ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
6- التحدث مع الحيوانات
للإنسان قدرة عظيمة على الكلام، ولكن ما يقوله في الغالب زائف وبلا جدوى، أما الحيوانات فليس لها من تلك القدرة إلا قليلاً، بيد أنّ ما تقوله حق وذو فائدة.
مخطوطة باريس الجزء السادس، صفحة96
كلبٌ راقدٌ نائمٌ على جلد خروف قديم؛ وشبكة العنكبوت على شجيرات العنب، شحرور وسط غابة من الأشجار الشوكية، ونملةٌ تحمل حبة دخن، وجرذٌ "محاصرٌ في بيته" من قبل ابن عُرس؛ غرابٌ يطير إلى قمة برج الجرس الشامخ وهو يحمل حبة بندق في منقاره-توجد جميع هذه الصور المجسِّدة للحياة الريفية بشكل بديع في أساطير[favole] ليوناردو، المكتوبة في ميلانو في بداية تسعينيات القرن الخامس عشر. وتمثِّل هذه الأساطير ينبوعاً زاخراً بمعارف الريف. وهي أيسوبية في خصائصها- وكما علمنا من إحدى قوائم كتبه أنَّ ليوناردو قد اقتنى نسخة من أساطير أيسوب- ولكنها تبدو أصلية بالنسبة له في خواصّها وصياغتها. إنّها قصص خفيفة، ولا يزيد بعضها عن بضعة أسطر، تُمنح فيها الحيوانات والطيور والحشرات صوتاً، وقصة تُحكى. وربما كانت لديها صلة- بحياة أحلام ليوناردو، كما تم تصويرها في تلك "النبوءة" التي اقتبستها في ما يتعلق بفانتازيا الحدأة عنده- " سوف تتحدث مع الحيوانات من كل نوع، وسوف تتحدث إليك هي بلغة الإنسان". ويبدو أنَّ فانتازيا الحدأة ذاتها تتناغم مع العالم الروحي للأساطير- فقد تكون في الغالب إحدى هذه الأساطير، ما عدا أنها ربما دارت لتعود من الجهة الأخرى وتُحكى من وجهة نظر الحدأة. " نظرت الحدأة يوماً ما من السماء، ولمحت طفلاً نائماً في مهده.." قد يود المرء أن يعرف ما ستنتهي عليه هذه القصة إن أُكملت. إنّه ليس من الغريب بالنسبة لطفل يعيش في عزلة وينشأ في الريف ليكوّن رابطة قوية مع الحيوانات، وحالما اصبحت جزءاً من حياته فهو سوف لن يذوق للسعادة طعماً في البعد عنها لفترة طويلة. ويقول فازاري من البدهيّ إنَّ ليوناردو أحبّ الحيوانات.
لقد كانت له متعة خاصة مع الحيوانات بجميع أنواعها، والتي كان يعاملها بحب وصبر مذهلين. فمثلاً كان عندما يمر بالأماكن التي تباع فيها الطيور يأخذها في أغلب الأحيان خارج أقفاصها بيده، ويدفع أي ثمن يطلبه البائع، ويتركها تطير بعيداً في الهواء، يعيد إليها حريتها المفقودة.
ويبدو أنَّ نباتيته الشهيرة جزءٌ من هذه العلاقة. (وليس هنالك دليل على أنّه كان نباتياً طوال حياته، ولكنه كان كذلك في سنوات لاحقة بكل تأكيد). ويصف خطابٌ من عام 1516 من المسافر الإيطالي بالهند، إندريا كورزالي شعب غوجارات بأنّهم: " أشخاص لطيفون...لا يطعمون من أي شيء ذي دم، ولا يسمحون لأي شخص بإيذاء أي شيء حي، مثل صاحبنا ليوناردو دا فينشي. أحد مساعدي ليوناردو المقربين، توماسو مازيني غريب الأطوار، والذي تبنى آراءَ مماثلة: " لم يكن ليقتل ذبابة لأي سبب كان، وكان يفضل أن يرتدي ملابس الكتّان حتى لا يرتدي شيئاً ما ميتاً."
وقد كشفت أساطير ونبوءات ليوناردو عن أنّه شخصٌ حساسٌ جداً حيال معاناة الحيوان، ولكن احترامه للمخلوقات لا يعتبر من قبيل العاطفية. وتحتوي المخطوطات التشريحية على كثير من دراسات الحيوانات، تتفاوت من قدم الدُبِّ إلى رحم البقرة: وهذه كانت بلا شك على أساس تشريحاته هو. وهنالك كانت تلك العظاءة "الغريبة المنظر"، والتي جلبها له بستانيّ البابا ذات يوم، وقد احتفظ بها في صندوق "ليخيف بها أصدقاءه حد الموت"، بعد أنْ أضاف لها الأجنحة والقرون واللحية، التي "ألصقها بمزيج من الزئبق". أما ما لم يتم تسجيله، فهو كيفية استمتاع العظاءة بهذه المزحة النادرة. لهذه الحكاية الفازارية شيء من لمسة الدعابة الطفولية، ولكنها صنفت في سنوات ليوناردو الرومانية، عندما كان في أوائل عقده السادس. وربما كانت أو لم تكن حقيقية. ويقول فازاري كان ليوناردو "دائماً ما يقتني الخيول". وهذه المعلومة في حد ذاتها ليست ذات أهمية- فالجميع سوى إيطاليا الفقيرة في عصر النهضة قد "اقتنى" جواداً- وعليه فيفترض المرء أنَّ فازاري يعني شيئاً أكثر: أنَّ ليوناردو على وجه التحديد كان ذواقاً للخيل. وقد يُستدل على هذا من الدراسات الجميلة العديدة للخيول في رسوماته التخطيطية. ويعود أقدمها إلى أواخر سبعينيات القرن الخامس عشر. وهي رسومات تخطيطية تمهيدية لعشق الرعاة والتي إما ضاعت أو (على الأرجح) لم تتجاوز مرحلة التخطيط. وفي محاولة لمواكبة التصور الأبسط لهذا الموضوع، فهي تبين الخيول الاعتيادية المألوفة من النوع الذي قد يكون عرفه في المزرعة. الخيول المرسومة من الخلف، تقضم العشب، نحيفة وخرقاء قليلاً. والمزاج الواقعي ذاته من غير تجميل في رسم تخطيطي مماثل (نوع الورق متطابق) يظهر الثور والحمار. وبعد فترة قليلة تأتي دراسات تبجيل المجوس غير المكتملة (1481-1482)، والتي يظهر فيها عدد من الخيول وفارس واحد في الخلفية. وهذه اللوحة كانت أكثر حركة ورومانسية. وقد كانت إحدى هذه الدراسات المبكرة- الحصان والراكب دون سرج سابقاً ضمن مجموعة براون في نيوبورت، جزيرة رودس- وهي الآن أغلى لوحة في العالم. وقد بيعت في كريستي في يوليو 2001 مقابل 12 مليون دولار أمريكي، في مستوى واحد مع الرقم القياسي العالمي لمجموعة دراسات رسم لمايكل آنجلو للمسيح الرفيع(العارج إلى السماء) في السنة السابقة. وقد كان الرسم التخطيط لليوناردو في حجم بطاقة البريد، والذي بيع مقابل ما يقل قليلاً عن مليون دولار لكل بوصة مربعة منه. وهنالك عدد كبير من الدراسات اللاحقة للأحصنة- لتمثال فارس فرانسسكو سفورزا (1488-1494)، ولجدارية معركة أنغياري (1503-1506)، وللنصب الجنائزي للكوندوتياري جانزاكوكومو تريفولزيو (1508-1511)- ولكن كانت الرسومات التخطيطية الفلورنسية من أروعها. وتلك التي تشمل أحصنة العربات، والوكزات من طفولته الزراعية أكثر من الجياد الحربية والشاحنات التي تلزم المهام الأخيرة الأكثر عسكريةً.
رسم الأحصنة كان شيئاً لم يستطيع ليوناردو منع نفسه من ممارسته- شاهد رسم العربة العسكرية التي تجرّها الجياد في ويندسر. الهدف من الرسم هو الآلة الرهيبة ذاتها، بعجلاتها المسننة ومدارسات القذائف المدفعية، ولكنه لم يستطيع مقاومة التفرقة بين الجوادين اللذين يسحبان العربة، واحد منهما يظهر بأذنين مثقوبتين، وعينين يقظتين، كأنما لو هالته رؤية منظر مفاجيء. ومرة أخرى هذه هي أحصنة المزرعة أكثر من جياد الحرب: إن قمت بتغطية العربة، فلن يكون هنالك سوى فريق من شخصين يسحبان عربة أو محراثاً. يوجد في المتحف البريطاني رسم تخطيطي لأحد الكلاب، واضح وطبيعي لدرجة مذهلة، ولقد أغراني ذلك بالجزم بأنّه-أو أنّها، إذ تبدو كلبةً- كانت لليوناردو. إنّها صغيرة، ضعيفة البنية، من نوعٍ تيريار الناعم الشعر الذي ما زال موجوداً في جميع أنحاء إيطاليا. شخصيته مصوّرة على نحو رائع. يجلس الكلب طاعة أكثر مما يفعل اختياراً- الأذنان منسدلتان إلى الاسفل في أسلوب تزلّفٍ، والفم يكاد يكون مبتسماً، ولكنَّ العينين مفتوحتان في يقظة على العالم الأكثر إثارة للاهتمام إلى ما بعد أولوية سيده المؤقتة. وهنالك رسومات أخرى لليوناردو تظهر كلباً شديد الشبه بهذا، ولكن لا تنطبق عليه مقولة "أنّهم جميعاً حيوانات من النوع نفسه". وقد وُجد رسمٌ تخطيطيٌ بالطباشير الأحمر لكلب في منظر جانبي- في كتيّب جيبٍ يعود لأواخر تسعينيات القرن الخامس عشر، هذا بعد عشرين ونيف من السنوات من رسم الكلب الجالس طواعية في المتحف البريطاني، وعليه فهو بالتأكيد يظهر فرداً مختلفاً في أغلب الأحوال.
دراسات للحيوان: الأعلى: ثور وحمار، راكب دون سرج، دراسات تمهيدية للوحات فلورنسية. أدناه دراسة لكلب جالس وقطة، ودراسة جانبية نسبية لكلب.
إحدى اللحظات الليوناردية المحفورة المضيئة لدي تتعلق بالكلاب. على صفحة من مخطوطة باريس، دفتر بحجم متوسط، كان يستخدم في حوالي 1508، وهو موجود في نص قصير، يحمل شكل أحد "بياناته" أو "خلاصاته" العلمية، بيد أنّ عنوان النص يقول في الواقع: "Perche li cani oderan volentieri il culo l'uno all'altro- " لِمَ تشمُّ الكلاب عن قصد مؤخرات بعضها البعض؟؟ (أحبّ "عن قصد" تلك). والتفسير الذي يقدمه لنا هو هو أنّها تبدأ تخمين "قيمة اللحم" [virtu di carne] التي يمكن أن تستدل عليها من هنا:
يحتفظ براز الحيوانات دائماً ببعض العناصر الأساسية لمنشأه. والكلاب لديها حاسة شم قوية إلى حدّ أنّها قادرة على أن تعرف من خلال أنفها العنصر الأساسي المكوّن للفضلات. فإن كانت تعرف عن طريق حاسة الشم كلباً قد تغذى جيداً، فإنّها تحترمه، لأنها تعتقد أنّ له سيداً قويا غنيا، وإن لم تتعرف على مثل تلك الرائحة لذلك العنصر [على سبيل المثال اللحم] فإنّها تحكم على الكلب بأنّه من طبقة وضيعة، ولديه سيد فقير ومتواضع، ولذلك فهي تعضّه.
وفي هذا توازن بين الدقة- فالكلاب بالفعل تحصل على كل المعلومات الشمّية بهذه الطريقة- والمبالغة الفكهة للطائف علم النفس التي ينطوي عليها الأمر.
تظهر القطط في كلٍ من الرسومات المبكرة والحديثة، ومرة أخرى تبدو سبباً جيداً لأن نعتبرها كقطط تابعة لليوناردو، أو على الأقل لصيقة بمرسمه في قدرتها المجيدة في ذلك الوقت كصائدة للجرذان. وإن كانت رسوماته التخطيطية الرائعة للسيدة العذراء والطفل مع القطة (عمل آخر متروك أو مفقود من أواخر سبعينيات القرن الخامس عشر) قد نُفذت من الحياة، كما يبدو عليها أنّها كذلك بكل تأكيد، فربما استنتجنا أنَّ القطة التي تظهر فيها ليست فقط حقيقية ومعيّنة، بل هي قطة موثوقة أيضاً. فالطفل الذي يظهر يعانقها ويعصرها ويضربها؛ يظهر في بعض مراحلها أنَّ الحيوان يبدو ممانعاً، ولكنها موضع ثقة من أنّها سوف لن تعض الطفل. وقطة مرسم أخرى يمكن التعرف عليها في ملاحظة مقتضبة من عام 1494: " إن كنت تضع عينك عندما تنام بين النور وعين قطةٍ ما، فسوف يبدو لك أنّ النار تضرم في عينيها." وصفحة القطط الشهيرة في ويندسر- أو قطة واحدة في أوضاع عدة- هي واحدة من رسوماته الأخيرة، وقد نفذت على الأرجح أثناء سنواته في روما 1513-16. وبالمزيد من التمعن يظهر لنا أنَّ واحدة من القطط هي تنين صغير الحجم.
وإنّي لأجازف بملحق لفازاري: أنَّ ليوناردو كان "يقتني الكلاب والقطط دائماً" مثلها مثل الأحصنة؛ وهي الحيوانات التي كانت جزءاً من حياته.
----------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment