ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
4-أعمال التشريح
التشريعات، النسخ، المسائل، الرسائل: حياة ليوناردو في أولى شهور عام 1508- وتبدو آخر شهور يمضيها في فلورنسا، كما تبين لنا- حافلة بالأعمال الكتابية، وللمرء أن يقول العدلية. أكداس الورق في مرسمه في شارع لارجا توشك أنْ تفوقه حجماً بينما هو يكتب جالساً. انسدل كتفاه، ونظره يتعبه، وأضاء الشيب لحيته. هنالك أنشطة فنية نكاد لا نعرف عنها شيئاً: اللوحتان الغامضتان للسيدة العذراء بحجمين مختلفين من أجل الملك لويس، والموناليزا التي لا تكتمل أبداً، والعمل الإشرافي على مجموعة منحوتات روستيشي لصالح كنيسة المعمدانية، وربما بعض اللمسات الأخيرة على الجزء العملاق من معركة الانغياري، بيد أنّه ليس هنالك توثيق لهذا، ولا لعلاقاته- إن وجدت- مع الغونفالونير. يتخلى ليوناردو عن علاقاته بذات السهولة التي يتخلى بها عن لوحاته- وهي مهارة كما قد يقول الطبيب النفسي، والتي تعلمها مبكراً من والده.
ولكن ربما كان أهم الأعمال في شهوره الأخيره بفلورنسا- العمل الذي فتح باباً جديداً من البحث بتركيز شديد- فلا يجد في يده قلم ولا فرشاة بل مشرطٌ. ففي مذكرة شهيرة تعود لأواخر عام 1507 أو أوائل عام 1508 يسجل ليوناردو تشريحه لجثة رجل عجوز:
هذا الرجل العجوز، أخبرني قبل وفاته، بأنّه عاش لأكثر من مائة عام، وأنّه كان واعياً لا يعاني أي نقص في شخصه سوى الوهن. وبالتالي، كان جالساً على سرير في مستشفى القديسة ماريا الجديدة في فلورنسا، بدون أي حركة أو إشارة للألم، لقد فارق الحياة. وقمت بالتشريح لمعرفة السبب وراء الموت السهل.
كما أنّه أيضاً وحوالي الوقت نفسه، شرّح جسداً لطفل في الثانية من العمر، " وفيه وجدت كل شيء عكس مافي ذلك الرجل العجوز."
لقد انصب تركيزه فجأة على الدورة الدموية. وبجانب أحد الرسومات التي تظهر الأوردة السطحية للذراع، يكتب الفرق بين أوردة وشرايين "الرجل العجوز" و"الطفل". وهو يشك أنَّ سبب وفاة الرجل العجوز كان يعزى إلى "ضعف سببه نقص الدم في الأورطة والتي تغذي القلب والأجزاء السفلى". ويجد أنّ الأورطة " جافة، ورقيقة وذاوية"، و" بالإضافة إلى سمك جدرانها الواضح، فإنَّ هذه الأوعية تزداد طولاً وتلف نفسها كما يفعل الثعبان." لقد لاحظ أيضاً أنّ الكبد، محرومة من الإمداد الدموي الكافي، " وأصبحت جافة ومثل النخالة المجمدة في لونها وقوامها". وأنّ الجلد في الرجل المسن كان له "لون الخشب، أو البندق المجفف، بسبب أنَّ الجلد كان محروماً تماماً من التغذية". ولاحقاً بحبر مختلف يكتب تذكيرًا جلفًا: " جسّد ذراع فرانسسكو رسام المنمنمات والتي تظهر فيها أوردة كثيرة." وفي ورقة مشابهة يناقش ما إذا كان القلب أم الكبد هو العضو الرئيسي للنظام الدوري الدموي، ويخلص إلى أنّه (مع أرسطوطاليس ضد غالين) وأنّه القلب الذي يشبهه بصخرة من الخوخ تنمو فيها "شجرة من الأوردة".
هذه اللغة النصية العملية العالية – ثعبان، نخالة، خشب، بندق، حجر الخوخ- في تباين واضح بالنسبة للنبرة الأكثر ما ورائية لتشريحاته الأولى في أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر، وباهتمامه "باجتماع الحواس"، واحتشاد "الأرواح الحية"، وغيرها من المسلمات التقليدية للقرون الوسطى. وهنالك حركة مشابهة بعيداً عن الماورائيات نجدها في مقالته القصيرة حول البصريات (مخطوطة باريس(د) الآن)، والمكتوبة في أواخر عام 1508، والتي تؤكد على الطبيعة المتلقية المحضة للعين وغياب أي أشعة غير مرئية أو "روحية" تنبعث منها. (النموذج التقليدي أعتقد أنَّ الفكرة سابقة لعصرها في هذا المجال). العين يمكن أن تكون "نافذة على الروح" كما كان يحب أن يقول، ولكنها أيضاً آلة مصغرة يجب أن توضع أجزاؤها قيد التحليل والفهم.
تشريح تحليلي للكتف والعنق من صفحة في وندسور تعود إلى 1508-1509
الأعضاء التناسلية لأنثى، ودراسات للعضلة العاصرة الشرجية، 1508-1509
وفي الفترة ذاتها 1508-1509، رسم أشكالاً جميلة توضح الرئة والأعضاء الباطنية، ربما لخنزير، ومرة أخرى بتناسب نباتي. وتظهر هذه ليوناردو وهو يناضل مع مشكلات عرض التشريح- باحثاُ عن ذلك التكنيك الشكلي الذي يجمع بين التفاصيل السطحية والشفافية. والحكاية التي أوردها فازاري حول نفخه مصران خنزير حتى مُلئت الغرفة، وقد وُظف كتذييل مروع لتشريح الخنزير هذا. إنه يحب أن يفزع ويرعب الناس: الجانب المسرحي منه.
وأيضاً من ذلك الوقت نجد رسوماته الشهيرة التي تظهر فرجاً ضخماً لامرأة، وتبدو أعضاؤها التناسلية تشبه الكهف لدرجة غير واقعية حتى لو كان الرسم لامرأة حديثة الولادة أو حاملاً بعدد من الأجنة. إنني أميل بشدة إلى ربط هذه المبالغة الغريبة بنص ليوناردو القديم حول "المغارة"، وأعتقد أنّ ذلك الخوف الذي عبر عنه حيال النظر إلى داخل تلك "المغارة" المظلمة الخطيرة، كان جزءاً من مواجهة عقله الباطن للأمور الغامضة المزعجة في جنس الأنثى. ومن خلال التفسير الفرويدي؛ فإنَّ "الشيء المروع" الذي ربما أدركه بين جنبات الكهف، كان غموض الإنجاب والولادة. وطيات الفرج قد أشارت لنا إلى موقع حارس بوابة القلعة." صور أعضاء المرأة الجنسية كـ"قلعة" محروسة أو "حصنٍ" لتحاصر وتخترق من قبل رجل ذي عزيمة وتصميم، وهي موضوع شائع لقصائد الحب.
وفي ورقة من ذات المجموعة نجد مناظر لأنثى واقفة تبين رحمها في أوائل شهور الحمل، ورسومات لأعضاء تناسلية ذكرية وأنثوية، ودراسة لرحم بقرة وفيه جنين صغير، وتفاصيل لمشيمة البقرة، والتي يصف ليوناردو أنسجتها بالعبارة " متشابكة مثل نبتة شائكة". وهذه الدراسات عند إعادة رسمها تبدو على صلة بالموضوع التناسلي لليدا، والذي من الجائز أنّه كان يعمل عليه في 1508-1509، وانعكاس خيال لليدا في خطوط الأنثى الحبلى. وعلى ظهر الورقة صفحة مدهشة من دراسات الفم وعضلاته، ومن بينها شفتان شبحيتان يبدو أنّهما طفتا من وجه الموناليزا، على طراز قطة شيشاير.
والملاحظات حول "الرجل العجوز" المكتوبة في أواخر عام 1507 وأوائل عام 1508، تحتوي على إشارة واضحة لليوناردو نفسه، يقوم بالتشريح البشري، ولكنه ربما قام بتشريح آخرين قبل هذا، لأنّه وفي صفحة تشريحية أخرى تعود إلى تأريخ 1508 يدعي أنّه شخصياً قام بتشريح-[disfatto]: تفكيك- " أكثر من عشرة أجساد بشرية." وهو يتباهى ببراعته في استخدام المشرط. ليصل إلى " معرفة حقيقية وكاملة" بشرايين الجسد. لقد أزال " في أغلب الأحيان كل ما يحيط بالشرايين". ولقد لاحظ أيضاً المشاكل الإجرائية في أيام ما قبل التبريد: " إذ أنَّ الجسد الواحد قد لا يظل وقتاً أطول، فمن الضروري استخدام عدد من الأجساد على التوالي، حتى الوصول إلى المعرفة الكاملة [للشرايين] ، ولقد قمت بتكرار هذه العملية مرتين، حتى أراقب الاختلافات." وهو يصف التحديات، والرعب في الحقيقة الذي يكتنف المهمة. " أنت " – القاريء- الذي سيصبح عالم تشريح- " ربما حال بينك وبينه الغثيان."
وبعض هذه التشريحات نُفذت دون شك بينما كان هذا "الرجل العجوز" و"الطفل" في مستشفى القديسة ماريا نوفا. لقد عرف المكان جيداً: لقد كان مصرفه وفي بعض الأحيان مستودعه. فربما كان له نوعٌ من التصريح الرسمي لهذا الأمر- حتى "الأطباء والدارسين- من المرسم الفلورنسي تعين عليهم الحصول على الإذن من القاضي قبل إجراء تشريح عام في الصليب المقدس في عام 1506. ولكن يبدو أنْ ليس جميع التشريحات التي قام ليوناردو تمت هناك. وهو يتحدث يستشعر "خوف الحياة في الليل في صحبة هؤلاء الموتى، مبتوري الأعضاء ومنزوعي الجلد، ومن المخيف لمسهم." ربما كان يبالغ في هذا الشيء قليلاً، ويشير ضمناً إلى أنّه قد قام مسبقاً بإجراء تشريحات في سكنه الخاص أو مرسمه، إذ أنَّ الخوف من قضاء الليل مع الجثث، والذي لا يعد ضرورياً إن كان يقوم بتشريحها في مستشفى القديسة ماريا الجديدة.
كان التشريح ما يزال مثيراً للجدل، وكان مسموحاً به وفق تصريح ولكنه ظل نشاطاً مريباً، يجذب الإشاعات والخوارق مثل "الفنون السوداء"، للتعذيب وتدابير السحر في القرون الوسطى. استخدام الجثث المتكرر من المشانق آضاف المزيد من التوتر. ولقد كان ليوناردو حريصاً على فصل نفسه من جميع هذه الأمور، وهو السبب في أنّ القطعة التي تصف تشريحاته تتضمن هجوماً روحياً على السحرة الدجالين:
تنتقم الطبيعة لنفسها من أولئك الذين يودون فعل المعجزات..لأنّهم عاشوا في فقر مدقع دائماً، لأنّه كذلك ودائماً سوف يكون حال الخيميائيين الذين يبحثون عن الطريقة لصنع الذهب والفضة، والمهندسين الذين يريدون خلق قوة حية من المياه الميتة في حركتها الدائمة، وأغبى هؤلاء هم محضرو الأرواح والسحرة.
سببت هذه الأبحاث لليوناردو نزاعاً مع الكنيسة لاحقاً في روما، " ومنع من التشريح" من قبل حاقد أبلغ البابا بأنشطته. وقد زادت الحركة المناهضة للإصلاح من صعوبة هذه المواقع. وبعد نصف قرن من الزمان حكم على المشرّح البلجيكي أندرياس فيساليوس، كاتب نسيج الجسد البشري (1543)، بالموت من قبل مكتب التحقيقات عند إدانته بخطف جثة وتشريحها وتم تخفيف الحكم عليه بالحج إلى أورشليم ولكنه توفي في رحلة العودة في عمر الخمسين.
وعندما يتحدث ليوناردو عن إمضاء الليل في صحبة الجثث، نلتقط إشارة إلى أنّ عمليات التشريح كانت تتم خلف الأبواب الموصدة، وفي سرية مشوبة بهرطقة. وقد كانت غريزة البحث دائماً أقوى من الراحة الشخصية، أو السلامة المذهبية في نظر ليوناردو.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment