Sunday, March 24, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 5 - في المعصرة





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

5- في المعصرة

ثمة منزل حجري كبير على حدود فينشي تماماً، على الجانب الأيمن من الطريق المتجه شمالاً إلى بيستوي، يدعى مولينو ديلا دوتشا وهو الآن منزل خاص، ولكنّه كان ما يزال إلى عهد قريب معصرة زيتون عليها عبارة" Molino della Doccia di Vinci". وقد تم تحرير هذا في حوالي 1504 أو 1505، كماهو مفترض في زيارة عودة إلى الوطن.  وهو يعود إلى الحقبة الزمنية ذاتها التي كتبت فيها الملاحظة حول الحدأة، وربما هي الأخرى لا تخلو من محفزٍ للتذكّر. وبالوقوف هنالك لدى الطاحونة ديلا دوشّا تحيط به مناظر وروائح طفولته. 

كان ليوناردو صبياً ريفياً. وقد نشأ، إن تحدثنا بشكل عام- على المزرعة- سواءً أكان  في حصة زوج أمّه الصغيرة في كامبو زيبي أو في عقارات جده المتوسطة حول فينشي- ولقد كان غارقاً من سنوات عمره الأولى في عالمٍ من الإنتاج الزراعي: من حرث وحفر وزراعة، وحصاد لبساتين وحقول الحبوب، والكروم وحدائق الزيتون.  كان زيت الزيتون هو المنتج الشهير والنموذجي لريف هضبة إقليم التوسكان  أكثر من النبيذ حتى. بجانب المزايا الطبخية، كان الزيت يستخدم كوقود للمصابيح، وكزيت تشحيم، وكدواء أو مرهم، وللعديد من الأغراض العملية الأخرى. وكان حصاد الزيتون في فينشي وآلاف الأماكن الشبيهة مناسبة يشارك فيها المجتمع بكامله، وما زالت لها مكانة خاصة في الحياة القروية بإقليم التوسكان.  وتقول أغنية ريفية قديمة أنَّ الزيتون يصبح جاهزاً للقطاف بحلول أول اكتوبر- 'Per Santa Reparata[8 October] l'oliva e oliata' – ولكن في الحقيقة إنَّ الحصاد مناسبة تمتد إلى أسابيع عديدة بين شهري أكتوبر وأوائل ديسمبر. ويتم إسقاط الثمار بعصي طويلة، من جذع عشب قنا القيصوب، والذي ينمو بوفرة على طول الأنهار. وتحتوي إحدى "نبوءات" ليوناردو على صورة لقطاف الزيتون:" هنالك سوف ينسكب من صوب السماء ذلك الذي يعطينا غذاءً وضياء." فالإجابة لهذه الأحجية هي "الزيتون المتساقط من أشجار الزيتون".   وقد جُمع في السلال، وأُخذت الثمرة إلى مطاحن الزيتون مثل مولينو ديلا دوتشا ليتم طحنها وعصرها. اليوم تتجه مطاحن الزيتون إلى استخدام الطاقة الكهربائية أكثر من المائية أو الحيونات، ولكن البعض ما زال يستخدم النظام الأوَّلي للطحن الحجري  والعصر بعزم اللي الذي كان يُستخدم في حياة ليوناردو. والهواء الفلورنسي المعطر الندي، والأرض الزلقة، وجرار الزيت المخضر الغامق، الزيت البكر المقدّر، جميعها ظلت كما هي، لم تتغير. 

وبجانب رسم ليوناردو التخطيطي لعصر الزيتون في مولينو ديلا دوتشا، والتي كانت مصدر إلهامه بكل وضوح، توجد آلية أكثر تعقيداً وهي التي أوضحها بالعبارة : [Da macinare colon ad acqua] – أي " لطحن الألوان مائياً". هذا يذكرنا بأنَّ الرسام هو الآخر كان يعالج ثمار ومنتجات الأرض. فالألوان التي استخدمها تأتي من النباتات، واللحاء، والتراب والمعادن، والتي تعيّن طحنها وسحقها لتحويلها إلى صبغة مطحونة جاهزة للاستخدام. فهنالك إشارات متكررة إلى عمّال المرسم الذين يقومون بمهمة طحن الألوان"، باستخدام المدق والهون اليدوي. فالآلة التي نُفذ لها الرسم التخطيطي على هذه الورقة تم تصميمها لميكنة هذه المهمة.   

 [عمل زراعي، من ورقة رسم تعود للفترة 1506-1508]


[ماكينة لطحن الألوان مستوحاة من معصرة زيتون فينشي]

وهنالك رابط بين معالجة الزيتون في معصرة الزيتون، ومعالجة الألوان في ورشة الرّسام. الرابط يغدو أكثر التصاقاً عندما يتذكر المرء أنَّ ليوناردو كان فناناً بارعاً في استخدام ألوان الزيت. والزيوت المستخدمة بشكل شائع في أعمال التلوين كانت هي زيت بذر الكتان وزيت عين الجمل(الجوزة): لقد جرب ليوناردو خلال حياته مزج عدد من المركبات بإضافة أنواع مختلفة من التربنتين، وبذور الخردل المسحوقة، وما إلى ذلك- ولكن كانت هذه هي المثبتات. ويتم إنتاج كليهما بالطريقة ذاتها، وباستخدام النوع ذاته من الآلات، مثل زيت الزيتون (والذي لم يكن يستخدم في التلوين بشكل عام لأنّه كان كثيفاً جداً). وتشير إحدى الملاحظات المدونة في مخطوطة اتلانتكس إلى انخراطه بشكل شخصي في عصر زيت الجوزة: " بذور الجوز محاطة بقشرة سميكة مثل الجلد، وإن لم تقم بإزالتها عند استخلاص الزيت، فإنّها ستصبغ الزيت، وعندما تستخدمه فإنَّ القشرة تنفصل وتصعد إلى سطح اللوحة، وهذا ما يؤدي إلى تغييرها[ فقدان اللون على سبيل المثال].  

وهنالك رسومات أخرى لمعاصر الزيتون في مفكِّراته، والتي تتفق تماماً مع سياق إنتاج الزيت للتلوين هذا. وآلية الحصان المسحوب الموصوفة بأنّها "معصرة للزيتون والمكسّرات" قد تم تحليلها عن كثب في واحدة من مفكِّرات مدريد. ومواصفاتها دقيقة للغاية: " عرض قطعة الحديد المشار إليها أصبعٌ واحدٌ،" و" الكيس الذي يحمل المكسّرات أو الزيتون مصنوع من الصوف السميك، منسوج مثل طوق سرج البغل." 

وثمّة استمرارية-هنا- منذ الطفولة. فطواحين زيتون فينشي تمثِّل نوعاً من نماذج ورشة عمل الفنان: الطحن، والعصر، والرائحة اللاذعة للزيوت الطازجة. 

النشاط الريفي الآخر الذي شهده ليوناردو كطفل هو نسج السلال المجدولة من نبتات شجر الصفصاف(wickerwork baskets). وهو أحد اختصاصات الإقليم الذي تكثر فيه نباتات شجر الصفصاف (ٍSalix viminalis). وهو في الحقيقة ذو صلة وثيقة باسم فينشي، وعليه فقد كانت له جاذبيةً خاصةً عند ليوناردو. 

وقد تناوله ليوناردو في أيام شهرته وما بعدها في العديد من الحِكم والأقوال والنقوش، بحيث يكاد ألا يخطيء هدفاً أو غرضاً في فينشي. وفي الحقيقة ليس لأصل الاسم أية صلة بالمسألة: فهو قد جاء بدقة من كلمة إيطالية قديمة للصفصاف هي Vinco (Latin vincus). ونهر فينشو الذي يشق مدينة فينشي- دون خفاء- (هو النهر حيث ينمو الصفصاف)، والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية Vinculus، بمعنى الرباط (وقد استخدم الصفصاف بكثرة في التجليد)، وهو مذكور في الأدب الإيطالي الذي يصف الأنواع المجازية من الصلات والروابط، كما في "روابط الحب العذبة(dolci vinci)" لدانتي.  لتعقب أصل الكلمة قليلاً، فإنَّ المفردة اللاتينية vincus ترتبط بالمفردة النرويجية القديمة لنبتة الصفصاف، فايكر، والتي جاءت منها الكلمة الإنجليزية "wicker"، مثلما في كلمة wickerwork أي الجدل أو النسج على شكل جدائل، وأيضاً "weak" والتي من معانيها الأصلية المرونة. 

وقد أخذ ليوناردو صنعة نسج الجدائل المحلية هذه وجعلها شعاراً خاصاً له، وتكاد المرء يجزم بأنّها "شعاره". وتوجد هنالك سلسلة من أعمال الحفر على أساس تصميماته- والتي ربما نُفذت في فينشي بعد عام 1500 بوقت وجيز، والتي تظهر نقوشاً متشابكة ومعقدة، وفي وسطها تظهر عبارة " Academia Leonardi Vinci". أي مدرسة ليوناردو دا فينشي- واللعب على الدلالة المشتركة لفينشي والصفصاف مقصود دون شك. نيكولو دا كوريجو السمسار والشاعر معروف عنه ابتكاره " الفانتازيا الفنشية" - والمفترض أنّها تصميم عُقَدي من نوعٍ ما- من أجل ماركيزة مانتوفا، إيزابيلا ديستي، في 1492.   وبلا شك لم يستطع ليوناردو مقاومة التورية في اسمه، وربما كان جزءٌ من جاذبيتها إنّها هي الأخرى تحمل ذكرى جدائل الصفصاف التي رآها في أنحاء فينشي عندما كان طفلاً. وقد اعتبر النسج عملاً نسوياً، وليس من المستبعد أن تكون كاترينا قد مارسته، وعليه قد تكون نقوش عُقد ليوناردو إعادة لرسم حركات أنامل أمّه الساحرة بينما هي تجدل نبتات الصفصاف لتصنع منها السلال ولكن هذه المرة على الورق. ولقد كان ينفذ بالفعل هذا النوع من التصميمات خلال السنوات التي قضاها في فلورنسا، إذ يذكر في إحدى قوائم رسوماته التي كتبها حوالي 1482 " Molti disegni di groppi" ("عدد من رسومات العُقد"). وقد كانت هذه بلاشك نقوشاً عُقدية من النوع الذي تم إثباته لاحقاً من خلال نقوش فينسيا: يستخدم فاساراي المفردة groppo بالتحديد في حديثه عن هذه النقوش.  وتوجد هذه الجدائل المتقنة والعُقد أيضاً في النقوش التي تزيّن فساتين الموناليزا والسيدة العذراء والوشي الموجود في فساتين الموناليزا والسيدة والفاقم، في ضفائر الشعر وتطريز المياه، وفي الخضرة المنسوجة لنماذجه الجصّية في قاعة المجلس في ميلانو. ويشير جيوفاني باولو لاموزو إلى الأخيرة عندما يكتب، " رأينا في الأشجار اختراع ليوناردو الرائع، الذي يجعل الفروع جميعها تشكل عدداً من النقوش العقدية العجيبة".  ويبدو أنَّ لامازو قد فهم الصلة الأساسية عندما يستخدم الفعل [canestrare] ليصف إنشاء هذه النقوش العُقدية: فهو يعني بالضبط " ما يشبه نسج السِّلال". 

 [جدائل. تصميم عُقدي ل"أكاديمية ليوناردو" (الأعلى)، وشعر مضفّر في دراسة لرأس ليدا]

وهكذا فإنَّ "فينشي" انبثقت أصلاً من- وبطريقة ليوناردية فريدة- عنفوان نصر الجنود، كما تمثّله قلعة كاستيلو غيدي، إلى الأشكال المتناقضة الدائرية عديمة الجدوى لفينشي المعقدة- إنّها فانتازيا، وأحجية بصرية، وسؤال ظل بلا إجابة إلى الأبد. 

-------------------------

 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment