Sunday, March 24, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 3 - كاترينا





 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

3- كاترينا

"القلب لا يخفق، ولا الرئة تتنفس بينما الطفل في الرحم الممتليء بالماء، لأنّه إن كان سيتنفس فسيغرق في الحال. ولكن حياة الطفل تكون بتنفس الأم، وخفقان قلبها. "
المخطوطة التشريحية الجزء الثالث2، صفحة 11.  

حلّ الربيع في فينشي، وامرأة شابة تتهيأ لولادة ابنها الأول. ما نعرفه عن أمّ ليوناردو في هذه الفترة من بدايات 1452 يمكن تلخيصه بإيجاز شديد، فاسمها كان كاترينا. وهي في حوالي الخامسة والعشرين من عمرها. وكانت تحمل طفل سير بيرو دا فينشي، ولكنّه لا يريد، أو لا يستطيع الزواج بها. 
توصف كاترينا بشكل عام على أنها " فتاة فلّاحة" (contadina)، أو " خادمة" (servitore). وفي إحدى الروايات كانت هي ابنة قاطع الأخشاب في غريتو غيدي والتي كانت آنذاك منطقة غابات كثيفة بأشجار الصنوبر جنوب غرب فينشي. وهذه مجرد افتراضات: والأخير أكثر تنميقاً، ولكنه ليس بذي قيمة تأريخية. وكلها روايات مختلفة لافتراض أساسي وهو أنّ كاترينا فقيرة، وفتاة من طبقة أدنى، وأنّ هذا هو السبب في عدم قدرة بيرو على الزواج بها. وقد يكون هذا صحيحاً، ولكنه ليس السبب الوحيد الممكن لرفض بيرو لها. الشيء الآخر، والذي ربما انطوى على ضغط أكبر، هو أنّه  كان مرتبطاً بالفعل. وقد تزوج بابنة أحد كُتَّاب العدل الفلورنسيين الأغنياء، التي تدعى البيرا في 1452- بعد ثماني سنوات على الأكثر من ولادة ليوناردو. وقد كانت عروسه في السادسة عشرة من عمرها. وعلى ما يبدو أنَّ الزواج والاشتراطات المالية التي رافقته، قد تم الترتيب لها مسبقاً. وربما كان رفض كاترينا الحبلى على ذلك مسألة عقد، في عالم دا فنشي العدلي هذا، كما أنّه وبالدرجة ذاتها مسألة طبقية. وقد تم مسح النظام القديم لتسجيل الأراضي بحثاً عن إشارة ما لها أو لأسرتها في بلدة فنشي، ولكن لم يتم العثور على أية كاترينا تشابهها. (وقد عرف أنَّ تأريخ ميلادها التقريبي 1427 من وثيقة لاحقة). غيابها الجلي عن نظام تسجيل الأراضي ببلدة فينشي كان يعتبر بمثابة بيان تواضع أصولها، بيد أنّه قد يبين ببساطة أنّها قد جاءت من مكان آخر. 

وقد كانت كاترينا تلك كامرأة شابة فقيرة دون أرض أو مكانة اجتماعية تبدو معقولة للغاية، ولكن الحقيقة المثيرة للاستغراب أنّ السير القديمة لليوناردو التي تناولتها بالذكر لم تقل كثيراً أو قليلاً سوى عكس ذلك تماماً: "Era per madre nato di buon sangue" – "إنَّه قد ولد من أمٍّ ذات أصل كريم." كاتب هذا التعليق هو أنونيمو جاديانو- أو المجهول الجاديّ- يكتب في وقتٍ ما من عام 1540- مصدر جيد، إلا أنّه ليس بمعصوم. وقد كان هو أيضاً أول كاتب سيرة يقول إنّ ليوناردو كان ابناً غير شرعيِّ.  ولم يذكر هذا الشيء ولا واحد من المصادر القديمة الأخرى- مثل بيلي، وجيوفو، وفازاري وغيرهم.  (في ما يخص فازاري، الذي يعرف بالتأكيد المخطوطة الجاديّة، لابّد أنّه اختار ألا يذكرها.) وربما كان ما ذهب إليه انونيمو بخصوص "الأصول الكريمة" لكاترينا معقولاً، بيد أنّه قد يكون وبالدرجة نفسها زيادة منه إلى خلق ثقل موازن لوصمة عدم الشرعية. 

ومهما كانت أصولها، فلابد أنّ الحمل بليوناردو كان ثمرة للحب: أي طفلٌ غير شرعي. ونحن لا نستطيع معرفة ما إذا كان الحب عابراً وجسدياً، أو كان بيرو قد "وقع بالفعل في غرام" كاترينا، ولكنّه اضطر إلى الزواج بأخرى. وفي صفحة ما من الرسومات التشريحية التي يعود تأريخها إلى حوالي 1507 كتب ليوناردو، " الرجل الذي ضاجع بعنف واضطراب سوف ينجب ابناءَ سريعي الانفعال وغير جديرين بالثقة: ولكن إن تمَّ الجماع بحب عظيم ورغبة من الجانبين سيصبح الطفل مفكراً عظيماً، وحاذقاً، ونشطاً ومحبوباً."  فالفكرة تقليدية- فكرة الوغد إدموند في الملك لير لشكسبير تشير إلى الشيء ذاته- ولكن ربما اعتقد ليوناردو أنّه ذو صلة بمفهومه هو. فإن صحّ ذلك، فربما يشير الأطفال سريعو الانفعال الذين كانوا نتاج الرابطة الخالية من الحب إلى إخوته الشرعيين غير الأشقاء والأصغر منه سناً بكثير، والذين دخلوا معه في نزاعات قضائية مريرة في السنة التي كتب فيها هذه الملاحظة. 

وبعد سنة أو نحوها من ميلاد ليوناردو، ربما أقل من ذلك، تزوجت كاترينا- وليود المرء أن يقول إنّها قد زُوجت- برجل من السكان. 

وكان يعرف باسم اكاتابريغا Accattabrighe، أو اكاتابريغيAccattabrighe ، وهو لقب يعني حرفياً " الشخص الذي يتسول[Accatta] الشجار [briga]، وبالتالي يعني " المشاغب" أو "المؤذي".  وربما كان وصفاً شخصياً، أو ربما كان يدلّ على أنّه قد كان جندياً، كما كان أحد إخوته، وكما سوف يكون ابنه. لقد كان اكاتابريغا لقباً شائعاً بين المرتزقة- والقبطان الفلورنسي الشهير في وقته جاكوبو دا كاستيلفرانكو كان يدعى كذلك. وفي هذا السياق فهو يعني بشكل عام " الرجل القوي". اكاتابريغا سُميَ لأول مرة زوجاً لكاترينا من قبل المصدر العليم انطونيو دا فنشي. في إقراره الضريبي لعام 1457 أدرج أنطونيو ليوناردو الذي كان في الخامسة من عمره ضمن مكفوليه، ووصفه بأنّه: "ليوناردو، ابن المدعو سير بيرو، وُلدَ له بشكل غير شرعي وكاترينا التي هي الآن زوجةً لاكاتابريغا".  الاسم الكامل لزوجها كان أنطونيو دي بيرو بوتي ديل فاكا. وفي وقت زواجه بكاترينا كان في حوالي الرابعة والعشرين من عمره- أصغر منها ببضع سنوات- وكان يدعى fornaciaio أي الفرّان. كما كان حارقَ كلسٍ، يعالج الأحجار المحلية لإنتاج المدافع الهاون، والفخار، والسماد العضوي. وقد كان فرنه في ميركاتالي، على طريق إمبولي على بعد أميال قليلة جنوبي فينشي؛ وقد استأجره من رهبان دير الشهيد سان بيير الفلورنسي. وتبين سجلات الدير أنّه قد استأجره ما بين 1449 و1453، وهو على الأرجح عام زواجه، وأنّه في 1469 قد استأجر من قبل سير بيرو دافنشي، ويجوز أنّه فعل ذلك إنابة عن أكاتابريغا. وفي يومنا هذا تقبع بناية صناعية صغيرة في ميركاتالي، على طريق إمبولي، وهو مكان أقرب إلى الطلل المهجور. 

عملت عائلة اكاتبريغا آل بوتي على مدى أجيال في الأرض في كامبو زيبي، على تلة منخفضة فوق نهر فينشو، وعلى بعد مسافة قصيرة مشياً غرب فينشي، في أبرشية سان بانتاليوني. وقد كانوا يملكون أرضهم، وقد كانوا بذلك أرفع من المزارعين المستأجرين، ولكنهم عاشوا حياة أقرب إلى الكفاف، ويرى المرء في السجل العقاري أنَّ قوس ثروة العائلة كان يتحرك إلى الأسفل طوال القرن الخامس عشر.   

وهنا جاءت كاترينا إلى الحياة مع زوجها، ربما بمهر دُفع من قبل دا فينشي، وهنا أقامت لعدة عقود بعد ذلك. أما مجيء الطفل ليوناردو معها فشيء غير مستبعد ولكنه ليس مؤكد. وفي مسح 1457 كان مدرجاً كعضو في أسرة دا فنشي، ولكن كان لهذا الشيء بعد مالي- فهو يساوي 200 فلورين كفمٍ ذي خصم ضريبي- وقد لا يعكس واقع الحال. والاحتمال- يقول الأسقف بيركيلي، هو أعظم دليل في الحياة، بيد أنَّ هذا ليس في كل الأحوال قاعدة عامة مناسبة لكاتب السيرة. اعتقد أنَّ الاحتمالية تخبرنا بشكل إجباري أنّ ليوناردو في سنوات طفولته الأولى قد أمضى كثيراً من وقته في كامبو زيبي، في كنف أمّه، وأنَّ هذه المستعمرة من البيوت المتواضعة قليلاً على طول سطح الحافة هي على نفس الدرجة مشهد طفولته مثلها مثل فينشي ذاتها، أو أنشيانو الذي هو أكثر تقليدية رغم ضعفه. كانت حياة سير بيرو في فلورنسا، مع زوجته الجديدة، ابنة كاتب العدل البيرا دي جيوفاني امادوري. إنّها زوجة أب ليوناردو في المدينة، مثلما هو اكاتابريغا زوج أمّه الريفي. كانت الخطوط العاطفية لطفولته معقدة بالفعل. وحوالي عام 1454 عندما كان ليوناردو في الثانية من عمره، أنجبت كاترينا ابنة. وقد عمّدت الابنة باسم بيرا، الشيء الذي تسببت في انفعالات غير ضرورية. رجع صدى محروم من الحب للسير بيرو؟ على الأرجح لا، فالبنت تمت تسميتها بشكل تقليدي بما يكفي، لتحمل اسم والدة اكاتبريغا، والتي تظهر في السجلات الضريبية باسم "مونا بييرا".  وفي عام 1457 ولدت ابنة ثانية، هي ماريا. وقد تم أخذ صورة للعائلة في الإقرار الضريبي بتأريخ 15 أكتوبر 1459: أكاتابريغا، و"زوجته مونا كاترينا"؛ وبيرا ذات السنوات الخمس، وماريا ذات السنتين. وهم يقيمون معاً في كامبو زيبي مع والد أكاتابريغا بيرو، وزوجة أبيه، أنتونيا، وأخيه الأكبر جاكوبو، وزوجة أخيه، فيوري، وابناء وبنات أخيه، ليزا وسيمون والطفل ميشيل. ويقيم البيت بعشر فلورينات، وأرضهم بستين فلوريناً. الأرض مزروع بعضها والبعض الآخر يترك بوراً، وتنتج خمسة جوالات من الحبوب في السنة، وكَرْمُهم ينتج أربعة براميل من النبيذ. هذه الأرقام تضعهم في مستوىً اقتصادي أقل من مستوى عائلة دا فنشي. 

وقد أتبع الأطفال بثلاثة آخرين بتعاقب سريع: ليزابيتا، وفرانسسكو، وساندرا. وبحلول عام 1463، سنة ميلاد ساندرا، تكون كاترينا قد أنجبت ستة أطفال في أحد عشر عام، قد تم تعميد الخمسة الشرعيين منهم دون شك في كنيسة أبرشية سان بانتاليوني الصغيرة، على الضفة الأخرى من نهر كامبو زيبي، وقد تهدمت اليوم ولم تعد تُستخدم كثيراً ماعدا من قبل الحمام الذي يخدش جيئة وذهاباً سقف الرواق ذي الأعمدة الحجرية. وقد ولد ابن كاترينا الشرعي الوحيد في 1461، ولم يعش طويلاً، فانضم إلى الجيش، وقتل في بيزا بطلقة من بندقية قاربٍ- قذيفة مدفعية- في الثلاثين من عمره تقريباً.  

ونحن نلمح اكاتابريغا ربما يحقق لقبه، في يوم من أواخر أيام صيف عام 1470. وهو يستمتع بيوم في الهواء الطلق في ماسا بيسكاتوريا، جنوباً في البادول، الهور الممتد بين جبل ألبانو والهضاب البيزية ناحية الغرب. إنّها عطلة دينية- لميلاد السيدة العذراء، 8 سبتمبر- ولكن أفسدت احتفالات القرية بسبب شجار أو شغب (كانت [tumultu]هي المفردة المستخدمة) وكان أكاتابريغا ضمن هؤلاء الذين استدعوا كشهود في استجواب قضائي بعد بضعة أسابيع. وقد كان رفيقه في ذلك اليوم شخص يدعى جيوفاني غانغالاندي، وقد وصف بأنّه طحّان- يملك أو يعمل في معصرة زيتون- في انشيانو. ومرة أخرى ندرك صغر عالم آل فينشي. 

وقد بدأ زواج كاترينا بانطونيو بوتي، والذي يعرف أيضاً باكاتابريغا، كزواج راحةٍ- الراحة السيدية لآل دافنشي، والذين مثلت كاترينا بالنسبة لهم مصدراً للحرج الاجتماعي، والراحة الأشد إلحاحاً على كاترينا نفسها امرأة ساقطة ومنبوذة في حالٍ هي مدعاة للشقاء بالنسبة للبعض. كان هنالك على الأرجح بعض التحفيز المالي لاكاتابريغا ليقبل بها، وربما كان الحافز الأكثر ضبابية هو ارتباط من نوعٍ ما بآل دافنشي الأثرياء. واستمر  أكاتابريغا في الظهور في تعاملات العائلة التجارية الصغرى. وفي 1472، في فينشي، شهد على عقد أرض لبيرو وفرانسسكو دا فينشي؛ وبعد سنوات قليلة كان في فلورنسا، يشهد على وصية صادق عليها سير بيرو. وبالمقابل اضطلع فرانسسكو دا فنشي بدور الشاهد - في أغسطس 1480- عندما جاء اكاتابريغا ليبيع أرضاً، قطعة صغيرة تدعى كافاغو، متاخمة لأراضي كنيسة سان بانتاليوني، وقد كان المشترون هم عائلة آل ريدولفي، الذين ابتلعوا جزءاً كبيراً من أرض آل بوتي على مدى السنين. ولكن إن كان الزواج قد ابتدأ مريحاً، تمرين في حل المشاكل الفينشية، فهو على الأقل كان طويلاً ومثمراً، وفي الإحصاء العقاري لعام 1487 وجدنا أنَّ اكاتابريغا وكاترينا ما زالا معاً، بأربعة من ابنائهما في السكن (ماريا قد تزوجت أو تعيش في مكان آخر أو ربما توفيت)، " مونا كاترينا" مدرجة في عمر الستين: الدليل الوحيد الموثق لتأريخ ميلادها. وقد كانت ملكية كامبو زيبي قد تم تقسيمها بين اكاتابريغا وأخيه، وقيَّماها على أنّها " نصف بيت" يساوي 6 فلورينات، ومن الأرض فقط ما فوق الهكتارين ونصف. 

نحن لا نعرف الكثير عن زوج أمّ ليوناردو، أكاتابريغا، الحضور المرتقب في حياة الطفل الأولى- ربما أكثر من أبيه الحقيقي وجدّه. وما نعرفه يضفي نكهة من الفقر الريفية، والعمل اليدوي، لعنف الرجل القوي- ولمحات، ربما للبيئة التي تنتظر هذا الطفل غير الشرعي إن لم يكن همه الشاغل هو الهروب منها.
توفي اكاتابريغا في 1490 تقريباً، وفي أوائل الستينيات من عمره، والذي تبقت بعده مغامرة واحدة أخيرة في حياة كاترينا، بيد أنّ هذا يأتي في فصل لاحق. 

----------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقلتأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment