Monday, April 15, 2019

الغناء في الحجاز وتجليات سحره في طفولتي






الغناء في الحجاز وتجليات سحره في طفولتي


ندرك من خلال ما توصّلنا به من مصادر أن النبي ﷺ كان للشعر في مجلسه دورا ومساحة، وكان ينشد الشعر ويستنشده وله جماعة من الشعراء ينافحون عنه إذا ما تناوشت رسالته ألسنة الشعراء من قريش أو حلفائها أو بتحريض منهم، فكان له من الشعراء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك.
وكان يحثّهم بأساليب متعددة، فقد كان يقول لحسان بن ثابت: (يا حسان اهجهم وروح القدس يؤيدك)، وكان كلما أصغى لشعر حسان في الذود عنه وعن دينه يقول (لهذا الشعر أشد عليهم من وقع النبل). وورد في الحديث بمثل هذا الشأن (أمرت كعب بن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسان بن ثابت فشفي واستشفي). فلقد كان الشعراء جزءا أصيلا في الحراك الاجتماعي والسياسي، وليس ببعيد عنا قصيدة "نهج البردة" التي نظمها كعب بن زهير في مدح النبي، فخلع عليه النبي بردته.

وأجد أن العرب عرفوا أنوعاً من الغناء قبل الإسلام فلقد كانوا يرقّصون أطفالهم بالغناء، و يبكون موتاهم بالنواح الذي هو ضرب من الغناء، ويغنون في الحرب ويحدون للإبل، بل أن النبي ذاته عندما قدم من مكة إلى المدينة مهاجراً ألّفت نساء الأنصار في استقباله ما يشبه الجوقات، إذ كن يغنين جماعات بالدف والألحان. وكان الغناء شائعاً في المدينة، وتشترك فيه النساء كالرجال، ولا يستبعد أنهم عرفوا آلات الطرب والسماع في معابدهم وفي أعيادهم. فلقد كانوا محاطين باليهود والنصارى وكان معروفا عن العبران استعمالهم للموسيقى في معابدهم، ولقد وصلتنا من ذلك العصر أسماء بعض آلات الطرب التي استعملها عرب ما قبل الإسلام.
ويرى بعض الباحثين أن الإسلام لم يكن يحرم الغناء، فلم يكن محرما على أيام النبي، ولم يكن يدعو لنبذه، كما عُرف عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يتغنى وهو مُحرم. بل معروف أن عامة أهل الحجاز أجازوا الغناء.
وكذلك الحال اثناء الخلافة الراشدة، وإن لم يتسع مجاله في عهدي أبي بكر وعمر، ومع حلول عصر عثمان، واتساع الدولة الإسلامية بعد فتح بلدان ومدنيات عريقة، وبدأت الأموال تتدفق على الحجاز ودبّ الرخاء في حياتهم ومالت قلوبهم إلى اللين وسيق الأسرى إليها وهم غالبا من العراق وفارس والشام. بدأت عند ذاك مرحلة جديدة. ولكن نتائجها لم تظهر على أيام عمر، وإنما في عصر عثمان عندما هدأت الفتوح. فبنى الأشراف والموسرين في المدينة القصور وفي مكة والطائف، فعرف الغناء والمغنين طريقهم إلى هذه القصور حتى أصبحت المدينة مركزا للغناء في العصر الأموي.

وبالطبع يمكننا القول أن ظاهرة الإماء اللواتي كنّ يعدن بأصولهن إلى المدنيات المتحضرة عرفهن عرب الجزيرة في مراكز الحضارة في الشام والعراق، ولقد تركن تأثيرا على الشعر والغناء قبل الإسلام، ولقد وصلن إلى الحجاز قبل فتوح البلدان، بل قبل ظهور الدعوة، فلقد كانت جوائز الملوك أحيانا من الإماء، والشعراء يطلبون ذلك بأنفسهم وهو ما نجده في أبياتٍ للنابغة الذبياني يخاطب فيها النعمان أن يهبه الإماء المنعّمات جنبا إلى جنب مع غلاظ الإبل:
الـواهب المائة المعكاء زينها *** سعـدان توضح في اوبارها اللبد
الراكضـات ذيول الريط فانقها *** برد الهـواجر كالغرلان بالجـرد

أما الغناء كظاهرة فلقد عرفها العرب أول الأمر من الحجاز، حيث وُضعت أصوله من خلال مجموعة من المغنين والمغنيات كابن سريج وسائب خاثر وجميلة ومعبد وكان ذلك في أيام بني أمية، وفي خطوة لاحقة وجد طريقه إلى قصورهم في الشام ، كما أن الموسرين من قريش ممن أبعدوا عن العمل السياسي وجدوا في الغناء وما يتبع مجالسه من لهو بغيةً أقبلوا عليها بشغف وحرص شديد حتى ذُكر أن عمر بن عبد العزيز صنع عدة أصوات و هو أمير على المدينة.
أما خلفاء الشام فلقد ذكرت مصادر عدة أن معاوية بن أبي سفيان كان يطيب له غناء سائب خاثر وأما ابنه يزيد فلقد وصفه المسعودي بأنه صاحب طرب وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة.
ودفع ابنه الوليد الأمر فكان أول من حُمل المغنين إليه من البلدان المختلفة.‏
وارتباط نشوء الغناء كظاهرة وعلاقته بالاستقرار ورخاء العيش والعمران، فلقد فسّرها ابن خلدون بقوله (وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توافر وتجاوز حد الضروري إلى الخارجي إلى الكمالي وتفننوا فيه. فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والفضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ ... لم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة، والترنُّم بالشعر الذي كان ديدنهم ومذهبهم.

فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرَفَه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية، واستحلاء الفراغ، فافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات، فلحنوا عليها أشعارهم.‏
كان لشيوع الغناء وجوقاته في ربوع الحجاز وما يحيطها أن ظهر الشعراء بجانب المغنيين والمغنيات، وأخذوا يمدّونهم بالقصائد التي هي المادة الأولية للغناء، وكان الغناء ذا طابع حضري يمكنك أن تتلمّس الترف فيه، وصار الفريقان متلازمان لا يكادا ينفصلان عن بعضهما، فما أن ينشد فلان قصيدة حتى تجدها مغناة وتستظهرها قلوب الحجازيين بأصواتها قبل ألسنتهم.‏
فأخذ الشعراء يقدمون خير نتاجاتهم وربما يفعلون ذلك إزاء مقابل مادي كما هو الحال اليوم.
ولا ريب أن عمر بن أبي ربيعة هو حامل لواء هذا الضرب من الشعر الحضري المغنّى، وكان له مذهب في كتابته جعل منه زعيما لغزليي عصره كما أشار إلى ذلك طه حسين، بل اتسع الأمر لدرجة أنه عدّ ابن أبي ربيعة زعيم الشعراء العرب قاطبة في قدرته على تمثيل عصره وبيئته فشعره كان تصويرا دقيقا وصادقا لطبيعة الحياة الحضرية في الحجاز من تصوير لدقائق حياة الأثرياء والموسرين والشباب الحجازي عامة، وكذلك فيه تمثيل لطبيعة حياة المرأة الأرستقراطية المترفة.
فلقد أتيحت له أسباب اللهو وجميع وسائله فكان علما منذ ان بدا يهذي حتى قال الشعر وجعل رجال على زنة العباس عم الرسول يصغي إليه وقد انقطع عما حوله حتى عاتبه قوم على ذلك وكانوا قد قطّعوا اكباد الإبل ليسألونه في أمور دينهم ودنياهم، وكانت جوارحه معلقة بابن أبي ربيعة وهو ينشد قصيدته التي مطلعها: أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبكِرُ...
لقد رفع ابن أبي ربيعة مع جماعة من أصحابه كالأحوص والعرجي ويزيد ابن الطثرية وكثيّر عزّة وأبو دهبل الجمحي، لواء هذا الضرب من الشعر الحضري، ولقد عرّجنا عليهم لأنهم جزء من حقيقة تاريخية ولقد كانوا أحياء وحقيقيين، وليس لأحد أن يرتاب في وجودهم، كما حدث مع الشعراء العذريين الذين لا يمكن التيقّن من حقيقتهم التاريخية.
لقد كانت مجالس الحجاز لا تخلو من مغنين ومغنيات يرددون قصائدهم بعد أن اكتشفوا أن من الغناء لسحرا، فلم يعد السحر مقتصرا على الشعر باعتباره التمثيل الأكبر للبيان كما عرفه العرب

وذات الأمر حدث في منطقتنا في العصر الحالي، إذ أن من أسباب شيوع الغناء ومجالسه هو الثروات التي تدفقت على المنطقة خلال الخمسين سنة الأخيرة، إثر ظهور النفط، وما ترتّب على ذلك من دعة في العيش وتوافر أسباب الترف، فكانت تلك أسباب كافية لتكون البيئة منتجة وحاضنة للغناء ومجالسه.
وما زلت أتذكر في طفولتي أبان الستينات المسجل ذو البكرات الصغيرة، وكنا ندعوه (مسجل البكرات) وكان شائعا قبل ولادة الستيريو والديجتال بسنوات. فكانت تلك المسجلة الأولى في طفولتي وأول صندوق سحري تخرج من أحشائه موسيقى ممزوجة بحشرجات طارق عبد الحكيم وهو يغني:
أبكي على ما جرى لي ياهلي
أو طلال مداح:
كم تذكرت سويعات الأصيل...
من تلك المسجلة سمعت أول أغان انتهت إلى اذني، قبل أن أكتشف وأعتاد على اسطوانات (45) والتي استمدت تسميتها من عدد اللفات في الدقيقة الواحدة، وكانت تُدفع إلى تجويف شبيه بالفم داخل الجهاز فيشرع بالغناء، وكان أبو بكر سالم وطارق عبد الحكيم يتنازعان أذنيّ. وهما من أول الأسماء التي نشأت عليها كانت الأجيال التي عاصرت أول موجة من الغناء في المنطقة من الأميين في الغالب، ولا يجيد إلا القلة منهم القراءة والكتابة. وعند المقايسة بالبلاد الأخرى، كمصر مثلا، فنحن على علم بالمراحل التي مرّت بها بدءا من بديعة مصابني..
تلك الستينات بصناديقها الساحرة عاشها الوالد على نحو مختلف إذ كان يدرس أبانها في القاهرة وتعرف على الثالوث أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم عن قرب ولقد حضر بعضا من أمسياتهم.
وعندما تولى رئاسة الديوان الأميري بادر إلى دعوة نجوم الغناء العرب كعبد الوهاب وأم كلثوم، فخرجوا من صناديقهم السحرية وجاءوا إلينا.
وهنا أريد أن اعرّج على حكاية سمعتها من الراحل محسن سليمان (ابن رئيس وزراء العراق في عهد الملك) عندما كانت السيدة أم كُلثوم تُستقبل في بيته، وفي إحدى المرات رأته وكان صبيا وسيما فسألت عنه، فقيل لها إنه محسن، فما كان منها إلا أن ضمّته إلى صدرها وطبعت بضعة قبلٍ على خدّه.
فكان في شبابه يتردد على مصر وعندما تحين الفرصة، يسأل أصدقاءه مداعبا:
من منكم حظي بقبلة من أم كلثوم؟
فيتبادلون نظرات خاطفة قبل أن يقولوا بصوت واحد: لا أحد
فيقول لهم مداعباً: أما أنا فلقد حظيت بقُبلٍ منها.
وكما فعل الوالد من قبل فعلت الأمر ذاته عندما دعوت عند رئاستي لأمانة المجمع الثقافي أبو بكر سالم والمحضار، اللذان طالما تشّربنا فنّهم صغارا، وكانت تلك الليلة عرسا كبيرا في لقاء جمعهما لأول مرّة أماما الجمهور وهو متوفر في يوتيوب.

كما لا يمكنني أن أنسى عالم الطفولة بسحره حيث يكون الزمن بطيئا عندما كنت أختلس النظر إلى عمتي عوشة - رحمها الله- من نافذة غرفتها وكنت أرقبها وهي تخرج الاسطوانات السوداء الكبيرة (Lp) من علبها وتضعها في جهاز فونوغراف، ثم بغتة تدبّ فيه الحياة ويبدأ الغناء، كانت تلك اللحظة فارقة حيث كنت أشعر بالشغف يسيل من صندوق عمتي ويصل إليّ بعد أن يقطع فضاء غرفتها.
حدّثني محسن سليمان ذات مرة وقد تنازعته ذكرى قديمة فقال: أحيانا عندما أطلب اسطوانة من مكان فيصلني في البريد، أقبض على المغلّف بكلتا يديّ، وأناجي القرص وأنا أفتح المغلّف بشغف، آلا ما أليقك بهذه اليد، أيتها الأسطوانة لا تليق بك سوى أصابعي..
وكان يريد أن يقول إنه وحده من يدرك قيمة هذه الاسطوانة، أما الآخرون فهي ليست أكثر من قرص أسود كبير جامد بلا سحر.

No comments:

Post a Comment