Wednesday, March 20, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 7 - القديس إرميا والأسد





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
7-القديس إرميا والأسد
" لم كل هذا الحزن يا ليوناردو؟" كتب الشاعر كامّيلي، ويمكن رؤية شيء من هذا الحزن في وجه القديس جيروم القوي والحزين الذي بدأ ليوناردو رسمه في 1480. واللوحة موجودة الآن في الفاتيكان، غير مكتملة، وفي حالة تشبه حالة لوحة تبجيل المجوس ذات الطبقة التحتية الأحادية اللون، والتي كُلف بها في بداية عام 1481 وهُجرت عند سفر ليوناردو إلى ميلانو السنة التالية. الدراسات التحضيرية – عدة أشكال للقديس جيروم"- مذكورة في قائمة عام 1482، ولكنها لم تنج. الرسومات الأولى التي يمكن أن تكون ذات صلة خاصة باللوحة هي رأسي أسد يظهران في عقب إحدى أوراق السيدة العذراء والطفل التي تعود لأواخر عام سبعينيات القرن الرابع عشر. 
القديس جيروم في البرية كان موضوعاً ذا شعبية واسعة. ومنها ما رسمه ماساكيو، وبيرو ديلا فرانسسكا، ومانتينيا، وبيلليني، ولورينزو لوتو؛ وقد وُصف القديس كتابةً أيضاً في دراسته، كما في لوحة غيرلاندايو الجصّية في اونيسانتي، والتي رُسمت في ذات الفترة التي خرجت فيها لوحة لليوناردو للوجود. وقد كان القديس جيروم(أو غيرولامو، أو هيرونيموس) وهو باحث يوناني من القرن الرابع من أكثر آباء الكنيسة الأوائل علماً وبلاغة، واشتهر بسبب نسخته اللاتينية من الإنجيل (الفولجاتا). 
وكان أفضل تجسيد للارتباط بين الدين والإنسانية الفكرية، كما كان جاذباً للرسامين بسبب مالسطوته من درامية كراهب في الصحراء السورية. وتشير المصادر التأريخية إلى أن هذا دام لفترة خمس سنوات، 374-378 عندما كان جيروم في الثلاثينيات من العمر، ولكن جرى تصويره دائماً على أنّه رجل عجوز. وبالتالي فهو في نسخة ليوناردو لم يظهر بلحية أبداً. وملامحه تعيد للأذهان صورة التمثال النصفي الكلاسيكي الشهير للفيلسوف والدراميّ سينكا، والشيء الذي يؤكد على الطابع الكلاسيكي لشخصيته مثله مثل الطابع المسيحي.    
ويظهر الرسم قديساً ضئيل الجسم يضرب نفسه بحجر: رمزية جيروم التائب. ويظهر كل وتر في تصلب عنقه وكتفيه: هذا فيما يتعلق بأولى رسومات ليوناردو التشريحية. والتي ظهرت فيها بشكل خام الملامح التقليدية الأخرى لأيقونة جيروم- طاقية الكاردينال والتي هي عبارة عن كرة حمراء بجانب البزّة، والصليب، بادية في الرسم المائل في الطرف الأعلى للصورة؛ الجمجمة، أسفل اليسار، وفي منحنى ذيل الأسد، وأيضاً بالطبع الأسد نفسه. ومن بين ديناميكيات الرسم واحدة من زوايا النظر للوحة: ينظر الأسد ناحية القديس: وينظر القديس ناحية جسد المسيح المصلوب. 
                      
رسم ليوناردو غير المكتمل للقديس جيروم، 1480
ليس هنالك توثيق أقدم للوحة، ولكن يمكن التعرف على نافذة صغيرة غريبة في الصخور على الركن الأيمن العلويّ، ولكنّها تحمل كذلك إشارة أكثر تحديداً. أما بالنسبة للمشاهد الفلورنسي فيمكن التعرف على الفور على واجهة الكنيسة التقليدية بعتبتيها المقوستين مثل عتبتي كنيسة القديسة ماريا نوفيلا، التي صممها ليون باتيستا البرتي، واكتملت في عام 1472. وقد كان هذا بمثابة تذكار لعائلة آل روشيلاي، الذي حفر اسمه على المقدمة، وقد حوكي توقيعه على أحد الأشرعة (يشير إلى الحظ الطيب) في تلك المنحنيات الممتازة.  ووجوده هنا قد يشير إلى القديس جيروم راعي ليوناردو- وليس فاعل خير آلبرتي العظيم جيوفاني روشيلاي، والذي كان ميتاً وقتها، ولكن ابنه برناردو. لقد قابلناه بشكل عابر في الفصول السابقة: تابع متحمس لفيشينو، وحام على الأرجح (أو "والد" حسن السمعة)  للمتباهي الصغير توماسو ماسيني، والمعروف أيضاً باسم زورواسترو.  وهو كريم ودارس نهم، وضليع متعمق في الآثار الكلاسيكية- انظر لمسالك مدينة روما، والمكتوبة في 1471- يبدو برناردو ورشيلاي مرشح مناسب جداً للتكليف برسم اللوحة. 
وكما في جميع اللوحات، كان جيروم برفقة أسد. وهذا هو التباس عصر النهضة الذي طاله أمده: فالقديس الذي كسب صداقة الأسد من خلال إخراجه الشوكة من قدمه كان هو سان جيراسيمو وليس سان جيرولامو، ولكن الأسد كان في ذلك الوقت قد أصبح أساسياً في أيقونة الأخير. 

تفصيلة من خلفية القديس جيروم، تظهر كنيسة مشابهة سانتا ماريا نوفيلا (أدناه)


وأسد ليوناردو رائعٌ: خطوط قليلة بارعة هي كل ما هنالك، ولكنها تمنح المخلوق منحنى صقيلاً وسنّوريّاً. ومن المؤكد أنّه في الغالب قد رسم من الطبيعة. فقد كان هنالك "بيت أُسد" شهير في فلورنسا، يقع وراء قصر الشعب. وفي المناسبات الخاصة كانت الأسد تجلب إلى ميدان الشعب من أجل "صيد الأسود": وقد شهد لوقا لاندونشي مناسبة مثل تلك، وقد نظمت على شرف زيارة دوق ميلان في بدايات خمسينيات القرن الخامس عشر- حيث رمى الأسد نفسه على حصان مذعور، والذي سحبه من السوق إلى وسط الميدان". وقد سجل لاندونشي أيضاً زيارة لبيت الأُسد في 1487: " وكان هنالك حارس يعمل على ترويضها جيداً، حتى يتسنى له الدخول إلى أقفاصها ولمسها- خاصة أحدها." 
وقد رأى ليوناردو دون شك هذه الأُسد وذلك لأنّه يتذكر في واحدة من من المخطوطات التشريحية في ويندسر، " لقد رأيت كيف قام الأسد بلعق حمل في مدينتنا فلورنسا، حيث يوجد حوالي خمسة وعشرين منها، كانت ترعى هناك. وببضعة لعقات كان الأسد قد نزع معظم الصوف الذي كان يغطي جلد الحمل، وكان ينزع لحمه نزعاً ويأكله." وتعود تلك الفقرة إلى بدايات القرن السادس عشر، ولكنّها قد توثق لتجربة أقدم كثيراً. إنّها نقطة اختلاف مثيرة للاهتمام بالنسبة لقطعة أكثر حرفية في "ضواري" ليوناردو: " عندما تقدم الحملان كطعام للأسد المحبوسة في الأقفاص فهي تخضع لها كما لو كانت أمّها، وعليه فدائماً ما ترى الأسود وهي غير راغبة في قتلها." 
ذلك هو المشهد الرمزي و الأكثر عاطفية للحمل المستلقي بجانب الأسد. والذكرى دقيقة وواقعية ومصّورة، وثابتة بسبب ذلك التباين. فنحن نراه هناك يراقب بانتباه، متجهم قوة الوحش المدمرة. 
وفي لوحة القديس جيروم ومن خلال حيلة منظورية، يتفرج الأسد في مقدمة اللوحة مراقباً إياه. ويفصح فمه عن شيء هو بين زئير الأسد ومنظر من فغرت فاه المفاجأة: وهذا ما أعطى الرسم ميزة الدراما اللحظية تلك التي يسعى إليها ليوناردو. وفي جانب منها – عبر الجناس بين الأسد(Leone) وليوناردو(Leonardo)- يجَسِّد الأسد الفنان نفسه. وهذه الصلة اللفظية حاضرة في واحدة من ألغاز ليوناردو وأحجياته الصوَّرية المرسومة في أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر من أجل الترفيه عن البلاط الميلاني. وهي تظهر أسداً  تبتلعه ألسنة اللهب بالقرب من الطاولة. ولقد دبجها بعبارة "leonardesco" حيث تعني Leon أسد+ardere يحرق+ desco طاولة أو مكتب). وليونارديسكو بالطبع اشتقاق من ليوناردو للوصف: والأحجية بالتالي يحمل تورية لوحة شخصية، أو شعار. ليون باتيستا ألبرتي استخدم جناساً مشابهاً هو الآخر في "أساطيره" (Leon/leone)، مقارناً نفسه بالأسد "الذي يحترق بالرغبة في المجد": وعلى الأرجح كان ليوناردو على علم بهذا العمل. 
وكذلك يشير وجود الأسد المرسوم إلى وجود الرسام ليوناردو، فكلاهما شاهد على معاناة القديس. 
وطبوغرافيا هذه اللوحة عجيبة من نوعها. لقد كان القديس جيروم يصور تقليدياً وهو جالس خارج مغارة الراهب. ذلك الفضاء المربع في أعلى يمين اللوحة قد يشير إلى مدخل مغارته، ولكن مفتوح على مشهد الكنيسة البعيدة ولذلك فأصبح نوعاً من النوافذ أكثر منه إلى الأبواب. 
فهل نحن على ذلك داخل المغارة ونتجه بأنظارنا خارجاً؟ فاللوحة – التي تكتمل على الأقل- لا تجيب على هذا السؤال. 
ويبدو أنّ لهذه المناظر علاقة بنص مثيرٍ للاهتمام في مخطوطة أرنديل، والذي يصف مشاعر ليوناردو كما لو كان يبحلق في فم كهف مظلمٍ.  وهي مكتوبة بخط يد مزخرف يطابق ما كان يستخدمه الفنان في الفترة الفلورنسية الأولى: ويعود في تأريخه على الأرجح إلى حوالي 1480، أي بشكل عام في تزامن مع هذه اللوحات. وتبدأ الصفحة بأربعة مسودات مجزأة تصف ثورة بركانية عارمة وقوية- " الحمم المقذوفة أماماً"، إلخ.- ولكن الكتابة تغير أدواتها، فتنبعث قصة قصيرة أو حلقة، فقرة واحدة توضح بكل بساطة ودون أدنى إشارة إملائية للتردد. 

بينما كنت أهيم في أحد الدورب التي تحفّها الصخور الكئيبة وجدت نفسي أمام فم مغارة ضخمة، وقفت أمامها لبرهة مشدوهاً بهذا المكان. لم أك أعلم عنه شيئاً من قبل. تدليت وأنا أحني ظهري، ويدي اليسرى تستند على ركبتي، بينما تظلل يدي اليمنى حاجبي المنخفضين والمقطبين، وبذات الحالة من الانحناء دلفت إلى المغارة وحاولت معرفة ما إذا كان هنالك شيء داخلها، ولكن عمقها وعتمتها منعاني من فعل ذلك. كنت قد أمضيت بعض الوقت هناك عندما نشب فيّ شيئين بغتة، الخوف والرغبة- الخوف من تلك المغارة المظلمة الخطرة، والرغبة في رؤية ما إن كان هنالك شيء رائع بين جنباتها.
إنّها قطعة أدبية بكل تأكيد- أولى مساعي ليوناردو في هذا الاتجاه- ولكنها لا تخلو من حيوية وإشراق يشيران إلى أنّها ربما احتوت ذكرى مخزونة، ربما من مرحلة الطفولة. وقد يضعها هذا الشيء بجانب حلم الحدأة: قطعة نادرة من السرد الشخصي تعبر عن نوع مماثل من الغموض السيكولوجي- "الخوف والرغبة".
وربما يمكن للمرء أن يقول بأن لوحة عذراء الصخور تكشف بدقة عن "شيء ما رائع" في عتمة المغارة: في تلك المجموعة الرمزية، رسالة الخلاص في المسيحية تحكى في التقاء الطفلين المسيح والقديس يوحنا. جزءاً من أثر اللوحة يكمن في تلك العذوبة وسط المشهد تلك الصخور الكئيبة. فهي تعكس توقعاً مضاداً، لأنّ أفواه المغارات المشابهة تشير إلى مدخل للعالم السفلي أو الجحيم في مخيلة العصور الوسطى. وهذا الشيء هو الآخر موجود في عمل ليوناردو- ليس في لوحة ولكن في تصميم لخشبة المسرح تم إعداده لدراما بوليزيانو الموسيقية "أورفيو"، حول هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي لينقذ إيروديس. وتظهر في الرسومات التمهيدية مدىً من الجبال الصخرية التي تفتح بآلة ماكرة لتكشف عن غرفة دائرية فيها. فهذه المغارة المسرحية ليست سوى صورة للجحيم تحديداً: إنّها هي "مسكن بلوتو" إله العالم السفلي كما يصفها ليوناردو. وفي مذكراته يواجه اللحظة الدرامية للكشف: عندما تفتح جنة بلوتو، يظهر الأبالسة وهم يعزفون على اثني عشر طبلاً تشبه أفواه الشياطين، وهنالك الموت، والغضب وسيربيروس ، والعديد من الأطفال العراة يبكون، وثمة ألعاب نارية بألوان متنوعة." 
وبهذه الطرق يعود ليوناردو إلى زيارة "مغارة" نص أرنديل المظلمة، والمخاوف والرغبات التي تثيرها. وفي رسمه للقديس جيروم ثمة مكان للخراب وإنكار الذات الشديد؛ ففي عذراء الصخور هو مشهد المباركة الذي يبعث على السكينة والسلام، وعلى المسرح في ميلانو هي رؤيا لنار الجحيم. فما قد كشف هناك يظل غامضاً، كما هو في النص الأصلي، وربما إن كان للكهف معنىً فهو لا يعدو كونه-بكل دقة: غموض المجهول. فما الذي قد يتكشف للمرء إن نقَّب في أسرار الطبيعة السوداء- أشيء مروع أم رائعٌ؟  إذن أمسك ليوناردو بهذا الجزء الصغير النادر من تأمل الذات: المستكشف المتردد، يتسكع في فم المغارة. نشعر مرة أخرى بالحدة التي تلازم سعي عصر النهضة العظيم وراء المعرفة: فهذه اللحظات التي تساءل فيها عما إذا كان من الأفضل أن تترك الظلمة كما هي ولا تُبدد. 



------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment