ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
7-المشروعات المعمارية
كان مجلس الكنيسة، أو قسم الأشغال بكاتدرائية ميلانو في عام 1487 يدرس فكرة تعليق مصباح فوق الجزء المركزي منها، أو برج عابرٍ للقبة، وقد كان ليوناردو من بين أولئك الذين قدموا تصميمات لهذا الغرض. وكان قد بنى نموذجاً خشبياً، بمساعدة نجار يدعى برناردو، وتلقى إعانات صغيرة من مجلس الكنيسة لتغطية نفقات صنع النموذج: وقد كانت هنالك سبع دفعيات مدرجة ما بين شهري يوليو من عام 1487 ويناير من عام 1488.
(قد تفسّر هذه الظروف السبب الذي دعاه إلى استخدام أوراق الكاتدرائية المهملة لكتابة "نشرته" إلى بينيديتو داي.) وقد كان صديقه دوناتو بارامانتي من بين المعماريين الآخرين الذين قدموا عطاءاتهم لتنفيذ هذه المهمة.
ويوضح أحد رسوم مخطوطة باريس ب؛ منظومة للدعامات صُممت لتشكّل قاعدة أعرض لطبلة المصباح، ويصف النص المصاحب للشكل تجربة لشرح توزيع الوزن على القوس.
افرض أنَّ رجلاً وضع على ميزان في وسط عمود بئر، وليدفع بكفيه وقدميه باتجاه جدران البئر. سوف تجد أنَّ وزنه أقل على الميزان. وإن وضعت أثقالاً على كتفيه فسوف ترون بأنفسكم أنّه كلما زدتم الأثقال عليه، تزداد القوة التي يمدّ بها ذراعيه وساقيه ويضغط بها باتجاه البئر، وقلّ الوزن على الميزان.
وتبين هذه التجربة الأنيقة وإن كانت خطرة، خاصية الأقواس في توزيع الوزن عرضياً أكثر من تركيزه بالكامل على الأعمدة الداعمة، فشكل النسر المحلق في عمود البئر يدفعني للتفكير في "الرجل الفتروفي"- وفي زورواسترو أيضاً، الذي أتخيله دائماً في صورة الرجل الذي يعتلي خشبة المسرح لتمثيل هذا النوع من "العروض"، كما أتخيله كقبطان اختبار يربط الأحزمة على الطائرة المرفرفة.
وضمن أوراق ليوناردو مسوّدة لحديث تقديمي ذي علاقة بمشروع المصباح. يبدأ منمقاً: "Signori padre diputati" " سادتي، الآباء النواب". وموضوعه مناظرة بين التناسب البصري والهيكلي في العمارة، والتوازن التناسبي للجسد. في المباني مثل الأجسام، " تحفظ الصحة من خلال التوازن أو انسجام العناصر، وتتضرر وتفنى بالاختلال فيها". وعليه فإنَّ المعماري يكاد يكون طبيباً من نوعٍ ما:
تعرف أنَّ الأدوية عندما يتم استخدامها بالطريقة السليمة، فإنها تعيد الصحة للمرضى، وأنّ من يعرفها جيداً سوف يستخدمها بشكل جيد إن كان يفهم طبيعة الإنسان، والحياة ونظامها وطبيعة الصحة. ومن يعرف هذه الأمور بشكل كامل سوف يعرف أيضاً ما يناقضها، وسوف يكون مداوياً ناجحاً أكثر ممن سواه. وهذا أيضاً هو ما تحتاجه الكاتدرائية العليلة- إنّها تحتاج طبيباً معمارياً، يفهم طبيعة المبنى، والقوانين التي يؤسس عليها البناء السليم.
وهذه المناظرة ليست أصلية بالنسبة لليوناردو: لقد وُجدت في كتابات معماريي عصر النهضة مثل البرتي وفيلاريتي، وفي فيتروفياس من قبلهم. يطوّر ليوناردو الموضوع بشكل مرهق جداً في هذه المسوّدة، والتي لم أقتبس منها إلا شيئاً قليلاً فقط.
وهو كحديث فعليّ يبدو فضفاضاً وتعليمياً ومكروراً. ويشعر المرء أنَّ هذا النوع من الأشياء ليس من نقاط قوته. ثم نجده قد تعِب فجأة من الأداء، وتنتهي المسوّدة بما لا يعدو كونه استهجاناً لغوياً:" اخترني أو اختر شخصاً آخر ليقدم الفكرة بشكل أفضل. وضَعْ العواطف جانباً."
وهنالك شكٌ في ما إذا كان الخطاب قد وصل إلى غايته أبداً. وقد دخل مشروع المصباح في دوامة التأخير المعتادة، ولم يتم منح العقد إلا بعد ثلاث سنوات. وبدا أنَّ ليوناردو قد فقد اهتمامه في ذلك الوقت: فهو لم يكن على قائمة المقبولين حتى. عُقدت " جلسة التشاور" في القلعة في 27 يونيو 1490، بحضو لودوفيكو ومطران ميلانو. وكان التصميم الفائز من صنع المعمارييْن اللومباردييْن اماديو ودولشيبونو.
ومن تلك الفترة أيضاً هنالك سلسلة من التصميمات لمعابد- كنائس مؤسسة على مذابح مركزية. ولربما وجد ليوناردو نماذج منها في المسالك المعمارية لفيتروفياس والبرتي، بيد أنّ هذا النوع من تصميم الكنائس مرتبط بعمل لاحق لبرامانتي على وجه التحديد، فربما كان هنالك بالفعل تبادل للأفكار بينهما، فقد تم توظيف تصميم شبه مركزي في إعادة نمذجة برامانتي لكنيسة سانتا ماريا دي غرازييه(حيث قام ليوناردو برسم لوحة العشاء الأخير).
وقد تم تصوير المعبد المبين هنا بصورة رائعة (من واحدة من صفحات المخطوطة ب التي سرقها ليبري، وهي الآن مجموعة منفصلة). وقد بُين أنَّ الخطة الأساسية موضوعة على نظام هندسي معقد يدعى "متوالية سيتا". ومرة أخرى ثمة شيء من تأثير البرتي الذي أوصى بالنسب " الطبيعية" في المعمار "ليست تلك المستعارة من الأرقام بل من قوى المربعات وجذورها"، ولكن يشكّ المرء مرة أخرى في تأثير بارامانتي، الذي بلا شك كان ضليعاً في الرياضيات والهندسة أكثر من ليوناردو في تلك الفترة .
وتبين ملاحظة في الجزء الأيسر السفلي من هذه الصفحة، أنَّ ليوناردو يفكر في الكنائس الحقيقية كما يفكر في المتواليات الهندسية. وهو يتساءل ما إذا كان ينبغي فصل برج الأجراس، كما في كاتدرائية فلورنسا وبيزا، حيث "تُظهر أبراج الأجراس جمالها الخاص"، أم يجب إلحاقه بمبنى الكنيسة، "ليقوم ذلك المصباح بدور برج الأجراس كما في كنيسة كيارافالي". فمعبد كيارافالي كان يبعد أميالاً قليلة عن ميلانو، وقد ذكر ليوناردو في موضع آخر ساعة فلكية هناك، "تُظهر القمر، والشمس والساعات والدقائق".
وفي ورقة تعود إلى بدايات عام 1489 ثمة رسومات تشمل أساس ورفع لصرح قبة صغيرة، ولكنها ليست معبداً ولا كنيسة. وتعرّفها الديباجة الملحقة بها على أنّها "جناح حديقة دوقة ميلانو".
تصميم "معبد" مؤسس على مذبح مركزي
ويشير هذا إلى الجناح الموجود بالفعل في حديقة قلعة سفورزا، والموصوف في شهادة تعود لعام 1480كبناء من الطوب "محاطٌ بالمياه الجارية والأسيجة على شكل متاهة"، وكان يُستخدم على الأرجح كحوض استحمامٍ، أو حمام في صيف ميلانو القائظ. وربما كانت الخطة الهادفة لإعادة تصميم الجناح تتعلق بزواج دوق ميلانو الشاب بإزابيلا القادمة من أراغون، وحفيدة ملك نابولي، في فبراير من عام1489. وربما كان في الورقة المفقودة من مخطوطة باريس ب تصميماً آخراً للجناح، وملاحظات حول الديكور: جدران من الرخام الوردي، وحمامات بيض، وفسيفساء ورموز للآلهة ديانا، و"صنابير على هيئة رؤوس الجريث للماء البارد والساخن"- جميع هذا في شهادة كاتب السيرة الفرنسي من القرن التاسع عشر ارسين هوساي، والذي رأى المدوّنة قبل أن يقتطعها الكونت ليبري. وربما تعود ملاحظة لاحقة حول سباكة "حوض حمام الدوقة" لذات المبنى. وأضمّن هذا في مشروعات ليوناردو المعمارية الأولى، ولكن ثمة ملاحظة أخرى تلقي بظلالها تجاه ليوناردو رجل المهام العجيبة.
8-عشيقة آل مور
Con sua picture
La f ache par che ascolti e non favella
Bernardo Bellincioni-Sonnet
-----------------
تزخر المدوّنات الأولى بالخطط والمشروعات التي تتنوع بشكل مذهل- التعددية هي علامة ليوناردو المسجلة أصلاً- ولكنها أيضاً جزء من خطة أو مشروع قائم بذاته: هو العمل في بلاط لودوفيكو سفورزا. العتاد العسكري، والتخطيط الحضري، والآلات الطائرة، والتصميمات المعمارية، بل حتى ألعاب الكلمات المسلّية- وجميع ما بقي ليومنا هذا متحجرة في الورق، وما كان جزءاً من عطاء ليوناردو ليصبح فنياً أو خبيراً متعدد المواهب لدى عائلة مور، والمهندس "العبقري" بمعنى الكلمة الواسع في عهد ما بعد البرونيلسكونية. ولا نعلم مدى استجابة لودوفيكو لكل هذا: لقد انبهر دون شك بألمعية الفلورنسي، ولكن هل تمت ترجمة هذا الانبهار إلى رعاية من نوعٍ خاص؟ ربما، مثل زميله الفلورنسي بينيديتو داي، كان ليوناردو يسحب بخشيشاً ضئيلاً، أو جُعالة، أو معاشاً من وقت لآخر- من خزينة آل سفورزا. ربما كان يمنح المال لتطوير أفكاره الخاصة بالغواصات الحربية، والمدافع البخارية، ربما كان يُدفع له لإعادة تصميم "مقصورة" الدوقة في حدائق القلعة. إنّه لا يضيف الكثير- تذكير بالمثل المر الذي ضربه رجل الحاشية الميلاني في ذلك العصر، توماسو تيبالدي:"Chi vive al corte muore al spedale" " من يعشْ في القصر يموت في الملجأ". وعليه فإنَّ المدوّنات تخبرنا أكثر، في هذه المرحلة، عن آمال ليوناردو وطموحاته منها عن مصدر دخله. وفي الحقيقة فإنَّ أولى تكليفات ليوناردو المعروفة من لودوفيكو نفسه لم تكن في مجال الهندسة ولا المعمار، بل كانت رسم عشيقة آل مور الشابة الفاتنة، سيسيليا غاليراني.
لم يكن لودوفيكو سفورزا نموذجاً للحرمان مثل أخيه الدوق، ولكنه استمتع بالملذات الجنسية التي يمكنه منها نفوذه. لقد كان يميل إلى اعتبار أهدافه من الإناث كما يعتبر إناث وذكور الوعول في أراضي صيده الخاصة- مباحة له- ومهما كان شعورها حيال المسألة، فأي شابة تقع عليها عيناه تعرف أنّ هذا الصنيع مدخلها إلى عالم من الرغد والامتيازات لها ولعائلتها. ولدت سيسيليا في أوائل عام 1473، وكان والدها فازو موظفاً حكومياً عمل كسفير لكلٍ من فلورنسا ولوكا، وأمها مارغيريتا بوستي، كانت ابنة لدكتور مجاز في القانون. وقد كانت سيسيليا ابنة أسرة ميسورة الحال ولكنها ليست على درجة كبيرة من الثراء، وقد توفي والدها بينما هي لم تزل في السابعة من العمر، ولديها ستة أخوة يسبقونها، لقد كانت فقط طفلة مرفهة نسبياً.
كانت ذكية، ومثقفة، كما أصبحت لاحقاً راعية لعدد من الكُتَّاب من بينهم الروائي ماتيو بانديللو. ويستشف من القصائد والرسائل التي كتبت عنها، أنّها كانت على قدر رائع من الجمال، ولكن لم يعد لكل تلك الإهداءات ضرورة، فقد أغنى عنها وجودها في لوحة رسمها لها ليوناردو- ونستعير هنا تعبير ليوناردو نفسه من ذلك العصر، وهي المعروفة أيضاً بلقب السيدة وفرو الفقمة (اللوحة 12).
لم يوثّق للوقت الذي أمضته عشيقة لآل مور، ولكن يمكن تخمين ذلك بكل سهولة. وهنالك مستند يعود إلى يونيو 1487 يفسخ رسمياً عقد زواج أطفال بجيوفاني ستيفانو فيسكونتي: ويرجح أنَّ مصالح لودوفيكو العاطفية كانت وراء ذلك الفسخ. لقد كانت في الرابعة عشرة من عمرها فقط: شابة ولكنها ليست كذلك في العادة. وبحلول باكورة صيف عام 1489 لم تعد سيسليا تعيش مع عائلتها، بل في ملكية غير معروفة في أبرشية نوفو موناستيريو، ومن الصعب مقاومة الاعتقاد بأنَّ هذا هو عُشُّ الغرام. وفي السنة ذاتها قتل أخوها سيجيرو رجلاً خلال نزاع ما، وأفلت من العقاب بتدخل شخصي من لودوفيكو. وفي ضوء هذا الدليل الظرفي يبدو أنَّ سيسليا أصبحت عشيقة للودوفيكو في عام 1487 تقريباً، لكننا لم نتحصل على دليل دامغ على الاتصال قبل عام 1490 خلال فترة الحمل المحتفى بها.
إنَّ خطط سيسليا للزواج لم تخل من بذخ لكنَّ لودوفيكو كان يعتبره عبئاً أكبر.
ومنذ عام 1480 كان قد تعهد، ولأسباب سياسية وجيهة، لابنة دوق فيرارا، بياتريس دا يستي، وأصبح أوان مراسم الزفاف وشيكاً: حلف ملكي مهم يحتفي به باستعراض علني كبير لمهرجان ميلاني لعرض القوة. في نوفمبر 1490 تلقى دوق فيرارا قراراً استفزازياً بالإبعاد من سفيره بميلانو جاكوبو تروتي، الذي أفاد بأنّ نوايا لودوفيكو حيال " سيدتنا الدوقة" (يعني بياتريس) كانت غير محددة، لأنّه كان ما زال مغرماً بحبيبته تلك (أي سيسيليا). " لقد أبقاها معه في القلعة، وأينما حلّ، وأراد أن يعطيها كل شيء. إنّها حبلى، وجميلة كالزهرة، ودائماً ما يأخذني معه لزيارتها." ويخلص تروتي بكل دبلوماسية إلا أنَّ العاطفة التي يكنّها لها قد تركت بصمتها على ملامحه. " ولكنَّ الزمن كفيل بمداواة كل شيء، وهذا أمر لا يمكن فرضه قسراً"- حتى هنا لا يستطيع منع نفسه من التشبيه اللاذع قليلاً عن سفورزا وذريته، والذي يعني أيضاً فرض القوة الجنسية.
تمَّ زفاف لودوفيكو وبياتريس كما هو مخطط له، في يوم 16 يناير 1491، وكان الاحتفال يزخر بمظاهر البذخ والفخامة. ولم يثنِ هذا سيسيليا عن إلقاء تعويذاتها، وبعد شهر من الزواج أفاد السفير تروتي بأنَّ إل مورو "أسرّ له بحديث" أخبره فيه أنّه "يتمنى لو يستطيع الذهاب إلى لا روكا [مخادعه الخاصة في القلعة] ويضاجع سيسيليا، ويعيش معها في سلام، وأنّ هذا هو ما ترغب به زوجته أيضاً، لأنها لم تكن تريد الخضوع له".
يبدو أنّ بياتريس كانت ترفض مشاركة لودوفيكو الفراش ما لم يتوقف عن العبث مع سيسيليا. وفي 21 مارس، أفاد تروتي بأنَّ لودوفيكو أمر بإبعاد سيسليا عن القلعة: " لم يعد يريد لمسها أو أن يرتبط بها بأي شكل من الأشكال، فقد أصبحت الآن بدينة، وسوف لن يفعل حتى تلد له ابناً." وفي أبريل أفادت هي بأنها تعيش في مسكن في المدينة يكفله لها إل مورو، ربما كانت تلك الملكية ذاتها التي تقع في موناستيريو نوفو.
في الثالث من مايو وضعت صبياً. وعُمِّدَ باسم سيزاري سفورزا فيسكونتي. وهرع الشاعر بيلينشيوني بسوناتة ثلاثية محتفياً بميلاده، سمَّاها "Isola" (أي الجزيرة، في تورية لاسم سيسيليا/صقلية)، ويهنئها بكونها حاملة بذرة إل مور ورعايتها حتى أصبحت ثمرة". وقد ظهرت علاقة الشاعر الودودة بسيسليا في خطاب لاحق، مؤرخ في فبراير 1492، يوجه في طياته حديثه للودوفيكو قائلاً:
لقد تناولت عشائي أمس مع السيدة سيسيليا، وبقيت هناك حتى المساء، إنها تؤثرني، وأقسم بالله أننا نلنا من المرح والتسلية ما نلنا مع السيد سيزاري، وهو لطيف وموفور الصحة، أعني سميناً. ولأنني توقعت أنّه سيكون صبياً عرفت أنني سأكون منّعماً في كنف سيادته [سيزاري].
وللأسف لم يحدث ذلك: فالشاعر المحبوب كان قد قضى نحبه بنهاية ذلك الصيف.
ونحن ندين لبيللينشيوني أيضاً بأولى الإشارات إلى لوحة ليوناردو، في رسالة شعرية، بلهجته البطولية، للطبيعة:
يا أيتها الطبيعة كم غيورة أنتِ
من فينشي الذي رسم واحدة من نجومك،
الغانية سيسليا، التي يستحيل نور الشمس
أمام عينيها العذبتين ظلاً كالح السواد
وهب أنّك: بقدر جمالها وما في قلبها من حياة
ستنال من المجد على مر العصور
ومن أجل ذلك قدِّم آيات شكرك للودوفيكو
ولعبقرية وأنامل ليوناردو..
إذ أراد كليهما أن تراها الأجيال القادمة..
وعلى حد علمي، فهذا هو أول وصف حرفي للوحة ليوناردو. فهو يتضمن ملاحظة طريفة اقتبستها في بداية هذا الفصل: " Con sua picture/ La f ache par che ascolti e non favella' – " بفنه جعلها تبدو كما لو أنّها تصغي ولا تتحدث" وهذا القول يعبر عن وضعية اللوحة: حس انتباهها إلى شيء خارج حدود اللوحة. هل تتضمن أيضاً حضور سيسليا الشخصي- " e non favella": هل لأنها لا تثرثر لأول مرة؟
هذه هي خلفية اللوحة: الجنس والثرثرة والشعر في بلاط سفورزا. مثل لوحة ليوناردو السابقة جنيفرا دي بينشي، إنّها صورة لامرأة مرسومة لإدخال السرور على حبيبها. ولكن هنا في ميلانو كان الأمر أكثر إجحافاً: فهذا ليس إعجاباً افلاطونياً مثل ما يكنّه بيمبو لجنيفرا، وصورة سيسيليا ذات طابع إيروسي ليس له مكان في تصوير جنيفرا الهاديء القمري. اليد التي تداعب الحيوان المكسو بالفراء ذات إيماءة جنسية، وزينة ردائها- عصابة الرأس الذهبية، والرباط الأسود، والوشاح المعقود، والعقد- كلها تشير إلى القيود، حالة الأسر التي تعيشها المحظية. وقد استحضرت فقرة في الأطروحة حول الألوان، حيث كان ليوناردو يبرهن على أنّ الرسام يمتلك ذات القوة التي للشاعر "لإشعال جذوة الحبِّ في الرجال"- لقد كان يجعلهم "يقعون في الحب مع لوحة ما". كان يحكي هذه القصة:
قمت في إحدى المرات برسم لوحة تمثل موضوعاً دينياً، وبِيعت لرجل كان قد وقع في غرامها. لقد تمنى إزالة الشعارات المقدسة حتى يتسنى له تقبيل اللوحة دون تردد. ولكن تغلب الضمير في خاتمة الأمر على الأهواء والرغبات، واُضطر إلى إخراج اللوحة من منزله.
لا يمكن أن تكون هذه هي صورة سيسليا، ولكن فكرة اللوحة كنوع من موضوعات الحب، غواية حسية، لا تخلو من إشارة لها.
وتجلب الفقمة المرتاحة بين ذراعي الفتاة سلسلة من الرموز والصلات الفلوكلورية إلى اللوحة. فالفقمة، Mustela erminea، من نوع شمالي من الفقم التي يصبح فروها أبيضَ في الشتاء (لكنَّ جلد المخلوق في اللوحة، قد فقد لونه نتيجة للصقل، وبدا بنياً مصفراً). ارتبط الحيوان بالنقاء والطهارة، كما في كتاب "رموز الحيوانات" الخاص بليوناردو والذي جمعه في مستهل تسعينيات القرن الخامس عشر: الفقمة، بسبب دفئها..تفضل أن تستسلم للصيادين عن اللواذ بالوكر الطيني، حتى لا تفقد نقاء فروها." وهذه الدعوى ليست ليوناردية في الأصل- ولكنها من ضمن عدد من البنود في رموزه الوحشية المرسومة من نسخة من كتاب فيوري دي فيرشو، كان قد اقتناها وقرأها جيداً. وتظهر الفقمة أيضاً كرمز للنقاء في لوحة لوجه بطل رسمه فيتوري كارباشيو(1510)، حيث كانت العبارة المنقوشة أعلى رسم الحيوان تقول: " Malo mori quam foedari" – أؤثر الموت على العار" ورباط الطهر هذا يضيف تهذيباً بديعياً إلى حد ما إلى الصورة: فالرمزية في التضاد مع ما هو شهواني. والرابطة الأخرى للفقمة هي تورية لغوية مكتسبة. فالكلمة الإغريقية الدالة على حيوان ابن عرس أو الفاقم هي gale والتي هي على جناس لفظي مع لقب عائلة سيسليا غاليراني: وهي موازية لنبات العرعر أو Ginepro في لوحة جنيفرا.
هذا النوع من الأشياء هو ما كان يعجب ليوناردو- أو يعرف أن عملاءه يحبونه-بيد أنّه ليس من المرجح على ما يبدو أنّه قد يكون على معرفة بهذه المفردات الإغريقية الدقيقة، ربما تلقى بعض المساعدة من أمين سر لودوفيكو، الباحث في الدراسات الإغريقية بارتولوميو كالكو.
هذا اللعب بالمعاني على الفاقم، ولكن المخلوق كان ذا أهمية محددة. كان تلميحاً شعارياً للودوفيكو نفسه، والذي كان في عام 1488 قد تلقى تفويضاً بلقب الفاقم ("L" Ermellino) من قبل ملك نابولي فيرانتي دي آراغونا (جد إيزابيلا أراغون، والتي سرعان ما تتزوج من الدوق الشاب جيان غالياتسو). وهنالك أهزوجة على أسلوب لودوفيكو تقول " 'l' italic morel, bianco ermellino' الأسمر الإيطالي، الفاقم الأبيض. إذن يكون الحيوان المستلقي على ذراعي سيسيليا، شعاراً على الرجل الذي كانت ترتبط به، اجتماعياً وجنسياً، وبالفعل يلاحظ المرء الانتباه في عينيه، والقوة العضلية لقوائمه، وتشبث مخالبه بكُمِّ الفتاة الأحمر. وكما هو الحال دائماً فإنَّ ليوناردو يَعكِس الدلالات بقوة حتى أنّها تتضاعف إلى حد الواقعية، والفقم من الحيوانات الضارية، فهو بطبيعته مثل ما كان لودوفيكو. ومن المحتمل جداً أنَّ ليوناردو قام برسم الحيوان مباشرة- كان تجار الفراء يجلبون حيوانات الفاقم إلى ميلانو. وهنالك خطاب من مسافر في موسكو يَعِد أخ لودوفيكو بأن يرسل إليه "سمامير جميلة وفقم، ودببة ومهرات بِيضاً، حيةً أو ميتة"
وابن عرس وأقرباؤه من " الفقم، والسمامير، والنموس وغيرها) كانت تمثل حيوانات أليفة للزينة، وعليه فإنَّ اللوحة ككل ليست خيالية: بل إنّها تحقق دلالاتها في إطار صورة تقارب واقعية الصورة الضوئية، مضاءة بجمال مقابل الخلفية القاتمة.
وعلى الرغم من تعرضها للتجاهل، ظلت سيسليا في عواطف آل مور، وكانت أثيرة بصفتها أمَّاً لأحد ابنائه الطبيعيين. ووهبت أراضٍ في سارانو، شمالي ميلانو، وفي 1492 تزوجت بكريموني، هو الكونت لودوفيكو بيرجاميني. لقد أسست صالوناً صغيراً في قصر كارمانيولا في ميلانو. وكان من ضمن زوارها هناك المؤلف ماتيو بانديللو، الذي أهداها اثنتين من رواياته، وامتدح حذقها، وقدرتها على التعلم، وأشعارها اللاتينية.
وظلت اللوحة في حيازتها، وفي 26 أبريل 1498 كتبت إليها جامعة التحف النهمة إيزابيلا دا إستي، تطلب إليها برسمية شديدة (على الرغم من أنَّ اللهجة لم تكن ودية على الإطلاق باعتبار أنّ إيزابيلا كانت أخت بياتريس):
تصادف أننا كنا نبحث اليوم عن بعض اللوحات الجميلة التي رسمها زواني بيلينو- المعروف أيضاً باسم جيوفاني بيليني- وبدأنا نناقش أعمال ليوناردو، وتمنينا لو كنا نستطيع رؤية بعضها لمقارنتها مع اللوحات التي لدينا. وتذكرنا أنَّ ل. ف. قد رسم لك لوحة على الطبيعة، فهلاَّ كنتِ من اللطف بحيث تبعثين بها إليَّ مع حامل الهدايا هذا والذي سنوفده إليك لهذا الغرض. وبالإضافة إلى إجراء المقارنة، فسوف نسعد برؤية وجهك. وسنعيدها إليك حالما انتهينا من دراستها.
وفي 29 أبريل أجابت سيسليا بأنها سترسل اللوحة.
بيد أنني كنت لأبعث بها عن طيب خاطر إن كانت تشبهني أكثر. سيدتي يجب ألا تعتقدي أنَّ هذا الشيء بسبب عجز المعلم، الذي أعتقد بحق أنّه فريد عصره، ولكنه بسبب أنَّ اللوحة رُسمت عندما كنت في عمر غير مناسب، ومذاك تغير وجهي بالكامل، وعليه فإن وضعتني واللوحة جنباً إلى جنب؛ فلن يعتقد أحد بأنني هي الفتاة التي تظهر ملامحها في الصورة.
وهذه بلاشك هي آخر مغادرة للصورة. بعد موت سيسليا في 1536، ظلت في ميلانو. وفي القرن الثامن عشر، وبحسب إفادة كارلو اموريتي، أمين مكتبة الامبروزيانا، " كان بالإمكان رؤيتها في ميلانو، ضمن مجموعة الماركيز بوناسانا". والذي هو الآخر أشار إلى أنَّ هنالك لوحات أخرى استلهمت منها: القديسة سيسليا تحمل آلة القانون، وأخرى فيها " هذه السيدة الشهيرة مرسومة كما كانت في اللوحة الأولى التي نفذها ليوناردو بنفسه في زهرة شبابها، ولكن بدلاً عن آلة القانون يبدو أنّها تحمل في يدها طية من ثوبها."
ثم في حوالي عام 1800، اشترى الأمير البولندي آدم جيرزي كزارتوريسكي اللوحة، وأعطاها لوالدته، إيزابيلا. فعلقتها في معرض لوحاتها، الذي تدعوه البيت القوطي، في عقار تملكه الأسرة في بولاوي، بالقرب من كراكو. وفي هذه المرة أضيف ذلك النقش الخاطيء إلى أعلى الركن الأيسر من اللوحة:
LA BELE FERONIERE
LEONARD D'AWINCI
,وتشرح ملاحظة كتبتها إيزابيلا أنَّ اللوحة " من المفترض أن تكون صورة لعشيقة فرانسوا الأول، ملك فرنسا. لقد كانت تدعى الجميلة فيررونييه كما يعتقد أن تكون زوجة حداد." (الفكرة التي رسم عليها ليوناردو هذه المرأة الفرنسية الأسطورية أثبتت تماسكها، وقد مُنح العنوان ذاته- بالخطأ نفسه- لواحدة أخرى من لوحاته الميلانية.)
وفي عام 1842 كانت عائلة كزارتوريسكي تعيش في المنفى في باريس، وكانت اللوحة معهم، وظلت في باريس لثلاثة عقود، في شقتهم بفندق لامبير، ولكن يبدو أنَّ مؤسسة الفن الفرنسي لم تدر عنها شيئاً. وقد أدرج كاتلوج آرسين هوساي المحيط لعام 1869 اللوحة على أنّها مفقودة. وعادت العائلة بعد أن وضعت الحرب الفرانكوبروسية أوزارها إلى بولندا، وفي عام 1876 تم عرض السيدة والفاقم علناً لأول مرة، في متحف كزارتوريسكي في كراكو.
وبحلول مطلع القرن العشرين تم قبولها والاحتفاء بها كإحدى لوحات ليوناردو الأصلية، وتمت تسميتها لوحة شخصية لسيسليا غاليراني من توثيق بيلينشيوني وآخرين. وكان لها مغامرة أخيرة أثناء الحرب العالمية الثانية. كانت قد خُبئت قبيل الاجتياح النازي لبولندا عام 1939 مباشرة، في سينياوا، مع غيرها من كنوز مجموعة كزارتوريسكي- منظر ريمبراندت، ولوحة وجه لرافائيل- ولكن تم اكتشاف مكانها السري. كانت السيدة قد عُرضت لفترة وجيزة في متحف كايزر فريدريتش في برلين، وقد حجزت لمتحف هتلر الخاص (The "Fuhrerauftrag) في لينز، ولكن بدلاً عن ذلك وصلت إلى المجموعة الخاصة بالحاكم النازي لبولندا، هانز فرانك، في قصره في بافاريا، واكتشفت في 1945 من قبل اللجنة البولندية الأمريكية. إذن فإنَّ أقدار الحب والحرب قد طبعت في لوح خشب الجوز الصغير الملون هذا والذي صدر من مرسم ليوناردو دافنشي في عام 1489.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment