Sunday, March 24, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 7 - سيدة الثلوج





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

7- سيدة الثلوج
يتعلم الصبي الريفي أشكال وتضاريس الأرض. فهو يعرف المعالم التي تدل على الاتجاهات ومكونات البيئة المحيطة: الدروب المرتفعة والزوايا المهجورة. يعرف بقعة بعينها، زلقة إلى حد ما، حيث تنتهي قطعة جميلة من أرض الغابة فوق طريق صخري"- موقع يوجد في إحدى أساطير ليوناردو والتي يندب فيها "جلموداً متدحرجاً" القلق الذي أدى به إلى أن يغادر تلك البقعة الساحرة.  مغزى الأسطورة أنَّ نهاية أولئك الذين "يغادرون حياة خلوة التأمل ليأتوا ويعيشوا حياة المدينة، سوف لن تكون سوى الندم على ذلك. وبينما يجلس ليوناردو في ميلانو، كاتباً هذه الكلمات، تلتف تلك الصورة للدرب الصخري خلال الغابات تحمل معها لمسة من الحنين الشخصي. إنها تختزل له حياة الريف التي تركها خلفه هو الآخر. 
وربما كان حب ليوناردو للريف يتخلل أعماله في جلاء- في مشاهد لوحاته الغامضة والمضيئة؛ وفي رسوماته المفصلة على نحو ممتاز للنباتات والأشجار والغابات. وهو حاضر أيضاً في مفكّراته، والتي تظهر معرفة- نباتية، وزراعية وفلكلورية- عميقة بالعالم الطبيعي. كما أنّها تحتوي على مصادر لما يزيد عن 100 نوع من النبات و40 شجرة مختلفة. 
وقد تضمنت ملاحظاتٍ حول الفطر النفّاخ، والكمأ، والتوت وجوز الطيب، ونبات القرّاص، والأشواك، وشجرة خانقة الذئب ونبات العلقم.  هذه المعرفة النباتية المفصّلة أضافت إلى التصوير الشعري للطبيعة في لوحاته بعداً من الدقة العلمية. في أطروحته حول التلوين شدد على أهمية خروج الفنان إلى الريف، وتجربة الحياة في كنفه ( وهذا سلوك شائع وسط فناني النهضة على أية حال). لقد جعل هذا الخروج يبدو أشبه بالحجّ المقدس: عليك " أن تخرج من بيتك في المدينة، وتغادر عائلتك وأصدقائك، وأن تسير مجتازاً الجبال والأنهار إلى الريف". عليك أن " تعرِّض نفسك للحرارة اللاهبة للشمس". ولكان من السهل، يقول، أن تحصل على كل شيء من خلال تجارب الآخرين، من لوحات الفنانين، أو من وصف شعري في كتاب ما- " ألن يكون ذلك أكثر سهولة، وأقل جهداً، إذ أنك قد تظل في مكانك الظليل دون أن تبارحه قيد أنملة وتعرّض نفسك للمرض؟" ولكن، إن فعلت ذلك، لن يتسنى لروحك أن ترى- من خلال "كوة" العين- روائع الريف الملهمة: " لن يكون بمقدورها أن تتلقى انعكاسات الأماكن المشرقة؛ ولن تستطيع رؤية الوديان الظليلة.   فهو يؤكد على أنَّ الطرق السليمة لاكتشاف الطبيعة لا تكون دون خلوة. " عندما تكون وحدك، تكون ملك نفسك بالكامل، وإن لم يكن لك سوى رفيق واحد، فسوف لن يكون لك إلا نصفك." ينبغي على الرسام" أن ينسحب وحده، إنّه أفضل لدراسة أشكال الأشياء الطبيعية". ينبغي عليه أن "يظل في عزلة، خاصة عندما ينوي الدراسة وتمحيص تلك الأشياء التي تظهر أمام ناظريه على الدوام. والتي توفر لنا مادةً تختزن في الذاكرة بكل عناية". سوف لن يفهم الآخرون هذه الرغبة في العزلة، يحذرنا ليوناردو: " إنّي أخبركم، سيعتقدون أنكم مجانين." 

"أيقونة الذاكرة". من اليسار إلى اليمين: تفاصيل من رسومات دافنشي لمنظر طبيعي عام 1473، التفاصيل من خريطته لإقليم التوسكان، 1503، منظر مونسومانو من موقع قريب من جبل فيتوليني
كتبت هذه الكلمات حوالي عام 1490؛ وقد تكررت على صفحة من مخطوطة اتلانتكس التي كتبت بعد ذلك بخمسة وعشرين عاماً، وذلك في نص قصير بعنوان: "Vita del picture filosofo ne paesi"- أي " حياة الرسام-الفيلسوف في الريف". مرة أخرى تبرز هنا ضرورة أن "يحرم الفنان نفسه من الرفقة". ويعطي هذه الخلاصة الجميلة للتلقي والتي على الفنان أن يكرّس لها: " يجب أن يكون عقله قابلاً للتغير وفقاً لمتغيرات الأشياء التي تقدم نفسها أمامه، ويجب أن يكون متحرراً من كل الهموم... وفوق كل شيء لابدّ أن يكون عقله مثل سطح المرآة، والتي تقبل جميع الألوان المتنوعة للأجسام التي توضع أمامها." 
وبمثل عمق ارتباطه بالحيوانات اعتبر عادة التجول وحيداً في الريف إحدى مكنونات طفولته الريفية. العقل الخالي من الهموم، ويقظة الحواس، والذهن الأشبه بسطح المرآة في سهولة استقباله للانطباعات، وهي حالة تكاد أن تكون- على نحوٍ جليّ- أشبه بالانفتاح الذهني الطفولي، وهي الحالة التي يجتهد الفنان للوصول إليها. 
ولقد ثار بعض الجدل حول ذلك الجزء من قوة لوحات ليوناردو للمناظر الطبيعية والتي تعزى لاحتوائها على ذاكرة شعرية لمشاهد طفولته تحديداً. ووفقاً لكاتب سيرته الفرنسي سيرجي براملي، ما نراه في خلفيات لوحاته هو " منظر ليوناردو الخاص": احتفاءٌ بطبوغرافيا هضبة فينشي الأكثر وعورة، " الصخور، وأنهار الجبل، وجروف طفولته... بعد أن ساهمت العدسات المزدوجة للفن والذاكرة في تضخيمها."  ويبدو أنَّ ليوناردو نفسه قد مسَّ هذه الفكرة في أطروحته حول التلوين، حيث يقول إنَّ  النظر إلى لوحة منظر طبيعي قد تستدعي ذكريات لمناظر حقيقية أخرى " نعمت بالسعادة فيها يوماً ما". وفي ذلك المنظر الخيالي " قد ترى نفسك مرة أخرى، عاشقاً مع حبيبتك، أو في المرج المزهر، أو الظلال الناعمة للأشجار الخضراء." العاشق و الحبيبة (الأنثى) تضفيان لمسة من الجمال، ولكن الفكرة الجوهرية هي وضع رمز خاص للمنظر الطبيعي، و إحياء إحدى الذكريات.  [tu possi rivedere e tu] 
وهذا الرابط بين المنظر الطبيعي والذاكرة يوجد بشكل أكثر دقة في أحد أعمال ليوناردو المؤرخة في وقت سابق، والذي في الحقيقة هو منظر طبيعي، مرسوم بالقلم والحبر، وهو الآن في الأوفيزي. (لوحة2). إنّه رسم صغير بالفعل- أبعاده 7.5 ×11 بوصة، أقل قليلاً فقط من فرخ ورقة من عيار  A4- ولكن كعمل فني فهو مثير وفسيح بصورة مدهشة. فهو يظهر مشهداً متجدداً للتلال الوعرة شديدة الانحدار، والوهاد المشبّعة بالمياه والتي تمتد حتى الهضاب البعيدة على خط الأفق. وللعمل هيئة رسم تخطيطي تم تنفيذه على عجل: فخطوط قلم الحبر سريعة، وإيحائية، وانطباعية، وفي بعض الأحيان تجريدية- الأشجار على جانب اليد اليمنى من الرسم- على سبيل المثال- بيد أنّ المنظر الطبيعي بامتداداته وتعرجاته قد ضُبِط بتفصيل رائع: قلعة منتصبة على لسانٍ بحري، ومراكب صغيرة في الأهوار، وشلال. وهذه المناظر بدورها تقود العين خلال تفاصيل المشهد، وصولاً لما يبدو وكأنّه نقطة تركيز المشهد0 حيث تنتصب من سديم السهل-فجأة- هضبة بعيدة مخروطية الشكل، يعلوها برج. وهذه الميزة أيضاً تسهم في التعرف على المنظر: فالهضبة المخروطية هي هضبة مونسومانو بكل تأكيد (أو[Monsomano]   كما يكتبها ليوناردو على واحدة من خرائطه).  وتقع هذه الأخيرة إلى الشمال الغربي من فينشي، وتبعد حوالي ثمانية أميال بينما يحلّق الغراب، مسيرة ساعتين على الطريق الذي ينحدر إلى الأسفل عبر لامبوريكشو ولارشيانو. إننا على وجه التحديد في مشهد من طفولة لوناردو. فإن كانت تلك الرابية هي مونسومانو فبالإمكان استنتاج بقية معالم المشهد: الأراضي السهلية هي مسطحات فوتشيكيو المائية التي تقع جنوب غرب جبل مونسومانو، وما وراءه من جبال هي فال دي نيفولي؛ وهكذا. فهذه هي العناصر التي تشكّل المشهد، ولكن حالما يحاول المرء أن يقارنها بخارطة للمنطقة- أو مناظر حقيقية من الهضاب ذاتها- يعود المشهد في الحال إلى لغزٍ كما كان. الهيئة المميزة لمونسومانو واضحة للعيان من عدة مواقع متميزة في جبل البانو، ولكن لم يجد أي شخص بعد النقطة المعينة التي توفر إمكانية الحصول على هذا المشهد المعين.  واعتقادي الخاص، كوني تتبعت المنطقة بحثاً عنها، فإنّه لا وجود لمثل هذه النقطة. فالقلعة أو القرية المحصّنة على يسار مقدمة الصفحة هي مشكلة حقيقية: لا يمكن إيجاد أي واحدة من الدلائل المشار إليها- مونتيفيتوليني، أولارشانو، أوبابيانو- في ذلك النوع من العلاقة المكانية بمونسومانو. وهنالك مشكلة أخرى تتمثل في أنَّ النظر إلى مونسومانو من عبر المسطحات المائية يحتّم عليك التواجد في مكان ما على الهضاب البيزية، ولكن إن كنت هنالك، فمونسومانو الآخر سوف لن يكون بالهيئة التي عليها في الرسم. باختصار، ليس الرسم سوى مشهد مُتخيَل أو مثالي للطبيعة المحيطة بفينشي. إنّه يتضمن أماكن حقيقية، ومرسومة بشكل جميل ونابض بالحياة، ولكنّه ليس منظراً حقيقياً. ولا يمكن العثور على ما يظهر في المنظر ولا تصويره، بيد أنّه قابل لإعادة التجميع، بشيء من التصرف، ومن خلال الفن التصويري الخدّاع(الكولاج). 
أو ربما يمكن إعادة رسمها عن طريق الطيران فوق الأرض بواسطة طائرة شراعية يدوية (اعترف أنني لم أقم بهذه المحاولة)، ولأنّ أقوى الآراء يرجّح النظر من علٍ أو من الجو لأخذ مشهد كهذا. إنّه مشهد مصوّر بزاوية عين الطائر: هذا هو ما تراه المخيلة عندما ترتفع عن الأرض. ويستحضر المرء عبارة في مخطوطة تورين حول طيران الطيور: " حركة الطائر"- وبعبارة أخرى "الطائر الكبير" أو الآلة الطائرة- " يجب أن تكون دائماً أعلى من الغيوم، حتى لا يصيب البلل جناحيها، وبذلك يصبح في مقدور المرء رؤية مساحات أكبر من الأرض.Per iscorprire piu paese"": وهذا ماتم تحقيقه بالضبط، قبل ثلاثين عاماً، في زاوية نظر رسم إوفيزي مرتفعة الإسقاط.  
في الركن الأعلى ناحية اليسار من الرسم، وهو أقدم مثال معروف لخط يده، كتب ليوناردو:" Di di santa Maria della neve addi 5 daghossto 1473" أي (" في الخامس من أغسطس 1473 عيد سيدة الثلوج"). هذا يدلنا على أنّه نفّذ الرسم في عمر الحادية والعشرين بعد أن كان يعيش ويعمل في فلورنسا لبضع سنوات. وربما كان ذا صلة بخلفية منظر لوحة معمودية المسيح لفيروكيو، والتي تم تقليدها حوالي عام 1473 والتي من المعروف أنّها تحتوي على إضافات بريشة ليوناردو. وجاء تأريخ  الرسم على وجه الدقة أيضاً ليشير إلى دلالة ما على اللوحة نفسها، لأنَّ احتفال عيد سيدة الثلوج كان يقام في كنيسة صغيرة خارج حصن قرية مونتيفيتوليني. وتدعى هذه الكنيسة الآن اوركسترا سيدة الثلوج، وتقف على بعد ميل أو نحوه بالضبط من السفح الجنوبي لجبل مونسومانو. ويعود حجر أساس الكنيسة في تأريخه إلى القرن الثالث عشر، و كانت معبداً أو كنيسة متواضعة، أصغر مما هي عليه اليوم، ولكنّها من الأهمية بما يكفي لاحتضان لوحة جصّية جميلة جداً للعذراء والطفل محاطين بأربعة من القديسين، وقد كان أسلوبها مقارباً لأيقونة المذبح الكورانيزية (1425) والتي رسمها جينتيلي دا فابريانو. 
وقد بدأت قصة سيدة الثلوج كأسطورة حول إيجاد كنيسة القديسة مريم الكبرى، على هضبة الإسكيلين في روما. وبحسب القصة، فإنَّ موقع الكنيسة قد حُبي بمعجزة تساقط الثلوج على الهضبة في الصيف.  
وقد تأسست الكنيسة في القرن الرابع، ولكن الأسطورة لم تظهر إلا في حقبة العصور الوسطى. وسيدة الثلوج كانت واحدة من الصور الطائفية العديدة لمريم العذراء التي انتشرت في جميع أنحاء إيطاليا آنذاك. وقد رُبطت بالقوى الخاصة، وكانت كنائسها في أغلب الأوقات، كما في مونتيفيتوليني، قد بنيت خارج أسوار البلدة أو القرية. 
ويشير لوقا لاندوتشي، كاتب المذكرات من القرن الخامس عشر إلى القوى الشفائية لصورة أخرى للسيدة " في معبد على مرمى سهم من بيبونا".  
وقد كان الاحتفال بعيد سيدة الثلوج يوم الخامس من أغسطس يقام في كنيسة  مونتيفيتوليني لقرون من الزمان، وما زال يُحتفى به، بيد أنَّ النساء المسنات الجالسات خارج المنازل في ضوء الشمس الغاربة سوف يخبرنك بصوت واحدٍ بأنَّه لم يعد كما كان. عندما كانت القرية تعج بالزوار(كُنَّ قد استخدمن كلمة invitati أي الضيوف). ويعزى تضاؤل الإقبال إلى شباب اليوم، الذين يتسكعون دائماً هنا وهناك[sempre in giro]، ولا يجدون وقتاً لمثل هذه التقاليد.  ولا يبدو أنَّ هنالك مناسبة ما حتى اقتراب الشمس من مغيبها، حيث تبدأ عندئذٍ الساحة خارج الكنيسة في الامتلاء فجأة.  
وتحتشد مجموعة من الرجال في قمصان بيضاء بأكمام قصيرة: إنّها فرقة مشاة المدينة. وتُخرج شاحنة حمراء قديمة مظلةً فتتحول إلى مطعمٍ للوجبات الخفيفة. يصل القس بردائه المطوي فوق يده. وتحمل صورة السيدة- ليست قديمة جداً ولا ذات علاقة واضحة بالثلج- خارجاً إلى سقيفة الكنيسة، مغطاة بستائر من قماش التافتا الأزرق الشاحب. يُقام القداس، ثم يبدأ الموكب منعطفاً من عند الكنيسة لينتظم في مسار دائري حول قاعدة سور القرية- هضبة مونسومانو تبدو عظيمة باتجاه الشمال- ثم يدخل من بوابة بارباكشي العتيقة. يتلو القس الصلوات من خلال الضغط على زر مكبر الصوت؛ وصورة السيدة مرفوعة عالياً، محمولة على كرسيها الحمّال بواسطة أربعة رجال شداد. رائعة للغاية هذه النزهة على الأقدام في غسق إحدى امسيات أغسطس الدافئة ولا تخلو من سوريالية أيضاً. تتلألأ الأنوار في الوهاد الغائرة، والبطء الذي يلازم الفرقة يبدو حتى في أقصى حالاته جديةً مفشياً لآثار البهجة ومخبراً عنها.
المشهد، والتأريخ، والاحتفال المحلي الذي كان حاشداً ، و كان كل منهما سبباً فيه: كيف لكل هذه الأمور أن تجتمع معاً؟ 
الوصول إلى إجابة ما يحتّم علينا أولاً أن نطرح سؤالاً آخرَ: أين كان ليوناردو دا فنشي في 5 أغسطس 1473؟ وبدراسة قطعة الورق هذه من شكله الظاهري فقط نخلص إلى أنّ ليوناردو كان جالساً إلى دفتر الرسم خاصته على جانب التلة في  مكانٍ ما قرب فينشي منهمكاً في هذا الرسم الرائع. وقد يحتج البعض بأنَّ على ظهر الورقة دليلٌ إضافيٌ على هذا الافتراض. هنا يرى المرء رسماً آخراً لمنظر- غير مكتمل، ومقتضب- و عبارة غامضة ومكتوبة على عجل تقول: " Io morando dant sono chontento" يمكن فهم الكلمة dant كاختزال لـ d'Antonio، ولكن يظل المعنى العام للعبارة غامضاً. وقد ترجمها براملي لتصبح بمعنى: " أنا أقيم مع  أنطونيو، أنا سعيد". ويبرر ذلك أكثر، بأنّه بينما لا يمكن أن يكون هذا الأنطونيو هو جد ليوناردو الذي مات قبل بضع سنوات، فلابد أنّه زوج أمّه، أنطونيو بوتي، والذي يعرف أيضاً باكاتابريغا. وهذا يدل على أنَّ الرسم قد تم تنفيذه أثناء زيارة لبلدة فينشي، بينما كان يقيم مع والدته وعائلتها في كامبو زيبي ويشعر بأنّه "سعيد". الهروب من المدينة في أغسطس- إلى أين سيذهب بعد سوى أن يعود إلى فينشي؟ ولكن هذا التفسير تخميني. 
كارلو بيدريتي يفسر العبارة على أنّها مجرد شخبطة مستقلة لإعادة صياغة ما أو صقل كلمات افتتاحية لبعض العقود: " I, Morando 'Antonio, Agree to….." وإن كان هذا صحيحاً، فسوف لن تحمل الكلمات أي معنىً شخصي، ولن تقدم أي دليل على وجود ليوناردو في بلدة فينشي.  ربما كان ببساطة في فلورنسا، وفي هذه الحالة يكون الرسم معتمداً على المخيلة والذاكرة: إنها مشهد فينشي اجتمع في ذاكرة العقل، ذكرى لتمشية فوق الهضاب لمعرض صيفي في مونتيفيتوليني. هذه هي الطريقة التي يحلل بها بيدريتي الرسم: كمشهد جدلي- دراما بصرية، قطعة من المسرح- متمركزة في الأيقونة الذكرية لمونسومّانو. 

مشهد وجناح. جزئية من بشارة ليوناردو، 1470-1472
أثبت بحثي عن المشهد "الحقيقي" لهذا الرسم عدم جدواه، ولكني وجدت مشهداً أعتقد أنّه قد يكون مهمّاً. فمظهر مونسومانو "الذكوري" جليٌّ ليس فقط من المواقع العالية حول فينشي. بل يمكن رؤيته يلوح أمامك مباشرة (رغم المسافة التي تمتد لأميال عدة) على الطريق الذي يصل بين بلدة فينشي وسان بانتاليوني- الطريق- بعبارة أخرى- الذي قد يكون ليوناردو عرفه جيداً وهو طفل يمشي من وإلى بيت والدته في كامبو زيبي. قوتّه "الذكورية" قد تكون بذلك انطبعت على عين ليوناردو وذهنه في وقت باكرٍ جداً، ربما في ما يتعلق بأمّه. ولقد لاحظتُ أيضاً أنَّ صدى السمات الرمزية لرسم أوفيزي يتردد أيضاً في منظر بشارة ليوناردو، وهو عمل يعود في تأريخه إلى أوائل سبعينيات القرن الخامس عشر، وعليه فهنالك نوع من التزامن بينه وبين الرسم. وكما يمكن التعرف على الهضبة المخروطية ذاتها بنتوئها الشبيه بالحلمة(أصبحت أكثر وضوحاً منذ ترميمها في 1999). إنها على الأفق مباشرة إلى يسار زاوية ملاك البشارة؛ تقع على سطح الصورة متخللة حدبة جناح الملاك.  ومرة أخرى، وهو أقرب إلينا، يتردد صدى الرسم- هنالك عنقود طويل من الصخور التي تمتزج أعمدتها المائلة بانثناءات الربوة الأنثوية، ومابعد امتداد هذه الفسحات المكفهرات الطويلة لامتزاج الأرض بالماء مسفرة عن المستنقع الضحل أسفل بلدة فينشي. 
تكرار هذا الرمز يعزز من حس المرء بأنّه له-الرمز- جذوراً في وجدان ليوناردو، وإضافة الهضبة التي تأخذ شكل النهد، ويعيدنا ما يشبه جناح الطائر في الرسم مرة أخرى إلى تلك "الذكرى الأولى" للحدأة، والتي يفسرها فرويد على أنّها ذكرى للرضاعة من ثدي أمّه.   
.  

------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment