ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
5- الاحتفالات
في يوم 7 فبراير شهدت فلورنسا مبارزة[giostra] على شرف لورينزو دي ميديتشي الشاب العشريني: وهي بمثابة مراسم دخوله إلى الحياة العامة واحتفالاً بزواجه الوشيك بكلاريس اورسيني(عروس رومانية، وهي ليس بالخيار الشائع بالنسبة لمن هم على شاكلته). لقد جاب الشوارع بفرقة فرسانه من قصر ميديتشي حتى ميدان الصليب المقدس حيث قوائم المشاركين. وقد أهمل الرواة الحديث عن عظمة مؤونته- الحرير والمخمل واللؤلؤ، والدروع المنقوشة، والجواد الأبيض الذي منحه إياه ملك نابولي- ولكن دعنا نُلقِ نظرة للحظة واحدة على الراية التي ترفرف فوقه، لقد تم تصميمها خصيصاً لهذه المناسبة: " رايةً من قماش التفتاه الأبيض". ويصف الشاعر لويجي بولتشي التصميم الذي عليها: لقد كانت " مزدانة بشمس في أعلاها، وقوس قزح في أسفلها، وفي الوسط تقف سيدة في مرجٍ، وهي ترتدي قميصاً من الطراز القديم [حلة اسكندريّة]، موشَّىً بأزهار من الذهب والفضة". وبدا في الخلفية جذع شجرة غار بها عدد من الأفرع الذابلة، وفي وسطها فرع أخضر واحد." وتشير شجرة الغار "لاورو" إلى "لورينزو". كان والده مريضاً- وسيموت بحلول آخر العام- ولكن كان لورينزو الجبار فرعاً جديداً على شجرة العائلة.
لقد كانت الراية من عمل اندريه ديل فيروكيو. وكان قد مضى وقت طويل منذ اختفائها، وهي بالكاد واحدة من أعماله الكبيرة، ولكنها تحمل الكثير من الإشارات حول فخامة الورشة في اللحظة الأشبه بتولية العهد. راية لورينزو، ونكاد نجزم بذلك، كانت هي أفضل ما يشترى بالمال. وتذكرنا أيضاً بمشاركة الفنانين في كل المناحي البصرية للحياة الفلورنسية المدنية- ليس فقط النحت والتلوين والمعمار، ولكن حتى فخامة الأمور العابرة للاجتماعات العامة مثل المبارزة. وقد كانت المفكرة الفلورنسية حافلة بالروائع من كل جنس. فقد كان هنالك كرنفال في الأسابيع السابقة للصوم الكبير، وموكب عيد القيامة المقدس، ثم الاحتفال بعيد أول مايو* [Calendimaggio]، والذي كان يستمر بشكل متقطع حتى24 من يونيو، وهو يوم عيد شفيع المدينة القديس يوحنا المعمدان. وكان صيد الأسود يعقد في ساحة الشعب، ومباريات كرة القدم[calico storico] في ميدان الصليب المقدس- وهي اللعبة التي تعرف الآن باسم توينتي سيفن اسايد، و" تستخدم فيها الأيدي أكثر من الأقدام"- وكان هنالك سباق خيل سنوي، الباليو، وتحتدم المنافسة فيه بين قوميات المدينة. ويعبر مضمارُ السباق المدينةَ من بوابة براتو إلى بوابة الصليب، ويُقرع الطبلُ ثلاث مؤذناً بالبدء؛ وقد كان كأس الفائز هو رمز الباليو، راية حريرية قرمزية مزينة بشرابات من الذهب والفرو. وقد كان من أشهر فرسان ذلك العصر غوستانزو لاندوتشي، أخ للوقا كاتب المذكرات.
لوحة نصفية منحوتة للورينزو د ميديتشي بيد فيروكيو
وقد أدرك آل ميديتشي الأثر المعالِج للاحتفالات الشعبية، وقد لاقت هذه المناسبات دعماً كبيراً في عهد لورينزو. وربما ترددت الأقاويل هنالك فوق "الهضاب" بأنّ هذا الدعم كان بهدف إلهاء الناس بينما تتغول محسوبية ميديتشي على حرياتهم، وتزويرهم الانتخابات، ولكن إن كان هنالك عنصر سياسي في مجتمع الشبع والمتعة، فهنالك أيضاً نكهة لورينزو الاحتفالية الأصيلة تلك. وقد بدأ الكارنفال يتخذ منظراً أكثر اتقاناً عن أي وقت سابق. فقد كانت هناك مواكب السيارات المزينة التي تسير تحت إضاءة المشاعل، والطرز القديمة لمهرجانات الأطواف الحديثة. ولقد جرى التقليد بأن يشارك في هذه الاحتفالات ممثلون من النقابات المختلفة، وتغنى فيها الأناشيد عن المهن والحرف- "أغنية الخياطين"، و"أغنية عصّاري الزيت" وهلم جراً- ولكن أصبح الطابع يميل أكثر في هذه الإيام إلى التقليدية والأسطورية. ويتزايد فيه التبذير وتقل الأصالة، فقد أصبح عمالقة الاحتفالات هؤلاء أقرب إلى الرموز السياسية البطولية: فقد كانت تسمى "انتصارات" [Trionfi]، تنبعث فيها مواكب الانتصار الفخمة في روما الإمبريالية، ولكن الآن أصبحت تمثل قوة ومجد آل ميديتشي. ومثل ما كان قديماً، تُنشد الأناشيد وتُؤدى الأغاني فقط؛ الآن اصبح المتأنقون يطلبون أغنيات معينة مثل " أغنية بائعي اللحم الحلو" و "انتصار أريادني وباخوس"، وكلمات الاغنيتين من نظم لورينزو نفسه، وأغانٍ أخرى من كلمات أصدقائه أنيولو البوليزيانو ولويجي بولتشي. وقد كان باتيستا ديل اوتوناو خبيراً في هذا المجال بشكل خاص.
وروعة مبارزات وكرنفالات ميديتشي الفائقة، كانت هي المسرح الشعبي لذاك العصر، وجميع التجهيزات الاحتفالية التي تدخل فيه- الرايات، الأعلام، الأزياء، الأقنعة، الدروع، الأغطية المزركشة، وعربات النصر- خرجت من ورشة فيروكيو ومن هم على شاكلته من الفنانين.
ولا نعتبر ليوناردو من ذلك النوع البشوش الاجتماعي الذي يمرح في فوضى الكرنفال، أما الجانب المسرحي فيه فاستطاع أن ينفذ إلى وجدانه. وربما وجدنا وجهه دون شك بين الحشود في مبارزة لورينزو- وربما شارك في العمل في الراية؛ فقد كان هو الآخر معجبا بالخيول والفروسية؛ وسوف يشارك هو نفسه لاحقاً في مبارزات التسلية في ميلانو. إنني أتخيل أننا قد نراه أبيضَ وسط الزحام خارج القبة في أحد القيامة، يراقب انفجار العربة الشهير، وهو تجسيد ملتهب لهبوط الروح القدس، تُسحب فيه عربة محملة بالألعاب النارية من بوابة ال براتو من قبل فريق من الثيران البيض، تم إطلاقه بواسطة حمامة صناعية مدفوعة على سلك يمتد بين القبة ومبنى المعمدانية. وربما كانت هنالك ذكرى لهذا الحدث، في رسومات تمهيدية لطائر آلي على سلك في مخطوطة أتلانتكس مسمى " طائر للملهاة". ويتفق كتاب السيرة الأوائل على أنَّ ليوناردو قد صنع آلات طائرة من هذا النمط الأكثر إيهاماً واستعراضيةً: " ولقد صنع الطيور التي بمقدورها التحليق من مواد معينة".
أحد أشكال المسرح الشعبي الأخرى كانت تتمثل في العروض الدينية، أو المقدسة، وهي المكافيء الفلورنسي لمسرحيات المعجزات الإنجليزية. وقد كان الشباب والصبية الذين ينتمون إلى مؤسسات دينية يقومون بتأدية هذه العروض في الأعياد الدينية في الكنائس والأديرة. لقد كان إنتاجاً كبيراً، ومن الواضح أنّه من تمويل آل ميديتشي وغيرهم. كما قد كانت هناك مؤثرات خاصة- أقراص دوارة عملاقة لتغيير المشاهد، وأسلاك وبكرات، يتمكن باستخدامها الممثلون من الطيران في الهواء. ويقول فازاري إنَّ برونيليسكي اخترع العديد من تجهيزات الخدع البصرية، أو ما يسمى بالإيطالية[ingegni]، والتي يتسنى عن طريقها تنفيذ المؤثرات الخاصة.
وقد كانت في سان فليسي تمثيلية للبشارة، تعرض في يوم 25 مارس كل عام (عيد البشارة أو عيد السيدة). كانت الجنة تبدو من بين دعامات السقف، ومنزل السيدة مريم كان على المسرح في صحن الكنيسة، والملاك جبرائيل كان مشرفاً من سحابة خشبية ليبلغ بشارته. وقد كان هناك عرضٌ شعبيٌ آخر يؤدى في خميس العهد بدير كارمين.
وقد جسدت هذه العروض المشاهد الدينية ذاتها التي يقوم الفنان بتصويرها، حيث يتم إشباع تجمعاتها وإيحاءاتها واللوحات التي تنبض حيوية في شكل سرد أكثر رقة عبر اللوحات المعبرة. وقد أشار إلى هذه العلاقة أسقف زائر، كان يعقب على أداء مسرحية البشارة بأنَّ " الملاك جبرائيل كان فتياً رائع الجمال، يرتدي قميصاً في بياض الثلج، موشىً بالذهب، تماماً مثلما يرى المرءُ الملائكة السماويين في اللوحات." وبينما كان ليوناردو يعد العدة لرسم نسخته الخاصة من مشهد البشارة، كان حضور هذه المشاهد جزءاً مما كان يحاول إنجازه."
إن حُبَّ ليوناردو للمسرح بدأ يتبلور لاحقاً بعد رحيله إلى ميلانو، ولكنّه يضرب بجذوره هنا في المبارزات والمواكب، وعروض فلورنسا ميديتشي الدينية. إنّه الرجل الشاب الوسيم المتهكم الذي يقف في آخر الحشد- جزلاً ولكن بانتباه، يراقب ويضع حساباته، ويضع الخطط للتنفيذ.
وفي عام 1471 اشترك فيروكيو ومساعدوه في التجهيزات لنوع آخر من المناسبات الرائعة: زيارة دوق ميلانو الرسمية. وقد تلقى فيروكيو تكليفاً من لورينزو دي ميديتشي لصنع خوذة بزة واقية "على الطراز الروماني" كهدية للدوق، وقد استنفر المرسم أيضاً لإعادة تزيين أجنحة الضيوف في قصر ميديتشي. ويحدد هذا أول وجود معروف لليوناردو في دائرة ميديتشي- كمصمم داخلي، لا أكثر- وأيضاً كأول اتصال له بالمحكمة الميلانية، والتي سوف تصبح مسكناً له في السنوات المقبلة.
كانت الزيارة مثيرة للجدل: لقد كان الدوق المسن، فرانسشكو سفورزا، أحد حلفاء ميديتشي الرئيسيين، ولكن ابنه غاليازو ماريا سفورزا الذي خلفه في عام 1466 وكان في أوائل عشرينياته، لم يكن سوى شاب فاسق وشرير، اشتهر بالبطش والقسوة. ووفقاً لما ورد عن المؤرخ الميلاني بيرناردينو كوريو فإنّه: " قد أتى أشياء مخزية لدرجة أنّه لا يستطيع كتابتها". وبعض الأمور التي قام بها قد سجلت بالفعل (لكنْ مجرد تدوينها لا يمثل دليلاً على صحتها) تضمنت " انتهاك العذارى واغتصاب زوجات غيره من الرجال"، وأنّه قد قطّع أيدي الرجل الذي كان متزوجاً بالمرأة التي أحبها، وأنّه أمر بإعدام صياد مجبراً إياه على ابتلاع أرنب بري كامل بفروه وكل شيء. وقد نادى أعداء آل ميديتشي بإعفاء هذا الدوق الشاب المقيت، وعودة فلورنسا إلى حلفها القديم مع مدينة البندقية، ولكن لورينزو كان قد حافظ على تلك العلاقات الطيبة بميلانو، باعتبارها ضرورية لازدهار فلورنسا. والحقيقة أنَّ كون زوجة غاليازو، بونا من سافوي كانت ابنة لملك فرنسا، أضاف بعداً سياسياً للمسألة.
دلف موكب الدوق المهيب إلى فلورنسا في يوم 15 مارس 1471. وهنالك وثيقة في إرشيف المحكمة الميلانية بعنوان "Le liste dell'andata in Fiorenza" أي قائمة المسافرين إلى فلورنسا، تقدم لنا فكرة عن حجمه- حوالي 800 حصان في مجمله، تحمل حاشية من الخدم، وكهان القصر، والحلاقين، والطباخين، وعازفي الأبواق، والزمّارين، وسائسي الكلاب، والبازيّين، والمنادين، والغلمان، وخزائن ملابس العشيقات، والحرّاس (وكان من بين الفئة الأخيرة واحدٌ اسمه جوهان غراندي أو جون الكبير). وقد أظهرت لوحة شخصية لغازيلو – بريشة بيرو ديل بولايولو، رُسمت على الأرجح أثناء هذه الزيارة، انحناءً في الحاجبين ينم عن تهكم، وفماً صغيراً، وقفازاً محمولاً بيد تبدو حسّاسة للغاية. وقد كان لودوفيكو الأخ الأصغر لغاليازو من ضمن البعثة، وهو معروف بلقب الأسمر[Il Moro] لسحنته الداكنة. بعد مرور عشر سنوات من أول مقابلة له، سوف يرحل ليوناردو شمالاً طلباً لرعايته.
وأمام هذا اللواء المستقبلي، كان ردُّ الفعل الفلورنسي لزيارة الدوق مثيراً للاهتمام، فهو يشير إلى شيء ما، على الأرجح غير مُدركٍ في هذه المرحلة، جذب ليوناردو الشاب. انتقد ميكافيللي مذهب المتعة- كما كنا سنقول " الثقافة الاستهلاكية"- للشباب الفلورنسيين في ذلك العصر، وقد ربطها بشكل خاص بالتأثير الخبيث لزيارة الميلاني هذا:
ظهرت الآن هناك الاضطرابات التي شوهدت على نطاق واسع في أوقات السلم. أصبح سكان المدن من الشباب أكثر استقلالاً، وانفقوا مبالغ طائلة على الأزياء والاحتفالات والمجون. يعيشون في بطالة، يضيعون وقتهم ومالهم على الملاهي والنساء، واهتمامهم الوحيد كان ينصب على محاولة إبهار الآخرين بالرفاهية في الأزياء والتحذلق في الحديث والتفنن فيه. وقد ازدادت هذه العادات السيئة سوءاً بوصول حاشية دوق ميلانو... فإن وجد الدوق المدينة فاسدة بالفعل نتيجة للسلوكيات المخنثة التي تستوجب المقاضاة وتناقض تماماً لسلوكيات الجمهورية، فقد تركها في حالة من الفساد أكثر مدعاة للحزن من ذي قبل.
نحن لا نعلم الدوافع الدقيقة وراء انتقال ليوناردو إلى ميلانو في بدايات عام 1480، ولكنها قد تكون بعضاً من سمات "المجاملة" هذه التي منحها ميكافيلي وجهاً سلبياً- الأزياء الأنيقة، والمزاح الطريف، والأساليب المخنثة- والتي كانت أكثر ملاءمة له من الأخلاقيات البرجوازية الصارمة لفلورنسا الجمهورية.
وقد عُقدت بعض العروض الدينية على شرف الدوق، من بينها نزول الروح القدس إلى الرسل، والتي أُديت في سان سبيريتو، في كنيسة برونيليسكي على اولترارنو [الضفة الجنوبية من نهر آرنو]. في ليلة الحادي والعشرين من شهر مارس نشب حريق أثناء العرض، مما تسبب في نوبة من الذعر وخسائر فادحة. وفي نظر وُعاظ فلورنسا كان هذا عقاباً إلهيًا على حياة المجون والترف التي يعيشها الميلانيون، واحتفالاتهم التي تزامنت مع الصوم الكبير، ولكن كانت هنالك شرارة من ذلك الحريق تبرق في ذاكرة ليوناردو.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment