رحلة ابن عتيبة إلى مكة
حدثنا العم / سعيد بن أحمد خلف العتيبة، عن رحلة والده إلى الحج عام 1359 للهجرة. فإذا قلبنا أوراق التاريخ الحديث، وافق ذلك العام اعادة انتخاب الرئيس "روزفلت" للمرّة الثانية، وكانت الطائرات الألمانيّة تدكّ "لندن" بالقنابل، و"ولت ديزني" يجرّب فيلمه الطويل "بونوكيو"، و"جو لويس" يسقط أبطال الوزن الثقيل في الملاكمة، و"فرانك سيناترا" يطلّ إطلالته الأولى على جمهور إنديانابوليس، و"الجيب" سفينة الصحراء المرتقبة توشك على الظهور.
في ذلك العام، عزم الجدّ أحمد على القيام برحلة الحج إلى مكّة والمدينة، وقد صادفت الوقفة فيها 8 يناير عام 1941. علماً أنّ ذلك العام شهد وقفتين، وكانت الثانية في 25 ديسمبر، وهي الوقفة التي غرقت فيها مكّة بالأمطار.
وإذا صادفت الوقفة الثامن من يناير، فهذا يعني أنّهم غادروا البلاد في (طالع الإكليل)، في قرابة العاشر من ديسمبر 1940، أي في مربعانيّة الشتاء، وهي في المخيال الشعبي "مقرقعة البيبان" التي قالت متوّعدة الناس: "إذا ما عجبكم حالي بأرسل لكم السعود خوالي". والسعود في فبراير ومارس، وهي سعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود.
فلما عقدوا العزم على الحج ذلك العام وزيارة مكة والمدينة المنوّرة استقلّ أحمد بن خلف ومعه زوجاته: آمنه بنت سلطان بن مجرن، وأبناؤها عبد الله (جدّي ووالد والدتي) وبطي، والعفّاد، وشمّا بنت محمد المزروعي، وولدها محمد، وابنتها نورة وابنها محيميد بن أحمد بن حبتور، وفاطمة بنت خلفان المحيربي، وابنتها حمدة (أم أختي موزه)، وهي أولى زوجات الوالد.
وكان من ضمن الركب العمة شمسة بنت أحمد السويدي، زوجة حامد بن بطي وأم أحمد بن حامد وهي عمة الوالد؛ وكذلك ضمّت الرحلة خليفة بن يوسف وسلطان بن يوسف، وفالح الصومالي ومحمد بن عبد الله بن معضد وراعي الصرّة حمد بن قطامي وبو زاهره منصور بن غانم فاستقلّوا جميعاً مركباً كبيراً لأحمد بن خلف يسمّى (فتح الباري). وهو من أوائل المراكب التي كانت تعمل بميكنة الديزل.
وعلى الرغم من أنّهم استقلّوا وسيلة فارهة، مقارنة بالسفر فوق ظهور الإبل، إلاّ أنّها كانت متعبة إذا ما قورنت بالسفر في أيّامنا هذه، حسبك أنّ جميع المسافرين، رجالا ونساء وأطفالا، كانوا يفترشون سطح السفينة مجلساً وملعباً ومكاناً للنوم.
ولكن السيّد عبد الله الهاشمي كان له رأي آخر عندما هنأ الجد أحمد بن خلف بمناسبة شراءه السفينة فتح الباري:
مترحّل عن بوظبي بالعشيّه ** متزوّد طيب الثنا وزين لعلام
لا شدّ كور ولا تزّمل مطيّه ** إلاّ على لنج على اليم عوّام
فتح من الباري وهذا سميّه ** منحوت من ليحان صاج وبرهام
فلك ويعدي به كروخ قويّه ** في كل وجهه له تياسير واولام
له فنّة رحب فناها بهيّه ** مفروشة لكنها كشك الاروام
يشعل بها التريك ناره زهيّه ** بعيد الضحى فيها وتنزاح الاظلام
يا بوسعيد مبارك ذا الشريّه ** الله عساها قادمه خير الاقدام
وخرجت أبو ظبي عن بكرة أبيها في توديعهم من منطقة رأس البرّ، وكان فيهم الوالد ولم يكن قد تجاوز العاشرة بعد، وما زال يتذكّر ذلك اليوم، فلقد كان يوماً مشهوداً في الذاكرة الظبيانية.
ويقول العمّ سعيد إنهم كانوا يرتدون العقل المقصّبة، وكان يوماً بهيّاً وكبيراً، ثم يردف وهو يتحسّر: لم يكن هناك من يصوّرنا في ذاك اليوم.
أبحرت السفينة قاصدة ميناء العجير. ولابد أن تكون قد استيقظت في نفس أحمد بن خلف تلك الرحلات الموسمية في مركبه إلى دلما حيث كانت سفنه تمخر عباب الخليج بحثاً عن هيرات اللؤلؤ من جنوب البصرة حتى بحر عُمان، وكان قد اتخذ من مركبه مقراً يقيم فيه ويلتقي الطواويش والنواخذة، ويولم لهم الولائم ولا يقفل راجعاً إلى دبي إلا بعد أن يوشك الموسم على الانقضاء.
كان بعض الطريق إلى العجير يشترك مع الطريق الذي طالما قصده قبل سنوات من ذلك التاريخ إلى دلما.
وكانت تجارة اللؤلؤ في أيام الرحلة فقدت جزءاً من بريقها بعد أن نفضت اليابان سجادة لؤلؤها المستغرس في أسواق العالم، وامتصّت السحر من هيرات اللؤلؤ في الخليج حتى مشارف الهند.
والعجير ميناء تاريخي، أخذ تسميته نسبة إلى قبيلة (عجير) التي سكنت الأحساء قبل الميلاد، ويعتبر أقدم ميناء تجاري على مياه الخليج العربي ويقع شرق منطقة الأحساء. وبعد أن بلغوا هذا الميناء، قصدوا واحات الأحساء إلى الغرب، وانقسموا إلى فريقين: أولهما الوالد أحمد بن خلف وحريمه في السيارة الصالون؛ والآخر، وكان فريقاً كبيراً ينوف على الأربعين حاجاً، ركبوا نوعا من الحمير عالية الظهر تُعرف بالحساوية، وهي معروفة بكبر حجمها وقدرتها الفائقة على التحمّل، وباتوا ليلتهم تلك في منطقة تُعرف باسم "المطيوي" نسبة إلى عين ماء أقيمت من حولها قرية تتوسط الطريق إلى الأحساء، وذبحوا خروفاً وقضوا ليلتهم يترقبون الصباح التالي لينطلقوا صوب الأحساء.
غادر الموكب الكبير صباحاً وبلغوا الأحساء في طالع القلب الذي قيل فيه إذا طلع القلب جاء الشتاء كالكلب وصار أهل البوادي في كرب.. وفي الأحساء وجدوا الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي في انتظارهم، فأكرم وفادتهم غاية الإكرام وأقاموا في الأحساء عشرة أيام ينعمون بعناية أميرها الذي حرص على تلبية كل ما يحتاجون إليه بنفسه.
وفي الأحساء التي لابد وأنهم طافوا في أرجائها وربوعها خلال الأيام العشرة، وأدركوا عن قرب حياتها الداخلية، وبينما كان العم سعيد يطوف سوقها، إذا به يرى مطر بن محمد المهيري مع صديق له يبيعون الركاب في السوق، فتعلّق بهم قائلا: خوي سعيد، يابْعَدِي، تقدرون تودوني معاكم الحج؟
فقال له: أبشر. واستأذن الوالد أحمد بن خلف الذي أذن له ورحّب به.
قال العم سعيد: كُتب للمهيري نصيب.
وبعد انقضاء الأيام العشرة، ودّعوا مضيفهم الشهم الأمير سعود بن جلوي واستقلّوا سيارتين نصف لوري. أما أحمد بن خلف وحريمه فلقد استقلّوا سيارة صالون وصاروا ينهبون الأرض في طريقهم إلى الرياض.
كان الشوق إلى بلوغ مكة يقودهم ويجعل كلّ المشاق في الطرق الوعرة التي تمتد نحو أربعمائة كيلو متراً، وكأنها من أجل تحصيل الثواب هيّنة، فكلما زادت مشقة السفر في طرق غير معبدة كلما زاد أجرهم.
وبعد جهد جهيد بلغوا الرياض، ونزلوا في بيت أعدّ لهم، وعلى مقربة منه بئر. ثم جاءوا لهم ببراميل كبيرة من الماء. وكانوا كلّما استيقظوا صباحا يجدون الماء وقد تجمّد في سطوح البراميل من فرط البرد لدرجة أنهم جاءوا بجرن كبير من خشب الغضا الذي تصف العرب ناره بالمضيئة التي لا تنطفئ وهو يكثر في نجد، ومنها انتقلوا إلى مضارب خيام الملك عبد العزيز في الثّمامة على مشارف عاصمته.
كان الملك عبد العزيز يقدّم الوالد أحمد بن عتيبة إلى ضيوفه وكبار رجالاته بقوله:
هذا ابن عتيبة.
قالها لابن عمه سعود الكبير الذي كان لشدة البرد يرتدي غترتين بيضاء وحمراء، ثمّ قال لأحمد بن خلف: هذا سعود الكبير، وكان سعود هذا ابن عمّ الملك وزوج نورة بنت عبد الرحمن بن فيصل.
وما زال العم سعيد يستعيد دهشته ذاتها التي وجد نفسه فيها، وهو يواجه ضخامة الخيام وفخامتها والكهرباء التي جعلتها تتوهّج سواء في رابعة النهار أو في عتمة الليل، ولم يكن رآها من قبل.
كان البرد قارسا وشديد الوطأة في تلك الأيام حتى إن بعضهم بدأ يشكو السقم مثل ابن حبتور الذي كانت بنيته تجعل البرد يقيم فيه.
وبعد نحو أربعة أيام في ضيافة الملك عبد العزيز، تابعوا الرحلة نحو مكة وكانوا على حدّ قول العم سعيد (شورهم بيديهم) فاستقلّوا السيارات صوب الحجاز التي تبعد قرابة تسعمائة كيلواً متراً كانوا فيها يصارعون المفازات المضلّلة والدهماء، تدفعهم غاية تقصر عن بلوغها كلّ وسيلة مهما بلغت من المشقة.
وكان للسيارات في هذه الدروب حنين وأنين وكأن سائقها كان يردّد في سرّه قول الشاعر أحمد الكندي لاحقا:
صوبهم في خاطري سيره
فوق جيبٍ يقطع الفيّه
يطرب السوّاق في سيره
لي ضرب دارٍ خلاويّه.
دعاهم داعي الشوق حتى بلغوا مكة في طالع الشولة التي قال فيها العرب: إذا طلعت الشولة أعجلت الشيخ البولة واشتدّت على العائل العولة.
حدّثني العمّ سعيد أنه رأى اليأس يدبّ في نفس العمّة شمسة بنت أحمد (عمّة الوالد ووالدة الشيخ أحمد بن حامد) من تقبيل الحجر الأسود، ولم تكن تكابد الأمر بنفسها، بل كانت في جملة من النساء اللائي عدن يائسات من المشمّ؛ وقد رأين شرطيّا يشرف على الحجر وبيده عصا يهوي بها على كل من أراد استقبال الحجر من الحجيج.
وكان سعيد في تلك الأيام تأخذه الحماسة مآخذ الجسور من الرجال ممن لبسوا القلوب فوق الصدور، وكان فتى القوم بحسب تعبير المتنبي الذي تتضاءل أمام حضور فتوته الصعاب.
وعندما رأى الخيبة والألم يعتصران قلب شمسة ومن معها من النساء سألها عن الأمر، وما إن أخبرته حتى قال لها تعلّقي بحرمي، فتعلقت وقصدا المشمّ.. ومن خلفهما النسوة الأخريات حتى أشرف على الحجر وقال لها استقبليه، فما إن رفع الشرطي عصاه حتى قبض عليها سعيد بيد من حديد وانتزعها منه، وقال لها شمّي الحجر، ففعلت شمسة.
ثم قال للنساء: إليكن بالحجر، فشممنه حتى شبعن، لدرجة أن سعيد حدّث نفسه في تلك البرهة أنهن لن يفرغن من شمّ الحجر أبداً.
كان الشرطي قد أسقط في يده وأصبح خلواً من السلطة التي توفرها العصا، فخاطبه سعيد مغضبا: اتّقِ الله في النسوة يا رجل، لقد سببت الذعر لحجيج الله في بيته، وألقى عليه العصا وغادر مع النسوة، وكان بين من حضر الموقف سلطان بن يوسف الذي كان على نقيض العمّ سعيد يؤثر السلم ويتجنّب أسباب الخلاف، حتى إنه تردد كثيراً، قبل أن يحجم في نهاية الأمر عن شمّ الحجر.
ويذكر العم سعيد يوماً أنّه أفاق ليلاً وهمّ بالخروج من الخيمة عندما تعثّر بــ حمد بن قطامي وكان رجلا يبهش – له ردّة فعل- قال سعيد: فحاول القبض عليّ فصارعته، وضللت أسأله وأنا قابض عليه إن كان في اليقظة أو ما زال في النوم.. قال العم سعيد: كنت أخشى ردّة فعله، فاضطررت لمصارعته –قبضته قبضه لا تنشد عنها- وأرسل ضحكة عالية..
كان سعيد في رحلة الحجّ تلك في فورة الشباب ولم يكن قد اختبر الزواج بعد، وفيه من العزم ما يلين حد المركب الخشن. وكأني بالمتنبي وقد أراد سعيد لا سواه في قوله:
قد هوّن الصبرُ عندي كلَّ نازلةٍ وليّن العزم حدّ المركبِ الخشنِ
وفي المدينة قال العم سعيد: كنّا نأتي إلى باب السلام عند الفجر، فنجد أمماً مجتمعة تحاول الدخول فالباب لا يفتح إلاّ فجراً، فتساءلنا لم اندفاعهم عند فتح الباب وكيف أنّهم لا يراعون حرمة المسجد فعلمنا من الشيخ/عمر أنّهم يتسابقون للصلاة في الروضة المشرّفة وقال لنا إنّ من صلّى في الروضة غفرت ذنوبه، فكنّا بعد ذلك كلمّا فتح الباب ننطلق كالسهام نسابق الحجيج فنكون أول المصلّين في الروضة المباركة، قال العم سعيد: مبخوت اللي يصلّي فيها.
وقال: مكثوا في مكة ثمانية أيام، ومثلها في المدينة حتى أتمّوا المناسك وعادوا أدراجهم إلى الحسا، ومن ثم إلى ميناء العجير.
لم تكن سفينتهم (فتح الباري) قد وصلت بعد، فاستأجروا مركباً من رجلٍ يُقال له حسين بن عميرة، لأن الوالد أحمد كان مستعجلاً في العودة من أجل قضاء بعض شؤونه ومصالحه.
ولكن سفينة بن عميرة حدث فيها عطل، فبادر العم سعيد وخليفة بن يوسف ومحمد بن أحمد إلى إسعاف بن عميره وأخذوا يصيحون: الكوبلين.. الكوبلين
وأخذوا يعالجون العطب حتى تم لهم إصلاحه.
وانطلقوا صباحا، وما هي إلا هنيهات حتى لمحوا سفينتهم (فتح الباري) مقبلة نحوهم، ولكن بعد أن فات الأوان فلحقت بهم إلى البحرين.
وفي تلك السنة، قال العمّ سعيد، وصلنا خبر ولادة خلف بن أحمد.
أقاموا مدة يومين في البحرين، وبالغ الأمير حمد بن سلمان في إكرامهم فصرف للرجال وللنساء الكسى والرواتب.
وكان لذلك الفعل أثره البالغ في نفس الوالد أحمد بن خلف، الذي بادر فور وصوله إلى أبو ظبي إلى إرسال ناقة اسمها (سمحة) من كرام الإبل، هدية لحاكم البحرين حمد بن عيسى، فوقعت في نفسه موقعاً عظيماً وأرسل إلى الوالد أحمد بن خلف سيارة فورد. وكانت من أولى السيارات التي تدخل أبو ظبي.
طال أمد الرحلة نحو أربعين يوما، ودخلوا أبو ظبي في منتصف يناير من عام 1941، وكان الطالع حين العودة النعايم، بعد أن أنعم الله عليهم بحج بيته.
كان العمّ سعيد ثابت الجنان رابط الجأش، وعندما يمدّ بصره وهو يحاول أن يستجمع تلك الأيام، كان يتحدث بعجب عن تلك القوة التي كان يدّخرها وذلك العزم الذي أدركه القاصي والداني. وبعد أن انتقل العمّ سعيد مع من انتقل إلى قطر، صار يصطحب القادمين للعلاج من أبوظبي ودبي إلى الحج مثل درويش بن كرم وغيره، فإنهم كانوا لا ينجزون الأمر إلا والعمّ سعيد في رفقتهم. وكان يعمل بهمة على تخليص أوراق الجمارك والجوازات وحده، ولم تحج والدته في تلك السنة التي حجّ فيها أحمد بن خلف، ولكنه عوّضها في السنوات اللاحقة وقصد بها الحجّ مرات عدّة.
وفي إحدى تلك الرحلات، توفيت فاطمة زوجة ثاني بن حبيش السويدي - رحمها الله- ودفنت في منطقة الأبطح. ويتذكر العم سعيد أنهم فقدوا في عرفة أثر طباخة لهم غابت عن أبصارهم وتاهت، فقال سعيد سأولم لكم بنفسي، قطّعوا اللحم، فلن يعدّ المكبوس سواي. وقبل المغيب نضج الطعام، فقال للنسوة بصوت واثق: اغرفن.
وختاما، فالحج لم تكن طقوسه لتكتمل لولا وجود العمّ سعيد الذي كان يجعل كل شيء متاحا وممكناً وفي متناول اليد، حتى لو كان الحجر الأسود الذي يشرف عليه رجل غليظ القلب يقبض على عصا، أما ما حدث لأول سيارة "فورد" في أبوظبي وما كابدته في طرقها غير المعبدة ... فتلك حكاية أخرى....
No comments:
Post a Comment