Sunday, March 13, 2016

حكاية العم سعيد العتيبه والزنوزج


حكاية العم سعيد العتيبه والزنوزج


على حين غِرّة .. وَجَدَ العمّ (سعيد بن أحمد العتيبه) نفسه في خضمّ مظاهرة كبيرة من زنوج، ذوي بأس، وصوماليين، على القنصلية البريطانية في الدوحة إبّانَ العُدوان الثُلاثي على مصر عام 1956.
كان (حمد العطية) - رحمه الله - قد ألهبَ حماس العمّ (سعيد) لمعرفته أنه رجل فيه من الحميّة والنخوة ما تحمله على أن يرمي بنفسه في المهالك قبل أن يرتدّ إليه طرفه.
وبغتة .. وجدَ العم سعيد نفسه مع مجموعة من طوال القامة كلّ واحدٍ منهم كانت تبدو يده وكأنها منجنيق حيّ، تخرج الحصاة منها وكأنها طلقة (كاتيوشا) لا تبقي ولا تذر.
فأمطر – وصحبه - مبنى القنصلية البريطانية بوابل من سجيلِ طوالِ القامة من ذَوي البأس حتى أوشكوا أن يجعلوها كعصف مأكول.
أمّا (حمد) الذي أوقد جمرة الحماس في قلب (سعيد) فلم يكن ممن وصل إلى بوابة القنصلية، بل كان في الصفوف الخلفية للمظاهرة.
وأما سعيد، فلقد وجد نفسه يتقدّم الجميع وليس سواه معه... عِقاله في رقبته، والشرر يتطاير من عينيه، والحجارة في يده، حتى رأى (محمد بن عبد الله العطية) مُنتصباً أمامه في باب القنصلية وكان قائداً للحرس. لم يكن (محمد) قد عرف في (سعيد) مثل هذه الميول فقال له: "أنا أحيد فيك عقل يا سعيد.. شو جابك هنا"؟
فقال سعيد: "نعم، شو جابني هني."
والتفت للبحث عن (العطية) الذي ربما سيوفّر إجابة لـ (محمد)، ولكنه لم يعد موجوداً.
ثم عاد يستردّ البَنادق من الصوماليين وحشد الزنوج من ذوي المنجنيقات الحيّة، ويسلّمها للشرطة.
يقول العم ( سعيد) وهو يوشك على إنهاء سرد حكايته: شعرت أنني في عصابة من الغرباء، دفعوني، وانسحبوا من حيث لا أعلم.....

Friday, March 11, 2016

مكتبة جامعة كيمبردج


مكتبة جامعة كيمبردج


دُعيت ذات يوم أثناء وجودي في معتكفي اللندنيّ إلى مكتبة جامعة كيمبردج
وتحديداً إلى قسم المخطوطات الشرقية، وقيل لي إن هناك بروفيسوراً يتقن ستّ لغات منها العربية وسيسعده أن يتمكّن من اللقاء بي.
وعندما دخلت حرم المكتبة رأيت جليّاً تلك الفخامة التي صقلتها سبعة قرون وملايين الأصابع والعقول وفراسات العلماء.
وكان فيها رجال أمن ينتشرون في زواياها وأجهزة تفتيش.
استقبلني شاب لا يتجاوز الأربعين من عمره ألماني الجنسية، وقدّم نفسه مسبوقاً بصفته العلمية: البروفيسور.
وعندما عرّفته بنفسي، توقّف برهة قبل أن يسألني: هل أنت صاحب الورّاق؟
فقلت له بنوع من الحرج لأنّ السؤال كان مباشراً ودون مناورة: نعم، أنا صاحب الورّاق.
فقال إنه من أشد المعجبين بالموقع، وإن أكثر ما يشدّه فيه هي كتب المطبخ الإسلامي، وفي كل أربعاء يُعدّ لزوجته طبقاً يختار طريقة إعداده منها، وكان آخرها طبق السكباج.
وهنا ضاعفت معرفته بالسكباج حرجي، فلم أكن قد سمعت باسمه من قبل
ثم حاولت أن أستنجد بأحد ليرشدني إلى هذا الطبق العجيب وصفته، ولكنني لم أعثر على مرادي.
ولاحقا علمت أن السكباج طبق يُعد باللحوم المنقوعة بالخل والتوابل وتكون الفواكه المجفّفة قوامه. وقرأت بعض الحكايات التي تناولته وقالوا في شأنه أنه طبق ملوكيّ كسرويّ انتقل إلى خلفاء بني العباس بسبب التداخل الجغرافي وتواصل النسيج السكاني بين الحضارتين، فلقد كانت طيسفون على دجلة عاصمة للأكاسرة طيلة قرون، ولا بدَّ أن تسلّل السكباج منها إلى ما يجاورها من بلاد وهي كثيرة وعامرة منذ ذلك الوقت.
وتسرد مرويّاتنا التاريخية حكاية طريفة عن المتوكّل وكان خرج في جماعة من صحبه قاصداً الفرات، وبينما هو منشغل في أمر وإذا برائحة السكباج تعرف طريقها إلى أنفه، فأمر أن تكون الإقامة حيث يمكنه أن يتشمّم الرائحة.
فرأوا في عرض الفرات مركباً يعكف بحّارته على إعداد السكباج. وبعد هنيهة فوجيء بحّارة المركب بجند الخليفة وهم يحملون قدور السكباج إليه.
فأكل منه حتى فرغ، وأعاد القدور ملأى بالدنانير إلى البحّارة.
وكان في مجالسه يستعيد على ضيوفه وحاشيته تلك الحادثة كلّما وجد سبيلاً إلى ذلك.
أمّا المعتضد العباسي فكان يدسّ السُّم فيه لخصومه.
وللعجّاج أرجوزة مشهورة في توابله، بل ومن فرط شغفهم في السكباج وضعوا فيه التصانيف التي ذكرها أصحاب الموسوعات ومنها كتاب لجحظة البرمكيّ أطلق عليه: فضائل السكباج.

Tuesday, March 8, 2016

مداوروش

مداوروش




قادتنا المصادفة المحضة إلى الحكاية التالية:
قرأت وأنا في روما يوميّة جوته التي دوّنها في يوم 18 نوفمبر عام 1786 عن حكاية النفس التي طالما احتفظ بمحفورات طباعية ملوّنة عنها في غرفته، بيد أنه شاهد الأصل على هيئة لوحة جصيّة سقفية نفّذها فنان عصر النهضة رافائيل في فيلا فرنسيني.
وكدأبي في مثل هذه الأمور قلت لأتحرّى هذا العمل، فأنا لا أفوّت شاردة ولا واردة لرافائيل.
فقصدت في يوم 15 يناير فيلا فرنسيني وشرعت بالنظر في أجنحتها إلى أن بلغنا صالة الاستقبال فبهتُّ لمشهد هذا العمل الباذخ والساحر. فرحت أفتّش عن مصدر الحكاية التي استمدّ منها رافائيل إلهامه، وأشدّ ما أدهشني أنني اكتشفت أن الفيلا كانت مملوكة في الأصل للتاجر الذّائع الصّيت اتشيجي والذي كنت قد كتبت عنه فصلاً قبل سنوات، فقلت كيف لمثل هذه الفيلا أن يغمرها النسيان وكانت موائدها لا تكاد تنقطع وأطباق الذهب والفضّة تُرمى إلى النّهر للدلالة على فرط بذخ الرجل؟
كيف سُلب اسمه وحلّ اسم آخر وهو راعي رافائيل وباني الفيلا؟
كيف يمكن أن تُنسب لمن أتى بعده وأصبح الرجل نسياً منسيا؟
وفي جانب آخر من الحكاية وفي يوم 2 فبراير كنت على موعد مع رئيس الجمهورية الجزائرية عبد العزيز بو تفليقة وبحضور الأخضر الإبراهيمي، فسألني الرئيس: هل ستذهبون في الغد إلى عنّابة؟
فقلت: لأجل أبوليوس.. نعم، سنذهب
ثم أخذت أسرد على فخامته وعلى الأخ الأخضر حكاية أبوليس الذي عاش بين عامي (125م - 180 م) وقد ترعرع في مداوروش في سوق أهراس شرقي الزائر، وهو كاتب وخطيب وفيلسوف وعالم طبيعي وكاتب أخلاقي وروائي ومسرحي وملحمي وشاعر غنائي.

كتب رواية التحوُّلات أو (الحمار الذهبي) باللغة اللاتينية القديمة في 11 جزءًا، روى فيها مغامرات شاب يُدْعَى لوسيوس، شاءت الصدف أن يُمسخ حمارًا بعد أن أراد أن يتحوّل إلى طائر. فصار يتنقَّل من مكان إلى مكان، وهو يُمعْن النظر في غباء البشر وقسوتهم. وأخيرًا تنجح الإلهة المصرية إيزيس في إعادته إلى هيئته البشرية. وتحتوي الرواية عدة حكايات قصيرة خارج الخط الروائي الأصلي، أشهرها قصة كِيُوبيد وأبسيك وهي التي صوّرها روفائيل في قصر راعيه تشيكي.
فقال الإبراهيمي إنه سمع بهذه الفيلا ولكنّه لم يكن يعرف أنها تعود إلى اتشيجي.
وفي اليوم التالي حطّت بنا الطائرة في مطار عنّابة واستقبلنا الوالي، ثم قصدنا لاحقا سوق أهراس ومداوروش، وهي المدينة التي شهدت ولادة الرجل الذي جعلنا جوته نتلقّف المفتاح للعثور على حكايته، بينما نفض رافائيل غبار الزمن عن الرواية ومنحها بهاءً عالياً يليق بها، فلا يمكنك الآن أن تتطلع إلى حكاية النفس من غير أن ترفع رأسك إلى سقف فيلا اتشيجي.

Saturday, March 5, 2016

في عالم العطور


في عالم العطور



إذا كان اللسان يميّز بين الملوحة، والحموضة، والمرارة، فالأنف متفوّق بتمييز ما يقرب من عشرة آلاف نوع من الروائح، ففي الجزء العلويّ خلف قناتي الأنف تنتشر بحجم طابع بريد آلاف البصيلات الشميّة المستعدّة لاستقبال الجزيئات المنبعثة من مختلف الروائح (الأشياء)، وهي ترتبط بجينات مبرمجة لفكّ شفرة كلّ رائحة على حدة، لترسلها عبر الألياف العصبيّة في الأنف على شكل موجات كهربائية إلى مركز الشمّ في الدّماغ. فإذا كان الجين المرتبط برائحة ما معطوباً أو تالفاً في الشريط الجيني، فسوف يتعذّر عليك شمّ تلك الرائحة، إنّ هناك من لا يستطيع تمييز رائحة الكافور اللّاذعة على سبيل المثال لخلل جينيّ.
إن لمفعول هذه الروائح طيفاً واسعاً من التأثير وردّة الفعل لدى الإنسان، فمن انبعاث الذكريات مروراً باللذّة، إلى الفرح أو الغمّ أو الغثيان، كلُّ ذلك بمقدور هذه الخلايا عمله إذا ما تعرّضت للروائح.
في عالم العطور استطاع الإنسان في منتصف القرن الماضي أن يصنّع الروائح المختلفة كيميائيا، فشانيل خمسة هو أولّ عطر صناعي سُوِّقَ على نطاق واسع
وقد قسّم الخبراء الطّيب إلى ثلاث طبقات، أوّلهنّ النّوطة العالية وهي الجزيئات الخفيفة المنبعثة من العطر لتضرب بصيلات الشمّ، تعقبها النّوطة الوسطى وهي طبقة كامنة في التركيب العطري تحتاج إلى وقت أطول لفكّها، ثمّ النّوطة القرار تلك التي تحتاج إلى أكثر من نصف ساعة أحيانا للوصول إليها.
والعطور الكلاسيكيّة إمّا أحاديّ الزّهر وهي تلك العطور التي تطغى فيها رائحة واحدة كالورد، وإمّا ذات الطّاقة من الزهور، وهناك العطور الشرقيّة التي يطغى فيها العنبر، والعطور الخشبيّة التي قد تحوي الصندل والعود وخشب الأرز والباتشولي، وهناك العطور الجلديّة التي تنبعث منها رائحة العسل، أو الخشب، أو التبغ، وكذلك العطور القبرصيّة، ذات النّوطة التي أعلاها حامض ووسطها زهري، وقرارها طحلب كالبرغموت، والباتشولي، وطحلب البلوط، وآخرها العطور السرخسيّة التي تنبعث منها الخزامى، وطحلب البلوط، والكومارين، وهناك تصنيفات مغايرة حديثة وأكثر حداثة ولكنني آثرت التصنيف الكلاسيكي الذي يعود إلى مطلع القرن العشرين.
يطلق على خبير العطور لقب –أنف- ، ومهمّة الأنف في هذه الصناعة هو تعطيل الحواسّ الأربع لشحذ الحاسّة الخامسة (حاسّة الشمّ) على تقرّي وفكّ شفرة الطيب، هذا شأن الخبير، أمّا روجا دوف فبالإضافة إلى كونه أنفا كبيرا، إلّا أنّه مايسترو عطور كذلك، يحسن اختيار وقيادة أوركستراه العطريّة، وعلى الرّغم من الأربعة عشر رقما ونيّف التي تحمل اسمه، إلّا أن العطر رقم واحد هو أحبّها إلى قلبي.
إنّ العسل الدافئ المرسل من تحت تنّورة نديّة، اللاذع كالفلفل، هو عطر ورد مايو (روز دي ماي) المقطوف من غراس (مدينة في الجنوب الفرنسيّ)، وهو أوّل نغمٍ عالٍ يصلك من أوركسترا روجا دوف العطر واحد. وإن كان الظفر بكيلو واحد من زيته يحتّم تقطير ما يزن أربعمائة كيلو من الورد نفسه، فشمّك قطرة من ذاك العطر تشعرك أنّك الساحر جرينويل بطل قصّة عطر. وحده روجا دوف يعلم كم أضاف من البيرجاموت ومن البرتقال لهذا المزيج. وإن استغرقت قليلا في الشمّ لفكّ شفرة العطر فثمّ الياسمين الغراسي الذّائع الصّيت، والصّندل الميسوري المجلوب من أدغال الهند. وحتّى لا تضيع موسيقى هذا النشيد، يلقي روجا دوف مراسيه ومثبّتاته الشهيرة كزيت المرّة اليمنيّ وزيت الإيلانج الفلّبيني، ويختم مزيجه بقطرة من مثبّت آخر هو زيت طحلب البلّوط.

Thursday, March 3, 2016

فتنفّست

فتنفّست



يبدو أن هناك يداً خفيّة مهّدت لهذا اللقاء، لا أستبعد قيادة تلك الوسيطة الماهرة التي خبّرنا عنها عمر:
فبعثنـــــــــــــــــا طَبّةً عالمةً تخلط الجِدّ مرارا باللعبْ
ترفع الصوت إذا لانت لهــــــا وتراخى عند سوراتِ الغضبْ
تلك الخبيرة المحنّكة التي قال له ابن عتيق، حفيد أبي بكر الصدّيق: "الناس في طلب إمام مثلها مذ قُتل عليّ". لكنّ العالمة الساحرة هنا ليست البطل الرئيس في المشهد، حسبنا أن نتصوّر أنّها اليد الخفيّة التّي مهّدت للقاء.
نجمةُ المشهد صبيّةٌ من مكّة على موعد مع عمر بن أبي ربيعة، الشاعر الذي سمعتْ عنه ولم تره من قبل قط. ولكنّها في هدأة تلك الليلة المرتقبة باتت على موعد للقائه.
نستشفّ من الأبيات التالية أنّه تسلّل إلى خبائها خفية، فهو بصير بحال المكان وإن كان في موهن من الليل، ونتخيّل أنّه كان خلفها لمّا داهمها ووضع كفّيه بكل ثقة على طرفي خصرها قبل أن تشعر به:
فوضعت كفّي عند مقطع خصرها، فتنفّست.
تنّفست تنفس الخائف الفرق، ولكنّها إذ كانت على علم بالموعد لم تنبس بكلمة، اكتفت بذلك النفس الذى صدر في لحظة وجل إذ أحسّت بكفٍّ خلفها تتسلّل برفق إلى خاصرتها، ولم تتكلّم:
فتنفّست نفسا فلم تتلهَّجِ
ثمّ التفتت وجلة، فلزمها بذراعه، وضمّها إليه، وباغتها بقبلة خاطفة، لثمها، وكأنها لثمة تحية وتعارف، ولعلّه هكذا أراد اختصار الطريق إليها، فالشاعر كما قال في لقاء آخر وكما عهدناه دائما:" يقيس ذراعا كلّما قسن إصبعا". ثمّ أليست هي التي استجابت إلى رسول الشاعر؟.... من؟ سألته فزعة، فلم يتردّد في الكلام، بل همس حالا: عمر! هكذا عرّفها بنفسه ليطمئن قلبها إليه:
فلزمتها فلثمتها فتفزّعت منّي وقالت: من؟ فلم أتلجلجِ
ثم إنّها عرفته ودفعته عن نفسها، إما غنجا أو لتستوثق منه، وخاصّة أنه أوّل لقاء، ولم تلبث أن أقسمت أن تنبّه الحيّ إن لم يخرج، فاستجاب لها على الرغم من أنّ القبلة الخاطفة لم تطفئ ظمأه. فما إن همَّ بالخروج حتّى لمحها تبتسم، فأدرك أنها ابتسامة الرّضا والقبول، إنها اللحظة الفاصلة بين حال وحال، أو قل إنها ابتسامة أذهبت رهبة الموقف ومخايل الإثم، إثم اليمين، عرف بها أن يمينها لم تكن عن ضيق أو قصد فعاد:
فخرجتُ خوفَ يمينِها فتبسَّمتْ فعلمتُ أنّ يمينَها لم تُحرِجِ
ثمّ مدّت يمينها الى فروة رأسه، اختار مقطع الخصر فاختارت مسّ شعر رأسه لتغوص فيه أناملها الغضّة التي زيّنها الخضاب، الخضاب الذي أعدّته لذلك اللقاء:
فتناولت رأسي لتعلمَ مسَّه بمُخضَّبِ الأطرافِ غيرِ مشنّج
فهل كانت الموعودة في ريب من شخصية الشاعر العاشق؟ أم أن الأمل بقدومه كان أقرب إلى الحلم البعيد؟ وهل كانت تلك الحركة العفوية منها وهي تتلمّس رأسه وتشكّ أناملها في شعره لتتأكد أنه هنا في خبائها وفي متناول يدها؟
ولنا هنا أن نوازن بين حركة يده التي انقضَّت على مقطع الخصر، تحتضن طرف الكشح، أرق موضع للضم والامتلاك.. وبين لمستها الأنثوية الناعمة، لمسة المرأة الحنون للطفل الشقي، إذا أردنا أن نتجاوز لهفة العاشقة، ولو لحظة خاطفة.
عاد إليها ثانية ليخطف ثمرة الموعد، خمرتها المخبأة، لاثماً الصبيّة التى دلّهها العشق، آخذا بقرونها أو بذوائبتها في قبلة محمومة يرتشف فيها رحيق الثغر كما يشربُ النّزيف المصابُ بالحمّى الماءَ الباردَ الصافي المكنون في نقرة عالية في جبل ما زالت ذروته تحتفظ ببرودتها الثلجية.
فلثمتُ فاها آخذاً بقرونِها شربَ النزيفِ ببردِ ماءِ الحشرجِ
من كانت تلك الصبيّة؟ ما صورتها؟ كم لها من العمر؟ إن ابن أبي ربيعة وحده يعلم ذلك، ولكن ما نعلمه أن تلك اللحظات الخاطفة المنهوبة من مكارم تلك الليلة التي رشف فيها رضابها البارد كانت أشهى ما نال من نعيم الفردوس.

قصيدتان

قصيدتان
أحتفظ للجزائر ورئيسها وشعبها الغالي بمودة وجدانية خاصة، وكنت قد كتبت قصيدة وأهديتها إلى أخي وصديقي فخامة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، أعبر فيها عن المكانة السامية التي يشغلها الرئيس الجزائري في قلبي وفكري، إضافة إلى المكانة التي يتمتع بها فخامته في قلوب أبناء شعبه وهو يقود مسيرة الجزائر الحبيبة نحو العزة والرخاء والاستقرار. وقد أثارت القصيدة إعجاب الشاعر الجزائري الصديق إبراهيم صديقي فعارضها بقصيدة من البحر والرويّ ذاتيهما، كما يرى القارئ في ما يلي:
منارُ العرب
محمد أحمد خليفة السويدي
والبطــــــــــولاتِ والأصـــــــــــــولِ العـــــــــــــــــــريقَه
رجلُ العصــــــــــرِ والخيـــــــــالِ الحقيـــــــــقَه
الوفـــــــــــــــــــــــــــــــيُّ الأبـــــــــــــــــيُّ بوتفلــــــــــــــــــــــــيـــقَة
الرئيـسُ الجليـــــلُ فَخــــــــــــــــــــــــــــري وحُبِّي
في ظلامِ الحيـــــــــاةِ شــــــــــــــــــــــقَّ طـــــــــــــريقَه
العِصـــــــاميُّ من صعــــــــابٍ لأُخـــــــــرَى
وشــــــــــــــــــــــــــــذاه ومســــــــــــــــكَه ورحيــــــــــــــــــــــــقَه
أكتبُ الشكرَ يكتبُ الحــــــــــــــــــــــبُّ عنه
في عـــــــــــــــــــــــــــــروقي جزائـــرياً ســـــــــــــــــليـــقَه
ونشـــــــــــــــــــــيدُ الجزائرِ الفخمُ يَجــــــــــــــــري
تــتوالى الأيمــــــــــــــــــــــــانُ فيه بروقــــــــــــــــــــــــــــــَه
وســـــــــــــــــــــــــــحابٌ كأنّه مـــــــــــــــــــــن أديمي
فاشـــــــــهـدوا النصرَ كيفَ مدَّ شـــــــــــــــروقَه
عقدوا العـــــــــــــزمَ للجــــــــــــــــزائرِ تحـــــــــــــــــيا
وبيـــــــــــــــــــــــاضِ الجــــــــــــــــــزائرِ الصـــــــــــــــدِّيقَه
أكتبُ الشــــــــــكرَ من ســـــــــــــوادِ عــيوني
والســــــــــــــطورُ المُذَهَّـــــــــــباتُ الرشــــــــــــــــــــيقَه
غَمَرَتنا رســــــــــــــــــــــائلُ الــــــوردِ عـــــــــــطراً
نــــــــــــــــــــــتباهَى بها أمــــــــــــــــامَ الخلـــــــــــــــــــــــيقَه
وســــــــــــــــــــــــــتبقَى فَخــــــــــــــارَنا في الليالي
قَصَّـــــــــــــــــــــها لي أبي وكانَ صـــــــــــــــــــــديقَه
ذاكَ عبدُ العزيــــــــــــــزِ قصـــــــــــــــــةُ مــــجدٍ
جاءَها وَهْيَ في الجــــــــــــــــــــراحِ غريــــــــــــــقَه
منذُ أنْ ثـارتِ الجــــــــــــــــــــــــــــــــزائرُ حـــــتَّى
خندقـــــــــــــــــــــــــــــــت حـوله الذئاب الطلــــــــيقه
فأماط الخـــــــــــــــــــــــراب عنـــــــــــــــــها وليــلاً
ومَسَحْنا دمــــــــــــــــــــــــــــــــــوعَنا المخــــــــــــــــــــنوقَه
ورســــــــــــــــــــا الأمنُ والســــــــــــــــــــلامُ عليها
تَتَهـــــــــــــادَى على الســـــــــــــــــــــــفوحِ الوريقَـــــــه
اُنْظُـــــــــروها بينَ البــــــــــلادِ عروســـــــــــــــــاً
بينَ غوغـــــــــــــــــــــــاءَ داهَمَتْها وسُــــــــــــــــــــــوقَه
كيفَ كانتْ جزائرُ الأمــــــــــــسِ نَهــــــــــباً
في يَدَيْه والبســـــــــــــــــــــــمةُ المســـــــــــــــــــــــــروقَه
فأتاها عبدُ العـــــــــــــــــــــــــــــــــزيزِ شِــــــــــــــفاهاً
بعدَ دهـــــــــــــــــرٍ من الســـــنينَ المشـــــــــــــــوقَه
وأتى المنصــــــــــــــــــوريَّةَ الشـــــــــوقُ نجماً
يَحتَســــــــــــــــيها الباكي فتروي عــــــــــــــــــروقَه
ودمـــــــــــــوعُ السرورِ أجمـــــــــــــــــــــلُ ذِكرَى
في ضـــــريحٍ يَرعى العـــــــلاءُ حقـــــــــــــــــوقَه
ارقــــــــــــــــــــــــــــــدي المنصوريةُ بســــــــــــــــــلامٍ
ولقومٍ عــــــــــــــــــــــــــــاراً وذِكــــــــــــــــرَى صفــــــــيقَه
هكذا يُكتَبُ الخــــــــــــــــــــــــــــــــــــلودُ لــــــــــــــــقومٍ
شُغْــــــــــــــلُه سَحْـــــــــــــــــــــــقُه بكلِّ طـــــــــــــــــــــــريقَه
كيفَ يرضى الشعبُ المهــــــانُ رئيساً
مُســـــــــــــــــــتَبيحٌ جـــــــــــــــــــــــــــــــــديدَه وعتيـــــــــــــــــقَه
مُستَحِلٌّ دمــــــــــــــــــــــــــــــــــاءَه ودمــــــــــــــــــــــــــــــاهُ
نَتَشَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــهَّى رفيــــــــــــــــــــــــفَه وبريــــــــــــــــقَه
إيهِ عبدَ العزيزِ دمــــــــــــــــــــــــــــتَ منـــــــــــاراً
وعيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــونٌ جـــــــــــــــبّارةٌ ورقــــــــــــــــــــــيقَه
قامةٌ تَمـــــــــــــــــلأُ العيـــــــــــــــونَ جـــــــــــــــــلالاً
وعلينا قــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريبةٌ وعمـــــــــــــــــــــــــــــــيقَه
هِيَ فينا بقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدرِ حُبِّكَ فينا
الكَــــلامُ وَثيْـــقَــــــــــهْ
مُــهـــداة إلى ســَـــــــــعادة محمَّـــــد أحمـــــــد الســــويدي
راحـــــلٌ في العُــــــلا يُريــــــــدُ بَريقَـــــــــهْ              هائِـــــــــمٌ ســــــــائِــــرٌ وراءَ الحقيقَــــــــــــهْ
هــــو بَحْـــــــــــرٌ هـذا الهيَــــــــــامُ عميـــقٌ              كيفَ تخْتَــــــــــارُ أنْ تكونَ غَريقَـــــــهْ؟
هـــــو جمــــــــــــــــرٌ مُخَــــبَّـــــــأٌ في المعــــانـي           كيــفَ يهـــــوَى لَهِيبَـــــهْ وحَريقَــــــــــــــهْ؟
سَـــــــارَ في الشَّـرقِ كلِّهِ ذاتَ عُمْــرٍ             واجْتَنَى مِنْـــــهُ عِطْــــــرَهُ ورَحِيقَــــــــــــــهْ
وتَحَـــــــــــــرَّى أيَّــامَـــــــــــــــــه ولَيـــــاليـــــــــــه                وأحْــــوَالَـــــــــــهُ وكُـــــــــلَّ دقيـــقَـــــــــــــــــــــهْ
تَـــــرَكَ الشَّــــــرْقَ واسْــــــــتَدارَ شمـــَـالاً             حينمـا اجْتَــــــــازَ بَحْـــــــرَهُ ومَضيقَـــــــــهْ
أيُّــــها الغَـــرْبُ جــاءَك اليـــــومَ طَيْــــرٌ              عَـــــــــرَبيٌّ يُـريــــــــدُ مِنْـــــــــــكَ الحَقِيقَـــــــهْ
جَاءَ فَافْتَحْ خَزَائنَ العِلْمِ واسْكُبْ             في يَدَيْــــــــــــهِ نَهْــــــرَ العُصُورِ العَريقَــهْ
نَظْـــــــرَةٌ منـــــه فــي طلـولِكَ تَكْـفــــي               كــي تـــرى نَــائِمَاتِــــهَا مُسْـــــــتـَفيقَـــــهْ
وتــــــرى التــاريـــــــخَ المُغَيَّـــــــبَ حَيًّـــــا               والأسِـــــــــيرَاتِ مِـنْ دُنــــاكَ طليقَــــــــهْ
جاءكَ اليــومَ نَجْلُ أحمد في مَوكبِ           عِـلْـــــــــــمٍ إليْـــــــــــكَ شـــــــــــقَّ طَـــريـقَــــهْ
جَــــدُّهُ أخْـضَـــعَ الرِّمـــالَ وأَسْـــــرَى               في دُروبِ اللَّظى وَلَمْ يشكُ ضِيقَهْ
وأبــــــوهُ مؤسِّــــــــسُ الــــصَّرْحِ لَمَّـــــا                زايـــــــدٌ شـــــــــــــاءَ أنْ يكونَ رفيـقَــــــــهْ
نَظْـــرَةٌ مِنْــــهُ فـي الإِشــــارَةِ عَهْــــدٌ                 وإذا قــــــــــالَ .. فالـــــكلامُ وثيقَـــــــهْ
وابنُـــه هذا المســتنيرُ السُّــويْدي                هــــــــــو والفكر عــاشِـــقٌ وعشــــيقَهْ
أَكْـــــــــرَمَ الله بــلــــــدةً أنجــــبتــهــــــم                 وسَـــــقى هذه البـــــــــــلادَ الشقيقَــهْ
إبراهيم صديقي

Wednesday, March 2, 2016

للشاعرة سافو


للشاعرة سافو



اقتنيت كتاباً للشاعرة "سافو" ورحت أقصُّ على الصديقين بعض أخبارها ونحن نجتاز درب الدورشستر مروراً بنافورة بهجة الحياة. كان رذاذ مائها المتلألئ يحكي حبّات اللؤلؤ تنثره ابتهاجا تحيّة للشاعرة. قلت: هي أشهر نساء اليونان وكانت تعظّمها قبل أن تموت وكان سقراط يسمّيها الجميلة، وكتب إفلاطون مقطوعة شعريّة حماسيّة يقول فيها:
إن ربّات الشعر تسع، ألا ما أشدّ جهلهم، فليعلموا أن سافو اللسبوسيّة هي العاشرة. ولدت في بسافا Psappha في إرسوس من أعمال لسبوس عام (612 ق.م)، لم تشتهر بجمال، كانت صغيرة الجسم ضعيفة البنية ولكنّها كانت تسحر الناس برشاقتها ورقّتها ودماثة أخلاقها وحصافة عقلها، تزوّجت بتاجر ثريّ يدعى أندروس ورثت ثروته وأنجبت ابنة قالت عنها:
"صغيرة كالزهرة الذهبيّة، اسمها كليس قرّة عيني، تلك التي لا أفرّط بها ولو أعطيت ليديا كلّها أو لسبوس الحبيبة.
ومن أقوال استابيوس فيها:
وحدث ذات مرّة في مجلس شراب أن أخذ ابن اكسستيديس أخو صولون يغنّي أغنية من أغاني سافو أعجب بها عمّه إعجاباً لم يسعه معه إلا أن يأمر الغلام أن يعلّمه إيّاها، ولمّا سأله أحد الحاضرين:
"لمَ يطلب هذا الطلب؟" أجاب بقوله: إني أريد أن أتعلّمها ثمّ أموت!". كانت تشبه الحبيب البعيد المنال بالتفّاحة الحلوة التي تحمرّ على طرف الغصن، على الطرف الأعلى من الغصن، والتي تغاضى عنها الجاني، لكن لم ينسها بل إنّه لم يستطع أن يصل إليها لعلوّها.