ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
6-حكايات طويلة، وأحجيات صغيرة
في يومٍ ما من عام 1487 – على الأرجح- جلب ليوناردو لنفسه بعض الورق الفائض من مهملات الكاتدرائية، و على ظهر ورقتين خاليتين، كتب مسوّدة قصة مصوّرة عن ماردٍ في أفريقيا ، وعنونها إلى الرحالة وكاتب الرسائل بينيديتو داي، أحد الفلورنسيين في المجلس الميلاني. غادر ديي ميلانو في عام 1487، وهو تأريخ تقترحه كتابة المسوّدة: ربما كان المقصود من كتابة هذه القطعة إهداءها إليه أو عرضها عليه. ربما تُليت في عرض وداعٍ ما، مع زورواسترو الذي كان ليناسبه دور المارد، أو ربما، مثل الكثير من نزوات ليوناردو [ghirbizzi]، التي لا تذهب أبداً إلى أبعد من حدود مسوّدة مجتزأة مثل هذه. وهي تبدأ كما يلي:
عزيزي بينيديتو داي – حتى أطلعك على مستجدات الأمور هنا في الشرق، فلتعلم أنّه في شهر يونيو ظهر عملاق قادم من صحاري ليبية. ولد هذا العملاق في جبل أطلس، وكان أسْودَ، حارب ضد الملك ارتحشتا، وضد المصريين، والعرب، والميديين والفرس. وعاش في البحر وتغذى على الحيتان، وثعابين البحر والسفن.
وتستمر الحكاية لتصف معركة طاحنة بين العملاق وساكني الإقليم من البشر، مقحماً الكثير من الأوصاف الجلفرية على صغر حجم الناس، " يهجمون على جسده بغضب مثل نملٍ على جذع شجرة صنوبر ساقطة". وقد أيقظته وخزات طعناته يهمهم العملاق بهدير "مثل اصطفاق الرعد" "رافعاً إحدى كفيه إلى وجهه ليجده يعجّ بالرجال، المتشبثين بشعره."
ويضفي عليها ريختر بعض البريق واصفاً إياها بأنّها "قطعة من الدعابة"، بينما كنا لنعتبرها نحن "سخرية"- قصة رائعة تمت صياغتها بوضوح لتبدو كنشرة أخبار سائح. ومعظم روايات الرحلات في ذلك الوقت كانت تُكتب على شكل رسائل. فهي إذن دعابة حول المصداقية المشكوك فيها لمثل هذه القصص، وربما سخرية من قصة معينة- لا تخلو من جمال- على بينيديتو داي كمصدر لهذا النوع من الحكايات الطوال. ويتصل السياق برحلات بينيديتو لأفريقيا، وحكاياته عنها المتبّلة بلا شك برشة تقليدية من الملح والفلفل.
وربما كان ليوناردو يستحضر اسطورة عنتي ، الذي قُتل على يد هرقل، الذي يقال إنّه هو الآخر من أصل ليبي. وقد كان العملاق- بشكل أكثر تحديداً- صورة كاريكاتورية مرعبة للزنجي الأفريقي- "وجهه الأسود أكثر رعباً"، و"عيناه الدمويتان"، و" منخراه العريضان"، و" شفتاه الغليظتان" . ليس هنالك شك من أنّ ليوناردو انغمس –جزِلاً- في التنميط العنصري هنا. وسواءً كان يفرط في سخريته من أدباء الرحلات، أو معبراً عن بعض ما يجده من مشاعر غير متصالحة، فهذا شيء يصعب الجزم به. فالأفارقة السود كانوا غرباء، لكنهم لم يكونوا مجهولين في إيطاليا، فقد رسمهم العديد من فناني النهضة- خاصة في مشاهد التبجيل، حيث كانوا رفقة الملوك الغرباء أو المجوس- بيد أنّ ليوناردو لم يفعل. وكانوا يرتبطون بالتفوق الجنسي، كما في كتاب إل مانجانيللو الإباحي، والذي كان ضمن قوائم كتب ليوناردو في 1492، والذي نقرأ فيه عن زوجة التاجر الثري التي كانت تعجب ب"العضو الضخم[gran manganello] "لخادمها الأثيوبي. وقد التصق اسم "الأسود" "Moor" بلودوفيكو ربما في إشارة لقوته الجنسية، فالكلمة عندئذٍ كانت تعني الأفريقي الأسود أكثر من- أو ربما مثل- الأفريقي-العربي المغاربي عطيل في قصة شكسبير "أسود فينيسيا" الذي كان بلا شك ذا بشرة سوداء.
وانتهى الأمر بهذا الوحش ملتهماً الجميع، ومحطماً مساكنهم، وكذلك تربط قصة ليوناردو الساخرة بموضوع الدمار الشامل ذاك والذي كان هوساً يراوده من حين لآخر، وقد عبر عنّه في رسومات الطوفان ذائعة الصيت. تنتهي القصة بهذه الجملة المرعبة جداً: " لا أعرف ماذا أقول، ولا ماذا أفعل، لأنّي أجد نفسي أسبح مكبّاً على وجهي إلى الأسفل عبر ذلك الحلق الواسع، وأظلّ مدفوناً في ذلك البطن الضخم في حيرة الموت".
وتستدعى هنا الخدعة القديمة للقصة القصيرة حيث تجرف أحداث القصة راويها في النهاية- التهامه من قبل المارد في هذه الحالة- ولكنها تشتمل أيضاً على صفة تشبه الرؤى المعبرّ عنها في صيغة الطفو (" وأجدني في كل مكان كأنّي أسبح")، ويخالج المرء شعور بأنّ هذه الجملة تتعدى وظيفة السرد، وأنّ بإمكان ليوناردو الوصول إلى شيء داخله: كابوس بتعرضه للالتهام، والغرق والذي ربما يكمن معناه في الكلمة الأخيرة من الجملة. ويتذكر المرء هنا "نبوءة" ليوناردو تلك والتي اتضح أنّها نوع من كتاب الأحلام: الطيران والسقوط، والحديث مع الحيوانات، ورغبات سفاح المحارم.
وهنالك صورة أخرى لعملاق أسود في مدوّنة لاحقة. وهذه أقل إثارة للاهتمام، لأنَّ القطعة كانت منسوخة من كتاب آخر، ملكة الشرق لأنطونيو بوتشي، بيد أنّ مجرد رغبة ليوناردو لنسخ هذه القطعة بالتحديد تستحق الذكر. وهو لم يلتزم الدقة في النقل. ولقد أحببت التغيير في السطر الأول بصفة خاصة: حيث يصف بوتشي العملاق بأنّه " أكثر سواداً من الفحم [carbone]" فيغير ليوناردو هذا ليصبح " أكثر سواداً من الزنبور[calabrone]". والزنبور من الخنافس السوداء الكبيرة الحجم، ما زالت موجودة في إقليم التوسكان: وهو بالفعل عملاق في مملكة الحشرات. ولقد أضاف ليوناردو مقطعاً لفظياً واحداً وحوّل التعبير العاميّ إلى عبارة دقيقة وراسخة وملائمة شعرياً وجديرة بعلاقة الصداقة الطويلة التي تربطه بالبيشتويّ.
كانت لدينا فكرة عن ثقة ليوناردو المتزايدة باللغة، والتأثيرات الأدبية، وأدوات السرد ومفاتيحه. وتظهر هذه المهارات في قصة العملاق بيد أنّها ليست بذات قيمة كقصة. وهي تنتمي إلى فترة أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر عندما بدأ في تكوين مكتبة صغيرة للشعر والنثر، وعندما أصبح يكتب يومياته بانتظام. ولم تكن الأخيرة أدبيةً بكل تأكيد. فاللغة فيها عملية- أوصاف، وملاحظات، ومسائل، وحلول، وقوائم- ولكنها في ذات الوقت لم تخلُ من شيء من الوضوح والإيجاز، اقتضاب الكتابة باعتباره ركيزة أساسية للغة البصرية التي كان يجيدها بالفعل. وقد كانت كتب النحو والبلاغة التي على رفوفه تتصل بدراساته العلمية على الأرجح، ودوره كشارحٍ أكثر من طموحاته التي اكتنفها الغموض.
وبالنسبة لليوناردو فإنَّ الكتابة الأدبية تظل هامشية. ( واحدة من تدريباته الأدبية المفضلة- مما يعتبر مفارقة إلى حدٍ ما، كانت هي المقارنة [paragone]، بين الرسم والشعر، والتي كان قصب السبق فيها للرسم دائماً، وتشكل هذه المناظرة جزءاً من مقدمة إلى أطروحة التلوين.) إنّه ينميّ معرفته بالأدب، ويبدو، بشكل أساسي كمهارة اجتماعية أو سياسية. وقد كان يصادق الشعراء مثل كاميللي وبيلينشيوني في فلورنسا، ولكن إنجازاته الخاصة في ذلك المجال كانت محصورة- على حد علمنا- في مهاراته كمرتجل، ورجل غناء ورقص بصحبة قيثارته اليدوية. وخطابه المعنون إلى داي ينسجم مع ذات الطقس- الترويح، لعبة العقل، ربما كتبت من أجل مناسبة بعينها.
وتُعد جملتها الختامية الرائعة جوهرة غير متوقعة: قنبلة ختمت التمثيل بملاحظة مقلقة ومخيفة. وأعتبر أنّ هذا هو مزاج ليوناردو ككاتب- تنسيق متواضع، أسلوب بسيط في الحديث، لحظات من الشعر المفاجيء.
وذوق ليوناردو في التورية واللعب بالكلمات هو جزء من نظرته الضيقة إلى درجة مثيرة للاهتمام للكاتب، وهنالك صفحة مذهلة من أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر، تعود بالضبط إلى مرحلة الأدب المخادع هذه، والتي تستطيع مجدداً أن ترسل ومضات جميلة إلى عملياته الذهنية. وهي ورقة كبيرة في مجموعة ويندسر، محشوة بما يدعوه كينيث كلارك بطرافة "كتابة الأحجيات"- والتي تدعى بشكل عام الألغاز الرمزية أو الرسومية، أو الكتابة المشفّرة.
واللغز الرمزي Rebus" " عبارة عن كلمة أو اسم أو جملة يتم التعبير عنها صورياً: رمز بصري، بيد أنَّ اللعبة تكمن في تجنب الكلمات، وهي بالطبع لعبة لفظية شاملة، إذ إنّ حل الأحجية يعتمد بشكل كامل على روابط لغوية وعادة ما تكون مزدوجة المعاني. وربما اشتقت الكلمةRebus من نشرة الكرنفالات التي كانت تصدر بعنوان: De rebus quae geruntur ( حول الأحداث الراهنة)، والتي كانت تتجنب التشهير باستخدام الرموز الصورية والهيروغليفية في مكان الأسماء: أو بصورة أكثر وعياً باستخدام الصيغة التفسيرية " non verbis sed rebus" أي " ليس بالكلمات بل بالصور". وقد كان ثمة ولعٌ في إيطاليا بمثل هذه الكتابة المشفرة والتورية- وقد كانت الأحجية الهيرالدية/التنويهية ترمز إلى اسم عائلة شائع- بيد أنّ كتاب قواعد إنشاء الشعارات والشركات الأكثر تعقيداً لم يكن قد صُيغ بعد.
جزء من ورقة كبيرة من الألغاز الرمزية في ويندسر
وقد استطاع ليوناردو أن يحشر ما مجمله 154 من الأحجيات الرمزية في جانبي ورقة ويندسر. (بعض الأجزاء الأخرى من الكتابة الصورية، تعود للفترة ذاتها- ترفع المجموع إلى ما يقارب المائتين.) وقد رسمت هذه الرموز الصورية بشيء من العجلة: جودة الرسم في البراعة العقلية. وقد استخدمت الصورة فقط في بعض الأحيان، بينما تم الجمع بين الصور والكلمات أو الحروف في أغلب الأوقات (لذلك فهي ليست لغزاً رمزياً "خالصاً"). ويبدو أنّ الورقة كانت مسوّدة عمل، تُجرَّب فيها الأفكار، ويتم التخلص من بعضها إن كان رديئاً دون شك. وتمت كتابة المفتاح تحت كل لغز، الحل الملائم للغز البصري. إذن فحلّ اللغز الذي تظهر فيه حزمة الذرة وصخرة هو Gran calamita، أي مصيبة عظيمة، ومن خلال الاستعارة في كلمة grano التي تعني حبوب، وcalamita التي تعني حجراً مغناطيسياً. وحرف O + صورة ثمرة أجاص (pera)= Opera، أعمال. وجه [faccia] وحمار (asino)= fa casio، وهي عبارة دارجة تعني أنَّ شخصاً ما يصنع مجموعة من الأشياء في نفس الوقت. وبعض الكنايات تحدث بينما يتنقل داخل الجمل- وعليه فعبارة "إن كان ال" (se la) دائماً ما يرمز لها بسرج (sella)، وكلمة "سعيد" (felice) بالسرخس (felce). وقد أصبحت هذه الرموز جزءاً من الذخيرة الصورية التي يمكن اعادة استخدامها.
ونلمس هنا ما يشير إلى ليوناردو كمهرج البلاط- فهذه الألعاب تصلح للحفلات تسلية بالقلم والحبر. وربما يتصوره المرء ينتقل هنا وهناك، سيد الألغاز الغامضة، بينما يحاول الجمهور تخمين الإجابة. وربما كانت هنالك أيضاً أشياء جانبية عملية، إذ أنَّ الرموز الصورية كانت شائعة مثل الديكور المعماري. ووفق شهادة المهندس المعماري الميلاني سيزار سيزاريانو، فقد زينت قلعة سفورزا بألغاز هيروغليفية مثل هذه، لكنْ النظر إليها لم يعد بالإمكان. كما أنَّ صديق ليوناردو برامانتي قد صمم لاحقاً نقشاً في تكريم البابا يوليوس الثاني على برج الفاتيكان، والذي نقشت عليه عبارة "خوليو الثاني بونت ماكسيمو" عليه فمهارة الترميز الصوري التي يمارسها ليوناردو هنا قابلة للتطبيق عملياً بالنسبة للمعماري الطموح في فترة أواسط ثمانينيات القرن الخامس عشر.
وسواءً أكانت تتسم بالعملية أم لم تكن فهي تتميز بطابع ألعاب "الارتباط الحر" النفسية في الألغاز الصورية. فعقله يتنقل بين شتى مستويات المعنى، بين الصور والحروف، مستمتعاً بالنشوة السيميائية التي تنبثق منها معانٍ متشعبة وغريبة. بعض العبارات التي يجترحها ذات نكهة نفسية حريفة. " siamo scarico di vergogna"" – لقد تخلصنا من كل الخزي"، "ora sono fritto"- لقد انتهيت الآن [المعنى الحرفي :" أنا مشويّ الآن"]. وربما يرفع الأخصائي النفسي حاجبيه من الدهشة للحظة واحدة عند رؤية تلك الصورة الشخصية المخربشة بسرعة والتي ذكرتها سلفاً، في ما يتعلق بالأسد في لوحة القديس جيروم- الأسد في اللهب= Leone+ardere= ليوناردو. كتورية تفصح عن نفسها أو رموز هيروغليفية تبدو أكثر كآبة: الأسد نبيل بالبداهة، وقويّ، مدحور ومُحطَّم. ونبدو كما لو أننا مرة أخرى في طقس حكايا أكسفورد الانفعالي. حتى هنا، في ألعاب الألغاز اللطيفة، نجد أنَّ الكلمات تفتح مسارب حياة ليوناردو الداخلية.
الشيء الآخر الذي صُمم لأغراض الترفيه الملكي كان "نبوءات" ليوناردو الملغزة، والتي اقتبست منها بالفعل في الصفحات السابقة. وتتسم واحدة منها بما يبلغ منزلة الإخراج المسرحي: قلها بصيغة فرنسية أو مجنونة، كما لو كانت تنبع من جُنّة في العقل." وبعبارة أخرى فقد تم إخراج هذه النبوءات بنوع من النشوة النبوئية الزائفة أو الصخب. والمرشح الجليّ لهذا الأداء سيكون زورواسترو، والذي كان إندوفينو أحد ألقابه. "النبي" أو "المتنبيء"، كان للكلمة جرس هوكس بوكس الغامض (راجع إندوفينيللو، لغز) والذي يلائم هذه التوقعات المضحكة.
فكاهة النبوءات تكمن في التفسيرات المضادة للتصعيد في أصالة بادية. وهي في الغالب تشير إلى التفاف طفيف في المعنى، لا يختلف كثيراً عن التوريات البصرية في الألغاز الرمزية- هؤلاء الذين "يسيرون في أعلى الأشجار" هم رجال يرتدون قباقيب خشبية، وهؤلاء الذين يمشون على جلود الوحوش العملاقة" هم رجال ينتعلون أحذية من جلد الثور، ومن سوف "يذهبون في سرعة أسرع المخلوقات مستخدمين النجوم" هم الأشخاص الذين يستخدمون المهماز" الذي يأخذ شكل النجمة. " سوف تكبر "الأجساد" عندما يؤخذ منها الرأس، وتتلاشى عندما يعاد إليها الرأس" هي الوسائد. والحيوان الذي سوف "يرى لسانه على مؤخرة الآخر" يشير إلى عادة الجزار في لف ألسنة الخنازير والعجول في الأمعاء. هذه هي المعاني التي كان على الحضور تخمينها.
ولكن هنالك أيضاً عنصر ازدواجية الخدعة: فالنبؤات عادة ما تكون معبرة على نحو لاذع في نصوص قصيرة، والتي تتباطأ في العقل بعد أن يتم شرحها وتحجيمها. مثل نشرة الأخبار الزائفة لداي، فهي تظل في مخيلة الدمار والعنف. فهي تعبر أيضاً عن فكرة الطبيعة كضحية جريحة ومُنتهكة من قبل الإنسان المغتصب.
سوف يكون هنالك كثيرون يسلخون جلد أمهاتهم ويقلبون الجزء الداخلي منه للخارج [هؤلاء الذين يحرثون الأرض]
سوف يضرب الناس من أعطاهم الحياة بلا هوادة [من يدرسون الحنطة]
سوف تعود أيام هيرود، عندما ينبغي أن يؤخذ الأطفال من حضن مرضعاتهم، وسوف يموتون بجروح عظيمة على يدي الرجال القساة [الأطفال] بضربات لا تعرف الشفقة، سيؤخذ الأطفال من أذرع أمهاتهم، ويرمون إلى الأرض ويقطعون إرباً" [اللوز، والزيتون. إلخ]
وهذه النظرة الحنونة بيئياً للطبيعة موجودة في حكايات ليوناردو، التي ربما كتبت على الأرجح من أجل تلاوتها في البلاط. وبحسب ما يمكن تأكيده فإنَّ الحكايات الثلاثين أو نحوها هي من المؤلفات الأصلية. فهي تضاهي حكايات إيسوب لكنها ليست مستقاة منه. ولربما عرف ليوناردو مجموعة ألبرتي، الطوفان (لم تنشر قبل عام 1568، ولكن مخطوطاتها كانت متاحة دون شك). لقد كانت الحكايا مفعمة بحس روحاني للمشهد باعتباره كائناً حياً. لم تكن الحيوانات فقط ذات صوت في القصص، بل الأشجار والنباتات والحجارة أيضاً. لقد أصبحت مخلوقات مرهفة، وقادرة على الشعور بالألم، ألم يتسبب به الإنسان. فصُوِرت شجرة البلوط كأمٍّ رؤوم ما أبناؤها الأعزاء إلا حبات الكستناء.- قد نزعت عنها هنا. والصفصاف التعس قد "شُوه، ومُزّق وخرِّب". فالحصاد جارح. وهنا قصة قصيرة جداً حول شجرة جوز، تكاد تكون قصيدة نثرية حِكَمية قصيرة: Il noce mostrando sopra una strada ai viandante la richezza de sua frutta, ogni omo lapidava" (شجرة الجوز على جانب الطريق تباهت بغنى ثمرها أمام المسافرين؛ فرجمها الجميع).
يحب ليوناردو الطرائف، وقد كتب عدداً منها هو نفسه- نشاط تقليدي لا ينبغي منحه أية أهمية خاصة: مسبحة الدراويش أو الكتب الشائعة في ذلك الوقت مليئة بالطرائف. والمكتوب منه يجب اعتباره انعكاس شاحب للنكتة المحكية. وقد يخال للمرء أنّ تقديم ليوناردو لها سيكون بوجه أكثر جموداً، وتكلُّف زائف. وعذوبة حديثه- كما تحمس لها فازاري- تشير إلى رجل يمكن أن يكون مسلياً بالكلمة. ولقد أشرت إلى أنّ هنالك انطباعاً عكسياً أيضاً، لدرجة معينة من الصمت والتحفظ، ولكن لأنّ كل هذا كان مضحكاً ويثير ضحك الناس- ويضحكه هو نفسه- كان جزءاً من حياة ليوناردو. وربما لم تكن مصادفة أنَّ أشهر لوحاته هي المعروفة في إيطاليا بالجيوكوندا- أي المرأة المضحكة.
لنكات ليوناردو سمات عديدة: بعضها يتحول بشكل مضجر إلى كنايات، وواحدة أو اثنتان منهما يبدو أنها ضلت طريقها بعد انحدار مفرداتها إلى طريق مسدود. بعضها تهكمي، بشكل خاص ضد الكتبة- وبعضها بذيء، في بعض ما قد نعتبره قوياً تأثرٌ بتشاوسر. ولكل من السخرية والبذاءة جذور في حكايات بوكاشيو ومقلديه، وبشكل أكثر مباشرة في مجموعة إباحيات عصر النهضة- اللطائف- سابقة لأعمال بوجيو براكشيوليني، وبعضها كئيب للغاية.
تبدو النكات مبعثرة في مخطوطات ومدوّنات ليوناردو. وهنا بعض منها.
رجل كان يحاول إقناع سلطة فيثاغورس أنّه قد عاش في هذا العالم من قبل، ورجل آخر لم يكن ليقبل حجته. عليه قال الرجل الأول " كعلامة على وجودي هنا من قبل فإني أذكر أنّك كنت طحاناً." وقال الآخر معتقداً أنَّ هذه العبارة قيلت نكاية فيه أجاب، " نعم أنت محق، لأنني تذكرت الآن أنك الحمار الذي كان ينقل لي الدقيق."
سئل رسام لم أنتج مثل هذه الأشكال الرائعة، إذ أنّها كانت أشياء ميتة، ولماذا رسم أطفالاً دميمي الخلقة. وقد أجاب عليهم قائلاً أنّه رسم لوحاته بالنهار ورسم الأطفال ليلاً.
كانت امرأة تغسل الملابس، وقدماها حمراوان من البرد. وقد اندهش كاهن كان ماراً بها من هذا الأمر، فسألها من أين جاء الاحمرار، فأجابت المرأة على الفور: بسبب النار التي كانت تحتها. عندها أخذ الكاهن في يده ذلك الجزء منه الذي يجعله كاهناً أكثر منه راهبةً، وسألها بكل تهذيب إن كان بإمكانها أن تتعطف عليه فتشعل شمعته.
إن كان بترارك هائماً بعشق أوراق الغار، فهذا لأنّها ذات مذاق شهي مع السجق وطائر السمنة.
والنكتة الأخيرة تشتمل على جناس في اللاورو، شجرة الغار، ولورا التي انشد من أجلها بترارك قصائد الحب.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment