Thursday, March 21, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 2 - رجال عصر النهضة





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
2- رجال عصر النهضة
السياسة، والتجارة، والأزياء، والصخب، وغبار الإنشاءات، والكلاب في الشوارع- ولكن ينبغي إضافة شيء ما أكثر غموضاً  لهذه السمات التي تلتصق بحياة المدن الكبرى على الدوام، بما في ذلك الحياة في مدينة فلورنسا في القرن الخامس عشر، كما عرفنا من الكتب الأولى التي لم تقصِّر أبداً في إبلاغنا، "مهد النهضة" أو إحدى المهاد على الأقل. 
ما كان عصر النهضة ومتى ولماذا كان؟ أسئلة ليس لها إجابات محددة. وبحسب النسخة المدرسية فقد بدأ بسقوط القسطنطينية في 1453، وفي هذه الحالة قد نعتبر صانع الأسلحة المجري يوربان مسؤولاً عن بداية عصر النهضة، والمدفع السلطاني  الذي كان أحد العوامل المهمة في اختراق أسوار بيزنطة الثلاثية من قبل جيوش السلطان العثماني محمد الثاني.  وقد كانت هذه لحظة حاسمة بكل تأكيد، إذ غمرت موجة من الباحثين اللاجئين جميع نواحي إيطاليا، يحملون ما استطاعوا إنقاذه من حزم المخطوطات التي تحتوي على حكمة العلوم والفلسفة اليونانية المتراكمة: إقليدس، وبطليموس، وأفلاطون، وأرسطو- وهي أسماء معروفة بالفعل في إيطاليا بطبيعة الحال، ولكن لم تتسنَّ دراستهم إلا بشكل جزئي. وقد كان هؤلاء المهاجرون البيزنطيون قد وصلوا لمدينة فلورنسا لتوّهم عندما قصدها ليوناردو. وقد كان من بينهم تلميذ أرسطو العظيم يوآنس أرغيوبولس ، والذي قد أُدرج اسمه في قائمة كتبها ليوناردو في أواخر سبعينيات القرن الخامس عشر: شخص قد عرفه، أو تمنى أن يتعرف عليه. 
وقد زاد تدفق الثقافة اليونانية البيزنطية هذا من سرعة تيار من الأفكار كان يسري طيلة قرون من الزمان. 
انتقلت العلوم العربية والتي قد قام الكثير منها على أساس التقاليد اليونانية، إلى أوربا منذ القرن الثاني عشر على أقل تقدير، والإحياء الإنساني للثقافة التقليدية الرومانية كان بالفعل يمر بفترة تحوّل كبير. والتي هي الأخرى كانت جزءاً من عصر النهضة أو Rinascimento في مشهده الأساسيّ: "بعث" للتعلّم الكلاسيكي. وقد كان مذهب الفترة الفجائية بين العصور الوسطى وعصر النهضة من صنع اجتهاد معلقي القرن التاسع عشر بدرجة كبيرة، مثل جاكوب بوركهارت، وجول ميشله، فهدفهما بحسب المؤرخ الماركسي آرنولد هوسر، قد قدم لنا " علم أنساب للحركة التحررية": وبكلمات أخرى، فقد تمت قولبة عصر النهضة إلى نموذج للأفكار الحديثة للاستنارة التحررية المنطقية.  وفي يومنا هذا انحرف بندول التفسير بعيداً عن خطاب الفجر الجديد هذا، وقد لاقت موارد عصر النهضة طلباً في أقل العوامل الاقتصادية الاجتماعية جاذبية- ليس سقوط القسطنطينية، ولكن ظهور المحاسبة مزدوجة القيد، والقانون الدولي للصرف، الذي خلق مناخاً اقتصادياً ازدهرت فيه الأفكار والفنون. ومع ذلك فإنَّ شعار مشله المثير لأجندة عصر النهضة- "اكتشاف الإنسان والطبيعة": [la découverte de l'homme et de la nature]- وهو يعبر بشكل بالغ عن المزاج خارجاً في فلورنسا ستينيات القرن الخامس عشر، وهي مدينة مفعمة بالجديد من الأفكار والأشكال التي كانت دائماً أفكاراً وأشكالاً قديمة يُعاد اختبارها تحت ضوء جديد وحديث. 
والنجوم الفكرية لدائرة ميديتشي كانوا رجالاً مثل الفيلسوف مارسيليو فيتشينو والشعراء العلماء والمترجمين آنجلو بوليزياو وكريستوفورو لاندينو، ولكن لم تكن لهذه الزمرة المنتخبة جاذبية دائمة بالنسبة لليوناردو، بيد أنّه لم يحرم نفسه من بعض التواصل الجميل معها، لأنَّ الرجل الذي يجسد مزاج عصر النهضة الجديد أكثر من غيره في نظر ليوناردو هو باتيستا البيرتي، والذي اُقتنيت كتبه فيما بعد وترددت أصداء أفكاره من خلال مفكراته. ولطالما تمتع البرتي بلقب "رجل عصر النهضة الأول"- وهي عبارة فضفاضة، ولكنه شخص يعكس أهميته من خلال نموذجيته. وهي الصفة ذاتها التي أُطلقت على برونيليسكي، ولكن برونيليسكي كان متوفياً لعشرين سنة خلت عندما دخل ليوناردو مهد عصر النهضة- فلورنسا. وقد كان البرتي وقتئذٍ حياً يُرزق. 
ثم في ستينياته، جمع بين صفتي تعددية التخصصات، والصرامة الفكرية تلك التي نعتبرها اليوم من صفات ليوناردو. لقد كان معمارياً، ومؤلفاً، ودارساً كلاسيكياً، ومنظّراً أدبياً، وموسيقياً، ومصممَ مسارح، ومخططَ مدن- وقد تطول القائمة. وبعد وفاته في 1472، تساءل كريستوفورو لاندينو، " أين يسعني أن أضع البرتي؟ في أي فئة من الرجال المتعلمين يجدر بي تصنيفه؟ أعتقد بين علماء الطبيعة[الفيزياء]. وقد خُلق-بلا شك- للتحقيق في أسرار الطبيعة."   وقد تردد صدى الجملة الأخيرة في عقله باعتبارها جوهر ليوناردو المحتمل.
وقد اشتهر البرتي أيضاً بأناقته وأسلوبه: " صورة النعمة،" كما أطلق عليه أحدهم. أما الرجل الأديب البرتي فقال: " يجب أن نستخدم أعظم المهارة الفنية في ثلاثة أشياء: التنزه في المدينة، وركوب الخيل، والحديث"، ولكن يجب أن يضاف إليها فن آخر، " ولا يبدو أنَّ أي واحد من هذه الأمور الثلاثة يُمارس بطريقة فنية". لقد كان رياضياً بارزاً- ويقال إنّه يستطيع القفز فوق رجل من وضع الوقوف، ويستطيع إلقاء عملة نقدية داخل الكاتدرائية بحيث يصل إلى سقف القبة  – ومن النظر إلى صورته الشخصية التي رسمها لنفسه في رصيعة برونزية تعود إلى عام 1450، كان وسيماً وجميل الملامح، وفيه لمحة شيشرونية قوية: جمال البنية، والملابس الأنيقة، والسلوك المهذب، والجياد الأصيلة- ولطالما كانت هذه الأمور من الأهمية بمكان لدى ليوناردو، وجزءاً من صورته العصرية، على الرغم من الميل إلى نقيض ذلك من خشونة الريف ووعورته. وكما كتب ليوناردو نفسه على الأرجح، فإنَّ البرتي هو الآخر ابن غير شرعي. وقد كان والده تاجراً فلورنسياً ناجحاً قد أُجبر على ترك المدينة لأسباب سياسية؛ واستقر في جنوا، حيث ولد البرتي في عام 1404. وكما هو الحال مع ليوناردو، فكون البرتي ابناً غير شرعي تعتبر مفارقة مهمة: فقد قلل ذلك من وضعه الاجتماعي، ولكن منحه تهميشاً إلى درجة معينة، واستثناءً من آمال العائلة وتقاليدها، الشيء الذي أثبت فائدته على المدى الطويل. وبحسب تعبير كاتب سيرته، أنتوني غرافتون، " لينتقم في عالمٍ عقلاني لهزائمه الأولى في بيت المحاسبة". 
لقد خلق لنفسه مهنة لم تكن موجودة من قبل: نوع من الاستشارات المستقلة في المسائل المعمارية، والعلمية، والفنية، والفلسفية. وقد خدم بدوره هذا بلاط الملك البابوي وبلاط حكام أوربينو ومانتوفا، و بالقدر نفسه، آل ميديتشي وروشيلاي في فلورنسا. وقد كان هذا هو نوع الأدوار الذي تطلع إليه ليوناردو لاحقاً عندما كان يرمي بأنظاره خارج آفاق فلورنسا إلى سفورزا في ميلانو. 
وبالنسبة لبوركهارت، فإنَّ البرتي كان هو النور الجديد للإنسانية الإيطالية، ولكن كانت فيه أيضاً درجات الشك تلك، والشك بالذات، والذي أشرت إليه مسبقاً هو جزء من روح عصر النهضة.  ولقد واجه شياطين الكآبة؛ لقد كان، يقول غرافتون هو" السائر على حبل البهلوان في مجال الإبداع الذاتي". وقد جعله الربيع والخريف كئيباً، يقول هو، لأنّ كل هذه الزهور والثمار جعلته يشعر بمدى ضآلة ما انجزه في حياته- " باتيستا،" كان ليقول لنفسه، " والآن هذا دورك لتعد الجنس الإنساني نوعاً ما من الثمار." ليوناردو هو الآخر كان لديه هذا الإحساس المقيم بعدم الإنجاز، وهو الأمر الذي يمثل الجانب السلبي لمزاج عصر النهضة التوسعي. فإن كانت الإمكانيات لا نهائية، فتحقيقها أيضاً قد لا يتحقق أبداً إلا بشكل جزئي. 
والمعلم الشيخ الآخر الذي كان اسمه مدرجاً في دفاتر ليوناردو هو باولو دال بوزو توسكانيللي، والمولود في عام 1387، المعروف كمنجِّم، وفلكي، وعالم رياضيات، وجغرافي، وطبيب، ولغوي- شيخ العلوم الفلورنسية العظيم. 
وإلى الوراء قليلاً، في عشرينيات القرن الخامس عشر، كانت تربطه علاقة صداقة ببرونيليسكي، وقد جاء على لسان فازاري أنه قد ساعد المعماري في تصميم قبة الكاتدرائية. وقد كان أيضاً قريباً إلى البرتي، الذي أهدى إليه كتابه "أحاديث على مائدة العشاء" الشيقة Intercenales)) قائلاً: " حفنة من صداقتنا التليدة".
وقد ضاع الكثير من أعمال توسكانيللي، ولكن بقيت مخطوطة طويلة، مكتوبة بخط يده في الغالب، في المجموعة الفلورنسية ذاتها التي تتضمن التخطيطات الأولية الخاصة بالسيرة الذاتية لأنونيمو الجاديانو. ترجمة عنوانها اللاتيني هي :" الأعمال الجليلة والسهرات الطويلة  لباولو التوسكانيلي في قياسات المذنبات"؛ وهي تحتوي على مقاييس دقيقة بشكل ملحوظ لمسارات عدد من المذنَّبات بما فيها ظهور مذنَّب هالي في 1456.  وهذه الأعمال والسهرات كانت عملة الحركة التجريبية الجديدة: والتصميم على الملاحظة المباشرة، وتجميع البيانات الأولية، واختبار وتمحيص الحكمة القديمة-  لقد كان توسكانيلي من المثُل العليا الأولى لليوناردو بصفته" تلميذ للتجربة". وهو معروف أكثر اليوم كجغرافيّ ورسام خرائط قام باختبار خارطة العالم البطليموسية القديمة، وبالتالي أسهم في اكتشاف قارة أمريكا على يد كولومبوس. 
في حوالي عام 1474 كتب خطاباً إلى رجل الدين البرتغالي، فيرناو مارتينز، الذي أوضح فيه بالاستناد إلى خارطة، أنَّ أقصر طريق إلى قارة آسيا ينبغي أن يكون بالإبحار غرباً عبر المحيط الأطلنطي (أو "البحر المحيط" كما كان يدعى آنذاك) عند خط طول إيبريا. وأنّه لمن المعقول أن يكون كولومبوس على معرفة بهذا الأمر من خلال علاقاته بملك البرتغال. 
وقد كتب بوليزيانو عن توسكاليني، " لقد جاب باولو الكرة الأرضية على قدميه، والسماء المزدانة بالنجوم بعقله،  وقد كان فانياً و خالداً في آنٍ"- وهو تلخيص رمزي أنيق  لتطلعات علماء عصر النهضة.
وقد لخّص البرتي وتوسكانيلي فكرة "رجل عصر النهضة" كما قد تكون في المخيلة، وإنّ لم تُسمَّ كذلك، في فلورنسا منتصف سيتينيات القرن الخامس عشر: الرجال، في العبارة الرونالدية، " ولدوا لاكتشاف أسرار الطبيعة". أما إلى أي مدىً ارتطمت أسماؤهم بذهن الرسام ذي الأربعة عشر عام، ليوناردو دا فينشي فهذا ما لا نستطيع الجزم به- وإشاراته إليهم بالطبع جاءت في وقت لاحق- ولكنهم كانوا جزءاً من الهواء الذي يتنفسه، أكسجين عصر النهضة الذهني المذهل، ولقد قدموا له خطة لمهنته الخاصة ذات التخصصات المتعددة، و تقليد سار على خطاه. وبالتأكيد سيكون قد درس أعمال البرتي دي بيتورا كجزء من تدريبه على يد فيروكيو، ولابد أنّه وقف في إجلال أمام واجهات كنيسة سانتا ماريا نوفيلا الكلاسيكية الرائعة وقصر روشيلاي.  
وقد شعر فنانو ونحاتو فلورنسا بأنَّهم جزء من روح الاكتشاف الجديدة، على الرغم من أنَّ هذا كان وقتاً للتحول من وجهة نظر فنية أكثر منه للإنجاز الكبير. 
الموسيقيون العظماء الذين هيمنوا في فترة أواسط القرن كانوا شيوخاً أو أمواتاً. ومن بين الرسامين، فرا انجيليكو الذي توفي عام 1455، وأندريه ديل كاستانيو في عام 1457، ودومينيكو فينيزيانو في 1461. (ولأسباب مضمنة في هذه القائمة، لم يقتل الأخير من قبل كاستانيو، كما زيَّنَ فازاري لتلك الشائعة.)
ودانتيلو نحات عصره الشهير، والذي رأينا كيف قد تأثرت به بلدة فينشي، توفي في عام 1466. وقد غادر الأخ فرا فيلبو ليبي الشقيّ فلورنسا للمرة الأخيرة، ليعمل على النماذج الجصية الكاتدرائية في سبوليتو، ليقضي نحبه هناك في عام 1469. باولو اوتشيلو، أعظم من مارسوا فن المنظور التصويري، كان من الكفاءات المهدرة، معلناً في حزن في إقراره الضريبي لعام 1469:" إنني عجوزٌ، وواهن، وعاطل عن العمل، وزوجتي مريضة."  
وقد كان فنانو الجيل الجديد الذي ازدهر في منتصف ستينيات القرن الخامس عشر من المحترفين اللامعين بيد أنّهم لم يكونوا من الرموز الشاهقة للسنوات الماضية. 
وقد كانت أشهر الاستديوهات هي لفيروكيو (الذي كان لا يزال نحاتاً في الأساس آنذاك)؛ الإخوة أنطونيو وبيرو آل بولايولو، ونيري دي بيكي، تلميذ دوناتيلو؛ وبينوزو غوزولي، تلميذ فرا أنجيليكو؛ وكوزيمو روسيلي. وكانت هنالك ورشة لوكا وأندريه ديلا روبيا التي أحرزت نجاحاً عظيماً، وكانت متخصصة في أعمال الخزف المزجّج. وقد كان  من ضمن مرتاديها من الفنانين اليافعين الذين يأتون للمشاهدة ساندرو فيليبيبي، والمشهور ببوتيشيلي (المولود في 1444)، والمتخصص في أعمال التصوير الجصّي دومينيكو غيرلاندايو (المولود في 1449)، والذي أصبح فيما بعد المصور الصحفي العظيم للحياة الفلورنسية. وسرعان ما أصبح الكثير من هؤلاء الفنانين- إن لم يكونوا كلهم- معروفين بالنسبة لليوناردو في عالم الورشة الحميم بما يحتويه من تنافس وتعاون. ولم يكن مايكل آنجلو ورفائيل ولا مؤرخ الفن الفلورنسي العظيم جيورجيو فازاري قد ولدوا بعد. 



------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment