Showing posts with label إقليمي. Show all posts
Showing posts with label إقليمي. Show all posts

Saturday, October 8, 2016

جولة في لندن









تبدأ جولتي من فندق الرتز، مروراً إلى قلب الغرين بارك، التي تقع فيها إحدى محطات مترو أنفاق لندن وتحمل اسمها. افتتحت في 15 ديسمبر 1906. وفي جولتي هذه أطوف حول نافورة البرونز ( لتوأم أبولو، ربّة الصيد والقنص والحيوانات الضارية، ديانا وكلبها، الصيادة العذراء الأبدية... )
ثم مررت على النصب الذي أقيم لتخليد جنود الطيران وقاذفات القنابل الذين قضى منهم 55 ألف في مقارعة طائرات الألمان التي كانت تعبر بحر الشمال لترمي حممها فوق لندن.
ثم أعبر قوس ولنغتون الذي يخلّد دوق ولنغتون آرثر ويليزلي قائد الجيش البريطاني في معركة واترلو الفاصلة في 18 يونيو عام 1815م في قرية واترلو قرب بروكسل ، ولقد كانت هزيمة الجيوش النابليونية من المرارة بحيث أصبحت كناية متداولة عند الإنجليز إذا ما عانى أحدهم حظا سيئا فيقولون (بأنه وافق واترلو).
وفوق القوس هناك نصب برونزي يمثّل عربة الحريّة، وهو أضخم نصب برونزيّ في أوروبا كلّها، كما مررت على نصب حاملي المدافع الرشّاشة، حيث يقف تمثال برونزي جميل وكأنه تذكير بخطوات الموت غير المنظورة التي كانت تجوس بأقدامها مدينة المحاربين لندن.
وبعد ذلك أجدني بمواجهة المدوّنة على فندق اللانزبرو، وهي في الأصل الكتابة التي مكثت على مستشفى القديس جورج، التي افتتحت كمستشفى عام 1733؛ قبل أن تتأسس كلية للطب عام 1834 وأدمجت بالمستشفى عام 1868.
نقّبت عن أصل مفردة ( جورج ) فوجدت أنها تطلق على الحارث، وهذه اللفظة تختصر في العربية أو بعض من لهجاتها إلى (حارِ).

الخريف ينثر ذهبه، يا لها من سجّادة ملوكيّة للطبيعة تبهر الروح، وفي هذه البرهة يبزغ أمامي صفٌ من أشجار الدّلب، وكان لا يزال مزمّلاً ببقيّة من عباءةٍ خضراء. ثم أبلغ في جولتي نافورة الحياة، ومن ثم السبيكر كورنر حيث يضطرب جنباها في كل يوم أحد بخطبٍ ومطالبات مرتجلةٍ، وها أنا من مكاني هذا أرى رجلاً آسيويّاً بلحية كثّةٍ، ما إن وقع بصري عليه حتى تذكرت السائق ياسر، فكأنهما تحدرا من أب واحد أو لحية واحدة.
أعبر ساحة الماربل آرش حيث كان يتم فيها تنفيذ أحكام الإعدام. ومن هذا المكان تتفرّع طرقٌ عدّة وهو أمرٌ حيويّ في لندن، فطريق أكسفورد العريض المعشّق بأشهر أسماء الدور التجاريّة، وشارع الباركلين يقودك إلى أكثر فنادق المدينة شهرةً وهي تقف بأقدامٍ عملاقة على جانبيه.
ثم شارع أجوَر وتستطيع أن تطلق عليه شارع العرب، حيث تغزوه مظاهر الحياة العربية بمحاله ومقاهيه ومطاعمه، إنّ هذه الشوارع الثلاثة أشبه ما تكون بأوردة القلب الغليظة في هذه المدينة.
ومن طرقات وسبل لندن طريق بيز ووتر. أما الآن فأنا أقطع شارع أكسفورد متوجهاً إلى مبنى البورتمان، وقادني إلى كازينو البروتمان الشهير التي يهفو إليها المثليّون في لندن.
ثم أمرّ على مطعم زينه الذي يشتهر بمشاويه من اللحم والدجاج والبرياني، وهو أرقى مطعم باكستاني في لندن، يملكه رجلٌ من مواليد الأسد وطالعه في السعود.
وإذا ما جلت ببصري ستظهر آثار المعماريّ العظيم (ناش) باديةً للعيان والتي يستوطن الكثير منها مجموعةٌ من أثرياء الهنود، أما القوس (ماربل آرش) الذي بناه فلم يكن في الأصل من أجل هذا المكان، ولقد صممه في عام 1826 بعد أن استمدّ فكرته وبعض وحداته الهندسية من قوسي قسطنطين في روما والنصر في باريس، ويتاخمه فندق الكمبرلاند.
وفي براينزستون مررت على كنيسة عيد البشارة التي هجرها المصلّون، وفي زاوية منها انتصب نحت ذهبيّ للمسيح مصلوباً، فشعرتُ وكأن المسيح حمل صليبه وغادرها كذلك، فلقد كان الناس يمرّون من أمامها دون أن يكترثوا للمسيح وصليبه.

Saturday, August 20, 2016

أميمة قاسم

 

ندعوكم لمشاركتنا قراءة هذا النص المميز من كتاب ‫#‏رحلات_العقل‬ لــ «ليوناردو دافنشي»، وهو من اختيارات الشاعر الإماراتي : محمد أحمد السويدي، وترجمة: "أميمة قاسم".
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«سُبُل النجاة»
كانت ميلانو في عام 1485 تحت رحمة طاعون دَبْلِيّ لثلاث سنوات. فقد عرف ليوناردو ماهو الطاعون في فلورنسا: حيث انتشر هناك في عام 1479، ولكنّه لم يدم لأكثر من بضعة أسابيع. وكان هذا الطاعون أسوأ بكثير.
ووفقاً لبعض التقديرات التي ربما شابتها المبالغة، فقد أودى بحياة ما يقارب ثلث سكان الحضر.
ولا تخفى صوره علينا: الأحياء المنكوبة، والهواء الملوّث، والجثث التي تُنقل إلى المقابر الجماعية. الخطب الهيستيرية من المنابر، والفحص الشخصي المقيت بحثاً عن التضخم في الغدد أو "الدمامل" التي هي نواقل للعدوى.
وفي 16 مارس 1485 كان هنالك كسوف كامل للشمس قوبل بالتشاؤم. وقد شاهده ليوناردو من خلال فرخ كبير من الورق المثقب، كما هو موصى به في مذكرة وجيزة بعنوان: "كيف تراقب الشمس أثناء الكسوف دون إضرار بالعينين".
وقد كان ليوناردو أثناء فترة الطاعون كلها يعمل على لوحة عذراء الصخور: ليس ثمة ما يدعو لافتراض أنّه ذهب إلى أي مكان آخر في ميلانو، عدا مرسم آل دي بريديس قرب بوابة تيسينيز.
ونحن نعرف تماماً نزق ليوناردو: وهو رجلٌ مضمخة بأريج ماء الورد أصابعه. تؤذيه الروائح النتنة، مثلما تفعل الحشود المتراصة والعدوى التي يحملونها بحسب تعبيره. " يرعى هذا الحشد من الناس معاً مثل الماعز واحدة خلف الأخرى، يعبئون الأركان عفونةً وينشرون الطاعون والموت".
فاللوحة مكان مسحور ممنوع على كل هذه الأشياء: مغارة حجرية رائعة تبعد أميالاً عن كل شيء، تردد أدعية الفلوات.
وحوالي هذا الوقت كتب وصفة دواء- ربما كان هذا عقاراً سرياً مضاداً للطاعون:
خذ بذور الزؤان الطبي
وروح النبيذ في قطعة من القطن
وقليلاً من السيكران الأبيض
وقليلاً من عشبة مشط الراعي
وبذور وجذور نبتة خانق الذئب
وجففها جميعا، ثم اخلط هذا المزيج مع الكافور لتحصل على الدواء.
وقد خرجت أولى أفكار ليوناردو الناضجة حول "المدينة المثالية" -شكلاً وتطبيقاً- من مرجل الطاعون هذا، ومنه اكتسبت إلحاحها وضروريتها.
وكان هذا حديث الساعة في عصر النهضة. وقد كان لالبرتي وفيلاريتي حوله جدال ومناقشات، وسبقهما في ذلك المعماري الروماني العظيم فيتروفيوس، وليس من الصعب تخيل ليوناردو وهو يحاور صديقه المتعلم دوناتو برامانتي حول الأمر.
وتبين رسوماته وملاحظاته المؤرخة في 1487 مدينة مستقبلية بهيجة ومخططة بميادينها وممراتها وأنفاقها وقنواتها ("مستقبلية" بتلك الفكرة العجيبة للطريق المسدود: والمستقبل كما تم تصوره في الماضي)، لتقام المدينة على مستويين- المستوى العلوي للسابلة والمجتمع والعناصر الجمالية، بشكل مقارب جداً" لمناطق المشاة" في المدن الحديثة.
بينما المستوى السفلي يُخصص بشكل رئيسي لشبكة من القنوات التي تستخدم لحركة البضائع والحيوانات لأغراض التجارة، وللمخازن، ولمساكن من يدعوهم "عامة" الناس.
الشوارع واسعة، وارتفاع واجهات المباني منتظم، وتطول المداخن لنفث الدخان عالياً بعيداً عن الأسقف. وهو يوصي باستخدام أنواع الدرج الحلزوني في المباني العامة، وذلك نسبةً لأنّ للدرج المربع زوايا معتمة يحولها الناس إلى مِبْولات.
وقد كان يُفكر في نظام صرف صحيِّ متطور لمجابهة الطاعون بلا شك. كما كانت لديه بعض الأفكار حول دورات المياه النموذجية أيضاً- ليس بالضبط المراحيض الدافقة للماء، كما اخترعها جون هارينغتون بعد ذلك بقرن، ولكنها ممتازة في تصميمها: " ينبغي أن يكون مقعد المرحاض قابل للانعطاف مثل الباب الدوار في الأديرة، والعودة إلى موقعه الأول باستخدام ثقل موازن.
ويجب أن يكون السقف ذا فتحات فيه حتى يستطيع المرء التنفس".

«النضيرة» وشجرة «الغار» في الكنجستون



«النضيرة» وشجرة «الغار» في الكنجستون
قلتُ لوالدي ونحنُ نَسيرُ في نهارٍ أَنيقٍ في «الكنسيجتون»: لقد قام الملك "وليم" الثالث والملكة "ميري" الثانية ببناء حديقة «كنسنجتون» عام 1690، وفي الثلاثينات من القرن الثامن عشر تم بناء البحيرة المستديرة، وشيّد صرح «ألبرت» الضخم الذي يقابل قاعة «ألبرت» عام 1863.
مررنا على «مارلبورو جيت»، فقلتُ لصاحبي: لعله من هنا تسلل الكاتب «جي إم باري» ليلاً ليدُسَ تحفته الرائعة تمثال «البيتر بان» ليسعد به أطفال "لندن" والعالم، امتناناً على جعل روايته من أعلى الكتب مبيعاً.
ثم دخلنا جنينة «الفورسثيا» للوقوف على الشجرة التي تكلل بها الرؤوس ساعة الانتصار.
إنها شجرة «الغار» الدائمة الخضرة (1)، قال «المسعودي» في «مروج الذهب»: لما نزل «سابور» على حصن «الضّيْزَنْ»، تحصن الضيزن في الحصن، فأقام «سابور» عليه شهراً لا يجد سبيلاً إلى فتحه، ولا يتأتى له حيلة في دخوله، فنظرت «النضيرة بنت الضيزن» يوماً وقد أشرفت من الحصن إلى «سابور» فهويته وأعجبها جماله، وكان من أجمل الناس وأمدهم قامة، فأرسلت إليه: إن أنت ضمنت لي أن تتزوجني، وتفضلني على نسائك؛ دللتك على فتح هذا الحصن، فضمن لها ذلك، فأرسلت إليه: ائت الثرثار- وهو نهر في أعلى الحصن- فانثر فيه تبناً ثم اتبعه... فانظر أين يدخل، فأدخل الرجال منه، فإن ذلك المكان يفضي إلى الحصن.. ففعل «سابور» بما أشارت، فلم يشعر أهل الحصن إلا وأصحاب «سابور» معهم في الحصن، وقد عمدت «النضيرة» فسقت أباها الخمر حتى أسكرته طمعاً في الزواج بسابور، وأمر «سابور» بهدم الحصن بعد أن قتل «الضيزن» ومن معه، وعرس سابور بالنضيرة بنت الضيزن فباتت مسهدة، فقال لها «سابور»: ما لك لا تنامين؟ .. قالت: إنّ جنبي يتجافى عن فراشك.. قال: ولم؟ .. فوالله ما نامت الملوك على ألين منه وأوطأ، إن حشوه لزغب النعام!!!.
فلما أصبح «سابور» نظر فإذا ورقة غار بين عُكْنِها (2)، فتناولها فكاد بطنها أن يدمى، فقال لها: ويحك!! بم كان أبواك يغذيانك؟ .. فقالت: بالزُبْدِ والمِلح والثَلْج والشَّهْد وصفْوِ الخَمر. فقال لها «سابور»: إنّي لجدير أن لا أستبقيك بعد إهلاكك أبويك وقومك، وكانت حالتك عندهم الحالة التي تصفين. فأمَر بها فرُبطت بِغدائرها (3) إلى فرسين جموحين، ثم أمر بِهما فخُلّى سَبِيلهما، فقَطّعَاها...
على مقربة من شجرة «الغار» وقفت شجرة «مشملة»، (مدلر)، تلك التي ذم «شكسبير» ثمارها في مسرحية «على هواك» قائلاً: "ستتفسخ قبلَ أنْ تنضج" -قالتها «روزالينا» للمهرج-. وبجانب «المشملة» (4) وقفت شجرة «جَنكة» (5) فارعة الطول ذات أوراق تحاكي المراوح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغار: شجر عطري من الفصيلة اللورية، كبيرٌ معمر، نبيل، زينت أغصانه هامات القياصرة والأبطال، وهو من الأشجار دائمة الخضر واسمها العلمي Laurus nobilis" "
(2) العُكْنة: الطي الذي في البطن من السمن والنعيم، والجمع عُكْنٌ و أعْكَان، "ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمناً".
(3) الغَدِيرَةُ : الذّؤَابَةُ المَضْفُورَةُ من شعر المرأة والجمع : غدائر، والغَديرتان : الذُّؤابتان من الشَّعْر اللَّتان تَسقُطان على الصَّدر.
(4) المشملة: شجر دائم الخضرة يتبع الفصيلة الوردية من رتبة الورديات، تعطي الشجرة ثمار صغيرة بيضاوية الشكل صفراء اللون وتعرف بالبشملة أو المشمش الهندي أو أسكي دنيا.
(5) الجنكة: يسميها البعض شجرة المعبد وهي من أقدم الأشجار على وجه الأرض، يبلغ طول هذه الشجرة من 30 إلى 40 متراً، تقاوم الظروف مهما حصل من حولها وتسمى شجرة الحياة فقد استطاعت البقاء في هيروشيما بعد القنبلة الذرية.
 

Thursday, August 11, 2016

حائرٌ في لندن!


لا يترك الوالد -حفظه الله- فرصةً إلا واثنى فيها على مهارات «جوجل» google ، الذي أصبح يقيس المسافات بين نقطة ونقطة باتقانٍ بالغ، ويحددُ إذا ما كان الطريقُ مزدحماً أم سالكاً، وكم يستغرق الوقت بين نقطتين.
ففي الأمس، كنتُ على موعد مع صاحبي في «ثيمز وارف» في «رينفل» ، فاستقليت سيارة الأجرة (التاكسي)، وكان السائق رجلاً سِتينياً، أخبرته بالعنوان، فحارَ وَحكّ رأّسهُ وقلّب ذاكرته، ثم قال: "لا أتذكر أنني سمعت بهذا المكان من قبل"!.
بدا الأمر غريباً؛ فمعروف أن جميع السائقين في لندن يحتاجون إلى معرفة 320 طريقة تساعدهم في حفظ 25.000 شارع و20.000 من المعالم والأماكن الأساسية بما فيها الفنادق والمطاعم داخل مساحة دائرية نصف قطرها يصل إلى ستة أميال من منطقة «شارنغ كروس» في وسط لندن. كما ينخرطون في دراسة تستغرق من عامين إلى أربعة أعوام، وقد تتضاعف المدة دونَ أنْ يتمكن المتقدّم من الظفر بــ «إجازة» تاكسي (الخنفساء العريقة) التي تُعد أحد أشهر معالم بريطانيا، مثل قطار الأنفاق أو «كابينة التلفون» الحمراء، و«الباص» ذو الدورين، وصندوق البريد.
فلقد ظهرت أول سيارة أجرة في عهد الملكة «إليزابيث» الأولى، وكان يطلق عليها (هاكني) وتجرها الخيل، ولا يستقلّها آنذاك إلا من كان ذو حظ عظيم.
ثم ظهر نوعٌ آخر في عام 1897 يعملُ بالطاقة الكهربائية، وكانت له جلبة كبيرة؛ فلم يستمر في عمله سوى ثلاثة أعوام قبل أن يظهر أول «تاكسي» يعمل بالبنزين في لندن وكان ذلك في عام 1903.
وكانت الشروط من القسوة ما جعل قيادة التاكسي في لندن أمراً مرجعيا في العالم، فكيف إذن تمكن صاحبنا (السائق الحائر) من الظفر بإجازته؟
وبعد أن تيقّنت منه أنه لن يبلغ بي وجهتي قررت اللجوء إلى (جوجل)، وسألته الطريق إلى «ثيمز وارف» في «رينفل»، وبلمسة من عصا «جوجل» تمكنت من تحديد المكان وساعة الوصول؛ فكانت هذه أول مرة أستعين فيها بالخرائط لمساعدة سائق عريق، لأهديه إلى عنوان في مدينة «لندن» الضاربة في القدم.
أما الآن - وبفضل هذه الخرائط- أصبحت سُبل لندن سالكة ومتيسرة، وصار الوصول إلى أي مكان أهدى من اليد للفم كما قال «زهير بن أبي سلمى»:
بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحْرَنَ بِسُحْـرَةٍ ** فَهُـنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَـمِ.
‫#‏محمد_أحمد_السويدي‬
‫#‏لندن‬
 

Saturday, August 6, 2016

سعيد ماتادورا في إسْبَانيا




سَأَلَتْنِي العَمَةُ (مَديّه): هل قصّ عليك (سَعيِد) حكايته مع الثَورِ الأَسْبَاني؟.
فقلت: لا، لم يقصص عليّ شيئا من هذا.
وهنا سمعت لأول مرة نبأ العم (سَعيِد) مع الثور الأسباني!.
قالت العَمَةُ (مَديّه): كان الشيخ زايد -رحمه الله- في زيارة رسمية إلى أسبانيا، فدعي بشكل خاص إلى حلبة مصارعة الثيران ليشهد صراعاً كان مقرراً في ذلك اليوم.. فسألهم مضيفهم: هل فيكم من يحسن مصارعة الثيران؟
وكم كانت دهشة الشيخ زايد كبيرة عندما انبرى (سَعيِد) للأمر وقفز إلى الحلبة بقماشة حمراء، وكان ستينيّا، فأخذ يلوّح بها للثور، وما أن أبصره الثور حتى هاج وماج، وترك ما حوله وقصد العم (سَعيِد) يتقدّمه قرنان كأنهما قرنا الشيطان، أما العم سعيد فلم يكن يعرف من أمر وقوانين وتقنيات المصارعة شيئاً، ولكن همته لم تقعد به عندما سمع السؤال.
قصد الثور باستقامة العم (سَعيِد) الذي تجنّبه وسط دهشة وذهول الجمهور، فصار كلما نجى لوّح بالقماشة الحمراء، فيهجم الثور وقد بلغ أوج الغضب من هذا الستيني الذي تجرّد من السيف، وهكذا دار الأمر سجالاً، وكلما أخطأه الثور لوّح بالقماشة ..
وكانت هذه الحكاية من الحكايات العَجِيبة التي يسردها الشيخ زَايِد -رَحِمهُ الله- على جُلّاسه في جُرأة وإقدام العم (سَعيِد).
وظلت (مَديّه) تردّد: الحمدُ لله على سلامته من محنة الثور الأسْباني.
ثم ذكرت العمة (مَديّه) أنّها شهدت مصارعة ثيران حقيقية مع ابنها (جَمَال)، ورأتْ في ذلك اليوم «الماتادور ريفيرا أوردونيز» يقتل تسعةَ ثِيران.
وذكرت أن هذا «الماتادور» كان شهيراً وبارعاً في مجاله ولكن انتهى به الأمر مقتولاً بعد 25 سنة من مصارعة الثِيرَان، وحدث ذلك في الأندلس في عام 1984.
وشخصياً، ما زلتُ أعجبُ مِنْ تشرِيعِ وإِباحَة هذه الرياضة «اللا إنسانية»!.
فقال (الوالد): ولماذا العجب، لا تذهب بعيداً؛ فإمارة «الفجيرة» مشهورة بنوع من مصارعة الثيران وفيها تجد من يتفنن في بَرْي قُرون الثور لتكون أشدّ فتكاً!، ولكن الفرق يكْمُنُ في كونها مصارعة بين الثيران فحسب، فلا ماتادور ولا خَلْكة حمراء.
ويفتخر «الماتادور» باحتفاظه بِـذَيْلِ الثور المقتول.
ثمّ حدثتُهم عن طبيعة المُغامرة في الإنسان، فصديقي «دِيفيد» قصد اليابان خصيصاً ليأكل من لحم سمكة «الفُوجو» أو «قُنفذ البحر» التي يذهب ضحية تناولها العديد من الأشخاص في كلّ عام.
 

Friday, August 5, 2016

الخَرِيطة التي عَكّرتْ صَفو تُركِيا


الخَرِيطة التي عَكّرتْ صَفو تُركِيا
«الخَرِيطة التي عَكّرتْ صَفو تُركِيا»
ندعوكم للتعرف على خريطة النظام الدولي القديم – الجديد، ووثيقة للقوانين السياسية التي حكمت المنطقة الممتدة بين بيروت وبرلين، بدءاً بالمشرق العربي الممزق، ومروراً بتركيا القلقة والبلقان المتفجر، ووصولاً إلى الدولة الألمانية العظمى. قبل نصف قرن، والتعرف على ذلك المرجع القَيِّم للتفكير السياسي الذي طبع ما يُسمى "الرعيل العربي الأول"... من رحلة "بَيروتْ – بِرلينْ – بَيروتْ" لــ "كَامل مُرُّوَه" وهي جزء من مشروعنا ‫#‏أدب_الرحلة‬
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
23 حزيران/ يونيو 1941م
« في السياسة الخارجية التركية مبدأ ثابت لم يتبدل منذ قرون، ولا يزال حتى اليوم ركنها الأساسي.
هذا المبدأ يَعتبرُ المطامع الروسية في المضايق الخطر الأكبر على ‫#‏تركيا‬. لذلك حيث تكون ‫#‏روسيا‬، تكون تركيا في المعسكر الآخر.
وفي اليوم التالي لإعلان الحرب، أي في يوم 23 حزيران/ يونيو 1941م، استدعى وزير الخارجية التركية السيد "سراج أوغلو" الصحافيين الأجانب ليتلو عليهم تصريحاً عن موقف بلاده.
وقد ذهبت معهم إلى ذلك الاجتماع بدافع الفضول، فإذا بالوزير يحدثنا عن الحرب والمتحاربين بلهجة جديدة، دَلَّت على أنَّ السياسة الخارجية التركية لبست في أقل من أربع وعشرين ساعة حُلَّة جديدة تناسب المقام.
ولكي يفهم القارئ نوع هذه الحُلَّة، يجب عليّ أن أعود به قليلاً –على ضوء ما سمعته في ‫#‏أنقرة‬– إلى الأشهر القليلة التي سبقت إعلان الحرب. ففي ذلك الحين كانت تركيا تتبع سياسة الحياد التام تجاه الجميع.
وأرادت حكومة أنقرة الوصول إلى اتفاق حاسم مع السوفييت، فأوفدت "سراج أوغلو" إلى موسكو ليصارحهم بحقيقة الأمر، فلم يُحْظَ الوزير بنتيجة، وعاد إلى #أنقرة صفر اليدين.
وكانت #روسيا حتى ذلك الحين معزولة عن السياسة الأوروبية بسبب اتفاقية ‫#‏ميونيخ‬، فلم ير الأتراك ثمة مبرراً للانضمام إلى الجهة الإنكليزية –الفرنسية، أو إلى الجبهة المحورية؛ ما دام الروس بعيدين عن الجبهتين.
ولما راح الحلفاء يخطبون وُدَّ ‫#‏موسكو‬ في صيف 1939م، اضطربت تركيا وأخذت تميل نحو ألمانيا.
ولكن ما كاد الألمان يعقدون الميثاق المعلوم مع روسيا في 22 آب/ أغسطس 1939م وتقع الحرب على إثره ثم تهاجم روسيا فنلندا وتكاد تشتبك مع الحلفاء، حتى بادر الأتراك إلى عقد ميثاق التحالف مع إنكلترا وفرنسا، إذ استقرَّت عندهم القناعة أن روسيا انضمت إلى الجبهة المحورية وأن الحلفاء أصبحوا خصومها.
وفجأة دار الفلك دورته واشتبكت ألمانيا بالحرب مع روسيا، وأصبحت روسيا حليفة إنكلترا، فوجدت تركيا نفسها بين عشية وضحاها حليفة الروس من حيث لا تدري ولا تريد.
وفي ذلك اليوم، 22 حزيران/ يونيو 1941م فَكَّر الأتراك طويلاً في حاضرهم ومستقبلهم، فانتهوا إلى ‫#‏النتائج‬ التالية:
أولاً: لن تقلع روسيا عن المطالبة بالمضايق، فلا سبيل إذن لتبديل مبادئ السياسة التركية التقليدية تجاهها.
ثانياً: قد تنتهي هذه الحرب بفوز الحلفاء على ألمانيا. وعندئذ تستطيع تركيا الاعتماد على إنكلترا لحماية نفسها من التوسع الروسي. وفي التحالف القائم مع بريطانيا ما يضمن ذلك.
ثالثاً: قد تنتهي الحرب بهزيمة الحلفاء وحلول ألمانيا محل روسيا في الشرق، ولكن ليس بين تركيا وألمانيا من العقود ما يطمئن تركيا على مصيرها إذا تَحَقَّق ذلك.
إذن، ينبغي إكمال هذه الحلقة الناقصة بعقد اتفاق مع الألمان، شبيه بذلك الذي عقدوه مع الإنكليز. هذا ما قررته حكومة أنقرة في نفس اليوم الذي بدأت فيه الحرب الروسية –الألمانية، وهذا ما حققته بعد شهرين، عندما عقدت ميثاق عدم الاعتداء مع البارون فون بابن، فضمنت لنفسها العون من الإنكليز والألمان ضد الروس، في مختلف الاحتمالات والحالات.
*ويتساءل الكثيرون: وكيف استطاعت تركيا أن تبقى على الحياد حتى نهاية الحرب؟
يعود الفضل في ذلك إلى رغبة الإنكليز والألمان أنفسهم. فقد اتفقت مصلحة الطرفين المتحاربين على بقاء تركيا على الحياد، إذ أن زجها في الحرب يومئذ مع هذا الطرف أو ذاك كان يفتح أبواب تركيا أمام الروس ليدخلوها كحليفة للإنكليز أو كعدوة للألمان.
وقد فضل الإنكليز والألمان معاً بقاء تركيا على الحياد على دخول الروس إليها، وكانت النتيجة أن بقيت تركيا بمعزل عن الحرب، ولم تعلن الحرب على ألمانيا إلا بعد أن أصبح الروس –وليس الألمان– على الحدود البلغارية في أوائل السنة 1945م.
مَرَّ الأسبوع الأول من الحرب الألمانية –الروسية دون أن يزعج أحد الطرفين الأتراك، فاطمأن بالهم موقتاً، وجلسوا يرقبون النتيجة.
ولم يعكر صفر هذا الأسبوع سوى خريطة نشرتها مجلة تركية طالبت فيها بتجميع الأراضي التركمانية التي يحتلها الروس، من القوقاس حتى بخارى وطشقند لإنشاء دولة طورانية بزعامة تركيا. فاحتج الروس عليها، ولا يزالون إلى يومنا يسجلون على الأتراك ذلك الطلب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من العجيب أن صحيفة "الحياة" في نوفمبر 1989م كانت أنهت لتوها إعادة نشر «رحلة "بيروت – برلين – بيروت" لكامل مروة»، ولكن من كان يدري يومذاك أن الذكرى ستتحول إلى ثورة، فينهار جدار برلين، وتعود ألمانيا واحدة، وتعود معها أوروبا إلى النظام السياسي –الجغرافي الذي كان يسودها في السابق.
*ومن المفارقات أن ننشر على صفحتنا هنا (قبل 72 ساعة من أحداث تركيا الأخيرة) نصاً من رحلة كامل مروة بتاريخ 12 يوليو الجاري، يتحدث عن الزلزال السياسي الذي حل بتركيا ودور روسيا وفرنسا وتأثير ذلك على المنطقة. يمكنكم استدراكه عبر الرابط التالي:
 

Thursday, June 23, 2016

غَزَالتان مِنْ أًرض المَاوري


 
كانوا في «بريستول« عندما شاهدوا إعلاناً عن تذاكر ذهاب وإيابٍ إلى «نيوزيلاندا»، وكنت مع والدي نتعقّب أزهار التولب في «الريجنت» وقد أينعت، وأصبحت قادرة على أن تكون سببا في حروب «تولب» من نوع آخر.
حدّثني والدي بأنّ السفر كان فرصة لإدراك المعمور من الأرض بحسب إصطلاح الجغرافيين القدامى.
نيوزلندا .. يا له من سفرٍ بدأت فكرته بإعلان قيمته 150 جنيهاً، فقال والدي لرفيقيه: إذا كان الأمر كذلك فأنا من يدعوكم إلى أرض «الماوري».
ذهب الجمع السعيد إلى وكالات السفر، ولكنها كانت محجوزة لنحو شهرٍ كامل، ثم اهتدوا إلى فتاة لطيفة في «البان أميركان»، وسألوها أن تجد لهم مكاناً في الطائرة.. فقالت: هناك طائرة واحدة ستحملكم إلى «لوس انجلوس»، ومن هناك ستجدون دون عناء طائرة تقلّكم إلى «نيوزيلاندا».
وفي اليوم التالي، كانوا على متن الطائرة يكابدون عناء السفر في الدرجة الثالثة، إحدى عشرة ساعة إلى «لوس أنجلوس»، وعندما بلغوها أخيراً هبطوا من الطائرة سُكارَى وماهم بِسُكارىَ.
كان أمامهم شرطيّ قدماه ثابتتان في الأرض ورأسه في السماء، يُجيل نظراته في الجمع الغفير الذي اصطفّ أمامه، وقد ضاقت بهم الصالة، ومن دون الجميع أشار إلى والدي وسأله أن يفرغ ما بحقائبه من أجل التفتيش!.
قال والدي للشرطي: هل لي بكلمة قبل أن تبدأ التفتيش؟
فقال الشرطي: بكل تأكيد يا سيدي..
فقال والدي - وقد شعر أن للعمالقة قلوباً طيبةً أحيانا- : أنا رجلٌ ديبلوماسي، وأعملُ وزيراً لخارجية دولة الإمارات، وهذه الأوراق تثبت ذلك...
فاعتذر العملاق، وتابع والدي طريقه.
ومن «لوس أنجلوس» ذهبوا إلى «هاييتي»، ومنها - بعد خمس ساعات- حطّوا الرحال في أرض الماوري.
كان الإرهاق قد بلغ منهم مبلغاً عظيماً، وكانت الفتاتان بانتظارهم في المطار؛ وقادتا الجميع إلى الفندق، وهناك قال والدي: دعوني وشأني في غرفتي، ولا يوقظني أحد حتى الغد، ثم هجرهم هجراً جميلاً، وذهب ليعقد حلفاً مع «مورفيوس« ملك الأحلام يوماً كاملاً.
في اليوم التالي، قادتهما الفتاتان إلى منزلهما العائلي في أرياف «تتناسل» بلا توقّف، وهناك شاهد الوالد مزرعة يملكها والدي إحداهن، وفيها قرابة الأربعة آلاف رأس غنم، عدا أعداد كبيرة من البقر ترعى في أرض العائلة، وكانت «نيوزلندا« تمنح من يقصدها لغرض الإقامة والعمل أرضاً وماشية.
أراد الوالد أن يطيب له المقام في «نيوزيلندا» بالتعرّف إليها عن قرب، وهو أمر تتطلبه طبيعة عمله فضلاً عن شخصيته التي تنحو إلى الإحاطة بالاشياء ومعرفة دقائقها.
وهكذا، ذهب إلى عاصمة نيوزيلندا وثاني أكبر مدنها (ولينغتون) والتي تقع في جنوب الجزيرة الشمالية، أو (أرض الغيمة البيضاء الطويلة) بحسب تسمية السكان المحليين من «الماوري».
كما لم يفوّت الفرصة على نفسه بزيارة السخّانات الدافئة، «ذا جيسر» بحرارتها البالغة 64 درجة مئوية، ويعود السبب في ارتفاع حرارة القشرة الأرضية في هذه المنطقة إلى (هشاشتها) مما يجعل الدخان يتكاثف على هيئة حزمة بيضاء كبيرة.
ومن «نيوزيلندا» غادر الوالد إلى استراليا، ولقد شعر بفتنتها التي لم تتمكن أيام السفر المعدودة من جعله يقاوم الرغبة في زيارتها مرة أخرى، وهذا ما حدث بالفعل حيث زارها في العام التالي أي في (1973).
وفيها قصد التكوين الصخري الذي يُطلق عليه (أولورو) أي الحصاة الكبيرة بلغة سكانها الأصليين، ويقع وسط استراليا، وهي بقايا صخرية عزلتها تآكلات الجبال، فشكّلت وحدة متماسكة من الأحجار الرملية المعروفة باسم (آركوس)، ويصل ارتفاعها إلى 335 متراً، فيما يبلغ محيطها 8 كيلو مترات.
ولقد حدّثني والدي عما شهده بنفسه من فروقات ظاهرة بين الأبورجينال (سكان استراليا) والماوري، فلقد فاجأه أن يجد «الأبورجينال» في حال مزرية، وليس لهم من الحقوق إلا ما يكفل القدرة على بقائهم في جماعات قليلة ومنفردة لا تملك لنفسها النفع ولا دفع الضرر.
وهو الأمر الذي لم يجده في «نيوزيلاند»، حيث كان الماوري يذوبون في الوافديين الجدد ويصبحون من بعضهم، بينما كان الأبورجينال يذوبون من القارة الشاسعة وليس فيها.

Tuesday, June 21, 2016

بديهة حاضرة



شعر صاحبنا "محمد" بجوعٍ شديدٍ أثناء نوبته في العمل بأحد المطاعم، فنزل إلى المطبخ، ووقعت عيناه على طبق كعك طازج، فلم يتمكن من مقاومة جوعه الذي تفاقم بمجرد أن أصبح الكعك في متناوله، فاضطر إلى كسر تقاليد المطبخ التي تحظر على العاملين تناول شيء من موجوداته.
فعمد إلى السكين، واحتزّ به قطعةً كبيرة لتسدّ جوعه.
وكان يتوجّس خيفة من دخول أحد العاملين بغتةً عليه، وما أن نقلها إلى الطبق حتى شعر بيدٍ تربت على كتفه، تطلّع ناحيتها، وإذا به مدير المطعم بدمه ولحمه، فقال وهو يشير إلى قطعة الكعك: ما هذه؟
فأسعفت محمد بديهته وقال بسرعة: هذا طلب الطاولة رقم واحد، فلقد طلب تحلية وها أنا أقطعها له.
فقال صاحب المطعم متشكّكا: لا بأس، ولكن قدني إلى طاولته..
فحمل (محمد) الطبق، وتبعه صاحب المطعم حتى بلغ الطاولة، ثم وضع القطعة أمام الرجل الذي أخذته الدهشة..
فمال محمد عليه وقال بصوت خفيض: إنها على حساب المطعم.
  http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_article_indetail.php?articleid=128

Friday, June 17, 2016

ها قد اكتحلت العيون بـ - الدولومايت -

 
كان المطعم يبعدُ قرابة نِصف الساعة عن مقر إقامتنا بإيطاليا، فرأينا أنْ نستقلّ سيارةَ من الفندق، وكان السائق شاباً في الحادية والعشرين من عمره، يجيد اللغة الإنكليزية، فسألته كيف تعلّمها بمثل هذه السنّ المبكرة وفي بلد يشحّ فيه المتحدثين بها؟!
فقال: أن والده يملك مطعماً وحانة خمر (Bar)، لذا فقد تمكن من إتقانها بسبب اختلاطه برواد المكان.
ثم سألناه عن المطعم الذي نريده، فقال أنّه لم يقصده من قبل، فالمنطقة بعيدة عن "ميلانو" والذهاب إليها يكون غالبا بقصد ارتياد المطعم، فمطعم تحصّل على (ثلاث نجوم) له ما للمدينة من ثقل وتأثير فيقصده الناس كما لو أنهم في رحلة إلى مدينة عامرة.
عندما دخلنا مطعم "دا فيتوريو" في منطقة "براسابورتو" التي تقع في الأطراف القصية شرق "ميلانو" وجدناه يعجّ بالعوائل الأرستقراطية، ورأينا -رأي العين- صحون الذهب والفضة مثيلة تلك التي كانت تُرمى في نهر "آرنو" من فيللا "ايتشيجي"، أما أعداد الطهاة والنُدُل فيكاد يفوق أعداد روّاده ..
ولقد فعلت ا(لثلاث نجوم) فعلها، فلقد كانت وجبة عامرة لا تُنسى..
قُدّم إلينا أول الأمر (الكندي) وهو ضرب من الخبز مع الفطر، ثم أُتبع بطبق بياض البيض مخفوقا بالخبز والصفار كمقبّلات، ومن ثمّ "البولنتا" مع "الباكلاه".
أما الطبق الرئيس فكان "باستا الباكري مع الطماطم" وهو من الطيّبات، ويُعدّ أمام ناظريك، وكأنك شريك في هذا المختبر الميلاني، فتمتلئ عينيك وحواسك بسحره حتى تشعر أنك في لحظة مّا أصبحت شريكاً في النجوم الثلاثة أيضاّ.
ومن ثم الأسماك المقلية ولحم الروستو، ومصدره أبقار "بيمونتي" التي ترعى في جبال الألب.
واختتموا المأدبة بتقديم "الكانولّي" بالقشدة، حيث ناولنا النادل قطعة من الخبز ثم عصر فيها القشدة، وقال بصوت احتفالي: خذوا الكانولي.. وكان ألذ من أي كانولي تناولناه من قبل بما فيه ذلك الذي يعدّه المطبخ الصقلّي الذي لا يُذكر إلا وذكر الكانولّي معه.
وألحقوا ذلك كله بحلوى شعر البنات، وكعك البرتقال العجيب، كتحية وداع.
وبعد أن ختمنا فصل العشاء تركتُ ماريا كالاس تصدح بأغنية (دونا دلّي)
كان المطر ينهر في الخارج انهمار سيلٍ من علٍ، وكانت الثواني في تلك الليلة تندلق كطيب، لولا تعامد ستة كواكب في السماء من برج الحوت المائي.
في الصباح التالي، وبعد فطور خفيف، انطلقنا إلى "الدولومايت" وإلى بلدة "كورتينا" تحديداً، وبعد نحو أربع ساعات وربع الساعة، وفي تاريخ 13 مارس 2016، بزغت "كورتينا".
أخيراً.. ها قد اكتحلت العيون بـ "الدولومايت".
  http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_article_indetail.php?articleid=127

Tuesday, June 14, 2016

الزمن على الجهة الأخرى



 الزمن على الجهة الأخرى
كنا نستقل اليخت مع الأخ الوزير / بو غازي، بدأ من القناة المائية التي تربط منطقة المصفح بالرأس الأخضر، حيث يتراءى قبالتنا فندق "الإنتركونتننتال" والديوان الأميري.
لم تعد هذه القناة متاحة للبواخر والمراكب التي كانت تمخرها مسببة جلبة وإزعاجا للسكان.
أصبح اللسان المائي الذي يقود إلى المصفح خلف هذه القناة.
قلت للأخ بو غازي: قبل سنين خلت، وقبل أن نقطن هذا البيت ويصبح مأهولاً، كنت في رحلة صيد مع صديق فتعطّل بنا القارب وكان الوقت موشكا على الغروب، وكادت الأسباب أن تتقطّع بنا لولا أننا لمحنا قارباً يقلّ ركاباً، ثم صار على مقربة منا، وكنا نلوّح بأيدينا، بل نستثمر كل تلويحة في رجاء أن يبصرنا أحدهم، وعندما لم نجد استجابة ظننا أنهم لا يسمعونا بسبب الريح التي كانت تهبّ في ذلك اليوم فتقطّع أوصال صيحاتنا قبل أن تصل.
فقال صديقي، وكان اليأسُ قد بدأ يدبّ فيه: سأقصد المركب سباحة وامْكُث أنت في قاربنا حتى لا تجذبه التيارات بعيداً، فترددت وقلت: بل سنمضي معاً.
إلا أنّه أقنعني بضرورة البقاء في القارب، فمكثت على مضض.
سبح صاحبي إلى القارب الآخر وعندما صار قريباً منه، أخذ القارب يبتعد بطريقة لم يكن بوسعنا فهمها، وتركنا خلفه للمجهول.
صاح صديقي بأعلى صوته دون جدوى، وكان صوت المحرّك -والذي أخذ يهدر في ابتعاده - متحالفاً مع صوت الريح يجعلان كل شيء وكأنّه أعدّ من أجل أن نشعر أننا لن نعثر على شيء آخر سوى ‫#‏اليأس‬.
التفت صديقي في تلك البرهة صوبي وقال: سأخوّض سباحة إلى الشاطئ الآخر وأعود بالمساعدة.
جنح بي القارب على الساحل المقابل بعد غياب الشمس -وكان القمر بدراً في تلك الليلة- أمّا الجزيرة فلقد رانت عليها هدأة الليل.
كان الوقت يمرُّ بطيئا، والساعة لا تكاد تنقّل عقاربها، فحدست أنها توقفت، وتوقف معها ‫#‏الزمن‬.
تجولت على غير هدى بضع دقائق ذات اليمين وذات الشمال، دون أن تنزلق عقارب الساعة، فقلت سأشغل نفسي بالصيد حتى مجيء صاحبي بالمساعدة.
وكان صيداً وفيراً، فلقد اصطدت ما يزيد على العشرين سمكة بين بدح وقابط.
ولكن حتى هذه التسلية لم تنجح في تغيير إيقاع الزمن الذي جثم بكلّ ثقله على هذا الجانب، وتساءلت عن الأسباب التي تجعل الزمن في الجزيرة المقابلة يمضي سريعاً ولا ينتظر أحدا.
كان أكثر ما يقلقني أن الوالدة -رحمها الله- كانت ذلك الحين في المستشفى وخشيت أن تفتقدني، فلم تكن هناك من وسيلة اتصال.
قبل منتصف الليل، وكنت قد سلّمت أمري إلى الله، بدأت تصلني حزمة من الضوء.
كان صديقي في قارب أخذ يقترب، يحمل كشّافاً ضوئياً وأخذ يسلّطه على الجزيرة حتى اهتدى إلى موضع قاربي الجانح.
عندما عدنا إلى المنزل الذي لم يكن مأهولاً بعد، قال لي أنه كاد أن يلقى حتفه بالقرب من منطقة القرم، فالوحل والطمي فيها أوشك على ابتلاعه.
حمدنا الله على سلامة العودة، ونحن نستعيد تلك اللحظات التي جعلتنا نواجه مصيراً غامضاً.
حتى اليوم، -وبعد مرور قرابة الأربعين عاما على تلك الحادثة -فالصورة التي لا تبرح مخيّلتي هي تلك ‫#‏البرهة‬ التي تحرّك فيها القارب مبتعداً وتاركاً إيّانا للمجهول.
  http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_article_indetail.php?articleid=125

Friday, June 3, 2016

بحيرة تراسيمينو



بحيرة "تراسيمينو"
السادس من يناير 2012م
ما السرُ في تلك الأمكنة التّي ما أن نغادرها حتّى تغادرنا، وتلك التي تخطف ألبَابَنا وتظلّ تُنادينا.. تلك الأمكنة التي لا نمنحها إلا ظلّنا العابر، وتلك التي نخلَع عليها بعضاً من روحنا !.

قال جوته: لمّا غادر "بيروجيا" في صباح مجيد: "شعرت بنعمة الخلوة بنفسي من جديد. إنّ موقع البلدة جميل، ومنظر البحيرة ساحر. سأختزن صورهما في البال أبداً". ها نحن نمثل في نهارٍ مشرق للمرّة الثانية أمام منظر البحيرة الساحر، لم نميّز شاعر انجلترا الكبير "بايرون" في زورقه حتّى سمعنا هدير رفيقه "ستندهال" يقول: »أربعة أو خمسة أيّام من فلورنسا تحتاجها لبلوغ روما بكلفة أربعين أو خمسة وأربعين فرانك، أحبّذ طريق بيروجيا على طريق سينّا، بمقدورك زيارة اريتزو التي ما كاد يطرأ عليها جديد منذ عهد دانتي، ثمّ مشاهدة ما يلفّ بحيرة تراسينيمو من جمال«. تناولنا وجبة غداء خفيفة في (إلمولو).
- قبل ثلاثة اعوام- جلست امرأة مثقلة النهد (شايله مثل شيشات العرق) كما قال "بن لعبون" في ذات المطعم، وراحت تنقر بكعبها الأرض نقراً كسوط عذاب لم يبارح بال صاحبي حتى كاد أن يربط ذكرى الطاولة والمطعم والبحيرة بالكعب.
"تراسيمينو" الأمير ابن الملك التروسكاني والبحيرة ارتبطا إلى الأبد، فعندما حلّ الأمير ليستريح من وعثاء السفر هناك، صادف عقيلة (اجيللا) الحوريّة التي كانت تسكن إحدى جزر البحيرة الثلاث فوقع في غرامها، ولم يفترقا إلى أن وافته المنيّة، فنَعتْهُ زمناً طويلا، وخلعت على البحيرة اسمه. يحكى أنّه ما أن تداعب النسائم العليلة في ليالي أغسطس من كلّ عام صفحة ماء تلك البحيرة حتى يُسمع نواحها ترجّعه النسمات في انتظار أوبته.
في ربيع عام 217 قبل الميلاد روّع "هانيبال" القرطاجي (القائد التونسي المحنّك) هذه البحيرة بفيلته التي عبر بها جبال الألب، وقضى على الجيش الروماني البالغ عدده ثلاثون ألفا في هزيمة ساحقة خلّدها التاريخ، فلول الجيش الهاربة الذين كانوا يحملون الأغلال ليسلكوا فيها الأسرى الذين كانوا يأملون بيعهم في أسواق روما بيع العبيد ذبحو على شواطيء الجزيرة حتى تضرّجت مياه البحيرة بالدماء، وهيمن "هانيبال" على شمال إيطاليا حتّى مُلئت منه روما رعباً.
سأل صاحبي عن أصل كلمة "هانيبال" أو "حنا بعل" فقلت: بَعْلُ هو الإله، وحنّا من حنان أو فضل، كأن تقول اليوم: حنان الله أو فضل الله، أما سمعت قوله تعالى: "وحناناً من لدّنا".. ما زال الإسم يا صديقى حيّا في (ميتافور) الأسماء.
‫#‏محمد_أحمد_السويدي‬
‫#‏تراسيمينو‬

http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_article_indetail.php?articleid=118

 

Wednesday, May 25, 2016

نحلٌ أم دبابير



2016-05-25
اعرض في فيس بوك
التصنيف :

 
 
في عام 1968م قصد طبيبًٌ لبناني متخصّص في معالجة خلايا النحل سموّ الشيخ "زايد بن سلطان" -رحمه الله- في مدينة العين؛ وفور وصوله، ذهب مع جماعة إلى مزرعة الشيخ خالد بن سلطان في العقابية، وكان من بين من اصطحبه حمد بن خالد بن جمهور.
كان الطبيب اللبناني يحمل معه حقيبة ملأى بأنواع من المبيدات الحشرية التي صممها بنفسه وأعدها لتناسب الطقس وتكون كفيلة بعلاج (خلايا النحل).
جال ببصره في أرجاء المكان، حتى وقع على مستعمرة تعجّ بخلايا وبيوتات النحل، هكذا خالها لأول وهلة.
أعدّ الجهاز وعبأه بالمادة المعالجة، وقدّم ساقه في وضع عسكريّ متوجهاً بخرطومه صوب المستعمرة، كما لو كان جندياً يتهيأ لحرب لا نهاية لها.
ثم أطلق رشاشاً كثيفاً من مبيده نحو ما ظنها خلية نحل، فما هي إلا برهة، حتى أخذه أزيز الدبابير (الدباية وهي جمع دِبي) وطنينها وهي تلوذ به فراراً من رشاشه.
دبابير حمراء وصفراء تسرّ الناظرين خرجت من مستعمراتها، وقد أعدّت إبرها، ولاذت بالطبيب من رشاشه الحارق، وأنشبت فيه مئات الإبر.
لقد التبس الأمر على الطبيب، ولم يفرّق بين الدبابير والنحل.
هُرع صوبه الأخ/ حمد بن ناصر، وألقى (برنوصاً) على الطبيب الذي أصبح شبيهاً بالغربال، ثم حمله مع رشاشه ومبيداته في صندوق سيارته اللاندروفر الخلفي، وقصد به المستشفى.
وبعد مضيّ شهرين على تلك الحادثة، عاود الشيخ زايد السؤال عن الطبيب ومبيداته وما صار من شأنه.
فقالوا له أنّ الرجل مازال ملقى في المستشفى، وجسده فيه من الثقوب الدقيقة مالا عين رأت ولا أذن سمعت.
وبعد فترة من الزمن .. قصد الشيخ أحمد بن سرور، مجلس الشيخ زايد مصطحباً معه الطبيب، وكان كلّ من وقع عليه بصره في المجلس يرمقه برهة قبل أن يفرك يديه بيأس ويقول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله
لقد كان يبدو في هيئته المنتفخة تلك كم أصيب بالجدري...
‫#‏محمد_أحمد_السويدي‬
‫#‏حكاية‬
‫#‏دبابير‬
 

Monday, May 23, 2016

غاودي وعائلته المقدّسة


 
في جولتنا في "برشلونة" قصدنا كنيسة العائلة المقدّسة (La sagrada Família)، التي تُصنّف كأحد روائع أسبانيا الإثني عشر، ومن روائع العالم، برغم أنها لم تكتمل بعد، بل ويرى المشرفون عليها أن ذلك لن يحدث قبل عام 2026م، أي بعد قرن من وفاة مصمّمها المعماري "أنطونيو غاودي" الذي صنّفت اليونسكو عشرة من أعماله المعمارية ضمن التراث الإنساني العالمي.
شُرع ببنائها في حياة "غاودي"عام 1882م، وكرّس نحو خمسة عشر عاماً في بنائها حتى وفاته، وأخذت اسمها من حي "ساغرادا فاميليا" الذي أقيمت فيه.
وعندما كان المعماري العظيم الذي ترك أثراً يمكننا أن نتبيّنه على هيئة صليب من الفضاء يُسأل عن سبب البطء في أعمال البناء، كان يردّد أنه "ليس على عجلة من أمره".
وها قد مرّت تسعة عقود على أول حجر من أحجار العائلة المقدسة ولم تكتمل بعد.
تُعد الكنيسة مركز جاذبية كبير للسياح حيث يمكنهم التجوّل في الأماكن التي اكتمل العمل عليها، فيزورها ما يربو على المليون شخص كل عام، ويشكّل المال الذي يتقاضونه من مبيعات التذاكر أحد أهم مصادر تمويل بنائها، حيث أن الكنيسة لا تعتمد في أعمال البناء على أي مصدر حكوميّ أو رسمي.
أمّا الكنيسة فظاهرها يختلف عن باطنها، فلقد أراد "غاودي" أن يجعلها من الخارج تزخر بالوحدات التزيينية من تماثيل أعتمد فيها الطابع التكعيبي لشيوعه في تلك الفترة، ولكنه أقرب إلى روح "غاودي" من رموز التكعيبية التي لم تتكرّس كمدرسة أو تيار معماري خارج عملية الفن التشكيلي.
كذلك أعتمد على تأثيرات باروكية، وقوطية، وآسيوية تأثر فيها في مرحلة من دراساته وبحوثه ونرى ظلالاً لها في عمله، كما نجده ينبذ الخطوط المستقيمة ويحفل بالخطوط المنحية، وتشكّل الطبيعة مصدراً لوحداته الهندسية والزخرفية كالأشجار والطيور والأسماك.
أما من الداخل فباطنها أكثر زهداً وتقشّفاً، ويبتعد فيه عن التزيين وكأنه أراد لمن يدخلها أن يكون بمواجهة الحالة الوجدانية، أما في الخارج فسيكون الزائر بمواجهة تامة مع الحالة الجمالية.
حاول "غاودي" في تصميمه أن يوظّف الضوء والفراغ، ويعيد اكتشاف الدهشة في كل تفصيل من الكنيسة، فمثلاً، شعرت أن وظيفة السلالم ليست في الصعود أو الهبوط بقدر ما جعلها توحي بأنها قادرة على منح تأويلات جديدة خارج مجال عملها الأصلي، فلقد بدت لي السلالم وكأنها شرائط تنزل من شعور الفتيات. وعندما قمت بتصوير الكنيسة من غير قصد بعدسة (عين السمكة) بدت في الصور وكأنها حُوتٌ عملاق وقد ابتلع الناس.

سَطيف .. أَرضُ الجَبابِرة



سَطيف .. أَرضُ الجَبابِرة
سطيف، إنّها هي -دُون غيرها- ما تلهبُ قلوبَ الجزائريين..
شعب تكمن عميقاً فيهم أرواحُ جبابرة تستنهض الأحداث حضورهم، فيبزغون من كلّ فجّ عميق.
لقد نهضت فيهم جينات الجبابرة هذه، ونفضوا عن صدورهم كابوس أعتى قوة استعمارية كانت قد احتفلت بمرور قرن من الزمان في عام 1930م، على وجودها في الجزائر، بل وأنشأت آلاف الوحدات العمرانية تأكيداً لبقائها الأبدي فيها، والتعامل مع الشعب الحيّ كمجموعة سكانية قابلة للتذويب بطرق شتى، ومنها تلك المقتلة الهائلة التي راح ضحيتها 45 ألف جزائري في يوم واحد.
سَطيف، التي دخلْتُهَا في العاشرة من صباح الأربعاء الحادي عشر من ديسمبر من عام 2013م، كان لنا موعدٌ مع سطيف المدينة التي حننا إلى لقاءها طويلاً.
نحن في منزلة الإكليل (اكليل العقرب)، كانت الشمسُ في برج القوس، وكان القمرُ يعقد موعداً مع الحمل الثرثار، وأمّا الزهرة فراحت ترنو إلى الجدي بحنوّ.
عندما بلغنا دارة الوالي استقبلنا الوالي "محمد بودربالي" على باب الدار، وبعد تناول الشاي الجزائري سألنا عن جوز سطيف "الإرجيقن" الذائع الصيت، كما ورد في كتب التراث. فلقد ذكره المقدسي، وابن البيطار، والقلقشندي وغيرهم من علماء العرب.
ولم نعد إلا ونحن نحمل منه ما يجعلنا لا نكفّ طيلة فترة إقامتنا عن تهشيم قشرته الصلبة واستخراج اللبّ.
ثمّ قصدنا "العين الفوّارة"، قال الوالي: إنّ من يشرب من ماء الفوّارة حتما سيعود اليها.
وفي متحف المدينة استقبلنا مدير المتحف وراحت فتاة تقدّم الشرح في قاعات المتحف الخمس، كان أهمّ ما شاهدناه هو لوحة موكب "باخوس" المعشّقة بالفسيفساء التي يظهر فيها الإله "باخوس" وأسوده عائداً من غزوة الهند، يجر وراءه الملوك والأمراء المكبّلين بالأغلال، وشاهدنا كذلك "مولد فينوس" الذي استلهم موضوعها "بوتاشيللي" فيما بعد.
قلت لصديقنا الوزير/ بوغازي ونحن عائدون في طريقنا للجزائر: لقد ترك الرومان أرض الجزائر كما تركها الفرنسيّون، تركوها لمّا قاوَمَتهم بالحديد والنار، تركوا قصورهم ومنتزهاتهم ومعابدهم ومسارحهم وحمّاماتهم، وحتّى أربابهم وربّاتهم ورحلوا.

Wednesday, May 18, 2016

السيد ولـيم والمُعَلّـقَـةُ الذهبيــة





 
 
 
 
السيد "ولـيم" والمُعَلّـقَـةُ الذهبيــة
عندما عملتُ في المجمع قبل سنواتٍ خَلت، توصّلت بكتاب (المعلّقة الرابعة) لـ "لبيد بن أبي ربيعة"
وكان الكتاب (مدوّنة بصرية) تعقّبت ( لبيد) في أمكنته، وتحولاته، التي جاءت بها قصيدته.
سألت عن مؤلف الكتاب، فعلمتُ أنّه متحدّر من عائلة أنجبت رئيساً للولايات المتحدة.
ولأن مثل هذه الكتب توحي وكأن مؤلفيها عاشوا في زمن سابق، فسألت إن كان لا يزال على قيد الحياة؟ فقالوا:بلى.
فسألت عن إمكانية دعوته: فأخبرني بعضهم أن مواقف الرجل تغيّرت، وأصبح صهيونياً، ولم يعد عروبياً كما عهدوه أول الأمر.
فتركت الأمر- على مضضٍ- ولم أعد إليه في تلك الآونة.
وبعد أربع سنوات، هاتفني الصديق المرحوم (عبد الملك الحمر)، وكان يعمل – آنذاك- في المصرف المركزي، وبدا عليه وكأنه في ورطة؛ فقد كان يومه مزدحماً، ولديه رجل ربما ضاقت به السبل - ويخشى أن يضيق به هو أيضاً- يُدعى "وليم بولك".
أدركت على الفور أنه كان يعني "بولك" صاحب كتاب ( لُـبيد) ذاته.
فالرجل كان يبدو بحاجة إلى من يصغي إليه، ولقد شعر في نفسه أنه يحمل زاده معه ليستعين به على وحشة الطريق، فلقد بلغ من العمر ما يجعله ينبذ التريّث، ويمنح تصوّراً لمن يلتقيه وكأنه على عجلة من أمره.
حدّثني عبد الملك عن نيّة "وليم" في العمل على مشروع سيتناول فيه (امرئ القيس) على شاكلة ما فعله مع (لـبيد)، ولقد أعياه العثور على من يتبنّاه، فأمرؤ القيس -لا ريب- أنّه أكثر توسّعاً في شعره وأمكنته، فهو قطع شبه الجزيرة من الجنوب حيث منزله الأول في كندة، مروراً بشمالها حيث التقى (السموأل بن عادياء) في تيماء، وصولاً إلى أنقرة كما تشير إلى ذلك مجموعة من الروايات.
و- شخصيّاً- أرى أن ما تداولته المصادر أو ما ورد على ألسنة الرواة عن أمرئ القيس، هو في الأصل مجموعة واسعة من الحكايات والملاحم الشعبية، التي أصبحت في فترة التدوين تستجيب لمراكز ثقل وقوة القبائل أثناء حروب الفتح وانتشارها في جغرافيات جديدة، وظهور النزعة القبيلة بعد فترة الخلافة الراشدة، وكان من الضروري أن تعمل القبائل على سرد الماضي وبيان مآثرها وقوتها فيه وكيفية انعكاس ذلك على حاضرها، من خلال استثماره في الوضع الجديد كأمراء على الأمصار أو قادة على الجند. لأنني أثق أنّ امريء القيس لم يذهب إلى أنقرة ليستنجد بملك الروم ولم تنته حياته غريباً على جبل يُقال له عسيب، وحتى الحكاية التي ربطته بالسموأل أجد أنها على غير ماورد في الروايات، فإذا كان أمرئ القيس بلغ تيماء والتقى بالسموأل حقا، فأجد أن السموأل استأثر بدروع أمرئ القيس لنفسه ولم يسع إلى التخلي عنها رغبة في الاستحواذ عليها، لأن الروايات لم تشر إلى ما بعد مقتل ابنه، ولا نعرف من مصيره شيئاً، وكأن الرواية كانت مقطوعة عن سياقات كثيرة لتمنح دليلا في اتجاه آخر حول وفاء الرجل، وأجد أن هذا الأمر كان جزءاً من صراع النفوذ والقوة والتأثير بعد سقوط دولة بني أميّة، والعمل على تقاسم تركاتهم في دولة بني العباس التي اتسع نفوذها وتضخّمت مؤسساتها.
عندما رأيت أن عبد الملك -رحمه الله-، كان يسعى إلى تعريفي بالسيد "بولك" ليتخفف من مشقة الاستماع إليه، فقلت له: أرسله لي.
كان صوت عبد الملك يصلني عبر الهاتف وكأنه يستنجد.
ما أن التقيت بالسيد "وليم" وشرعت بالحديث معه، حتى أدركت معاناة عبد الملك.
ولكنني فوجئت بأن الرجل لم يرتدّ عن مواقفه، بل العكس، أصبح أكثر التزاماً بها، ولكنه وهو في مثل هذه السنّ، كان قد حدّد أولوياته، ويبدو - من خلال وجهة نظره- أن لا شيء يجب أن يسبق القيام بمشروع (المدونة البصرية) التي سيتناول فيها امرؤ القيس.
ثم قال لي أن مشروعه يحتاج إلى ميزانية تتحرّك بين مليون ونصف، إلى مليوني دولار.
فشعرت بمرارة لعدم استطاعة المجمع توفير مبلغ كبير كهذا - في تلك الأيام-، حيث كانت الميزانية السنوية بالكاد تلبّي الفعاليات المقررة سلفا.
ففكرت بمن في وسعه أن يتبنّى أفكار السيد "وليم" ويكون قادراً على تمويل أحلامه.
وبعد يوم جميل تخللته الحكايات على تنوّعها غادر السيد "وليم" إلى باريس حيث يقضي فيها سنوات تقاعده.
لم أنقطع عن التواصل معه طيلة سنوات، و- في الوقت ذاته- لم أكفّ عن التفكير بضرورة إنجاز عمل مشترك يتناول أول (ملك ضلّيل) وصلنا شعره وسيرته.
وفي أواخر عام 2000، ولم تكن الفكرة قد برحت ذهني بعد، قرّرت أن أتبنّى المشروع شخصيّاً، خصوصاً وأن الإتفاق كان على ظهور الكتاب بذات جودة كتاب (لـبيد)، ولقد شعرت بمزيج من الغبطة والفخر وأنا أهاتفه، وكنت حينها في لندن.
وقلت له يا سيد "بولك" أريد أن أزفّ إليك خبر توفير المبلغ الذي سيمكّنك من إنجاز مشروع امرئ القيس
فجاءني صوته ضعيفا وهو يقول: آه يا محمّد، عليك أن تتقبّل اعتذاري عن القيام بهذه المهمّة..
فالرجل الذي عرفته قبل عقد من السنين أصبح هرماً، ولم يعد بوسعه أن يفعل شيئا أكثر من أن يتمنى أن تسنح الفرصة لأحد الشباب ليكمل ما بدأته.
وكانت تلك المكالمة نهاية حلم المعلّقة الذهبية وملكها الضلّيل.
‫#‏وليم_بولك‬
‪#‎William_R_Polk‬
‫#‏امرؤ_القيس‬
‫#‏محمد_أحمد_السويدي‬
*في الصورة السيد/وليم بولك ضيف شرف مجلس معالي /محمد أحمد السويدي أمس
 

Friday, May 13, 2016

رحلة ابن عتيبة إلى مكة


رحلة ابن عتيبة إلى مكة
حدثنا العم / سعيد بن أحمد خلف العتيبة، عن رحلة والده إلى الحج عام 1359 للهجرة.
وإذا قلبنا أوراق التاريخ الحديث، نجد أن في ذلك العام أعيد انتخاب الرئيس "روزفلت" للمرّة الثانية، وكانت الطائرات الألمانيّة تدكّ "لندن" بالقنابل، و"ولت ديزني" يجرّب فيلمه الطويل "بونوكيو"، و"جو لويس" يسقط الأبطال في الوزن الثقيل بالملاكمة، و"فرانك سيناترا" يطلّ إطلالته الأولى على جمهور إنديانابوليس، و"الجيب" سفينة الصحراء المرتقبة توشك على الظهور.
في ذلك العام، عزم الجدّ أحمد على القيام برحلة الحج إلى مكّة والمدينة، وقد صادفت الوقفة فيها 8 يناير عام 1941. علماً أنّ ذلك العام شهد وقفتين، وكانت الثانية في 25 ديسمبر، وهي الوقفة التي غرقت فيها مكّة بالأمطار.
وإذا صادفت الوقفة الثامن من يناير، فهذا يعني أنّهم غادروا البلاد في (طالع الإكليل)، في قرابة العاشر من ديسمبر 1940، أي في مربعانيّة الشتاء، وهي في المخيال الشعبي "مقرعة البيبان" التي قالت متوّعدة الناس: "إذا ما عجبكم حالي بأرسل لكم السعود خوالي". والسعود في فبراير ومارس، وهي سعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود.
بدأت الرحلة بعد أن عزموا على الحجّ، وعقدوا النيّة لبلوغ مكّة والمدينة، فاستقلّ أحمد بن خلف ومعه زوجاته: آمنه بنت سلطان بن مجرن، وأبناؤها عبد الله (جدّي ووالد والدتي) وبطي، والعفّاد، وشمّا بنت محمد المزروعي، وولدها محمد، وابنتها نورة وابنها محيميد بن أحمد بن حبتور، وفاطمة بنت خلفان المحيربي، وابنتها حمدة (أم أختي موزه)، وهي أولى زوجات الوالد.
وكان من ضمن الركب العمة شمسة بنت أحمد السويدي، زوجة حامد بن بطي وأم أحمد بن حامد وهي عمة الوالد؛ وكذلك ضمّت الرحلة خليفة بن يوسف وسلطان بن يوسف،وفالح الصومالي ومحمد بن عبد الله بن معضد وراعي الصرّة حمد بن قطامي وبو زاهره منصور بن غانم واستقلّوا جميعاً مركباً كبيراً لأحمد بن خلف يسمّى (فتح الباري).
وعلى الرغم من أنّهم استقلّوا وسيلة فارهة، مقارنة بالسفر فوق ظهور الإبل، إلاّ أنّها كانت متعبة إذا ما قورنت بالسفر في أيّامنا هذه، حسبك أنّ جميع المسافرين، رجالا ونساء وأطفالا، كانوا يفترشون سطح السفينة مجلساً وملعباً ومكاناً للنوم.
ولكن السيّد عبد الله الهاشمي كان له رأي آخر عندما هنأ الجد أحمد بن خلف بمناسبة شراءه السفينة فتح الباري:
مترحّل عن بوظبي بالعشيّه متزوّد طيب الثنا وزين لعلام
لا شدّ كور ولا تزّمل مطيّه إلاّ على لنج على اليم عوّام
فتح من الباري وهذا سميّه منحوت من ليحان ساج وبرهام
فلك ويعدي به كروخ قويّه في كل وجهه له تياسير واولام
له فنّة رحب فناها بهيّه مفروشة لكنها كشك الاروام
يشعل بها التريك ناره زهيّه بعيد الضحى فيها وتنزاح الاظلام
يا بوسعيد مبارك ذا الشريّه الله عساها قادمه خير الاقدام
وخرجت أبو ظبي عن بكرة أبيها في توديعهم من منطقة رأس البرّ، وكان فيهم الوالد ولم يكن قد تجاوز العاشرة بعد، وما زال يتذكّر ذلك اليوم، فلقد كان يوماً مشهوداً في الذاكرة الظبيانية.
ويقول العمّ سعيد إنهم كانوا يرتدون العقل المقصّبة، وكان يوماً بهيّاً وكبيراً، ثم يردف وهو يتحسّر: لم يكن هناك من يصوّرنا في ذاك اليوم.
أبحرت السفينة قاصدة ميناء العجير. ولابد أن تكون قد استيقظت في نفس أحمد بن خلف تلك الرحلات الموسمية في مركبه إلى دلما حيث كانت سفنه تمخر عباب الخليج بحثاً عن هيرات اللؤلؤ من جنوب البصرة حتى بحر عُمان، وكان قد اتخذ من مركبه مقراً يقيم فيه ويلتقي الطواويش والنواخذة، ويولم لهم الولائم ولا يقفل راجعاً إلى دبي إلا بعد أن يوشك الموسم على الانقضاء.
كان بعض الطريق إلى العجير يشترك مع الطريق الذي طالما قصده قبل سنوات من ذلك التاريخ إلى دلما.
وكانت تجارة اللؤلؤ في أيام الرحلة فقدت جزءاً من بريقها بعد أن نفضت اليابان سجادة لؤلؤها المستغرس في أسواق العالم، وامتصّت السحر من هيرات اللؤلؤ في الخليج حتى مشارف الهند.
و ‫#‏العجير‬ ميناء تاريخي، أخذ تسميته نسبة إلى قبيلة (عجير) التي سكنت الأحساء قبل الميلاد، ويعتبر أقدم ميناء تجاري على مياه الخليج العربي ويقع شرق منطقة الأحساء. وبعد أن بلغوا هذا الميناء، قصدوا واحات الأحساء إلى الغرب، وانقسموا إلى فريقين: أولهما الوالد أحمد بن خلف وحريمه في السيارة الصالون؛ والآخر، وكان فريقاً كبيراً ينوف على الأربعين حاجاً، ركبوا نوعا من الحمير عالية الظهر تُعرف بالحساوية، وهي معروفة بكبر حجمها وقدرتها الفائقة على التحمّل، وباتوا ليلتهم تلك في منطقة تُعرف باسم "المطيوي" نسبة إلى عين ماء أقيمت من حولها قرية تتوسط الطريق إلى الأحساء، وذبحوا خروفاً وقضوا ليلتهم يترقبون الصباح التالي لينطلقوا صوب الأحساء.
غادر الموكب الكبير صباحاً وبلغوا الأحساء في طالع القلب الذي قيل فيه إذا طلع القلب جاء الشتاء كالكلب وصار أهل البوادي في كرب.. وفي الأحساء وجدوا الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي في انتظارهم، فأكرم وفادتهم غاية الإكرام وأقاموا في الأحساء عشرة أيام ينعمون بعناية أميرها الذي حرص على تلبية كل ما يحتاجون إليه بنفسه.
وفي الأحساء التي لابد وأنهم طافوا في أرجائها وربوعها خلال الأيام العشرة، وأدركوا عن قرب حياتها الداخلية، وبينما كان العم سعيد يطوف سوقها، إذا به يرى مطر بن محمد المهيري مع صديق له يبيعون الركاب في السوق، فتعلّق به قائلا: خوي سعيد يابعدي، تقدرون تودوني معاكم الحج؟
فقال له: أبشر. واستأذن الوالد أحمد بن خلف الذي أذن له ورحّب به.
قال العم سعيد: كُتب للمهيري نصيب.
وبعد انقضاء الأيام العشرة، ودّعوا مضيفهم الشهم الأمير سعود بن جلوي واستقلّوا سيارتين نصف لوري. أما أحمد بن خلف وحريمه فلقد استقلّوا سيارة صالون وصاروا ينهبون الأرض في طريقهم إلى الرياض.
كان الشوق إلى بلوغ مكة يقودهم ويجعل كلّ المشاق في الطرق الوعرة التي تمتد نحو أربعمائة كيلو متراً، وكأنها من أجل تحصيل الثواب، فكلما زادت مشقة السفر في طرق غير معبدة كلما زاد أجرهم.
وبعد جهد جهيد بلغوا الرياض، ونزلوا في بيت أعدّ لهم، وعلى مقربة منه بئر. ثم جاءوا لهم ببراميل كبيرة من الماء. وكانوا كلّما استيقظوا صباحا يجدون الماء وقد تجمّد في سطوح البراميل من فرط البرد لدرجة أنهم جاءوا بجرن كبير من خشب الغضا الذي تصف العرب ناره بالمضيئة التي لا تنطفئ وهو يكثر في نجد، ومنها انتقلوا إلى مضارب خيام الملك عبد العزيز في الثّمامة على مشارف عاصمته.
كان الملك عبد العزيز يقدّم الوالد أحمد بن عتيبة إلى ضيوفه وكبار رجالاته بقوله: هذا ابن عتيبة.
قالها لابن عمه سعود الكبير الذي كان لشدة البرد يرتدي غترتين بيضاء وحمراء، ثمّ قال لأحمد بن خلف: هذا سعود الكبير، وكان سعود هذا ابن عمّ الملك وزوج نورة بنت عبد الرحمن بن فيصل.
وما زال العم سعيد يستعيد دهشته ذاتها التي وجد نفسه فيها، وهو يواجه ضخامة الخيام وفخامتها والكهرباء التي جعلتها تتوهّج سواء في رابعة النهار أو في الليل، ولم يكن رآها من قبل.
كان البرد قارسا وشديد الوطأة في تلك الأيام حتى إن بعضهم بدأ يشكو السقم مثل ابن حبتور الذي كانت بنيته تجعل البرد يقيم فيه.
وبعد نحو أربعة أيام في ضيافة الملك عبد العزيز، تابعوا الرحلة نحو مكة وكانوا على حدّ قول العم سعيد (شورهم بيديهم) فاستقلّوا السيارات صوب الحجاز التي تبعد قرابة تسعمائة كيلواً متراً كانوا فيها يصارعون المفازات المضلّلة والدهماء، تدفعهم غاية تقصر عن بلوغها كلّ وسيلة مهما بلغت من المشقة.
وكان للسيارات في هذه الدروب حنين وأنين وكأن سائقها كان يردّد في سرّه قول الشاعر أحمد الكندي لاحقا:
صوبهم في خاطري سيره
فوق جيبٍ يقطع الفيّه
يطرب السوّاق في سيره
لي ضرب دارٍ خلاويّه.
دعاهم داعي الشوق حتى بلغوا مكة في طالع الشولة التي قال فيها العرب: إذا طلعت الشولة أعجلت الشيخ البولة واشتدّت على العائل العولة.
حدّثني العمّ سعيد أنه رأى اليأس يدبّ في نفس العمّة شمسة بنت أحمد (عمّة الوالد ووالدة الشيخ أحمد بن حامد) من تقبيل الحجر الأسود، ولم تكن تكابد الأمر بنفسها، بل كانت في جملة من النساء اللائي عدن يائسات من المشمّ؛ وقد رأين شرطيّا يشرف على الحجر وبيده عصا يهوي بها على كل من أراد استقبال الحجر من الحجيج.
وكان سعيد في تلك الأيام تأخذه الحماسة مآخذ الجسور من الرجال ممن لبسوا القلوب فوق الصدور، وكان فتى القوم بحسب تعبير المتنبي الذي تتضاءل أمام حضور فتوته الصعاب.
وعندما رأى الخيبة والألم يعتصران قلب شمسة ومن معها من النساء سألها عن الأمر، وما إن أخبرته حتى قال لها تعلّقي بحرمي، فتعلقت وقصدا المشمّ .. ومن خلفهما النسوة الأخريات حتى أشرف على الحجر وقال لها استقبليه، فما إن رفع الشرطي عصاه حتى قبض عليها سعيد بيد من حديد وانتزعها منه، وقال لها شمّي الحجر، ففعلت شمسة.
ثم قال للنساء: إليكن بالحجر، فشممنه حتى شبعن، لدرجة أن سعيد حدّث نفسه في تلك البرهة أنهن لن يفرغن من شمّ الحجر أبداً.
كان الشرطي قد أسقط في يده وأصبح خلواً من السلطة التي توفرها العصا، فخاطبه سعيد مغضبا: اتّقِ الله في النسوة يا رجل، لقد سببت الذعر لحجيج الله في بيته، وألقى عليه العصا وغادر مع النسوة، وكان بين من حضر الموقف سلطان بن يوسف الذي كان على نقيض العمّ سعيد يؤثر السلم ويتجنّب أسباب الخلاف، حتى إنه تردد كثيراً، قبل أن يحجم في نهاية الأمر عن شمّ الحجر.
ويذكر العم سعيد يوماً أنّه أفاق ليلاً وهمّ بالخروج من الخيمة عندما تعثّر بــ حمد بن قطامي وكان رجلا يبهش – له ردّة فعل- قال سعيد: فحاول القبض عليّ فصارعته، وضللت أسأله وأنا قابض عليه إن كان في اليقظة أو ما زال في النوم .. قال العم سعيد: كنت أخشى ردّة فعله، فاضطررت لمصارعته –قبضته قبضه لا تنشد عنها- وأرسل ضحكة عالية..
كان سعيد في رحلة الحجّ تلك في فورة الشباب ولم يكن قد اختبر الزواج بعد، وفيه من العزم ما يلين حد المركب الخشن. وكأني بالمتنبي وقد أراد سعيد لا سواه في قوله:
قد هوّن الصبرُ عندي كلَّ نازلةٍ وليّن العزم حدّ المركبِ الخشنِ
وفي المدينة قال العم سعيد: كنّا نأتي إلى باب السلام عند الفجر، فنجد أمماً مجتمعة تحاول الدخول فالباب لا يفتح إلاّ فجراً، فتساءلنا لم اندفاعهم عند فتح الباب وكيف أنّهم لا يراعون حرمة المسجد فعلمنا من الشيخ/عمر أنّهم يتسابقون للصلاة في الروضة المشرّفة وقال لنا إنّ من صلّى في الروضة غفرت ذنوبه، فكنّا بعد ذلك كلمّا فتح الباب ننطلق كالسهام نسابق الحجيج فنكون أول المصلّين في الروضة المباركة، قال العم سعيد: مبخوت اللي يصلّي فيها.
وقال: مكثوا في مكة ثمانية أيام، ومثلها في المدينة حتى أتمّوا المناسك وعادوا أدراجهم إلى الحسا، ومن ثم إلى ميناء العجير.
لم تكن سفينتهم (فتح الباري) قد وصلت بعد، فاستأجروا مركباً من رجلٍ يُقال له حسين بن عميرة، لأن الوالد أحمد كان مستعجلاً في العودة من أجل قضاء بعض شؤونه ومصالحه.
ولكن سفينة بن عميرة حدث فيها عطل، فبادر العم سعيد وخليفة بن يوسف ومحمد بن أحمد إلى إسعاف بن عميره وأخذوا يصيحون: الكوبلين.. الكوبلين
وأخذوا يعالجون العطب حتى تم لهم إصلاحه.
وانطلقوا صباحا، وما هي إلا هنيهات حتى لمحوا سفينتهم (فتح الباري) مقبلة نحوهم، ولكن بعد أن فات الأوان فلحقت بهم إلى البحرين.
وفي تلك السنة، قال العمّ سعيد، وصلنا خبر ولادة خلف بن أحمد.
أقاموا مدة يومين في البحرين، وبالغ الأمير حمد بن سلمان في إكرامهم فصرف للرجال وللنساء الكسى والرواتب.
وكان لذلك الفعل أثره البالغ في نفس الوالد أحمد بن خلف، الذي بادر فور وصوله إلى أبو ظبي إلى إرسال ناقة اسمها (سمحة) من كرام الإبل، هدية لحاكم البحرين حمد بن عيسى، فوقعت في نفسه موقعاً عظيماً وأرسل إلى الوالد أحمد بن خلف سيارة فورد. وكانت من أولى السيارات التي تدخل أبو ظبي.
طال أمد الرحلة نحو أربعين يوما، ودخلوا أبو ظبي في منتصف يناير من عام 1941، وكان الطالع حين العودة النعايم، بعد أن أنعم الله عليهم بحج بيته.
كان العمّ سعيد ثابت الجنان رابط الجأش، وعندما يمدّ بصره وهو يحاول أن يستجمع تلك الأيام، كان يتحدث بعجب عن تلك القوة التي كان يدّخرها وذلك العزم الذي أدركه القاصي والداني. وبعد أن انتقل العمّ سعيد مع من انتقل إلى قطر، صار يصطحب القادمين للعلاج من أبوظبي ودبي إلى الحج مثل درويش بن كرم وغيره، فإنهم كانوا لا ينجزون الأمر إلا والعمّ سعيد في رفقتهم. وكان يعمل بهمة على تخليص أوراق الجمارك والجوازات وحده، ولم تحج والدته في تلك السنة التي حجّ فيها أحمد بن خلف، ولكنه عوّضها في السنوات اللاحقة وقصد بها الحجّ مرات عدّة.
وفي إحدى تلك الرحلات، توفيت فاطمة زوجة ثاني بن حبيش السويدي - رحمها الله- ودفنت في منطقة الأبطح. ويتذكر العم سعيد أنهم فقدوا في عرفة أثر طباخة لهم غابت عن أبصارهم وتاهت، فقال سعيد سأولم لكم بنفسي، قطّعوا اللحم، فلن يعدّ المكبوس سواي. وقبل المغيب نضج الطعام، فقال للنسوة بصوت واثق: اغرفن.
وختاما، فالحج لم تكن طقوسه لتكتمل لولا وجود العمّ سعيد الذي كان يجعل كل شيء متاحا وممكناً وفي متناول اليد، حتى لو كان الحجر الأسود الذي يشرف عليه رجل غليظ القلب يقبض على عصا، أما ما حدث لأول سيارة "فورد" في أبوظبي وما كابدته في طرقها غير المعبدة ... فتلك حكاية أخرى....
  
http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_article_indetail.php?articleid=110

Friday, May 6, 2016

حفيدة أوريكا


لصباحين على التوالي، جلست قبالتي صبية جرمانية، مليحة، مع جدّتها، قلت في نفسي: الآن علمت كيف كان "كانوفا" يصبّ تماثيله، كانت كمصباح راهب متبتل،
حاولت أن أحزر عمرها
فشعرت ببعض التيه، ولم أتيقّن إن كانت ابنة 13 سنة أم 23، فليس سوى الحدس من يحسم أمراً كهذا، بيد أنني تذكرت حكاية صديقٍ لي، عندما كنا ندرس في "لوس أنجلوس" فلقد أقلّ طالبة بسيارته إلى بيتها من باب الشهامة، وصادف أن رأته أُمها وهو ينزلها بباب الدار، فأبلغت الشرطة على الفور، بأنّ رجلاً كث اللحية خطف ابنتها القاصر بسيارته.
فما كان منهم إلا أن قبضوا عليه، وشرعوا يحققون معه كما لو كان من عتاة المجرمين،
ثم أدخلوه اختبارات عدة، واحداً تلو الآخر، حتى شعر أنّالأمر برمّته لا نهاية له، فأضمر أن يفعل شيئا من أجل نفسه
وما أن عرضوا عليه فتيات من أعمار مختلفة، حتى حدس أنّ بوسعه القبض على نجاته بيد من حديد، طلبوا منه تخمين أعمارهن
ولم يكن أمامه لينجو من هذا الفخّ إلا أن يستدرك بحنكته وحدسه فبدأ بتضليلهم بمعلوماته عن أعمارهن، فإذا عرضت عليه فتاة بعمر العشرين ضاعف عمرها، وإذا عرضت عليه امرأة بحبل من الأحفاد قال إنها لم تبلغ العشرين بعد، وإذا عرضوا عليه فتاة في الثالثة عشر، قال أنها في الثلاثين، وربما لو وجد الأمر ممكنا لسألهم أين تخفي أولادها.
عند ذاك، رأوا أن يطلقوا الرجل ذي اللحية على أن لا يخرج قبل أن يوقّع التماساً، وتعهّداً، أن لا يقل القاصرات ولا الأمهات لأن الأمر سيّان عنده.
أمعنت النظر في ملامح الفتاة الألمانية،
وتذكرت جوته، وقلت لا شكّ أن "أوريكا" التي هام بها العجوز جوته والذي كان قد بلغ الثانية والسبعين من عمره، عندما عرض عليها الزواج به فرفضت، والذي راح يتوّسط عند الأمير ليثنيها عن القرار كانت هي الجدة التي تحدّرت منها هذه الحسناء،
حدّقتُ ثانية في وجه جدتها الذي ضرّسته السنوات، ووجه الفتاة الذي يضجّ بالحياة والفتنة، كان وجه الصبية يشرق بالحسن، بينما كان الحسن يغرب في الجدة
، كان في الأولى بشير ميلاد وفي الثانية نذير موت، زهرة تتفتّح وأخرى تذوي،
فقلت في نفسي، هل يكون مآل هذا الربيع إلى ذاك الخريف،
لعلّها مفارقة ستجعل العجوز جوته يغيّر رأيه بالتأكيد.

أن تحيا أو تموت عشقاً



أنا في "جنوه"، على ساحلها اللازوردي، أبحثُ عن ذهبية جدّف فيها اثنا عشر ملاحاً، رَسَتْ هُنا قبل ثلاثة قرون، وأتطلّع لتناولِ فنجان قهوة مع الليدي "ماري وورتلي مونتاجو" ألمع الإنجليزيات في جِيلها.
أُغرم بها الشاعر "الكسندر بوب" وخاطبها قائلاً:
إجعلي الرجال يتلقون
على يد حواء ثانية ذكية
معرفة الخير والشر.
ولكن إذا كانت حواء الأولى
قد نالت عقاباً صارماً
لأنها لم تقطف غير تفاحة واحدة،
فأي عقاب جديد
يقضي به عليك،
يا من سرقت الشجرة كلها بعد أن تذوّقت حلاوتها.
كم أوجعت "ماري" بسهامها عشّاق زمانها، وانتهت هنا في "جنوه" محطمةً كزورقٍ عتيقٍ بعد حُب غير متكافئ مع نيزك إيطالي اخترق فلكها وغير مساره. كان في الرابعة والعشرين، وكانت في السابعة والأربعين عندما كتبت إليه:
"لم أعد أعرف بأيّ طريقةٍ أكتبُ إليك.. فمشاعري أقوى ممّا ينبغي، وليس في طاقتي أن أفسرها ولا أن أخفيها. فلِكَي تغتفر لي رسائلي يحب أن تجيش في صدرك حماسة كحماستي. وإنّني لأرى كل ما في هذا من حماقة دون أيّ أملٍ في إصلاح نفسي، فمجرد فكرة مشاهدتك تمنحني نشوة تتخطّفني، فماذا جرى لتلك اللامبالاة التي صنعت مجد أيامي الماضية وهدوءها؟ لقد فقدتها إلى الأبد، ولو أنّ هذا الغرام المشبوب شفى لما رأيت أمامي غير الملل القاتل. فاغفر هذا الشطط الذي كنت السبب فيه، وتعال لتراني".
كان "فرانتشسكو" الجاروتي هذا جميلاً، ذكياً، شاباً. وكانت ترتعد حين يخطر لها في 1736م أنها في هذه السن.
وفي رسالة أخرى كتبت تقول:
"ما أجبن الإنسان حين يحب" أخشى أن أسيء إليك بإرسالي هذا الخطاب حتى ولو كان قصدي أن أسُرُّك. والحق أنّني مجنونة في كل أمر يتصل بك، حتى أنّني لست واثقة من خواطري .. كل ما هو مؤكدٌ أنّني سأحبك ما حييت، برغم نزوتك وتعقلي.
ولم يرد "فرانتشسكو" على هذه الرسالة، ولا على ثانية، ولا ثالثة، رغم تهديدها بالانتحار. 
كنتُ أسيرُ على ضفاف ميناء في "جنوه" وأُحدّثُ صاحبي قائلاً: في إيطاليا إمّا أنْ تحيا أو أنْ تموت عشقاً. 

Tuesday, March 8, 2016

مداوروش

مداوروش




قادتنا المصادفة المحضة إلى الحكاية التالية:
قرأت وأنا في روما يوميّة جوته التي دوّنها في يوم 18 نوفمبر عام 1786 عن حكاية النفس التي طالما احتفظ بمحفورات طباعية ملوّنة عنها في غرفته، بيد أنه شاهد الأصل على هيئة لوحة جصيّة سقفية نفّذها فنان عصر النهضة رافائيل في فيلا فرنسيني.
وكدأبي في مثل هذه الأمور قلت لأتحرّى هذا العمل، فأنا لا أفوّت شاردة ولا واردة لرافائيل.
فقصدت في يوم 15 يناير فيلا فرنسيني وشرعت بالنظر في أجنحتها إلى أن بلغنا صالة الاستقبال فبهتُّ لمشهد هذا العمل الباذخ والساحر. فرحت أفتّش عن مصدر الحكاية التي استمدّ منها رافائيل إلهامه، وأشدّ ما أدهشني أنني اكتشفت أن الفيلا كانت مملوكة في الأصل للتاجر الذّائع الصّيت اتشيجي والذي كنت قد كتبت عنه فصلاً قبل سنوات، فقلت كيف لمثل هذه الفيلا أن يغمرها النسيان وكانت موائدها لا تكاد تنقطع وأطباق الذهب والفضّة تُرمى إلى النّهر للدلالة على فرط بذخ الرجل؟
كيف سُلب اسمه وحلّ اسم آخر وهو راعي رافائيل وباني الفيلا؟
كيف يمكن أن تُنسب لمن أتى بعده وأصبح الرجل نسياً منسيا؟
وفي جانب آخر من الحكاية وفي يوم 2 فبراير كنت على موعد مع رئيس الجمهورية الجزائرية عبد العزيز بو تفليقة وبحضور الأخضر الإبراهيمي، فسألني الرئيس: هل ستذهبون في الغد إلى عنّابة؟
فقلت: لأجل أبوليوس.. نعم، سنذهب
ثم أخذت أسرد على فخامته وعلى الأخ الأخضر حكاية أبوليس الذي عاش بين عامي (125م - 180 م) وقد ترعرع في مداوروش في سوق أهراس شرقي الزائر، وهو كاتب وخطيب وفيلسوف وعالم طبيعي وكاتب أخلاقي وروائي ومسرحي وملحمي وشاعر غنائي.

كتب رواية التحوُّلات أو (الحمار الذهبي) باللغة اللاتينية القديمة في 11 جزءًا، روى فيها مغامرات شاب يُدْعَى لوسيوس، شاءت الصدف أن يُمسخ حمارًا بعد أن أراد أن يتحوّل إلى طائر. فصار يتنقَّل من مكان إلى مكان، وهو يُمعْن النظر في غباء البشر وقسوتهم. وأخيرًا تنجح الإلهة المصرية إيزيس في إعادته إلى هيئته البشرية. وتحتوي الرواية عدة حكايات قصيرة خارج الخط الروائي الأصلي، أشهرها قصة كِيُوبيد وأبسيك وهي التي صوّرها روفائيل في قصر راعيه تشيكي.
فقال الإبراهيمي إنه سمع بهذه الفيلا ولكنّه لم يكن يعرف أنها تعود إلى اتشيجي.
وفي اليوم التالي حطّت بنا الطائرة في مطار عنّابة واستقبلنا الوالي، ثم قصدنا لاحقا سوق أهراس ومداوروش، وهي المدينة التي شهدت ولادة الرجل الذي جعلنا جوته نتلقّف المفتاح للعثور على حكايته، بينما نفض رافائيل غبار الزمن عن الرواية ومنحها بهاءً عالياً يليق بها، فلا يمكنك الآن أن تتطلع إلى حكاية النفس من غير أن ترفع رأسك إلى سقف فيلا اتشيجي.

Sunday, February 28, 2016

حسين يخرج من كليرنس

حسين يخرج من كليرنس


2016-02-28

كنّا أوشكنا على بلوغ بوابة كليرنس، وتوغّلنا قليلا باتجاه أوّل منعطف على اليمين، رأيت حمامة سوداء بين سرب من الحمام الأبيض فتذكّرت الشّاعر المصيصي وشعرته السّوداء. قيل إن أبو الخطاب ابن عون الحريري النّحوي الشّاعر دخل على أبي العباس النّامي قال: فوجدته جالساً ورأسه كالثّغامة بياضاً وفيه شعرة واحد سوداء، فقلت له: ياسيدي في رأسك شعرة سوداء، فقال: نعم، هذه بقيّة شبابي وأنا أفرح بها ولي فيها شعر، فقال: أنشدنيه، فأنشدني:
رأيتُ في الرَّأْسِ شَعْرةً بَقِيَتْ سوداءَ تهْوَى العيونُ رُؤْيتَهَا
فقلتُ للبِيضِ إذْ تُرَوِّعُها باللّهِ ألاَ فارْحَمْنَ غُرْبَتَهَا
وقَلَّ لُبْثُ السوداءِ في وَطَنٍ تكون فيها لبَيْضاءُ ضَرَّتَهَا
ثم قال: ياابن الخطاب، بيضاء واحدة تروع ألف سوداء، فكيف حال سوداء بين ألف بيضاء.
في مايو حفلت مشاويرنا مع الوالد بأيّام رائعة معتدلة حنّت فيها الشمس على الطبيعة حنوّ المرضعات على الفطيم، فأهاجت مشاعر الوالد الذي ذكر فيها قول أبي عبادة البحتري الشّاعر:
أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَــــــلَّما
وَقَد نَبَّهَ النَيروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُــــــــوَّما
يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّــــــــــــــــهُ يَبُثُّ حَديثاً كــــــــــانَ أَمسِ مُكَتَّما
وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ لِباسُــــــــهُ عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً مُنَمــــــنَما
أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ بَشاشَــــــــــةً وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ مُحــــرَما
وَرَقَّ نَسيمُ الريحِ حَتّى حَسِبتَـــهُ يَجيءُ بِأَنفاسِ الأَحِبَّـــــــــــــةِ نُعَّما
ولمّا قرأت عليه قول حبيب الطائي:
رقّت حواشي الدَّهر فهي تمرمر وغدا الثّرى في حليه يتكسّـــــر
نزلت مقدمة المصيف حميــــدة ويد الشّتاء جديدة لا تكفـــــــــر
لولا الذي غرس الشّتاء بكفّــــه لاقى المصيف هشائما لا تثمــر
كم ليلة آسى البلاد بنفســـــــــه فيها ويوم وبله مثعنجـــــــــــــر
مطرٌ يذوبُ الصّحو منه وبعــده صحوٌ يكاد من الغضارة يمطــــر
غيثان فالأنواءُ غيثٌ ظاهــــــــر لك وجه، والصّحو غيثٌ مضمـر
وندى إذا ادهنت لمم الثّــــــــرى خلت السّحاب أتاه وهو معــــــذر
فاستحسن الأبيات وطلب منّي إعادة قراءتها.
ثمّ وقف برهة وقال يخاطبني: حدث في مجلسي ذات يوم أن استبدّ الغضبُ برجلٍ يدعى حسين من نجد، واشتكى من اثنين من المسؤولين اللذين لم يسعفاه في شأن من شؤونه، كان المجلس يحفل بحشد كبير من الناس قال الوالد، وكنّا بصدد تناول وجبة الغداء، وكلّما حاول البعض تهدئته زاد صخبه.
وفي مساء ذلك اليوم، جاءنا تكليف بمهمّة إلى لندن، وكان عليّ السّفرُ رفقة صاحبي عبد الرحيم.
وبعد ساعات فحسب كنّا بصحبة أحمد العبيدلي وبعض أصدقائه في فندق ماكدونالد في مارلو فس غرب لندن، في مكان يشرف على نهر التيمز وانحاناءاته الباذخة، واتّخذنا مجلسنا على مقربة من شلّال ينحدر منه الماء عذباً فراتاً، بينما يمتدّ لسانٌ مائي في القاعدة حيث تقع طاولتنا.
تطلّع عبد الرحيم إليّ، وقد سحره ذلك المنظر البهي وقال: سبحان الله يا بو محمد، هل يصدّق المرء أنّ بين مجلس الأمس ومجلس اليوم يوم واحد؟
قال ذلك والدهشة ما زالت تتملكّه، ضحك الوالد من كلّ قلبه، ولعلّه قال لصاحبه ليس لحسين سبيل على أحد في مارلو.
أفكّر الآن بما كنتُ عليه عندما كان والدي في مجلس مارلو مع صاحبيه؟
أفكّر بالفتى الذي كنته، وبانشغالات تلك السّنّ حيث يفصلني عن أبي في
لحظة مجلسه تلك بلدان جمّة لم أتمكّن بعد من ارتياد بعضها.
وقبل سنوات، وكان ذلك في عام 2007، اتّخذت ذات مجلس والدي في مارلو، وكان الشّلال لا يزال كما عهده والدي عذباً فراتاً، ولا يزال اللسان المائيّ يتوغّل قرب الطاولة، ولا يزال التايمز كالزمن السّرمد.
طارت قبيلة الحمام الأسود، ومكثت الحمامة البيضاء، قليلا، كانت تحدّق في عائلة أشجار الدلب.
خفقت بأجنحتها والتحقت بقبيلتها السّوداء على عجل وكأنّ صراخ حسين اخترق حجاب أربعين سنة قبل أن يعكّر صفو باله.