Monday, April 25, 2016

البندقيّة





أنثى العنكبوت في الغرفة رقم 10
هل يمكنك أن تزور البندقية ولا تلم به؟ إنّه قصر الدوق الذي تقاسم مع ابن خلدون طرفيّ المتوسط، عاشا في ذات العصر، وشهدا معا صعود العثمانيين وسطوع نجم تيمور ودخوله الشام.
وإذا كان ابن خلدون قد فاوض المغول بعد أن أنزلوه من أعلى السور في قفّة ليستقبله تيمور في فازة، فإن الدوج "دندولو" الجد هو الذي رسم للحملة الصليبيّة الرابعة خارطة طريق للقسطنطينيّة بدل القدس، وكفى المسلمين شرّ دهماء أوروبا.
ها هو الحفيد يشيّد من ذاك المجد التليد قصرا، ليكون لائقا لتكريم وفادة ضيوفه من البابوات والملوك وومبعوثيهم والكرادلة.
فكرتُ في ما سيكون عليه حال ابن خلدون لو استقبله الدوج في قصره، لعلّه لن يتردد أن يعرض عليه خارطتة أيضاً لفتح إفريقيا عرفاناً، كما فعل مع المغوليّ.
بعد نحو خمسة قرون من هذا التاريخ، ستسقط البندقية وسيتم ترسيم جديد للحدود، تخضع فيه البندقية للنمسا، ثم يلغي "نابليون" منصب الدوجيّة، فيصبح العصر الذهبي للبندقية أثرٌ بعد عين، وطال البلى بعد ذلك كثير من شواهد المدينة العظيمة، وكان قصر الدوج من بينها.
بحلول عام 1822 كان القصر قد هُجر، وتثلّمت جدرانه وصار آيلا للسقوط. في الوقت ذاته وقف بايرون في الضفّة الأخرى من إيطاليا يراقب فزعا جثة صديقه الشاعر "شيللي" وهي تحترق، قبل أن يقفل عائداً إلى البندقية ليعزّي النفس قليلا بالتسّلل عبر نوافذ البيوت ومشربيّاتها، فالشاعر يقسم أنّه قادر للنفاذ إلى مخدع أي إمرأة فينيشيّة، ولو كانت حفيدة الدوج نفسه.
ولمّا اشترى "دانيل" الرجل الموسر القصر، حوّله إلى فندق أطلق عليه اسم (فندق دانييل) وراقه أن يضيف مفردة الملكيّ ليكون الإسم: فندق دانيلليّ الملكي.
واجتهد الرجل كما فعل الدوج من قبل، في تزيينه وجعله قبلة أنظار الملوك والأمراء فقصده "وليم" ملك بروسيا و"شارلز ديكنز" و"بلزاك" و"بروست" و"جورج صاند" و"الفريد دي موسيه".
فبين جنبات هذا القصر، جمعت أنثى العنكبوت "جورج ساند" قصة حب بضحيّتها المسرحي والروائي الفرنسي "الفريد دي موسيه" وكان حينها في الثانية والعشرين من عمره، حدث ذلك في الغرفة رقم 10 ، التي ما برحت مأوىً محبّباً لكلّ طائفة العناكب.
كتبت "ساند" من هذه الغرفة مجموعة من رسائلها التي تعدّ ظاهرة فريدة في دنيا الأدب.
ولمّا انتابت "دي موسيه" وعكة صحيّة، طلبت "ساند" لحبيبها طبيباً، وما أن بدأ يتعافي حتى اكتشف أن العنكبوت قد تحوّلت عنه إلى طبيبه، فاستسلم الروائي الشاب للأمر الواقع، وعاد حزيناً بعدها إلى باريس.
وإمعانا في النكاية به، تبعته مع طبيبها إلى باريس.
ولمّا سحرها أنف "شوبان" الذي كان يستخدمه لأغراض عدّة، أقلّها اصبعاً إضافيّاً للعزف على أصابع البيانو، دفعت بالطبيب البندقيّ من النافذة، فعاد من حيث أتى يضمّد جراحه.
فكرتُ بهذا كلّه وأنا أتملّى بهو قصر الدوج بمقوّساته ومقرنصاته وأعمدته المنقوشة وبلاطاته اللامعة وسقفه المرتفع، والحيوات التي ملأ عَبَقها تاريخ القصر وغرفه الفخمة، والتي فات الشيخ ابن خلدون أن يظفر ولو بليلة واحدة فقط، من لياليها الحمراء.
‫#‏محمد_أحمد_السويدي_مقالات‬
‫#‏أثنى_العنكبوت‬
‫#‏قصر_الدوج‬
 

No comments:

Post a Comment