ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
الجزء الثاني
التلمذة
"فلورنسا هي معبر من خلاله يمرُّ غرباء كثيرون"
المخطوطة الأتلانتيكية، ص 323- الجزء ب.
1- المدينة
في وقت ما من منتصف ستينيات القرن الخامس عشر، غادر ليوناردو اليافع فينشي قاصداً فلورنسا، حيث كان يتتلمذ على يد النحّات أندريا ديل فيروكيو. إنها نقطة تحوُّل حاسمة، ولا نعرف عنها سوى القليل. وبحسب فازاري، الذي هو مصدرنا الوحيد في هذا الموضوع، فلقد تم الترتيب لهذه التلمذة من قبل والد ليوناردو.
أخذ السير بيرو- في أحد الأيام- بعضاً من رسومات ليوناردو إلى أندريا ديل فيروكيو، والذي كان صديقاً حميماً له، وسأله إن كان يعتقد أنّه من المجدي للصبي أن يدرس الرسم. وكان أندريا ذاهلا لرؤية البدايات الاستثنائية التي أحزرها ليوناردو، وحث بيرو على أن يحمله على دراسة المادة. عليه قام بيرو بالترتيب لدخول ليوناردو ورشة اندريا. وقابل الصبي هذا القرار بكثير من السرور.
لم يقل فازاري كم كان عمر ليوناردو آنذاك، ولكن استخدامه لمفردة "صبي" [fanciullo] تبين تصويره للمشهد. إن المسألة "رُتبت" بين الوالد والمعلم- وهذا يتضمن التدابير المالية – وتم إخطار الصبي بما وصلا إليه من "قرار". العمر التقليدي لبدء التلمذة كان لا يتعدى ثلاثة عشر عاماً أو أربعة عشر: وفي حالة ليوناردو قد يعني هذا دخوله إلى معمل فيروكيو في حوالي 1466. وهذا ليس سوى دليل فضفاضٍ: فالكثيرين يبدأون في عمر أقل، والبعض الآخر يبدأ التلمذة في عمر أكبر- ويبدو أنَ فرا بارتولوميو قد بدأ التلمذة في سن العاشرة، مانتينيا وكارافاغيو في الحادية عشرة، ومايكلانجلو وفرانسسكو بوتيشيني في الثالة عشرة، وبيفينوتو سيليني في الخامسة عشرة.
ونحن على الأقل نعرف شيئاً ما عن ظروف سير بيرو في ذاك الوقت: فقد كان يحث الخطا نحو سن الاربعين، ومهنته العدلية كانت في أوجها، ولكن كان الوقت قد حان- أيضاً- لبعض التغيير. فزوجته البيرا، حملت أخيراً بعد حوالي اثني عشرة سنة من الزواج العقيم، وتوفيت أثناء ولادة الطفل. كانت قد قُبرت في يونيو 1484، في الثامنة والعشرين من العمر. وكانت هذه خسارة شخصية دون شك بالنسبة لليوناردو أيضاً، فبعد ذلك بعدة سنوات كان ما زال يحتفظ بعلاقته بشقيق البيرا، اليخاندرو امادوري. وفي السنة التالية تزوج سير بيرو مرة أخرى، زواجاً مدبراً، وزواج مصالح دون شك. وكانت عروسه هي فرانسسكا، ابنة سير جوليانو لانفريديني: كانت في الخامسة عشرة من عمرها. وقد أسسوا لهما بيتاً في مبنى على طريق بريستانزا، في الركن الشمالي من قصر السيادة: عنوان لا تنقصه الفخامة. ويعود المنزل لنقابة التجار القوية Arte dei Merchanti، (لم تعد موجودة الآن): وقد تم تأجيره من الباطن للسيد بيرو مقابل مبلغ وقدره 24 فلوريناً في السنة.
خارطة متسلسلة لفلورنسا، 1470-1472
ربما كانت وفاة جد ليوناردو، بطريرك ولادته المسن، قد كانت عامل استعجال في انتقاله إلى فلورنسا. كان انطونيو متوفياً دون شك بحلول عام 1465، عندما أشار إليه سير بيرو بعبارة " olim Antonius"، أو "الراحل انطونيو". واصبح عندئذٍ السير بيرو عميداً للعائلة. إنه وقت التخلي عن بعض المسؤوليات التي تتعلق بمستقبل ابنه- ابنه الوحيد في الحقيقة، فسوف تثبت الشهور القادمة عقم زوجته كمن سبقتها في مخدع الزوجية.
عليه فإنّ ظروف الأسرة تميل إلى تأكيد التأريخ التخميني لبداية تلمذة ليوناردو على أنّه 1466. طفولته- ذلك المشهد من الذاكرة والخسارة التي تبدو الإشارة إليها في أعماله اللاحقة- قد انتهت. وانتقل منها إلى عالم الكبار، الحضري التنافسي الذي كان يعيش فيه والده: عالم النقابات والعقود والمواعيد النهائية، والذي سوف لن يعرف انسجاماً معه إلى الأبد.
كانت فلورنسا في منتصف ستينيات القرن الخامس مدينة لما يقارب الخمسين ألف نسمة. ويذكر رجل الرسميات بينيديتو دي- الدبلوماسي، والرحالة، والذي كان من معارف ليوناردو في وقت لاحق- الإحصائيات التالية. تمتد أسوار المدينة إلى سبعة من الأميال وهي محصنة بحوالي 80 برج مراقبة. وداخل الأسوار توجد 108 من الكنائس و50 ميداناً، و33 مصرفاً، و23 قصراً كبيراً أو مسكناً " حيث يعيش اللوردات والمسؤولون والمدراء، والمضيفون والموردون، وكتاب العدل، والموظفون، وعائلاتهم". لقد كان هنالك 270 من محلات المشتغلين بالصوف، 84 من أعمال الخشب، والوِرش المتخصصة في صنع الأختام وتطعيم الخشب، و83 من وِرش أعمال الحرير. فنحن في مدينة تزدهر فيها الحرف اليدوية، ويفوق عدد العاملين في مجال الحفر على الخشب فيها عدد الجزارين. كما أنّها مدينة أزياء، ومركز لصناعة الأقمشة: النساجون، والصّباغون، والدباغّون، والفرّاءون، وتكثر متاجر الملابس بصورة مغرية جداً بالنسبة لمراهق يتوق للتخلي عن الهيئة الريفية التي لا تخلو من ابتذال.
لقد زالت معظم الأسوار وأبراج المراقبة، ولكن المعالم المركزية لفلورنسا ليوناردو ما زالت كما هي- الكاتدرائية، أو الدومو سانتا ماريا ديل فيورو، بقبتها القرميدية الهائلة التي بناها برونيليسكي؛ وبرج الجرس الرشيق الأنيق- من تصميم جيوتو- الملاصق لها. وغرفة التعميد بأبوابها البرونزية المنقوشة من أعمال جيبرتي؛ وقصر السيادة (لم يكن يدعى القصر القديم بعد)؛ والبارجيلو، أو قصر البوديستا؛ قاعة المجلس، وصومعة الغلال من أعمال اورسانميشيلي، والجسر القديم أو [Ponte Vecchio]، أحد القناطر الحجرية الأربعة التي تمتد عبر نهر آرنو. كل هذه الأماكن يمكن رؤيتها في خارطة متسلسلة ومتجددة المناظر من عام 1470-1472 للميلاد، مع ظلٍ لرسام صغير على الزاوية، يرسم منظراً من الهضبة إلى الجنوب، ويجول بنظراته الفضولية كما يتخيل المرء ليوناردو الصغير. ونرى اليوم بعض الاختلافات. فبرج الجرس بجانب كنيسة الصليب المقدس لم يعد موجوداً- لقد دمرته صاعقة في 1529- ولا سوق المدينة ذو الروائح المميزة، كان يطلق عليه السوق القديم [Marcatoe Vecchio]، والذي تم هدمه في أواخر القرن التاسع عشر. أما قصر السيادة، وهو المجمع السياسي للمدينة، كان أضخم مما هو عليه الآن: ونظرياً كان يسع جميع سكان المدينة من الذكور الراشدين، وذلك عندما يقرع جرس البلدية، والمعروف نغمته المنخفضة المدوية مثل La Vacca أي البقرة- وكان المواطنون يتجمعون هناك تحت الألوية التي تحمل شعار مدينتهم(المقاطعات الستة عشرة التابعة للمدينة)، ثم ويسيرون على شكل مربعٍ ثم يدخلون إلى مبنى البرلمان. وعندما احتل تشارلز الثامن الفرنسي المدينة لبرهة قصيرة في عام 1494 هددهم بالنفخ في أبواقه كعلامة لجنوده لاجتياح المدينة. فتلقى الرد الفلورنتيني المُفحم الشهير أن" وسوف نقرع نحن أجراسنا."
كانت فلورنسا مدينة جميلة، ولكن دون شذوذ ولا إفراط. ومزايا الاقتصاد التجارية، والصناعة والذهنية العامة كانت واضحة للعيان على الدوام، إم لم تكن مقصودة ومستهدفة. وقد اعتبرت هذه الأمور من فضائل الجمهورية لأن فلورنسا كانت فخورة باستقلالها من الملوك والحكام المستبدين (الدوقية) وحول قاعدة تمثال دوناتيلو ليوديث وهولوفرنير، هنالك في فناء قصر ميديتشي، قد حفرت الكلمات التالية:" Regna luxu surgunt virtutibus urbes"- ، كم سقطت ممالك بسبب رفاهيتها، وارتقت مدن بفضل مناقبها." وقد كان الثراء علامة لهذه "المناقب"، وقد حملت الأعمال الفنية الفلورنسية العظيمة في عصر النهضة رسائل الفخامة وسخاء السلطة، كما حملت معاني الحق والجمال، ولكن الخط الفاصل بين الكبرياء المتحضر والرفاهية الفاسدة كان دقيقاً جداً. الطمع، قال بوجيو باركيوليني هو " المشاعر التي تجعل التحضر ممكناً." التاجر الغني الذي يفوض لأداء عمل ديني لكنيسة ما، عادة ما يكون إلى حد ما يحاول التعويض على الله عن حجم هامش ربحه، وذلك بانضمامه إلى الصورة العامة. "إخلاصي لجمهوريتي مثل الشمع،" قال الواعظ سافانرولا: " يكفي القليل من الحرارة لإذابته."
وقد بدت فلورنسا في لوحات القرن الرابع عشر ذات منظر متجهم وخافت. إنّهاكانت مدينة مبنية من الحجر الرملي: الحجر الصلب ذي اللون البني العسلي، وحجر سيرينا الهش الرمادي. وكان هنالك قليل من الجصّ الملون والذي يعتبر إيطالي الطراز في يومنا هذا، وجزء أقل من الرخام متعدد الألوان على الجدران الخارجية للكنائس. (واجهة القبة الرخامية لم تكن مكتملة حتى عام 1887.). وقد بنيت بيوت المدينة من قطع مستطيلة من الحجر أكبر حجماً من القطع المستخدمة في الكنائس، فاضفت بذلك طابعاً ريفياً خشناً على سطح مظهر البناء. وصارت بالتالي واجهة القصر الكبير أشبه بجرف صخري مربع الشكل. سادت آنذاك نهضة معمارية. وفقاً لبيديتو دي: لقد تم إنشاء نيفاً وثلاثين قصراً جديداً في السنوات العشرين الآخيرة (كانت كتابته في عام 1470 تقريباً). وكل من العائلات البارزة امتلكت قصراً كبيراً- آل روشيلاي، آل تورنابوني، آل شبيني، آل بازي، آل بينشي: ولدى بعض العائلات دورٌ لتلعبه في قصة ليوناردو- ولكن ليس لدى أيّ منها ما يفوق قصر ميديتشي، على الطريق الرئيسية، والذي بدأ في أواخر 1450 كتصميم لميكل أوزو. وقد كانت تماثيل دوناتيلو في الفناء الخلفي، وفي غرفة نوم المعلم لوحة معركة سان رومانو لأوتشيلو في الكنيسة وهي فسيفساء لامعة تم تنفيذها من قبل بيوزو غوزولي، وصورها أعضاء من الأسرة في معالجة لوحة المجوس. وكانت هنا مكتبة ضخمة أيضاً، أسسها كوزيمو آل ميديتشي. وقد كانت هذه القصور مقراً رئيسياً لشركة ما، مثل المنازل الخاصة: أمناء خزانات ومكاتب محاسبة. وقد كان هنالك شيء يشبه مقر القبيلة: فقد كانوا يحددون جزءاً معيناً من البلدة ليكون منطقة محددة لإحدى العائلات العريقة.
وقد اعتبرت النهضة المعمارية كدليل على التقدم الحضاري، وقد شجعتها السلطات بشكل واضح. فأجازت قانوناً يمنح العفوَ من الضرائب المحلية لمدة أربعين عاماً لأي شخص يقوم ببناء قصر جديد. وقد راقب كاتب المذكرات لوكا لاندوتشي بناء قصر ستروتسي من باب محل العطارة الخاص به والمقابل لذلك القصر. وقال متذمراً، " إن الشوارع المحيطة تعج بالبغال والحمير التي تحمل النفايات وتأتي بالحصى، الشيء الذي زاد من صعوبة مرور الناس، وقد كان كل ذلك الغبار وزحام المتفرجين مزعجاً لنا نحن أصحاب الحوانيت وبدرجة كبيرة." بيد أنّه راقب وسجل تطور المبنى إلى أن أخذ شكله النهائي: بدءاً من الحفر في الأساسات، وصب الطباشير والحصى، وأول إفريزٍ، ووضع الحجارة الكبيرة الخشنة المسماة بوزي فوقها. وقد رمى الناس الميداليات وقطع النقود المعدنية لجلب الفأل والطالع الحسن. ويتذكر تاجر صغير آخر زيارة الموقع مع ابنه ذي الأربع سنوات، غارنيري: " لقد حملت غارنيري على ذراعي، حتى يستطيع أن ينظر إلى الأساسات في الأسفل. ولقد كان يحمل معه باقة من الورود الدمشقية، وجعلته يرميها في أخدود الأساسات. وقلت: سوف لن تنسى هذا الأمر،أليس كذلك؟ " فأجاب: "بلى"!
وقد بدا للكثيرين أن هذه القصور الجديدة بالنسبة للكثيرين لا تمثل سوى نوع المباني التذكارية الجافة، فقد كانت مجرد مساكن من الطوب، ومبانٍ سامقة البنيان في ذلك العهد، من شأنّها تشويه الشعور الحميم والأكثر ازدحاماً لفلورنسا العصور الوسطى. وقد تم هدم أكثر من عشرين منزلاً لتوفير المساحة اللازمة لبناء قصر ميديتشي، تماماً مثل منزل سير بيرو على طريق بريستانزا، والذي ربما كان أول بيت لليوناردو في المدينة، والذي سيتم هدمه في ما بعد لإفساح المجال لبناء قصر غوندي الكبير. فالقصور كانت هي الوجه المكشوف سلطة فلورنسا الاجتماعية والسياسية. وقد كان المجال من المجالات التي عمل فيها سير بيرو، كمقدم للخدمات الاحترافية لمديتشي وغيره. وقد كانت هنالك أبواب مر بها، أما في ما يتعلق بإبنه المراهق- غير الشرعي القروي المتعلم بالتجربة فهذه الحوائط الريفية تحمل إشارة إلى الإقصاء. وبالنسبة لكل الدعاية الجديرة بالاهتمام،فإن المدينة لديها معتكفاتها الداخلية للسلطة والنفوذ. " ففي فلورنسا" تقول إحدى شخصيات مسرحية الماندراغولا لميكافيللي. " إن لم تكن لديك سلطة، فحتى الكلاب سوف لن تنبح في وجهك."
وفي عام 1360، كانت السلطة تعني آل مديتشي وشبكة حلفائهم وأصدقائهم الواسعة. وعندما توفي كوزيمو دي ميديتشي في 1464، تم منحه لقب "أب البلاد" أو [Pater Patriae]"- وهو لقب فضفاض في معناه، ولكنه يعترف-ضمنياً- بالعائلة كعائلة حاكمة.
وقد كان آل ميديتشي هم حكام فلورنسا الفعليين: فقد حكموا عن طريق تعبئة المكاتب التنفيذية بالمدينة بأعوانهم وأتباعهم، وعن طريق تفوقهم المالي الكبير الناتج عن أعمالهم التجارية والمصرفية.
وقد خلفه ابنه بيرو(المعروف أيضاً بإل غوتوسو أي المصاب بمرض النقرس): والذي كان قد قارب الخمسين من عمره بالفعل عندئذٍ، محباً للكتب، ومريضاً، ولم يكن يتمتع بأية مهارات سياسية ولا بشيء من شعبية أبيه. وقد أدت خطته إلى المطالبة بالأموال التي أُقترضت من بنك مديتشي إلى إثارة نوبة من الفزع. وظهرت الطوائف، والتي وصفت على أساس مواقعها ببوغيو وبيانو: أي النجد والسهل. وقد تمثلت الطائفة المناهضة لآل ميديتشي في جانب لوكا بيتي الغني الغضوب، والذي كان جانب الهضاب، إشارة إلى الأرض المرتفعة جنوب نهر آرنو حيث يقع قصر بيتي؛ أما الموالين لآل ميديتشي فكانوا هم أهل السهل. وعقب محاولة انقلاب على السلطة في عام 1466، تم نفي متزعمو تمرد الهضاب، و جندوا بعض المستنفرين العسكريين من البندقية، والذين كانوا على أهبة الاستعداد لإثارة المشاكل ضد فلورنسا دائماً، وفي يوليو 1467 كان هنالك اشتباك للقوات بالقرب من إيمولا. وقد مثلت هذه الظروف خلفية لأولى سنوات ليوناردو في المدينة. فلورينزو الرائع ابن بيرو، كان ينتظر وراء الكواليس ولسوف يمسك بزمام الحكم، وهو في العشرين من عمره عام 1469.
وفي وسط هذه التقلبات كان من الحصافة أن يتخصص في تقديم الخدمات العدلية لمؤسسات المدينة الدينية، والتي كانت أقل عرضة لرياح التغيير السياسي. فكانت له صلات بالعديد من رتب الرهبنة، ومن ضمنهم كانت الخدمات التبشيرية المقدسة، ورهبان القديس دوناتو الأوغستنيان، وكلاً من هاتين الطائفتين ستقوم لاحقاً بتكليف ابنه ببعض الأعمال.
ومن التقليدي اعتبار وصول ليوناردو إلى فلورنسا كلحظة تجلٍ وكشف- فالريفي الساذج الصغير منبهر بحيوية وروعة المدينة العظيمة- ولكن من الجائز أن يكون قد زار فلورنسا قبل أن يذهب إليها للعمل والإقامة. ولا نعرف أيضاً (كما يُفترض دائماً) أن ليوناردو قد دخل إلى معمل فيروكيو لدى وصوله إلى فلورنسا. فقد أشار فازاري إلى وجود معلم للحساب- والذي أربكه ليوناردو بأسئلته- وربما كان معلم فلورنسي قد وظّفه سير بيرو ليدرب إبنه على عمل المعاون العدليّ. عدم شرعية ليوناردو كإبن لبيرو، منعته –نظرياً- من الاحتراف، ولكن لم يكن هنالك سبب يمنعه من أن يقدم بعض الخدمات في المكتب ولو لفترة قصيرة. كان بخط يد ليوناردو عناية واضحة بالتعرجات والارتفاعات، وكان يعتقد أنّه "توثيقي".
كان مكتب سير بيرو على بعد دقائق قليلة من منزله. وقد كان في السابق متجراً لبزّاز، وهو مؤثث- كما يبين عقد الإيجار بشكل لا يخلو من الزهو- ب" بطاولة تلائم مهام الكتابة العدلية". ووصف بأنّه يقع قبالة قصر بوديستا، "أو قصر الشعب". ومن المرجح أنّه كان من نوع المتاجر المنخفضة عن سطح الأرض. والتي بنيت في الجدران الرومانية القديمة أسفل كنيسة الدير، حيث يرى المرء اليوم حانة الدير للوجبات الخفيفة ومحل فانتيني للذهب. هذا الشارع الذي هو الآن جزءاً من طريق الحاكم الإداري، وكان يطلق عليه طريق دي ليبراي ( أي شارع بائعي الكتب). وبالقرب منه كان يقع ركن الوّراق (Canto de Cartolai). وقد قدمت هذه المحال المواد الخام التي تتطلبها صنعة السير بيرو كمدّون ومحرر للسجلات، وصائغ لعقود البيوع، والموثق الرسمي. وربما كان في إنتاج ليوناردو من المواد المكتوبة الذي يكاد يصل إلى حد الهوس ما يذكّرنا بمهنة والده وبذهنية والده أيضاً- فرزم الورق التي سجّل فيها تعاملاته مع العالم بتعدد أنواعها.
ولنا أن نتخيل – على أية حال- فترة من الأعمال الكتابية غير الملائمة في ذلك المكتب الصغير المقابل لقصر الشعب. ولكن إن كان هذا هو المسار الذي تصوره سير بيرو لإبنه، فقد كان من الحكمة أن غير رأيه.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment