahroosi and the Hounds of Hades

 

 

I could clearly glimpse the delight overflow from my father’s face as he continued his tour at the heavenly gardens of the Regent as if he was attempting to consume the sap of the distilled lives that had entrenched their feet and souls deep into that place generations ago.
His gaze was complex and profound, always stretching to the other end; for him a tree there was not merely a tree anymore; it was a creature that for our sake had abandoned one of its extremities to continue its eternity while being deprived of the ability to move. The tour had been more glamourous whenever the sun golden strands dusted off the London carpet.
That day fell in Al Murzim – The Announcer (Beta Canis Majoris) of the moon calendar which lasts for 13 days and contains one mansion which is Al Thira’ (The arm). The harvesters gave it the name of “The Color Cooker” believing that its Simoom and heat blizzards are what caused dates to ripen (be cooked). That season is known for bounties of ripen dates, lemon, pomegranate and most of the summer’s fruits and towards its end the rollers start to migrate.
Perhaps in a few days the table would have been filled with Murzim-cooked dates and we might had head towards those gardens with some of Al Thira’ pomegranate and lemons. Perhaps birds would have flown by and we would have remembered the migrating rollers.
My father’s was peaceful bearing a pure smile while pealing the layers of beauty to reach its core. This tranquility was only disturbed by flagrant dogs attempting to muddle the purity of the moment; some are soiling the ground and some are spreading their legs to “irrigate” a tree, some are endlessly barking and some are just showing hostility.
On the other hand, something would make such scenes recede and eventually disappear. The frown painted on my father’s face disappeared when he saw a Chihuahua engaged in a fight with a Doberman triple its size, a Great Dane, or even an Afghan dog, which had been brought by British troops from its homeland. Once we diverted our sight a bit, we would find a Humongous Caucasian dog dragging a thin man, so thin one would recall the saying of Al Mutanabbi:
“My slender body rendered me a man who if did not utter a word would have been invisible”
Yet a motionless dog might be seen gazing while his owner is whistling or even shouting as if its ears are blocked by tar.
All of a sudden, a Cerberus from Hades underworld might appear. In front of it, other dogs might seem to have lost their memory wishing they could meow like cats to make him move his eyes away and leave them in peace.
Sometimes women would take the scene inducing my father to recall the story of a young Sheikh named Al Mahroosi who had a petite lean posture. “Whenever a tender voluptuous woman passed by him” said my father while trying to contain a laugh; “Al Moahroosi would wonder how he would beak this wild mare with his collapsing body, a mare robustly stomping the ground to remind it of its presence”. He continued: “Al Mahroosi would glance women from the corner of his eye and if he made eye contact with any of them he would promptly find another safe place to gaze at”. My father recalled “Whenever Al Mahroosi was about to travel to London, his chest would shiver and tremble as if it’s about to pop out. The man definitely needed to be equipped with a genome in order to identify, decipher and comprehend beauty”.
What would Al Mahroosi do if one of those gigantic Cerberus hounds of hell decided to abandon its master and aggressively pursue Al Mahroosi

Saturday, April 23, 2016

في مقام شكسبير


 
 
 
تذّكرت زيارتي الأولى مع الوالد لمنزل "شكسبير" في "ستراتفورد ابون افون" منتصف السبعينات، فقلت لوالدي ونحن نمضي في نزهة في صباح يوم بهيّ: ما أعظم شكسبير؛ إذا كان المتنبي ربابة فشكسبير أوركسترا هادرة.
قال: هات ما عندك، فقلت: سأقلّب معك أبياتا حفظتها، وسأعرض عليك ترجمات عربيّة، وسأقترح ترجمة أخرى لبعضها، فقال لي تفضّل، فقلت: يقول "شكسبير" في العاصفة على لسان الروح –سبيريت- ايريال:
Come unto these yellow sands,
And then take hands.
Come onto these yellow sands,
And we’ll join hands,
وهذه ترجمها (مارون عبّود) كما يلي:
هلمّوا إلى هذه الرمال الصفراء
وضمّوا أيديكم المرتجفة العفراء
وسنضمّ أيدينا مع بعضنا البعض.
ومأخذي على ترجمته هذه، هي إقحام صورة ليست في النص الأصلي، فمن أين جاء بـ (المرتجفة العفراء)؟ ولذا أقترح الترجمة التالية:
تعالَ إلى هذه الرمال الصفراء
ولتأخذ أيدينا آنئذ بيدي بعض
تعالَ إلى هذه الرمال الصفراء
ولندع أيدينا متعانقة.
ولننتقل إلى قول الشاعر في المشهد الثاني، من الفصل الثالث، من العاصفة:
Be not afeard; the isle is full of noises,
Sounds and sweet airs, that give delight and hurt not.
Sometimes a thousand twangling instruments
Will hum about mine ears, and sometime voices
That, if I then had waked after long sleep,
Will make me sleep again: and then, in dreaming,
The clouds methought would open and show riches
Ready to drop upon me that, when I waked,
I cried to dream again.
يقول عبّود في ترجمتها:
لا تفزع. إنّ الجزيرة ملأى بالتمتمات والأصداء، والأناشيد الساحرة التي تفعم النفس طرباً ونشوة. وربّما سمعت ألف آلة تعزف دفعة واحدة أحيانا، فتصمّ أذنيّ، ثمّ تليها أصوات ودبكات توقظني كأنّي غائص في بحر النوم، بل بالحري تجعلني أرقد ثانية لأرى الحلم غماماً ينفتح ويفسح لي مجال التمتع بمشاهد كلها روعة وجمال. وكم خيّل إليّ أن السماوات توشك أن تسقط من علاها على رأسي، فأبكي حالما أفيق بكاءً مراً وأتمنى متابعة حلمي السحري.
أمّا ما أجده أليق بالمعنى فهو:
هدّئ من روعك؛ فالجزيرة ملأى بالجلبة،
والأصوات والأجواء العذبة التي تمنح المسرة بلا أي ضير.
إنّ ألفاً من آلات الطرب تصدح تارةً
حول أذني، وطوراً تترقرق الأصوات التي
لو أني صحوت عليها بعد طول رقاد،
فستردني إلى النوم العميق من جديد: وسأحلم آنئذ
بكل ما أتخيل من سحب تغدق بالنعم التي
سرعان ما تنهمر عليّ، حتى إذا صحوت
فكم أتلهف أن أحلم من جديد.
أليست (الجلبة) كلمة أعذب من التمتمات والأصداء وأقرب إلى المعنى الأصلي، وكذلك أليست الجملة (تصدح حول الأذن) أجمل من تصمّ أذنيّ، وجملة (سُحبٌ تُغدقُ بالنّعم) أسمى من جملة تسقط من علاها على رأسي.

Tuesday, April 19, 2016

الأسى اللاتيني وسلالة أوكتافيو باز



متُرى هل هذا هو الردّ الحضاري والإنساني العميق على حملة ”دونالد ترامب“؛ الذي يريد أن يبني سوراً بين الولايات المتحدة والمكسيك على أن تدفع المكسيك كلفته؟! وكان جاهر ببناء أسوار أخرى بين أميركا "البيضاء" والمسلمين والسود والمرأة وأعراق الهسبنانيكس -من أصول أميركية لاتينية-.
لا أجزم، لكن ما أعلمه أن أمريكا لا تهتمّ بالأصول والأنساب التي تشكّل نسيجها المجتمعي، فهي تفخر بأن هذا الخليط من الأمم هو ما يُكوّن الشخصية الأمريكية، مثلما لم تعد الكنيسة الإنجليزيّة تحفل؛ إذا ما كان أسقف كانتربري ابن أبيه أو أنه صافي النسب! الرد في تقديري جاء من ”اليخاندرو إناريتّو“ وكأنه أراد أن يوجّه في فيلمه الجديد ” The Revenant“ أو "العائد" رسالة بطريقة ما للمتعصبين الأمريكيين (رد نكس) -أي الرقاب الحمر-، إذ بدا جلياً أيضاً أن نجوم هوليوود تضامنوا معه.
أكاد أقول أن الفيلم خطاب (Discourse) مكتمل العناصر.
وجدت نفسي أضع الفيلم في هذا الإطار، وأعيد مشاهدته من هذا المنظور.
فقصة الفيلم تسلط ضوءاً على أولئك القوم الأوائل الذين وفدوا إلى القارة الأمريكية من كل حدبٍ وصوبٍ؛ أوروبي أساساً، جمعتهم في جغرافياتهم الجديدة -كما يحكي الفيلم- الأمية والخمول والفوضوية والوحشية التي وُسِموا بها
اختار ”اليخاندرو“ الطبيعة بوحشيتها وبدائيتها كخلفية أو كموازٍ يعكس قسوة أولئك الرجال الذين جاءوا من أجل تقطيع غابات العالم الجديد، وقتل وحوشه للظفر بفرائها التي كان الطلب كبيراً عليها في أوروبا.
وكانت تلك طريقتهم في تحصيل الأموال، كما كانت السبب في معاملتهم الوحشية والقاسية لأهل البلاد والسكان الأصليين.
رُصدت للفيلم ميزانية بنحو 95 مليون دولار، لكنها ارتفعت لتبلغ سقف 135 مليوناً.
إنه من الأفلام التي تنمو في محيط من المشاكل والمعوّقات التي تفرض عليها شروطاً جديدة غير متوقعة.
فمن المفارقات التي لم تكن في حسبان أحد أن مناطق شمال كندا وشرقها (بريتش كولومبيا) التي جرت العادة على تصوير أفلام على شاكلة "العائد" فيها، لم تثلج في هذه الفترة من العام ما يكفي لتصوير أحداث الفيلم، فتم نقل موقع التصوير إلى مكان قاسٍ وناءٍ في الأرجنتين.
كان ”اليخاندرو“ يعلم -كما يقول- أن التصوير سيكون شاقاً، إلا أنه مع بدء العمل اكتشف أن الامر أكثر مشقة بكثير مما توقّع.
الفيلم مأخوذ عن رواية وضعها الكاتب الشاب ”مايكل بونك“ عام 2002 بالعنوان نفسه، وتدور أحداثها عن سنة 1823 في براري





أربع ولايات أميركية؛ هي وايومينغ ومونتانا ونبراسكا وداكوتا
بطلها تاجر فراء اسمه هيو غلاس (ديكابريو). رجل يكابد خداع الإنسان ووحشة الطبيعة وقسوة الطقس وهجوم الدببة.
يبدأ الفيلم به وهو يقع تحت براثن دب جامح ينصرف عنه مجروحاً بما يقعده عن الحركة موشكاً على الموت.
يكتشف وجوده رجلان وهو يصارع الموت فيسرقان منه السلاح والمؤونة ويتركانه لمصير مجهول بعد أن قتلا ابنه، فكان عليه أن ينتقم منهما بعد أن تركاه يواجه مصيراً قاتماً.
يعزف الفيلم عزفاً رقيقاً على وتر عاطفي يستمر طيلة معمار الفيلم وبنائه الدرامي، ونرى مثالاً لذلك في المشهد الذي يخاطب فيه غلاس ابنه الهندي الذي كان رزق به من زواج سابق بامرأة من الهنود الحمر: "اسكتْ، إنهم لا يريدون سماعك، بل معرفة سحنتك".
إنها جملة مفتاحية في الفيلم، وأراها تلخّص موقف المكسيكيّ من الأمريكي وعقدة الأعراق، وعنصرية الرجل الأبيض. إنه مشهد لا يمكن أن نجد له مرجعية في مكونات العقل الأمريكي بمشاعره التي تميل غالباً إلى الحياد، لقد كان الحوار حالة مكسيكية بامتياز، بمعنى أن الأسى الذي أفصح عنه المشهد كان أسى مكسيكياً، وهذا ما فتح لي بعضا من مسالك "متاهة العزلة" لأكتافيو باز.
هنا قرأ باز الشخصية المكسيكية؛ انطلاقاً من ثورة زاباتا عام 1910، مروراً بكل التحولات الاجتماعية والثقافية؛ التي استبدلت الثقافة الكولومبية المسيطرة منذ عقود، بثقافة مكسيكية هي في حد ذاتها في مواجهة مع ثقافة الولايات المتحدة، والتي أوجدت الشخصية المكسيكية التي تعيش جدلية العزلة والانفتاح
لقد تماهيا ببراعة حتى تمكنا من استدراجي إلى مناخات الثقافة الأمريكية اللاتينية، التي أفرزت في القرن الأخير حالة إبداعية متكاملة، وعلى مستويات عدة من السرد إلى التشكيل فالسينما.





وها أنا اليوم بمواجهة تاريخ لاتينيّ من الأسى تمكّن صاحبه المتألق من الظفر بجائزة "أوسكار". إنّ فهم اليخاندرو يوجب بالضرورة فهم الشخصية المكسيكية، وهو أمرٌ يحاول أن يجعلنا نتعرّف عليه في مجموعة من الصراعات الوجودية طيلة أحداث الفيلم. حتماً اليخاندرو امتداد لأوكتافيو باز بثقافة بصرية. وعلى الجانب الآخر، نجد شخصية الأبيض -العنصري والمقيت والقاسي- وقام بدوره ببراعة كبيرة الممثل توم هاردير -الأمريكي الصرف- في مشهد يتحدث فيه فجراً، يقول: "تعرّف أبي على مجموعة من قطاع الطرق، وكانوا لا يكلّون من غاراتهم المتواصلة، وذات يوم فُجع أبي بقتلهم جميعاً، وممّا زاد من محنته أنه تم السطو على الخيول، فزحف وكان الجوع قد أمضّه، ونال العطش منه، إلى أن بلغ هذه الغابات، وهنا شعر بوجد صوفي وإيمان عميق، فلقد اكتشف أن الرب كان سنجاباً، بل سنجاب سمين، فقرر أن يقتل (ابن الكلبة)، ولم يتوان، فلقد قتله وأكله.
هذا المشهد جعلني أستدعي فيلمه الآخر "21 غرام" ومشهد جاك غوردن والقسّيس، فلدى اليخاندرو كوامن ثورة على تديّن المكسيكيين، فالمكسيكي بطبيعته مؤمن وقدري ومسلّم. إنه لا يكتم ثورته على ثقافة التسليم التي تطبع الروح المكسيكية. هناك أفلام تأخذك إليها بجغرافيتها، بل تجعلك مأخوذاً بها، وهذا الفيلم كانت الطبيعة فيه تنطق بلسان فصيح، فلقد شعرتُ أن هناك حواراً مركّباً؛ واحدٌ من فعل الطبيعة وعملها، والآخرُ هو حوار الشخصيات في الفيلم.
كانت موسيقى الياباني رويتشي سكاموتو، والتي رُشّحت لجائزة "غولدن غلوب" تُفاقم فعل التأمل تارةً، وتدفع الروح القبلية البدائية تارةً أخرى، فتؤجج الصراعات بين إنسانية الهنود وأصالتها ودموية المستَعمِر الأبيض وعنفه الاستيطانيّ. لقد حملتني بخفة كائنٍ لا يُحتمل إلى موسيقى فيلم "طريق الحرير" التي وضعها الموسيقار الياباني كيتارو. لأليخاندرو مشاهد يكررها في جميع أفلامه الخمسة التي سبقت هذا الفيلم؛ مشهد شان بن، وهو على وشك الاعتراف لناعومي بأن "القلب الذي يحمله هو قلب زوجها". وهنا تتصاعد الدراما في أقل من دقيقة، فتنتقل من الهدوء والسكينة إلى الصخب والجلبة. كرر الأمر ذاته في مشهد "بيردمان" في لقطة لمايكل كيتون، واضطراره السير عارياً في محفل من الناس.
في مشهد المطاردة في فيلم "العائد" حينما أفاق غلاس على قبيلة من الهنود الحمر تطارده، كان قبل ذلك سادراً في حلمه، فاستيقظ على هزيم البنادق ودخانها، لينطلق على ظهر حصانه هارباً، قبل أن يسقطا في هاوية عميقة.
حاز ديكابريو على جائزة "أوسكار" عن دوره في هذا الفيلم، وقد استحقها بالجدارة ذاتها التي كان يستحقها فيها غريمه في الفيلم (توم هاردي). فمنحت "غولدن غلوب" لهما جائزتي أفضل ممثّل وأفضل ممثل مساعد على التوالي، وكان حرياً بجائزة "أوسكار" أن تركض إلى الممثل المساعد برجليها.
لقد أصبحت عائدات الممثلين مجنونة، وكانت إلى سنوات قليلة تمثّل ميزانيات لأفلام ضخمة، فلقد بلغت في أحيان ليست قليلة ثلاثين مليون دولار أو أكثر.
لقد أراد ”ديكابريو“ أن يردّ الدَّين للمشاهد، فأكل وهو النباتي سمكة كانت لا تزال تنبض بين يديه، وأكل كذلك كبد ثورٍ أمريكيّ. وتعرّى في قسوة الشتاء ليدخل بطن حصان اتقاءً للبرد، وقبل ذلك تعلم إحدى لغات الهنود الحمر التي خاطب بها ابنه في الفيلم، وقام بالعديد من الأفعال التي لم يعتد عليها الممثلون، فهو من القلة التي تتميز بالقيام بما لا يخطر على بال؛ من أجل البلوغ بالدور إلى أقاصي غايته.
ولا يفوتني أن ألفت لظاهرة قلّما حدثت وهي فوز مخرج في عامين على التوالي بجائزة الأوسكار، ولكنّه لم يحدث قط أن فاز مصوّر كأيمانويل لوبزكي المكسيكيّ بجائزة "أوسكار" للتصوير لثلاثة أعوام على التوالي عن فيلم "غرافيتي" (جاذبيّة) و"بيردمان" (الرجل الطائر) و"ريفرنت" (العائد).
لقد دخل المكسيكيّون على ”ترامب“ بلاده من الباب العريض.

Saturday, April 16, 2016

الكلاب السربروسية

يمكنني أن ألمح البهجة تفيض على ملامح (والدي) وهو يواصل جولاته في الحدائق الفردوسية في "الريجنت"، وكأنه يسعى إلى تقطير كل الحيوات التي غرست أقدامها وأرواحها في المكان منذ عدّة أجيال.
النظر يكون مُركّباً وعميقاً ويصل دائماً إلى الجهة الأخرى، فالشجرة هنا لم تعد شجرةً فحسب، إنها كائنٌ تخلّى عن ساقه الأخرى لكي يواصل أبديّته من أجلنا، من دون أن يمتلك القدرة على التنقل.
تكون الجولة أكثر بهاءً، كلما نفضت الشمس البرد عن سجادة "لندن" بخيوطها الذهبية.
نحن اليوم في المرزم ومدته 13 يوماً، ويحتوي على منزلة واحدة تسمى الذراع، وهي المنزلة الخامسة من منازل الصيف، ويطلق عليها أهل الحرث اسم: طباخ اللون؛ لاعتقادهم أن السموم والرياح اللاهبة التي تميّزه هي من أجل طبخ التمر وإكسابه اللون. وفيها يكثر الرطب، والرمان، والليمون، ومعظم الفواكه الصيفية .
وفي آخرها تبدأ طيور الخواضير بالهجرة .
وربما ستحفل المائدة بعد أيام بالتمر الذي طبخه المرزم وأكسبه لونه، وقد نقصد هذه الفراديس ومعنا بعض من رمان الذراع وتينه وليمونه. وربما سيمرق طير، وسنتذكر معاً هجرة الخواضير .
لا يعكّر صفو أبي - وهو يعكف بابتسامة صافية على تقشير الجمال وصولا إلى لبّه- سوى بعض الكلاب التي تنهج سلوكاً شائناً وكأنها تحاول تفريغ اللحظة من عذوبتها، فبعضها يقضي حاجته، والآخر يختار جذع شجرة ويفرج ساقيه ليتبوّل، أو يبدأ النباح دون أن يبدو أنه سيتوقف قريباً، وربما يُظهر بعض العدائية.
ولكن في المقابل هناك ما يجعل مثل هذه المشاهد تنحسر ولا يمكث منها شيئاً، وتبدأ التقطيبة التي ترتسم على جبهة الوالد تختفي عندما يشاهد كلبا من نوع "التشي واوا" الصغير وهو يشتبك مع كلب بأضعاف حجمه من نوع "الدوبرمان" أو "الجريت دان" أو الكلب الأفغاني الضخم الذي جاء به الجنود البريطايون من موطنه الأصلي، أو تنحرف ببصرك قليلا لتجد كلباً قوقازيا هائلاً يجرّ رجلاً نحيلاً يكاد لفرط هزاله يجعلك تستعيد مقولة أبي الطيب المتنبي:
كَفى بِجِسمي نُحولاً أَنَّني رَجُلٌ ** لَولا مُخاطَبَتي إِيّاكَ لَم تَرَني
وقد ترى كلباً يتطلّع إلى صاحبه بكسل، وهو يصفر، وربما يصرخ، وكأن في أذن الكلب وقراً.
وأحياناً وعلى حين غرّة يظهر كلب من ناحية ما وكأنه "سربروس"، يجعل الكلاب الأخرى تبدو أمامه وكأنها فقدت ذاكرتها، ولو كان بوسعها أن تموء لماءت كالقطط حتى يحوّل بصره عنها ويتركها بسلام.
وفي مرات أخرى تظهر بعض النساء، فيستعيد الوالد حكاية شيخ شاب اسمه (المحروسي)، كان يميل إلى القصر والهزال، فإذا تهادت امرأة بضّة بقوام ممتلئ، يقول الوالد وهو يغالب ضحكه: كيف للمحروسي بجسده الذي يوشك أن يتداعى أن يروّض مثل هذا الفرس الجموح الذي يضرب الأرض بقوة وكأنه يعيد تذكيرها بوجوده.
كان المحروسي يرمق النساء من زاوية عينه، فإذا صادف أن التقى بصره ببصر إحداهن، فسيكون عليه أن يبحث على وجه السرعة عن مكان آخر يسلم على نفسه وبصره فيه.
كان عندما يهمّ بالسفر إلى لندن يشعر بفرائصه ترتعد وكأنها توشك على مغادرته، كان يحتاج إلى شفرة وراثية ليتمكن من معرفة الجمال وتفكيكه وإدراكه.
ولكن ما الذي سيفعله المحروسي لو فكّر أحد الكلاب "السربروسية" الهائلة أن يتخلى عن صاحبه ويهرول صوبه..؟
 

«بعيداً من أريتسو ... قريباً من برونو» محمد أحمد السويدي



مقال جديد لــ ـ#محمد_أحمد_السويدي نشرته ‫#‏صحيفة_الحياة‬
اليوم
«بعيداً من أريتسو ... قريباً من برونو» محمد أحمد السويدي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المدينة الإيطالية «أريتسو»، هي الأم التي لم تكن يوماً رؤوماً قطّ، وفعلت كل ما من شأنه جعل أبنائها ينفرطون كحبّات مسبحة بعيداً منها، إنها مدينة تشبه رحماً يلفظ أبناءه، ما أن تقطع عنها حبلهم السريّ. لقد دفعت إلى الحياة نوابغ كبترارك وأوروتينو وفاساري، ولفظتهم كفم عجوز تلفظ النوى، فمن يلومهم إذا ساروا في الأرض. زرتها وكأني ذهبت أفتّش عن تلك الأسباب التي جعلت نوابغها يتقلبون في البلاد، ودفعني ذلك إلى شعور من التّوجس من سبب ما، لعلّه في الهواء، أو في الجغرافيا، أو لعلّه الماء، أو الشمس. لكنها مدينة لا تفتقر إلى الجمال ولا إلى البهاء، ولا الهواء المنعش، ولا من الخضرة المحدّقة بك، ولا ساحتها، وهي مع ذلك ما زالت في القلب من توسكانيا، مخبوء في أزقتّها القديمة، في جدران بيوتها أو في الشيميرا وجه الأسد وذيل الثعبان ورأس المعزة تنبثق من الظهر، رمز مدينتهم، وحيوانهم الأسطوري الذي جاء على ذكره هومر في إلياذته. دخلتها وأنا أريد ان أتعقّب ما بذره بترارك وصحبه في طريق السالكين إليها، كنت افكّر أن رجالاً كهؤلاء منحوا العالم طريقتهم في الحياة، لا بد أن تكون بقايا منهم علقت في طرقات اريتسو وسبلها الضيقة وساحاتها ومصاطبها. حانت ساعة الغداء، ورحنا نفتّش عن مطعم نلوذ به، فشدّتنا لوحة عريضة، ومدخل نصب كالفخ لطريدة مثلنا، فدخلناه.
لم نكن نعرف قراءة قائمة طعام بالإتروسكانيّة، كما أنّه ليس لنا سابق معرفة بالمكان وروّاده، فقد دفعتنا إليه المصادفة المحضة، وتلك اللوحة البغيضة التي نصبت للسائرين.
كان الناس من حولنا متجهمين غلاظاً، يعكفون على ازدراد الطعام بنهم، تقول ملامحهم إنّنا نتحدّر من جدود إتروسكان. لم نكن نشعر بالجوع الذي دفعنا إلى جحيم دانتي هذا بلا شفقة، فأختار صاحبي طبقاً واخترت طبقاً آخر، وعندما نبّهني أن طلبي مكوّن من ثلاثة أطباق على التوالي، حاولت استدراك الأمر على عجل، فقلت لصاحب المطعم بهمس بعدما سألته الاقتراب: سأكتفي بالطبق الرئيس ولا حاجة لي بالطبقين الأخريين.
حدّق بي الرجل بغلظة، ونفاذ صبر، وقال بإنكليزيّة مهشّمة لا تكاد تفهم ما معناه: لا يمكنك ذلك، فالطباخون كادوا أن ينتهوا من إعداد أطباقك، ولقد انتهوا هم أنفسهم من تناول وجباتهم، وما عادوا يطيقون على أكل المزيد، وأنا كذلك، أما الزبائن فكما ترى منهمكون بتناول الطعام، فأين ستراني اذهب بأطباقك؟ فقلت له لا بأس سأسدد الثمن، وكنت أريد بذلك ألا يبالغ بثورة غضبه، وأن أعمل على تهدئته، ولكنه كان يبدو كمن أعدّ نفسه لمثل هذه الخطوب، فقال وقد بالغ بنفاد صبره أكثر من ذي قبل: الأمر لا يتعلّق بثمن ما طلبت، بل بما طلبت أنت بنفسك، أين سأذهب به، ماذا سأفعل بأطباقك الثلاثة إن لم تأكلها. شعرت في تلك اللحظة بأن الرجل قد خرج من عباءة أريتينو، أو أن لإريتينو أحفاداً ما زالوا يداولون حرفة الإبتزاز، واستعدت على نحو غير متوقّع في موقف كهذا صورة أريتينو، ويده المقطوعة الأصابع، وتماثل الشبه بين لحيتيّ الرجلين، فقلت في نفسي إن لحية أريتينو وحدها لا تكفي.
لقد تحققت أسوأ كوابيسي، وحدث ما كنت أخشاه من حيث لم أحتسب، فقد كنت متوجساً من مصادفة رجلٍ كهذا في مدينةٍ كهذه. ثم استدار ناحية زبائنه وصار يحدّثهم بالإيطالية مما جعلني ملفوفاً بغلالة من الحرج الشديد، وهكذا اضطررنا إلى التظاهر بالأكل. كان الأكل غليظاً كالمطعم وصاحبه. وخرجنا من المطعم عدواً، بل من أريتسو كلها كما خرج من قبلنا بترارك وفاساري، وفارقنا المكان ولسان حالنا يقول، كما يقول الطليان: «لذ فراراً من فوجيا، لا من فوجيا نفسها، ولكن من أهل فوجيا».
عزيزي برونو
في قلب البيازا كامبو دي فيوري (ساحة ميدان الزهور) يقف نصب جيوردانو برونو في صمت وهيبة، في المكان ذاته الذي تحلّق حوله شرذمة من الغوغاء في صبيحة السابع عشر من شباط (فبراير) عام 1600م لمشاهدة تنفيذ حكم محكمة التفتيش. جرّد الفيلسوف المشاغب من ثيابه، وربط لسانه السليط، وشدّ إلى خازوق من الحديد وأحرق فوق كومة من الخشب. إثر أنّه خاطب القضاة عندما تلوا عليه قرارهم قائلاً: «لعلّكم أشدّ جزعاً من هذا الحكم منّي أنا الذي تلقّيته». لم يكن ذنب برونو الذي جناه سوى أنّه ذهب مذهب كوبرنيكوس في أن الأرض ليست مركز الكون كما زعم بطليموس وأن البابا ليس مركز الأرض، وأن الأرض ما هي إلا ذرّة في فضاء لا متناهٍ، كون لا نهائي ليس له مركز أو محيط تنفث فيه الحياة روح واحدة. وخالف أستاذه قائلاً: أن النجوم (وذلك قبل مولد التلسكوب) غير ثابتة وأنّها تغيّر مواقعها على الدوام، وتساءل ما إذا كانت هناك نجوم تسكنها كائنات ذكيّة، فهل مات المسيح من أجلها أيضاً؟ وقال ما أشبه الشعب بالبهيمة والحاكم بالطفل الذي يتحكّم بها فيوجّهها أنّى شاء بما يتفضّل عليها بالنزر القليل من المال، والذي هو في الأصل مالها هي. لم يحتمل الحاكم البابوي هذا التحريض فأسلم برونو إلى محكمة التفتيش بعدما قبض عليه في البندقيّة وذلك بعدما طاف أوروبا ستة عشر عاماً محاضراً في أرقى جامعاتها كأكسفورد والسوربون والكوليج دو فرانس وحمل بعدها أسيراً في مركبة إلى روما وتعرّض في عاصمة الأنوار إلى الكثير من المهانة والإذلال من عبيد البابا ورهطه قبل أن يصدر عليه الحكم بالهرطقة والموت حرقاً.
غاليليو ومناظيره
وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً من هذا التاريخ وخوف لقاء المصير نفسه من محكمة التفتيش عينها وقف الشيخ الكبير غاليليو بعدما أبصر ورأى بمناظيره وعدساته أن الكون أكبر ممّا يظنّ البابا نفسه وأعلن أمام المحكمة في روما بأنه نادم أشدّ الندم على هرطقته وزيف ما خيّل إليه أنه رآه، وأن كوبرنيكوس ما هو إلاّ مدلّس كبير. أقف أمام النصب الذي أقيم احتفاء بذكرى الرجل العظيم، والذي جمعت فيه التبرعات من كل أصقاع الدنيا عام 1889 في قلب ساحة الكامبو دي فيوري وأهمس للهيكل الذي يلفّه صمت ووقار: عزيزي برونو أنت من ألي الفضل إلى ما بلغه الغرب من تقدّم لا بفلسفتك وعلمك فحسب بل بحدسك الشعريّ الذي حيّر الزمان. لعلّك تأسى أو لعلّك تبتسم إلى ما بلغناه نحن، فنحن يا سيّدي بعد خمسة قرون خلت على رحيلك ما زلنا بسلامة صدر شبيهة بغباوة طبع نقسم بأن الأرض هي مركز الكون وأن المجرّات الضخمة ما هي إلاّ مصابيح تزيّن صفحة السماء.
خليج الشعراء في طريقه إلى جنوى، وصف بترارك مدن الريفيرا الإيطاليّة بأنها تيجان تكلّل هامات الجبال المنحدرة إلى بحار لازورديّة قال فيها الشاعر الشاب: «إنّها أشبه بالسماء منها بالأرض». فما وسع بايرون إلاّ أن هبّ إلى تلك الشطآن يجرّب فيها مواهبه في العشق والسباحة والشعر، فكتب في أحد مغاورها قصيدته «القرصان»، وكذلك شيللى الذي اختار أن يلقى هناك منيّته على غرار التراجيديا الإغريقيّة التي كان مولعاً بها، فاحتفظ بنسخة من «سوفوكليس» وجدت في جيب بنطاله عند غرقه، أمّا مونتيل الحائز جائزة نوبل في الآداب عن عام 1975، فآثر أن يوزّع أشعاره على أصحاب البقالات والمحلات وكأنه يعود بالشعر إلى رحمه الأول.
ومن كوكبة النجوم تلك اشتّق اسم الخليج. يحفّ بالخليج عقد من القرى أهمهّا وأجملها بورت فينيري، وهي مفردة مركبة ومنحوتة من كلمتين: الأولى ميناء، والأخرى ربّة الحب فينوس. هكذا اختار الرومان الأوائل هذا المكان الرومنطيقي منتجعاً يليق بالربّة، وأقاموا لها معبداً على هامة جبل، ما زال العشّاق منذ القدم وإلى اليوم يسترقون القبلات بين صخوره المشرفة على وجهها الكريم. وكان أهلها يرون أنه عند بوتوفينيري ينتهي العالم. لكنّ الكنيسة سرعان ما استلهمت خطوط حمار وحش أفريقيّ مسحت به ظهر معبد فينوس ونسبته إلى القدّيس بطرس. وهو يبدو اليوم مثل جرم صغير فقد ذاكرته، ولا يسع الزائر إلاّ الشعور بمغناطيس فينوس الطاغي في كلّ مكان، وغياب أي أثر لبخور القدّيس. ثمّ لا سبيزيا، التي كانت يوماً ما مدينة تعبق من بيوتاتها وأزقتها رائحة البحر والسراخس والأصداف والطحالب العالقة على الصخور والتي منحت البحر صفاءه الخالص قبل أن تتحوّل لاحقاً إلى ميناء صاخب، ومركز للأسطول الحربي الإيطاليّ، ففسد بذلك سحرها القديم.
ولقد أنكرتنا كما أنكرناها، فالميناء والأسطول ملكان أفسدا القرية وذهبا ببهائها. ومدينة ليرشي، وهي المدينة التي أقام فيها الشاعر بيرسي شيللي، وربما فيها تحسّس موقع القلب في صدره قبل أن يفقده في رحلته الأخيرة. كما أقام بها لاحقاً الروائي دي إتش لورنس. ثمّ لوفيرنو التي أبحر منها شيللي في صبيحة يوم الثامن من تموز (يوليو) عام 1822 مع زمرة من صحبه ولم يصل منهم أحد إلى ليريشّي. مات شيللي غرقاً، وعُثر على جثته بعد أيام عند فياريجيو وقد تحلّلت على نحو جعل بايرون ينفر منها فزعاً فسبح إلى سفينته البوليفار بعدما حرق جسد الشاعر وانتزع صديقه تريلاوني من الجسد المحترق القلب.
رماد شيللي
كتبت الصحافة البريطانية بعدما بلغها نبأ وفاته: طوى الموت شيللي، الشاعر الرقيق، احتفظت زوجته ماري برماد قلبه، طوال حياتها، وبعد وفاتها دفن مع ابنهما فلورنس شيللي. كان شيللي قد رثى قبل عام من موته بقصيدته أدونيس صديقه كيتس الذي قضى بمرض السلّ في روما، ورحّب في مقاطعها الأخيرة بالموت، ففي الموت راحته لأنه سيلتقي بالميت الحي (كيتس): نور الله يشرق دائماً، وظلال الأرض تزول، والحياة كقبة مزدانة بكثير من الزجاج المعشّق تلقي ظلالها على شعاع الأبدية الأبيض فتغير لونه حتى يسحقها الموت فيهشّمها أيها الموت إن كان هذا ما تطلبه فلم تتوانَ؟ لم تتراجع؟ ولم تحزن قلبي؟ الآن، وأكثر من أي وقت مضى، يبدو شيئاً نفيساً أن تموت، أن تتوقف أنفاسك في منتصف الليل بلا ألم، بينما أنت تدفع روحك خارجك في نشوة ما بعدها نشوة، وانجذاب يفوق كل وصف.
كيف للجنة أن تكون إذا لم تعد فيها بورتو فينو، لن تكون كذلك أبداً، كنت أتطلّع إلى مينائها والحياة التي تدبّ فيه، ومن ذلك المكان الذي يشرف عليه كنت أرنو إلى سفن صغيرة راسية على الرصيف تخرج الحبال من خواصرها إلى قضبان حديد لتثبيتها، وكان المشهد عرساً من الألوان يشعرك بأن نبتون يرقص طرباً. رأيت رجلاً بقميصه الأحمر وهو منهمك بجمع القواقع على حافة زورقه، قلت لصاحبي وأنا أرمقه: ستكون هذه وجبتنا اليوم في «بورتو فينو».
* شاعر من الإمارات
النسخة: الورقية - دولي: الجمعة، ١٥ أبريل/ نيسان ٢٠١٦ (٠١:٠)