Wednesday, March 20, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 2 - الرجل المشنوق





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

2- الرجل المشنوق

قبل منتصف يوم الأحد 26 أبريل 1478 بقليل تعكر صفو احتفال القداس بكاتدرائية فلورنسا إثر اضطراب مفاجيء. ففي اللحظة التي رفع فيها الكاهن القربان، وقرعت أجراس القدس، سحب رجل يدعى بيرناندو دي باندينو بارونسيلي مديةً من ردائه وغرسها في جسد جوليانو دي ميديتشي، الأخ الأصغر للورينزو دي ميديتشي. وبينما كان يتدحرج إلى الوراء طُعن جوليانو بضراوة ولعدة مرات من قبل رجل آخر هو فرانشسكو دي باتسي: وقد وجد أنَّ هنالك تسعة عشر جرحاً في جسده. كان لورينزو هو الآخر هدفاً لمحاولتي اغتيال أخريين في الأبرشية- الكهنة الساخطون- ولكنهم أفسدوا المهمة. فحُشر في الغرفة المقدسة الشمالية وهو ينزف بغزارة من جرح في عنقه. كانت الأبواب البرونزية الضخمة موصدة عليه، بيد أنّ أحد أصدقائه وهو فرانشسكو نوري قد تلقى طعنة خطيرة في ذلك الاشتباك، من مدية بيرناردو دي باندينو ذاتها. 
كان هذا هو يوم مؤامرة آل باتسي ، وقد سمي أيضاً مؤامرة أبريل، وهي محاولة يائسة للانقلاب على حكم آل ميديتشي، بتحريض من عائلة آل باتسي من التجار الفلورنسيين الأغنياء، والتي تلقت دعماً سرياً من البابا سيكتوس الرابع، وتورط فيها عدد من المصالح المناهضة لآل ميديتشي بما في ذلك مطران مدينة بيزا. وهنالك شهادات معاصرة للمؤامرة سردها الشاعر أنيولو بوليزيانو الذي كان بالفعل في الكاتدرائية عندما وقع الهجوم؛ و كاتب المذكرات لوكا لاندوكشي، الذي شهد الانتقامات المروعة التي تلت الحادثة، وكذلك المؤرخون الفلورنسيون مثل ماكيافيللي وفرانسسكو غويتشيارديني. بنية الواقعة التي أوردتها هذه المصادر، والتي كانت قد سلمت إلينا حتى الآن هي بعيدة كل البعد شكلاً ومضموناً عن التعاطف مع آل ميديتشي، ولكنْ ثمة آفاق جديدة فتحها كتاب لاحق من تأليف لاورو مارتينز. لقد كانت دوافع المتآمرين متشابكة، ولكنْ  هنالك شكوى أصيلة من سخرية سياسات قوى ميديتشي- التي يدعوها مارتينز "اغتصاب" لورينزو "التدريجي" لحريات فلورنسا السياسية التي ملأ ذكرها الأشداق بالرشوة، وتزوير الانتخابات وسرقة الأموال العامة.  فاغتيال دوق ميلانو قبل سنة أو نحوها كان سابقة- يفجر الموت صدمته بشكل مماثل أثناء قداس كبير في كاتدرائية المدينة- وقد كان إعدام مغتاليه البربري عبرةً. 
وفي غمرة ذلك الارتباك في الكاتدرائية يفر الجناة، ولكن فشل النصف الآخر من الخطة- الاستيلاء على قصر الشعب بواسطة فرقة من المرتزقة البيروجينيين- وعندما اندفع جاكوبو دي باتسي إلى الميدان هاتفاً: "Popolo e liberta!" " من أجل الشعب والحرية" وجد أبواب القصر مغلقة. وكان صوت جرس الإنذار المعروف بلا فاكا يدوي من برجه، وكان المواطنون المسلحون يتدفقون إلى الشوارع، فقد أحبطت الثورة. جاكوبو عميد الأسرة في فلورنسا، كان في البداية متهكماً حيال الانقلاب الذي روّج له ابن اخته فرانسسكو، رئيس بنك آل باتسي في روما. " سوف تكسر رقابك،" لقد حذّر المتآمرين. ولكنه في النهاية اقتنع، بيد أنَّ نبوءته قد أثبتت صحتها، وكانت عنقه بين تلك الرقاب التي كُسرت.  
والآن بدأ الانتقام الدموي. تم تعليق بروتوكولات الإعدام العلني الفلورنسي السوداء: الليلة الأولى لم تكن سوى إعدامات جماعية خارج القانون. ووفقاً لشهادة لاندوتشي، كان هنالك أكثر من عشرين متآمراً معلقين خارج نوافذ قصر السيادة والبارجيلو. وألحقوا بستين آخرين على الأقل، ماتوا في غضون الأيام القليلة التالية. في اليوم الأول وبينما كانت فرق الانتقام تجوب الشوارع ظهر لورينزو من شرفة في قصر ميديتشي، وهو يلف عنقه المجروح بشالٍ: المنتصر. وبحسب فازاري، كان فيروكيو قد تلقى تكليفاً بأن تُصنع له ثلاثة تماثيل شمعية بالحجم الطبيعي، وهو في ذات الهيئة التي ظهر بها في لحظة النصر المرير ذاك. لم يتبق أثر من تلك التماثيل، ولا من لوحات بوتشيللي الشخصية للخونة المتدلين من المشانق، والتي تلقى عليها الرسام 40 فلوريناً في منتصف شهر يوليو.  وعليه فإنَّ المرسم كان يخدم سادتهم السياسيين.  
في 28 أبريل تلقى لورينزو زيارة سرية من لودوفيكو سفورزا، الراعي المستقبلي لليوناردو- والأخ الأصغر للدوق المغدور، جالياتسو ماريا. بيد أنّ ابن الأخير ذا السنوات العشر، جيان غالياتسو، كان دوقاً شكلاً، بينما أصبح لودوفيكو الآن رجل ميلانو القوي. فقد كان هو المسيطر على خيوط اللعبة، وسوف يحتفظ بها، بشكل ملحوظ لأكثر من عشرين سنة. لقد قدم تعازيه ووعوده بالدعم والولاء للورينزو. 
وقد تم القبض على ثلاثة من منفذي الاغتيال الأربعة في الكاتدرائية. تم شنق فرانسسكو دي باتسي في الليلة الأولى للمؤامرة واثنين من الكهنة الذين فشلوا في تنفيذ الاعتداء على لورينزو قضوا في الخامس من مايو- ويقال إنّهم قد تعرضوا للإخصاء قبل شنقهم. الرجل الرابع، القاتل المزدوج بيرناردو دي باندينو، كان أكثر ذكاءً، أو ربما أكثر حظاً، أو الاثنان معاً. اختبأ في غمرة الهرج الأول بعد قتل جوليانو، على بعد أمتار قليلة من مسرح الاغتيال، في برج جرس الكاتدرائية. وعلى نحوٍ ما بالرغم من المراقبة التي فرضت عليه، فقد تمكن من الخروج من فلورنسا، واستطاع الوصول إلى الساحل الإدرياتيكي في سينيجاليا، ومنها غادر إيطاليا على متن إحدى البواخر.   
لقد اختفى. لكن عيون وآذان آل ميديتشي كانت في كل مكان، وفي السنة التالية وردت الأخبار بأنَّ باندينو كان في القسطنطينية. تم إرسال الممثلين الدبلوماسيين بواسطة القنصل الفلورنسي، لورينزو كاردوتشي، كان المبعوثون محملين بالهدايا، وتم اعتقال باندينو على يد ضباط السلطان. وتمت إعادته إلى فلورنسا مكبلاً بالسلاسل، وأُخضع للتحقيق ومن دون شك للتعذيب، وفي 28 ديسمبر 1479 عُلق من شرفات قصر البارجيلو. 

برناردينو دي باندينو بارونسيلي مشنوقاً
كان ليوناردو موجوداً هناك، لأنّ الرسم الأولي الذي نفذه وكان يظهر جسد باندينو المعلق كان بلا شك في الموقع. الملاحظات التي أظهرت اهتماماً بالشكليات في الركن العلوي الأيسر للورقة سجلت بدقة ما كان يرتديه باندينو لتلك المناسبة. " قبعة صغيرة داكنة اللون، صدرية ضيقة من قماش الصوف الأسود، وسترة طويلة مبطنة: ومعطف أزرق مبطن بفرو الثعالب [بفرو أعناق الثعالب تحديداً] وياقة السترة مغطاة بالمخمل المرقط، بالأحمر والأسود، وجوارب سوداء". تعطي هذه الملاحظات حساً من التقريرية للرسم: لحظة تأريخية قصيرة تُشهد. كما تشير أيضاً إلى أنَّ ليوناردو قد اعتزم إكمال الرسم وتحويله إلى لوحة تشبه تلك التي قام بوتشيلي برسمها السنة الماضية. ربما كان قد كُلف بذلك العمل، أو ربما كان تحت تأثير صدمة هذا المشهد الذي يقع مباشرة على عتبة دار سير بيرو .
وبينما يتدلى الجسم في مهانته الأخيرة، مقيد اليدين حافي القدمين، يلتقط ليوناردو حساً غريباً بالراحة.
في وجه باندينو النحيف وفمه المائل إلى الأسفل نظرة مفعمة بالأسى، كما لو أنّه من وجهة النظر الجديدة جذرياً هذه، في  تأمل لما اقترفه من أخطاء. وفي الركن الأسفل الأيسر يقوم ليوناردو برسم الرأس مرة أخرى، مع قليل من الضبط للزاوية، مضفياً عليها تلك الإمالة من الاستسلام المرهق والتي كثيراً ما تُرى في تصاوير المسيح المصلوب. 


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment