Thursday, March 14, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - الجزء السابع العودة إلى ميلانو 1506-1513





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

الجزء السابع
العودة إلى ميلانو 1506-1513


حالما تفتح العين ترى كل نجوم العالم. ويقفز العقل في لحظة من الشرق إلى الغرب
مخطوطة اتلانتكس، ص 204 المجلد أ

1-الحاكم

في أواخر شهر مايو من عام 1506 تلقى ليوناردو إذناً على مضض من مجلس الشعب ليغادر فلورنسا ميمماً شطر ميلانو. وفي وثيقة مسجّلة في يوم 30 مايو التزم بالعودة خلال ثلاثة أشهر ودفع غرامة تبلغ 150 فلوريناً إن عجز عن الوفاء بالتزامه. كان ضامنه هو ليوناردو بونافيه، المشرف العام على مستشفى القديسة ماريا الجديد، حيث كان يحتفظ بمدخراته: مدير مصرف ليوناردو.  كانت هذه هي نبرة العصر في حكومة سوديريني. ولم يعد ليوناردو إلا بعد عام وثلاثة أشهر بسبب خلاف عائلي.
وقد كان حاكم ميلانو الفرنسي بلا شك يحرص على جذبه إلى الشمال مرة أخرى، ولكن من الواضح النزاعات المستمرة حول اتفاقية تنفيذ لوحة عذراء الصخور كانت هي السبب في رحيله. وقد كانت هذه اللوحة مثار المشاكل منذ تسليمها إلى أخوية الحّبَل الطاهر حوالي عام 1485، وثمنها لم يدفع بعد بحسب العريضة التي قدمها كل من ليوناردو وامبروجيو دي برديس في عام 1492 تقريباً. ويبدو أنّ اللوحة الأصلية (نسخة اللوفر) قد غادرت إيطاليا في 1493، بعد أن آلت ملكيتها إلى لودوفيكو سفورزا على الأرجح، وقد أهداها الأخير إلى الامبراطور ماكسيميليان، وبعد ذلك بوقت ما شرع الشريكان ليوناردو وامبريجيو (أمبريجيو في الغالب) في العمل على انتاج نسخة بديلة لتسليمها للأخوية. وربما سُلّمِت هذه النسخة الثانية من عذراء الصخور(نسخة لندن) إلى الأخوية قبيل مغادرة ليوناردو إلى ميلانو في 1499، أو ربما قدمها أمبريجيو في وقت ما عقب ذلك.
وعليه فلا بد أنَّ تسليم اللوحة قد تم في 1502 على أكثر تقدير، لأنّه امبروجيو قام في 1503 بتقديم مطالبة أخرى، موجهة إلى لويس الثاني عشر ملك فرنسا- والذي أصبح حاكماً على ميلانو بطبيعة الحال- يشكو مرة أخرى أنّه وليوناردو لم يتلقيا ما يستحقان من مال. وقد أمر الملك قاضياً، يدعى بيرناردينو دي بوستي بالنظر في الأمر. وقد ظلت القضية تتخبط في مستنقع القضاء الإيطالي لثلاث سنوات، ولكن لم يكن الحكم الذي صدر في شهر أبريل من عام 1506 في صالح الرسامين. لقد حُكم على لوحة تزيين المذبح الوسطى بأنّها غير مكتملة- وهذا على الأقل- هو المعنى المعتاد لكلمة imperfetto، بيد أنّه من الجائز أن تعني "ليست جميلة بالقدر الكافي"، والشيء الذي قد يعني بالمقابل " كثيرة على أمبروجيو وأقل من أن تكون لليوناردو". في كل الأحوال أُعتبر ليوناردو هو المفتاح لحل المسألة، وأمرته المحكمة- غيابياً، بإكمال اللوحة خلال عامين. 
كان هذا هو الأمر الذي دفع ليوناردو لطلب إذن في الشهر التالي لقطع ما التزم به من عمل في القصر القديم والسفر إلى ميلانو، بعد أن نقل له امبروجيو دي برديس الأخبار. كانت اللغة التعاقدية هي الشيء الذي تفهمه السلطات الفلورنسية. ولكن تحت هذا الأمر تسري تيارات من القلق الذي هو في جزء منه نتيجة التوتر القديم في العلاقات بينه وبين فلورنسا. لقد تغير الكثير في حياته منذ أن سافر إلى ميلانو للمرة الأولى قبل ربع قرن من الزمان تقريباً، ولكن يلتقط المرء صدى ذلك الرحيل الأول. في 1482 عندما ترك خلفه تحفة فنية غير مكتملة- التبجيل- ووصمة شنيعة بالمثلية الجنسية. 
وفي عام 1506 ترك مذكرة خلاف وفقدان ثقة على جصّية الانغياري، وربما مع أولى إيماءاته لمشاكلها التقنية، أيضاً، الأخفاق في الطيران من جبل سيسيري على الأرجح. هذه الأصداء تتجاوب: العلاقات المتوترة، والمشاريع المتوقفة، والحيرة، والهروب. 
يصل ليوناردو مرة أخرى إلى اقليم اللومباردي وهو يشعر بالارتياح والانشراح، ولكن وضعه يختلف هذه المرة: فقد كان سادة ميلانو الفرنسيين يترقبون وصوله بشدة. لقد بدا وكأنّ لديه علاقة صداقة مع الفرنسيين. وقد تعامل معهم بما يكفي من الود عندما اجتاحوا ميلانو في عام 1499، وربما قدم – على ما يبدو- خدماته للكونت ليغني. وبحلول عام 1501 كان قد شرع في تلوين لوحة السيدة العذراء ذات المغزل لصالح الوسيط التجاري الفرنسي فلوريمون روبيرتيه. وربما كانت العلاقة الودية لا تزيد على إعجاب الفرنسيين به، (الذي ربما شعر بأنّه) يفوق تقدير مموليه الإيطاليين، والذي كانت تربطه بهم علاقة متذبذبة، والتي يبدو أنّها كانت دائماً على حافة التوتر والملل. وأحد الأمثلة على تقديرهم كان الملك لويس يريد إزالة لوحة العشاء الأخير حتى يستطيع أخذها إلى فرنسا، على أية حال، كما يعلّق فازاري بحدة، " كونها رسمت على الحائط جعل الملك يتنازل عن رغبته، فظلت بين ظهراني أهل ميلانو".
تلقى الحاكم تشارلز دامبواز- كونت تشاومونت، و"الكونت ذي الروح العالية" كما يدعوه سيرجي براملي- ليوناردو بحفاوة بالغة، وذلك لأنّه كما يقول لنا المؤرخون " معجب بفينوس بقدر إعجابه بباخوس" .
لقد كان دامبواز في الثالثة والثلاثين من العمر. وتعود صورته الشخصية التي رسمها له اندريه سولاريو إلى هذه الفترة تقريباً، وقد جاءت متأثرة بليوناردو إلى درجة كبيرة، مع وضعية التعارض الرقيقة. ويبدو على وجهه في الصورة الذكاء، والتركيز، ويبرز أنفه الكبير حتى في وجهه الممتليء: رجل جادّ. لقد كان شديد الإعجاب بليوناردو، وكتب بعد عدة شهور بعبارات التقدير والإجلال: " لقد أحببناه قبل أن نلتقيه شخصياً، والآن ها نحن معه وبوسعنا التحدث عن مواهبه المتعددة عن تجربة، ونجد أنّ إسمه لم يجد ما يستحق من مديح- رغم شهرته كرسام- على مواهبه الكثيرة الأخرى التي تعد من القدرات الاستثنائية. 


اندريه سولاريو، وجه لتشارلز دامبواز، 1508
وقد حل ليوناردو ضيف شرف عليه في القلعة، والتي كانت في غرفها الكثير من ذكريات الأيام والليالي في بلاط سفورزا. وفي خطاب لاحق يسأل عن منازل في المدينة، " لا أرغب في إرهاق الحاكم أكثر مما فعلت"  الشيء الذي ربما يعني أيضاً أنّه لا يريد أن يكون قريباً منه إلى درجة كبيرة- فقد كان ليوناردو دائم الاحتياج إلى الخصوصية. ولكن في الوقت الراهن هنالك طاقة للابتكار، والحديث عن المشاريع الكبيرة الجديدة- وبالتحديد خطط دامبوزا لبناء قصر صيفي أمام بوابة البندقية. وقد أختير لها موقع بين نهرين صغيرين، نيرون وفونتيلونغا، بحيث يمتزج في سعادة وتناغم مع مشهد الطبيعة المحيط.  وقد كانت ملاحظات ليوناردو ورسوماته قد بينت تسخير كل شيء من أجل سعادة وبهجة صاحب المنزل- الأورقة والعرائش، والغرف الواسعة المتجددة الهواء، والتي تفتح على حدائق من السعادة مترفة. حتى السلالم لا يجب أن تكون "كئيبة"- أي بكلمات أخرى شديدة الانحدار والعتمة. فقد تصور ليوناردو حدائق رائعة من ألف ليلة وليلة بأشجار الليمون والبرتقال بأريجها العذب، وعريشة مغطاة بشبكة ناعمة من النحاس لتوضع فيها أعداد كبيرة من الطيور المغردة، وجدول له خرير وضفاف معشوشبة " تقص على الدوام حتى يظل الماء صافياً حتى يكون بمقدور الناظر إليه أن يرى قاعه المغطى بالحصى". ويذكر المرء هنا قاع النهر في كنيسة معمودية المسيح القديمة- " ويجب فقط ترك تلك النباتات التي تتغذى عليها الأسماك، مثل الجرجير وما شابهه". يجب ألا تكون الأسماك من نوع الانقليس أو التنش التي تحول المياه إلى طينية، ولا سمك الكراكي الذي سيأكل جميع الأسماك الأخرى. وستتدفق قناة صغيرة خلال الموائد، بكأسات من النبيذ يتم تبريدها في الماء. والقطعة الرئيسية فيها عبارة عن طاحونة صغيرة تدور بقوة المياه ولكن بأشرعة مثل طاحونة الهواء:
باستخدام هذه الطاحونة سوف انتج نسمات باردة في أي وقت خلال الصيف، وسوف أجعل الماء ينبثق عذباً ومتدفقاً...سوف تعمل الطاحونة على صنع تيار من الماء يسري في جنبات المنزل ونوافير في عدة أماكن، وسوف يكون هنالك ممر خاص حيث تصعد المياه عليه من الأسفل متى ما مشى فيه شخص ما، وبالتالي فهي ستكون موقعاً جيداً لكل من يريد رش الماء على النساء... مع هذه الطاحونة سوف اجعل الموسيقى تنساب باستمرار من شتى الآلات، والتي سوف تظل مسموعة حتى تتوقف الطاحونة عن الدوران. 
هذا الجهاز الأخير يذكرنا بالنافورة الموسيقية التي رآها وسمعها في ريميني في 1502: " دعنا نصنع انغاماً من تدفق الماء على النافورة بواسطة قربة تنتج عدداً من الأصوات والنغمات"، وكتب عندها، وهو يستشهد بفقرة في كتاب فيتروفيوس " حول الصوت المصنوع بالماء".  لقد أضاف إلى هذه الملاه الريفية قدراً من التعلم والجاذبية. ربما ربط بين فيلا دامبواز وبعض الأفكار المتعلقة بنوع من "معبد فينوس"- وهو الشيء الذي سيعتبر في عرف المنازل الريفية "حماقة":
اصنع درجات على الجهات الأربع، تقود إلى الأعلى حيث المرج الذي نما بشكل طبيعي فوق قمة صخرة. سوف يتم تفريغ الصخرة ودعمها من المقدمة بركائز، ومن تحتها ممر كبير تتدفق فيه المياه إلى عدة أحواض من الجرانيت والرخام السماقي وحجر الحية، خلال تجاويف نصف دائرية، واجعل المياه في هذه التجاويف تجري باستمرار. وفي مواجهة هذا الرواق إلى الشمال، لتكن بحيرة، وفي وسطها جزيرة صغيرة ذات غابة كثيفة ظليلة .
هنا يتصور ليوناردو مشهداً طبيعيا: الرسم بالكلمات في العبارة (لتكن هناك بحيرة)، تتنقل عين العقل عبر المياه لتجد نقطة تركيز، "جزيرة صغيرة". وعلى ظهر الورقة يكتب قطعة أكثر أناقة حول خطورة فتنة الربّة فينوس:
ربما تُرى جزيرة قبرص الساحرة باتجاه الجنوب من الساحل الجنوبي لجزيرة صقلية، والتي كانت مملكة للربة فينوس، وكان هنالك الكثيرين الذين تحت تأثير فتنتها تحطمت سفنهم ومجاذيفهم على الصخور تحت الأمواج الهادرة. ويغري جمال إحدى الربوات الرائعة البحارة التائهين بالاسترخاء، حيث الخضرة والزهور والنسيم العليل والعبير الذي يعبق في أرجاء الجزيرة والبحر المحيط بها. ولكن يا ويحي كم من سفينة غرقت هناك!
هذه  القطعة تعكس قطعة من حجرات بوليزيانو (1476) بحرفية بالغة، وبالتالي تعيد إلى الذاكرة التصور الفينوسي لمجتمع آل ميديتشي. 
وقد نجا تصور ليوناردو لفيلا وحدائق تشالرز دامبواز فقط في الرسومات التمهيدية والملاحظات، ولكنها ملأى بالأناقة والتفصيل الرائع. وهنالك نبرة للسعادة والبهجة- يبرد النبيذ في الجدول، ورش الفتيات بالماء في فساتينهن الصيفية، صوت الماء "المنساب باستمرار" في المغارة الفينوسية- والتي لا يكدرها إلا –وبدرجة طفيفة- فكرة أنّ هذه الملذات، مثلها مثل غيرها، سوف تقود في نهاية الأمر إلى الألم. إنّها بالكاد فكرة أصلية بالنسبة لليوناردو، ولكن يبدو أنّها كانت دائماً حاضرة في ذهنه: ولقد عبّر عنها بشكل أكثر كثافة في "رمزيات أكسفورد" في منتصف ثمانينيات القرن الخامس عشر، وهنا مرة أخرى تجلب اللذة الحسية الموت ركام السفن، والرجال "المحطمين على الصخور" بسبب غواية الجسد.
ولقد وعد ليوناردو بالعودة إلى فلورنسا، واللوحة غير المكتملة لمعركة الانغياري، خلال ثلاثة أشهر- أي بنهاية شهر أغسطس 1506- ولكنه لم يرد الذهاب، وكذلك كان راعيه الجديد لا يريده أن يذهب. في يوم 18 أغسطس كتب تشالرز دامبواز باحترام إلى مجلس الشعب، يطلب منهم السماح لليوناردو بالبقاء لفترة أطول " حتى يستطيع تزويدنا بأعمال معينة شرع في تنفيذها بناءً على رغبتنا". ويفترض أن هذه الأعمال تشير إلى الفيلا الصيفية، وقد كانت الصياغة رسمية للإيحاء بأهمية تلك الأعمال. كان الخطاب مدعوماً برسالة أكثر رسمية ممهورة بتوقيع نائب الدوقية، جيفروي كارليز، يطلب فيها تمديد الأذن بغياب ليوناردو شهراً آخراً، ويتعهد بعودته إلى فلورنسا في الموعد المضروب، " دون إبطاء، لإرضاء معاليكم في كل أمر". وفي يوم 28 أغسطس أجاب مجلس الشعب بخطاب يمنح فيه الأذن- كرهاً على الأرجح، ولكن الفرنسيون أقوياء إلى الحد الذي يصبح فيه الاختلاف معهم في مسائل كهذه ضرباً من التهور.  ولقد وصلت فلورنسا إلى الصلح للتو مع البابا يوليوس الثاني، عقب خلاف بينه وبين مايكل آنجلو. وبالتالي فإنّ صراع العمالقة العظيم الذي شهدناه قبل ثلاث سنوات كان يرش زخات صغيرة من الخلافات هنا وهناك.
جاءت نهاية سبتمبر ومضت، وليوناردو لم يعد. وفي التاسع من شهر أكتوبر كتب الغونفالونير سوديريني شخصياً إلى تشارلز دامبواز: خطاباً متجهماً. لقد كان غاضباً من دامبواز لتقديمه "الذرائع"، بل وأكثر غضباً من الفنان الهارب:
ليوناردو...لم يتصرف كما هو حريّ به حيال الجمهورية، لأنّه أخذ مبلغاً كبيراً من المال، ولم ينفذ إلا بداية متواضعة من العمل العظيم الذي تم تكليفه بتنفيذه، وبإخلاصه لسيادتكم صار مديوناً لنا. نحن لا نريد تلقي المزيد من الطلبات بخصوص الموضوع، ولأن هذا العمل العظيم سوف يكون في مصلحة جميع مواطنينا، وبالنسبة لنا سيكون إعفاءه من التزاماته تقصير في واجبنا.
نبرة الخطاب، مثلها مثل الجمل تبين مدى البغضاء بين ليوناردو وسوديريني. يعرف ليوناردو أن الشكوى ضده مبررة، ولكن كان كل شيء في الخطاب محسوب لإزعاجه- الإساءة إلى سمعته، ووصفه إياه بال"مدين"، والاستفزاز بالواجب، ونفاق الجمهورية إزاء  كون الجدارية " لمصلحة جميع مواطنينا".
ثم ساد صمت متغطرس من ميلانو، وفي 16 ديسمبر كتب تشارلز دامبواز لسوديريني، يعده بأنّه سوف لن يقف في وجه عودة ليوناردو، ولكنه ينتهز الفرصة ليعاتب الغونفالونير على اتهاماته وعجزه عن إدراك عبقرية ليوناردو الخاصة:
إن كان من المناسب تزكية شخص ما له مثل هذه الموهبة الفذة لمواطنه، فنحن نزكيه لكم بكل صدق، ونطمئنكم بأنّ كل ما تفلونه لزيادة راتبه أو رفاهيته، أو الشرف الذي تنسبونه له سوف يمنحنا مثلنا مثله السرور والسعادة، وسوف نكون ممتنين لكم جداً.
خطاب "تزكية" متهكم: أن رجلاً فرنسياً في ميلانو يجب أن يشرح عظمة ليوناردو ل"مواطنه"- وبسخرية أكبر يقترح أنّ أفضل الطرق لتحسين وضعه المالي ورفاهيته هي تركه وشأنه بعيداً عن فلورنسا. في هذا الخطاب يكتب دامبواز ذلك المدح في حق ليوناردو الذي اقتبسته آنفاً("لقد أحببناه قبل أن نلتقيه..."إلخ). وقد لم يترك بتعبيره عن المحبة والاعجاب بابا لمقارنته مع أي راعٍ سابق لليوناردو. 
ازدرد سوديريني هذا الدرس اللاذع بشق الأنفس عندما وصلت الأنباء من سفيره في فرنسا، فرانسسكو باندولفيني، بأن الملك لويس قد افتتن ب"صورة صغيرة" من أعمال ليوناردو كان قد رآها معروضة مؤخراً- ربما كانت السيدة العذراء ذات المغزل، ملونة من أجل أمين سره فلوريموند روبيرتيه- وأنّه رغب في أن يبقى ليوناردو في ميلانو ويرسم شيئاً من أجله. ربما رسم، يقول الملك، " لوحات صغيرة لسيدتنا، وأشياء أخرى كما أراها في أحلامي، وربما سأجعله يرسم لوحة لي أنا". 
لقد صُيغت هذه النزوة الملكية في خطاب آمر لمجلس الشعب الفلورنسي في يوم 14 يناير عام 1507: " لدينا حاجة ماسة للمعلم ليوناردو دافنشي، رسام مدينتكم فلورنسا...فضلاً اكتبوا له بضرورة ألا يغادر المدينة المذكورة [ميلانو] قبل وصولنا، كما أخبرت سفيركم."
وثبت أنّ أمر الملك كان حاسماً في أزمة الحرب الغريبة هذه، وفي 22 يناير 1507 وافق مجلس الشعب على "طلبه الكريم" بأن يبقى ليوناردو في ميلانو. لقد كان نصراً لليوناردو، بيد أنّه كان مرّ المذاق. وبالفعل عاد إلى فلورنسا قبل انقضاء الصيف، بيد أنّ ما دفعه للعودة لم يكن سوديريني ولا الواجب الوطني. 
وقد كان ليوناردو مشغولاً جداً في الشهور القليلة التالية. ربما كان في فبراير مع تشارلز دامبواز في الاستيلاء على بيدو شمالي ميلانو، حيث تم القبض على البارون المشاغب سيموني اريغوني. وقد دون ليوناردو الحيلة التي تمت بها "خيانة" اريغوني.  وهنالك تصميمات للكنيسة الجديدة القديسة ماريا ديلا فونتانا تعود إلى هذه الفترة، والتي يزمع تشييدها في ضاحية خارج ميلانو، على موقع لعين نُسبت إليها قدرات عجائبية. ما تزال الكنيسة موجودة-غير مكتملة. وفي 20 أبريل، بعد أيام قلائل من الذكرى الخامسة والخمسين لميلاده، تلقى هدية في شكل خطاب من تشارلز دامبواز إلى الخزينة الدوقية، معيداً إليه بشكل رسمي ملكية حق الكرم خاصته، والذي صودر منه في وقت ما بعد استيلاء الفرنسيين عليه في عام 1500. 
ليوناردو المسليّ، صانع المواكب، ومصمم الأشكال للمناظير: دور فقده جمهورية فلورنسا بروح شعبها المقموعة. فإدارة المسرح في مواكب النصر في مدينة محتلة ليس أكثر أعمال ليوناردو جدارة بالإطراء، بل أنّه من الصعب مقاومة الاستمتاع به، وفي الحقيقة تكمن متعته في عدم التفكير في الأمر. ومن المحتمل أنّ الملك لويس قد منح ليوناردو- في هذه الفترة- معاشاً على هيئة رسوم تدفع من قبل مستخدمي  قناة سان كريستوفانو، وهي امتداد لشبكة قنوات المدينة. واستغرقت المصادقة على الهدية بعض الوقت، والخطابات المطلوبة، ولكن هذه الحقوق المشار إليها بعبارة "12 أوقية من الماء"- كانت ما تزال مملوكة لليوناردو في وقت وفاته، وقد خصّ بها أحد خدمه في وصيته". 
في هذه الأثناء تعين عليه العمل على عذراء الصخور، التي حكم عليها بأنّها "غير مكتملة" في الحكم الصادر في شهر أبريل عام 1506. وفي الحكم ذاته أُمرت الأخوية بالدفع للرسامين تعويضاً، أو رسوماً قدرت ب200 ليرة- وهي أقل بكثير مما طلباه، ولكن أكثر من مبلغ المائة ليرة الذي عرضته الأخوية في البداية. كان يلزم بذل بعض الجهد في اللوحة إن أراد الحصول على المال، ولكن ماهي الحالة التي كانت عليها، وماذا فُعل بها؟ نحن لا نعرف. ففي صيف عام 1507 شاب التوتر علاقة ليوناردو بامروجيو دي بريديس. وفي بداية شهر أغسطس بلغ بهما الحال أن رشحا محكماً، وهو راهب من الدومينيكان، اسمه جيوفاني دي باغنانيز لحل خلافاتهما. وفي هذا الوقت اكتملت اللوحة على الأرجح، وقد طرأت المشكلة بسبب كيفية تقسيم الأجر بينهما. ويبدو أنّهما قد وصلا إلى تسوية، وفي 26 أغسطس 1507 دفعت الأخوية النصف الأول من الرسوم المستحقة. وقد قام امبروجيو بتحصيلها، "وشريكه" ليوناردو كان قد عاد إلى فلورنسا في هذا الوقت". 


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment