ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
9-المرسم الميلاني
بحلول أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر كان ليوناردو قد أسس مرسمه الخاص في مدينة ميلانو. وكان بالأساس نسخة من مرسمه الفلورنسي الذي تدرب فيه- ورشة أو بوتيغا لتنفيذ الأعمال المطلوبة تحت إشراف وتوجيه المعلم، وبعض منتجاتها مثل لوحة سيسليا كانت في الغالب أعمالاً خالصة له. وربما تم تنفيذ أعمال أُخرى بيد المساعدين العاملين تحت إشرافه، يتخلل ذلك بعض التدخلات الخبيرة والتصحيحات من جانبه. هذا هو النمط الذي كان عليه المرسم الذي وصفه زائر لمرسم ليوناردو الأخير في فلورنسا"dui suoi garzoni fano retrati, e lui a le volte in alcuno mette mano"- " ، حيث صنع اثنان من مساعديه نسخاً وكان هو من وقت لآخر يضع لمساته عليها." في بعض الأحيان كان المساعدون يعملون- من قالب أصلي من صنع ليوناردو، سواءً أكان لوحةً أو كارتوناً- أو في بعض الأحيان يعملون بحرية أكثر في حدود أسلوب عام، أو "مظهر" يمثل العلامة المميزة. وكما رأينا، بعض العقود ميّزت مالياً بين المعلم ومساعديه. وفي ملاحظة مكتوبة حوالي عام 1492، وبالتالي فهي تتحدث عن المرسم الميلاني، ينتقد ليوناردو " الرسامين الأغبياء" الذين يتذمرون من " عدم قدرتهم على إخراج أقصى طاقاتهم لأنّهم لم يتلقوا أجوراً مجزية": فيجب أن يدركوا أنّ عليهم "إبقاء" بعض اللوحات في الجوار، " حتى يستطيعوا القول: بأنّ هذا يكلف كثيراً، وذلك بسعر أقل، وتلك بسعر زهيد". على افتراض أنَّ العمل الذي كان "بسعر زهيدٍ" لم يحظَ سوى بالقليل من مساهمات المعلم.
وفي ذلك الحوار المتخيل بين ليوناردو وفيدياس في حلم جيوفاني باولو لوماتسو (والذي يناقش أيضاً ولع ليوناردو بلعبة "الجانب الخلفي"- الكلمة المستخدمة هي create أي الخدم: حرفياً أولئك الذين "خدمهم". وهذا يشير مرة أخرى إلى تقاليد المرسم: استخدام عمل المعلم كنموذج للنسخ منه فيما بعد- في بعض الحالات كما في حالة ليدا، تبقى النسخ فقط.
وتأتي شهادة مباشرة أخرى من باولو جيوفيو. وهو يكتب كيف كان ليوناردو صارماً في ما يتعلق بتعليم تلاميذه مهارته ببطء وشمولية: لم يكن ليسمح لليافعين تحت عمر العشرين أن يلمسوا الفراشي والألوان، ويتركهم يتدربون على أقلام الرصاص فقط". كان جيوفيو يتحدث مخبراً عن "حشد من الرجال اليافعين [adolescentium turba] الذين ساهموا كثيراً في نجاح مرسمه. ويبدو هذا الشيء كاستعادة الذكريات- حاشية ليوناردو من اليافعين الجامحين: عصابة من المراهقين.
ويمكننا إعادة تشكيل بعض العاملين في أول مرسم لليوناردو في ميلانو. وبالتأكيد سأضمنهم امبروغيو دي بريديس، وربما أخيه إيفانجليستا حتى وفاته المبكرة في 1491. لقد كان هذان شريكيه في عذراء الصخور. واستمر امبريغو على اتصال بليوناردو كمتعاون، وشريك، ومنازع من حين لآخر لعشرين سنة أخرى أو نحوها. وقد كان جيوفاني انتونيو بولترافايو وماركو داوغيونو هما الآخران من أوائل مساعديه، وقد ذكرهما فازاري ضمن اسماء "تلاميذ" ليوناردو.
ولد بولترافيو حوالي عام 1467، وهو ابن غير شرعي لأسرة غنية ذات حسب ونسب. لم يفقده وضعه كابن غير شرعي ثروته، ولكنه خلق بينه وبين ليوناردو رابطاً عاطفياً: وقد لحقت به – صدقاً أو زوراً- سمعة الغني اللعوب، واحد ممن اسماهم شكسبير "الغني المدلل الأجعد". وعلى شاهد قبره في سان باولو في كومبيتو، يقال إنّه قد كرّس حياته بطولها لرسمٍ " بين الجبال"، ومرة أخرى ترد الإشارة إلى العبث، لكنْ لم يتم تسجيل أفعاله الأخرى الأكثر "خطورة". يدعوه فازاري "فناناً ماهراً ومميزاً"، وهو إطراء باهت. وفي أفضل أحواله كان رساماً للشعر الجميل والرقة: انظر إلى لوحته السيدة والطفل في متحف البولدي بيتزولي في ميلانو، ولوحته النارسيسوس في الأوفيزي. وقد وصفه الشاعر غيرولامو كازيو الذي تم رسم لوحته بولترافيو، بأنّه "التلميذ الوحيد" لليوناردو: ليس حرفياً بالطبع، ولكن بمعنى "التلميذ الحقيقي الوحيد". وقد كان ماركو داوجيونو ابن صائغ ناجح، وقد جاءت العائلة من أوغيونو في إقليم بريانزا شمالي ميلانو، ولكنَّ والده كريستوفيرو صنع له اسماً في المدينة بحلول أواسط ستينيات القرن الامس عشر، وكان ماركو قد ولد هناك على الأرجح. وقد تلقى تدريبه الخاص بحلول عام 1487، بروتاسيو كريفيلي (ربما كان قريبا للوكريزيا كريفيللي، التي رسم لها ليوناردو لاحقاً صورة للوجه) ومثل بولترافيو، دلف إلى رحاب مرسم ليوناردو كرسام متدرب بوسائلهما الخاصة: لم يكونا صبيين بل شريكين شابين. كلاهما مذكور في مذكرة ليوناردو المتعلقة بالأفعال السيئة لجياكومو كابروتي ابن العشر سنوات، أو سالاي، والذي انضم إلى الأسرة في صيف عام 1490.
في 7 سبتمبر [1490] سرق قلماً قيمته 22 سولدي من ماركو الذي كان يقيم معي. كان القلم ذا سن فضية، وأخذه من دراسة ماركو.
وفي 2 أبريل[1491] ترك جيان انتونيو قلماً ذا سِنٍّ فضية فوق رسوماته، وسرقه جياكومو منه.
كانت هذه مقاطع مما يجري خلف جدران مرسم ليوناردو- غرفة عمل المساعدين الصغيرة، أو الاستديولو، القلم ذو السن الفضية قابع فوق الرسومات، الطفل الذي يسرق الأشياء متى ما استطاع. ألمعية بولترافيو في استخدام القلم ذي السن الفضية، يمكن رؤيتها إلى حد ما في رسوماته مثل لوحة المسيح (يفسرها البعض على أنّها باخوس) في تورين، وقد كان أسلوب الرسم هذا غير معروف إلا قليلاً في لومباردي، وانتشر من خلال التأثر بليوناردو.
من الأعضاء الأوائل في مرسم ليوناردو أيضاً كان الغامض فرانسسكو نابوليتانو. وحتى وقت متأخر لم يعرف له عمل على وجه التحديد، سوى الرائعة مادونا والطفل مع القديس يوحنا المعمدان، والقديس سباستيان في زيورخ، كونسثاوس، والتي يظهر التوقيع فيها على طول قاعدة تاج السيدة العذراء. كلا القديسين كانا يتسمان بقربهما من نموذج ليوناردو. ونحن الآن نعرف أكثر قليلا عن شكر فرانسسكو للبحث الموثق لصدفة جانيس وغرازيوسو سيروني. كان اسمه فرانسسكو غالي، وهو من مواليد نابولي ولا يُعرف تأريخٌ لولادته، وقد مات في البندقية عام 1501 تقريباً. و كان يعيش وقت وفاته مع صاحبة أو خليلة تدعى أندريانا ولديه منها طفلان، ويستدل من هذا على أنّه لم يكن كبيراً جداً عند وفاته. وتأريخ وفاته يدل على أنّ النكهة الليوناردية القوية في لوحاته لم تكن مجرد تقليد، لقد كان نشطاً أثناء تسعينيات القرن الخامس عشر، يتشرب تأثير ليوناردو من منبعه دون وسيط. في الغالب هو فرانسسكو غالي الذي يطلق عليه لقب مصمم سك العملة، والذين يستميت من أجل الصياغة في الخطاب الدوقي المؤرخ في 8 أغسطس 1494، وهنالك مصمم آخر مذكور في الخطاب ذاته؛ هو زميل ليوناردو امبروغيو دي بيرديس. ويضع هذا الخبر فرانسسكو في وسط رسامي الوجوه الميلانيين. وقد كانت هنالك صلات وثيقة بين تصميم الميداليات والعملات ورسم الوجوه: كان تقليد رسم وجه اللومبارد عبارة عن وجه كامل، ويعرفه مؤرخي الفن باسم "نموذج المسكوكات".
ويمكن إضافة اسم توماسو ماسيني أو زورواسترو إلى هذه الأسماء، وهو على الأرجح "المعلم توماسو" المذكور في ملاحظة من سبتمبر 1492، وهو الموصوف بعودته إلى المرسم في ذلك التأريخ، وعليه فقد كان أحد أعضاء المرسم في وقت سابق.
وهنالك الألماني المدعو خوليو الذي كان وافداً جديداً في مارس 1493. لم يكن هذان الاثنان رسَّاميْن، على أية حال، ولكنهما يعملان على المعادن.
وفي مسوَّدة الخطاب الساخط للودوفيكو الذي تضمن شكوى بخصوص المال الذي يدين لهما به (إنّه ليزعجني جداً أن يتعين عليَّ كسب عيشي ...")، يشير ليوناردو إلى العبء المادي الناجم عن دعم وكفالة ستة أشخاص لمدة ثلاث سنوات: Ho tenuto 6 bocche 36 mesi"" – وهي لغة السجل على وجه الدقة، كما لو كانت تلك المجموعة الصغيرة من الصبيان المتدربين والمساعدين هم أفراد عائلته حقاً. كانت المسوَّدة غير مؤرخة، ولكنها على الأرجح منذ عام 1495. هؤلاء الأفواه الستة، أو المكفولون، الذين كان يدعمهم في أوائل تسعينيات القرن الخامس عشر؛ ربما كانوا بولترافيو، ماركو دا أوغيانو، فرانسسكو نابوليتانو، سالاي، زورواسترو، خوليو الألماني. (كان امبرروغيو دي بريديس متعاوناً ولكنه لم يكن مساعداً يتلقى الإعانة والسكن)
تظهر في القوائم اللاحقة وفود مستمرة بشكل واضح من الصبية المتدربين أثناء الفترة الأخيرة من تسعينيات القرن الخامس عشر- غالياتسو، وبينيديتو، وأيدويتي، وغيانماريا، وجيراردو، وجيانبيترو، وبارتولوميو. الاثنان الأخيران فقط ظهرا في قائمة تعود إلى 1497 ويمكن التعرف عليهما هما: جيابيترو وهو على الأرجح جيوفاني بيترو ريزولي، المعروف أيضاً بجيانبيترينو، والذي أصبح واحداً من ألمع مساعدي ليوناردو أثناء الفترة الميلانية الثانية، وربما كان بارتولوميو هو بارتولوميو سواردي، تابع برامانتي المعروف باسم برامانتينو. وقد كان هنالك أيضاً عدد من الفنانين اللومبارديين الشباب الذي كانوا متأثرين إلى حد بعيد بليوناردو وقد كان يطلق عليهم لقب "تلاميذه"، ومن بينهم سيزاري دا سيستو، وبيرناردينو لوني، وأندريا سولاريو، وجيوفاني باتسي (المعروف أيضاً بلقب إل سودوما)، لكنْ لا يمكن الجزم بأنَّ أياً منهم قد درس فعلياً على يد المعلم. هذه هي"الليوناردية" التي لخصها كينيث كلارك في العبارة "الابتسامة بدون وجود القط شرشر". وقد راعى جيوفاني باولو لوماتسو هذه المباديء التي شملتها مقولة ليوناردو:" كنت دقيقاً في مفهوم وصياغة المواضيع الدينية إلى حد كبير، حتى إنَّ الكثير من الأشخاص حاولوا تناول روح هذه الشخصيات التي رسمتها من قبل".
ومن مرسم ليوناردو الميلاني انبثقت مجموعة من الصور الشخصية والدينية ذات الجودة العالية والتي بكل تأكيد تَطلَّبَ اقتناؤها ثمناً باهظاً. وصورة سيسيليا غاليرياني واحدة منها. وهنالك ثلاث لوحات أخرى تعتبر من أعمال ليوناردو سواءً بكاملها أو في جزء منها.
وكانت لوحة عازف الموسيقى (معرض امبروزيانا، ميلانو) واحدة من أكثر بورتريهات المرسم حيويةً وحياة. (اللوحة 13). وهي صورة شخصية نصفية صغيرة بألوان الزيت، يظهر فيها رجل شاب وسيم، بشعر أشقر طويل ومجعد ينساب من تحت طاقيته الحمراء الفاتحة. إنّها الصورة الشخصية الوحيدة المعروف عن ليوناردو رسمها لرجل. بيد أنّ هنالك الكثير من الرسومات لوجوه في دفاتره. لم تكن اللوحة مدرجة ضمن مجموعة اللوحات التي خلَّفها بوروميو عام 1618 التي شكلت نواة المجموعة الأمبروزية. ولقد ورد ذكرها للمرة الأولى في كاتلوج 1686، حيث وُصفت بأنّها "رسم لوجه دوق ميلانو"، ونُسبت إلى بيرناردينو لويني. وفي عام 1905 تم تنظيف اللوحة، والكشف عن نوتة موسيقية في اليد اليمنى للجالس ، ومن هذا جاء اسم اللوحة المتعارف عليه.
ودائما ما يقال إنَّ عازف الموسيقى الذي رسم ليوناردو وجهه؛ هو فرانشينو غافاوريو، الذي كان قائداً لجوقة كاتدرائية ميلانو منذ عام 1484 وحتى وفاته بعد أربعة عقود من الزمان. ومؤلفاته كانت مصممة لثلاثة وأربعة وخمسة أصوات، وهي موجودة بسجلات الكاتدرائية. كما كان أيضاً مؤلِّفاً للسيرة، وواحداً من أوائل من شرحوا نظرية الموسيقى باللهجة الإيطالية. وربما أشار ليوناردو في ملاحظة له حول "كتاب في الآلات الموسيقية" إلى كتاب غافوريو "آلة الهارمونيكا الموسيقية (1508)". وقد اختفت النوتة من اللوحة تقريباً ما عدا العصا التي ما زالت تُرى لكن بصعوبة، والحروف Cant. Ang."" بحسب إفادة سيرج براملي تشير إلى مقطوعة غافوريو المسماة نشيد الملائكة Canticum Angelicum، ولكن يبدو أنّ هذا التفسير ليس دقيقاً تماماً؛ فقد كان هنالك كتاب في نظرية الموسيقى لغافوريو يسمى الأعمال الموسيقية الإلهية والملائكية [ِِAngeicum ac divinum opus musicae]، ولكنه لم يكن قد خرج إلى النور حتى 1508، أي بعد عشرين سنة أو نحوها، وهو تأريخ الرسم، وأنّه على ذلك رابط أضعف من أن يفسّر العبارة.
كان غافوريو معروفاً لدى ليوناردو، وكان ذا شخصية ميلانية رفيعة، ومن الجائز توقُع جلوسه في المرسم لرسم صورة شخصية له، لكن ليس ثمة ما يؤكد ذلك الأمر. كانت هنالك لوحات أخرى لوجهه- لوحة في اللودي، مسقط رأسه، وحفر على الخشب على صفحة عنوان كتابه عن الهارمونيكا- لكنَّ ملامح الشخص في هاتين اللوحتين لا تشبه ملامح الرجل الذي يظهر في لوحة ليوناردو؛ وعمره هو الآخر محل شك. فاللوحة تعود إلى ذات الفترة التي تم فيها رسم وجه سيسليا، أي 1488-1490، إذ كان غافوريو في ذلك الوقت في أواخر الثلاثينيات من العمر، وهو عمر يبدو أكبر كثيراً من الشاب الذي يظهر في لوحة الموسيقيّ في الامبروزيانا.
الاحتمال الآخر هو أنَّ اللوحة تظهر موسيقياً ومغنياً شاباً ممن كان يعرفهم ليوناردو بشكل جيّد- تلميذه السابق اتالانتي ميغليوروتي . وفي 1490 قام اتالانتي بأداء دور البطولة في أوبريت اورفيو لبوليزيانو في عرض بمدينة مارميرولو، بالقرب من مانتوفا، وذلك بأمر من إيزابيلا دا إيستي. ومن الجائز أنَّ ليوناردو كان مشتركاً في الإنتاج. (تقلَّد إنتاج أورفيو في ميلانو في وقت لاحق). ومن المعقول أنّه كان مكلفاً برسم الوجه الوسيم المفعم بالطاقة لنجمها الشاب. ونحن نعرف أنّه قد فعل ذلك من قبل- تلك اللوحة لاتالانتي رافعاً وجهه"، ربما رسم، في قائمة أعمال عام 1482. كان اتالانتي في الرابعة والعشرين من عمره تقريباً في عام 1490، وبدا لي أنّه أقرب إلى أن يكون هو الموسيقيّ في لوحة ليوناردو من قائد جوقة الكاتدرائية والمؤلف الموسيقي غافوريو.
أجزاء لوحة الموسيقيّ- أعمال تلوين السترة على سبيل المثال- بدت مملة. لقد صُنِّفت اللوحة في بعض الآحيان باعتبارها من الأعمال التي لم تكتمل بعد. ولكن ربما كان هذا نتيجة لقرار فني من ليوناردو- رتابة متعمدة في المحيط، الذي يؤطر قوة الوجه المكتمل في المركز. وهذا التساؤل يطرح نفسه مجدداً في لوحة سيسليا غاليراني: هل التكوين الضعيف ليدها اليسرى نسبة لأعمال تخريب لاحقة (ربما في بداية القرن التاسع عشر، عندما تمت إضافة النقش)، أو تركها ليوناردو هكذا متعمداً؟ فاليد المحددة بخط خفيف تكاد تندمج في الظلام الذي يحيط بالمجموعة المضاءة من المرأة وصديقها رباعي القوائم، والتي إن تم رسمها بدقة أكثر لاختلفت اللوحة في الشكل والتأثير. مثل هذا المحيط المموه أو الضبابي كان شائعاً في الرسومات، ولكن ليس في اللوحات، حيث كان التقليد يقضى بوحدة النهاية.
وقد كشفت اختبارات الأشعة السينية عن وجود نافذة في الخلفية، مشابهة للتي في لوحة سيدة آل بينوا. وقد تمت تغطيتها لاحقاً بلون الخلفية الداكن، وربما بذات الرغبة لمنع تشتت الانتباه. كانت هذه سمة غالبة في بورتريهات ميلانو- الخلفيات المخملية الباعثة على السكينة مقابل شخصيات مقدمة اللوحة التي تبدو في بقعة الضوء، كما لو كانت تؤدي دوراً في أحد الملاهي أو العروض الرمزية.
أما الوجه المشتعل رغبةً والمدعو فيرونييه الجميلة(لوحة 14)، والموجود الآن في اللوفر، فيعود على الأرجح إلى أواسط تسعينيات القرن الخامس عشر. وهي أكثر رقة وتفاعلاً من السيدة وحيوان الفاقم، ولكنها قد تشترك معها في انتمائها لإحدى المجموعات الفرعية من لوحات ليوناردو- وجوه محظيات سفورزا. السيدة الجميلة بثغرها الفاتن ونظرتها الجريئة- التي تركّزُ على المشاهد بخلاف العادة، وليس خارج نطاق اللوحة- في الغالب تحمل صورة لوكريزيا كريفيللي، خليفة سيسيليا غاليراني في علاقات آل مور غير الشرعية. هنالك دليل مستقل على أنَّ ليوناردو رسم لوحة لوجهها؛ وأنَّ تلك اللوحة دوناً عن أعماله الباقية هي التي يرجح أن تكون هي محصلة ذلك الرسم. وكما هو الحال مع سيسليا، فقد كان حمل السيدة الشابة ذا دور في تغيير وضعها وبالتالي أصبح سبباً في إيقاف العمل فيها. أنجبت لوكريزيا ولداً هو جيوفاني باولو؛ وقد اُعترف به كابن للودوفيكو في مارس 1497. في السنة ذاتها توفيت بياتريس والدة لودوفيكو فجأة، ودخل فترة من الانسحاب السوداوي: لقد كانت شعلة من الحياة وتتمتع بشعبية كبيرة، كما أنّها كانت تحظى بحب آل مور مع إنّها لم تجد منهم المعاملة اللائقة. كانت لوحة لوكريزيا وإشارة الشاعر العامية لها بلفظ "حبيبة" إل مور، سابقتين لتلك الأحداث، ربما في 1495-1496.
كان الغموض هو السمة الغالبة على لوحة السيدة المرضعة، والمعروفة باسم مادونا ليتا، على مالكها في القرن التاسع عشر الدوق أنطونيو ليتا، ولكنها كانت تحمل طابع إنتاج المرسم من عدة أوجه. فرأسها كان يعتمد بشكل كبير على رسم شهير في اللوفر، والذي كان بكل تأكيد ليوناردياً أصيلاً، ولكن اللوحة تُنسب بشكل عام إلى المساعد الميلاني ماركو دا اوغيانو على الأرجح أكثر من الموغل في فردانيته بولترافيو، بيد أنّه من الجائز أنّ يكون لكلٍّ منهما نصيب فيها. وليس بمقدورنا سوى تخمين القدر الذي أنهاه ليوناردو من اللوحة. هنالك قدر كبير من العذوبة في ملامح الطفل ممتليء الشفتين وواسع العينين، والتي تبدو غير أصلية. فعاطفة ليوناردو لا تعجز عن الحركة على سراط دقيق من المشاعر- لوحة السيدة والمغزل مثال آخر- وسرعان ما أصبحت هذه النزعة علّة في الأعمال التي تنتمي لمدرسة ليوناردو والتي نفذها أتباعه من الدرجة الثانية مثل ماركو دا أوغيانو. (فلوحته تقبيل الأطفال المقدسين في قصر هامبتون؛ تعتبر مثالاً بهيّاً لصندوق الشيكولاتة الليوناردي، إذ يبدو أحد الأطفال فيه قريباً إلى حدٍ كبير من الطفل في مادونا ليتا). والمشهد عادي جداً. وطائر البرقش الذهبي المكتشف في يد الطفل اليسرى يفتقر إلى الحيوية والتفاصيل الناطقة التي قد تضفيها عليه ريشة ليوناردو. وليس ثمة ما يشير إلى تدخل فرشاته سوى وجه وعنق السيدة الناعمين ورقة تكوينهما، وعلامته المسجلة المتمثلة في تجعيدات شعر الطفل اللامعة. فهي إحدى لوحات المرسم كما وردت في وصف ليوناردو ذاك بدقة في المرسم الفلورنسي اللاحق: " اثنان من مساعديه صنعا نسخاً، وكان من حين إلى آخر يضيف إليها شيئاً بيده هو."
تمثل هذه السلسلة من اللوحات أقل طفرات ليوناردو كرسام: سلسلة من اللوحات التجارية مضاءة بلمسة المعلم الخاصة أو هالته. ويمكن وصف العديد من اللوحات كإنتاج لهذا المرسم إن لم تكن من إبداع أنامله هو. وهنالك لوحة لوجه السيدة ذات عقد اللؤلؤ التوثيقية الرائعة بريشة أمبروجيو دي بريديس، وفي بعض الأحيان تعرف ببياتريس دا إيستي، بالإضافة إلى لوحة الوجه الأخرى بريشته والتي لا تقل روعة عن سابقتها والموجودة في المعرض الوطني بلندن، يظهر فيها سيد شاب بشعر برتقالي ذي غرة ميلانية ويرتدي معطفاً بياقة من جلد النمر، ومؤرخة في 1494.
وهنالك أيضاً لوحة السيدة والفطل الجميلة لبولترافيو (والموجودة في متحف بولدي بتسولي في ميلانو)، وعليه فإنَّ المدرسة الليوناردية في وضعيتها الديناميكية الدراماتيكية، ولوحته البراقة التي لا تخلو من خنوثة لغيرولامو كازيو(شديدة الخنوثة في الحقيقة، حد أنَّ متذوق القرن السابع عشر إنيغو جونز ظنّها لوحة ليوناردو لوجه جنيفرا دي بينشي: قرأ جونز أحرفاً منسوجة على سترة الجالس (G.B.)، ولكنها في الحقيقة كانت (C.B)- على الأرجح تشير إلى حبيب كاسيو، كوستانزا بينتيفولغليو).
وكان ماركو دا اوغيانو نسخة جامدة ولكنها مفعمة بالإيمان لعذراء الصخور. كما هنالك عدد من النسخ الميلانية للمسيح المخلِّص [ٍSalvator Mundi] والتي على الأرجح تشير إلى أحد أعمال ليوناردو الأصلية.
المرسم الميلاني: أعلى اليسار دراسة بالقلم ذي السِّن الفضية لليوناردو لسيدة ليتا. أعلى اليمين سيدة ليتا، إنتاج مشترك للمرسم يعود لعام 1490، أسفل اليسار، السيدة ذات عقد اللؤلؤ لأمبروغيو دي بريديس، ربما كان موضوعها وجه بياتريس دي إيستي. أسفل اليمين السيدة والطفل لجيوفاني بولترافيو.
ولدينا عقد موثَّق لأحد الأعمال. في 14 يونيو 1491 أُنيط بكل من بولترافيو وماركو دا أوغيانو إنتاج لوحة لتزيين جدار المذبح الخاص بكنيسة سان جيوفاني. كان العميلان هما الأخوان غريفي، اللذيْن بنيا معبداً هناك تخليداً لذكرى والدهما، ليوناردو غريفي، مطران بينيفينتو. كان الرسامان قد تعاقدا على تسليم قطعة فنية لتزيين المذبح بحلول نوفمبر التالي ( في وقت يوم الاحتفال بالقديس ليونارد، الذي كانت الكنيسة مهداة له)، ولكنهما عجزا عن الإيفاء بذلك، ولم ينته العمل حتى 1494. كانت اللوحة هي قيامة المسيح مع القديسيْن ليونارد ولوسي، وهي الآن في برلين.
كان الجزء الأعلى منسوباً إلى ماركو، والقديسان الجاثيان إلى بولترافيو. وقد حفل العمل بتأثيرات ليوناردو: التكوينات الهرمية، والوضعية الاعتراضية لصعود المسيح، والتصدعات الصخرية للمشهد. ويصف العقد الفنانين الاثنين كشريكين [compagni]. وليس هنالك ذِكرٌ لليوناردو في الوثيقة، لكننا نعرف من مذكرة سالاي أنَّ كلا الفنانين كانا جزءاً من ورشة ليوناردو في 1491. إنّها مهمة مستقلة داخل حدود المرسم، مثلها مثلما كان رسم وجه جنيفرا مهمة مستقلة لليوناردو ضمن ورشة فيروكيو. كان الرسم المتفق عليه للوحة مذبح غريفي 50 دوكات= ليست بالمبلغ الكبير(مقارنة بالمائتي دوكات المعروضة على ليوناردو والإخوة دي بيرديس نظير لوحة سيدة الصخور في 1483) . يعكس هذا الأمر وضعه: إنتاج ورشة موكَّل إلى فنانين من الدرجة الثانية تحت إشراف المرسم. إنَّ الأمر كما عبّر عنه ليوناردو تماماً، "بخسٌ جداً".
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment