Saturday, July 23, 2016

أدب الرحلة



ندعوكم للتعرف على رحلة «عين وجناح» الحائزة على جائزة ابن بطّوطة في الرحلات المعاصرة لـ «محمد الحارثي»، المشاهد التي سيخوضُ غمارها قارئ هذه الرحلة ما هي إلاّ مُحصِّلة لتجربةٍ ومغامرةِ حياةٍ أعطاها، كما أعطته، أفضل ما لديها في عَقده الثلاثين، يسُوح في الأرض الشاسعة أحجاراً ومُحيطات.. مأخوذاً، في الغالب، برنين النقيضين: الذهب..والرَّماد.. نعيد نشر اجزاء منها ضمن مشروعنا #أدب_الرحلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«عزيزي اللص، لا يوجد جهاز تسجيل في هذه السيارة»

في "لندن" لم يترك الطاقم الأرضي لشركة طيران الـ "يو.تي.إيه" سؤالاً على الأرض دون أن يقذفوه بوجهي قبل صعودي السماء باتجاه "نيويورك".

كنتُ في رحلة بدأت من مسقط، عبر لندن، باتجاه الجزر العذراء التي قضيت وقتا طويلاً في البحث عنها على الخريطة، ولم أفلح في العثور عليها إلا بعد استعانتي بخريطة مكبرة للعالم. وهي رحلة كان هدفها الأساس الانضمام إلى دورة صيفية محورها تاريخ وتطور الحياة البحرية في جامعة الجُزر العذراء.

استقبلني في مطار« J.F.K » بعد سبع ساعات من الطيران صديقٌ قضيت صحبته أول ليلتين لي في نيويورك (قريباً من جامعة كولومبيا في مانهاتن، وتحديداً مقابل النافذة التي عاش خلفها، وحيداً ذات زمان، الشاعر «فِدريكو لوركا»).

سمعت الكثير عن نيويورك، عن صخبها وجنونها، متاحفها وجرائمها، سودها وبيضها.. وما تبارت الأفلام السينمائية في تسريبه إلينا أسطورةً وواقعاً يتبادلان مواقعهما بخفة مدهشة لا تحدث إلا في نيويورك.

لكنني لم أتوقع أن يكون صفير سيارات الإسعاف والشرطة بذلك القدر من الإزعاج وعدم التوقف خمس دقائق على الأقل آناء الليل وأطراف النهار، وبذلك اللا اكتراث من النيويوركيين.
كانت تلك "البئر الأولى" التي سقطتْ في غَيَابتها أذناي وعيناي.

ولأن صديقي يعرف أقصر الطرق إلى البئر العاشرة لأية مدينة فقد اصطحبني بمجرد أن وضعت حقيبتي في منزله إلى "حان الكاتدرائية" حيث كانت المفاجأة الثانية ساجدةً في انتظاري: الأباريق الكبيرة التي تُقدم فيها الصفراء. وهو أمر أضحكني أول الأمر، لكن ضحكتي تلاشت في طريق عودتنا عندما تبارى بائعو الكوكايين في ترغيبنا لشراء غرام من الذهب الأبيض، غير هيّابين من سيارات البوليس وصفيرها، وتلاشت أكثر أمام باب البناية التي نقطن عندما لاحظت سيارة "أوستين" إنكليزية قديمة معلق بداخلها ورقة تحجب مقود القيادة (لكنها لا تحجب عيني لوركا) الذي ردد معي، كما لو كان يقرأ قصيدة، ما كان مكتوباً على تلك الورقة: "عزيزي اللص، لا يوجد جهاز تسجيل في هذه السيارة"!

أفقنا من النوم متأخرين .. وشربنا القهوة في "الفورتي سيكند ستريت" الذي يعد من أكثر شوارع نيويورك حيويّة وحياة بصخب مقاهيه وحاناته ودور العرض السينمائية والمسرحية فضلاً عن تمركز أرقى محلات الأزياء والعطور على جانبيه، بعدها انتعلنا المترو النيويوركي القبيح (ولا مقارنة، هنا، بأبهة محطات مترو موسكو) إلى حيّ البرونكس الذي يتكدس فيه المهاجرون من أصقاع الأرض: أفارقة، هنود، عرب، صينيون، لاتينو-أميركيون...

كنا نتلذذ بالسير في ذلك الكرنفال العجيب من الأجناس (ثقافات، سحن، وروائح بضائع من مومبي ودمشق وكاراكاس وكنشاسا) عندما لفتت انتباهي لافتةٌ لافتة: "مطعم اليمن السعيد" الذي وجدتني أجرُّ صديقي إليه لتناول الغداء، مأخوذاً برائحة العصيد اليمني الشهير.
لم يكن الغداء اليمني الذي تشهيت عصيداً يمنياً تقليدياً، وإنما ندوة دسمة في العروبة وأشباهها تدور رحاها بين الطاولتين المجاورتين لنا، اضطررنا باستمتاع لا يُنكر إلى متابعتها والإنصات لحفيف سهامها التي يتقاذفها مهاجرون يمنيون ومصريون فحواها: تلك المغامرة التي لا جدوى منها سوى "إراقة دماء أبناء مصر الأحرار عشان شوية قبايل بيتناحروا في اليمن"، وعن حق العروبة الذي دافع عنه عبد الناصر "بشجاعة رجل صنعاني لا يخشى في الحق لومة لائم".

ظل النقاش البائس يتناوب بين #السادات و#عبد الناصر والملك #فيصل والإمام والنكسة، إلى أن استل الصنعاني ذؤاباته إلى ساحة أخرى، مؤكدا لمحاوره المصري أن عالِم الجيولوجيا #فاروق_الباز هو من حدد موقع الوادي الذي هبطت فيه مركبة "أبولو-11" عام 1969 على سطح القمر، وأن ذلك ما كان ليتم لولا عبد الناصر، مغيظا بمعلوماته الدقيقة عن عصر الفضاء مُباريه، مستمتعاً وهو يرتشف الشاي بِدويّ الحَجَر العلميّ الذي ألقاه في وجه خصمه.

لكن المبارزة، في آخر الأمر، لم تكن متكافئة لسبب بسيط هو تلك الروح التهكمية العالية لدى المصري الذي ألمح إلى فاروق الباز نفسه، قائلا:
«آه، آه.. لو كان عَندُكُو واحد زيُّهْ فـ صَنعا كنتو حَتِقلبوا المريخ قعْدِة قات!».
 

No comments:

Post a Comment