Wednesday, March 20, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 3 - زورواسترو





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

3- زورواسترو

إنه وقت إنقاذ واحد من أكثر الشخصيات غرابة وأعظمها دوراً في حاشية ليوناردو من الغموض الذي يلفه: توماسو دي جيوفاني ماسيني، والمعروف بشكل عام بلقب "زوراسترو". وقد ذكره المجهول الجادّي باعتباره واحداً من مساعدي ليوناردو أثناء رسم اللوحة الجصية لمعركة الانجياري في القصر القديم، وقد أكدت هذا الأمر الوثائق التي سجلت المبالغ المدفوعة له في أبريل وأغسطسمن عام 1505؛ فهي تصفه كصبي ليوناردو، والذي كانت وظيفته "طحن الألوان."  وقد نتج عن هذا الذكر الدقيق له، ومكانته التي شابها تقليل والمبينة في الوثيقة، معظم كتّاب السيرة إلى افتراض أنّه متدرب يافع لدى ليوناردو في عام 1505. ولكن في الحقيقة لقد كان بالفعل جزءاً من مجتمع ليوناردو في ميلانو في عام 1490- فقد ذكر "باسم جيرواسترو" في قصيدة ميلانية مجهولة الشاعر أهديت إلى ليوناردو في حوالي عام 1498- وهنالك دليل آخر يشير إلى أن علاقتهما تعود إلى عهده الفلورنسي الأول. 
وقد ولد توماسو في حوالي عام 1462، في قرية بيريتولا، في السهل الذي يقع بين فلورنسا وبراتو. وقد توفي في روما في عام 1520 عن عمر 58، وقد دفن في كنيسة القديسة أغاثا دي غوتي.  وقد وجد رسم تمهيدي قصير وملون عن حياته في كتيبات شيبيوني أميراتو والمنشورة في فلورنسا في عام 1637.
كان اسم زوراسترو هو توماسو ماسيني، وهو من بيريتولا، التي تقع على بعد ميلٍ واحدٍ خارج فلورنسا. ولقد كان ابناً لبستانيّ، ولكنه أدعى بأنّه ابناً غير شرعي لبيرناردو روشيلاي، صهر لورينزو الرائع. ولقد ضم نفسه إلى ليوناردو فينشي [si mise com: تعني حرفياً أنّه الحق نفسه ب]، الذي صنع لنفسه رداءً من جوز العفص ولذلك أصبح يعرف ولوقت طويل ب"جوز العفص" Il Gallozzolo". عندما ذهب ليوناردو إلى ميلانو ومعه ذهب زورواسترو، وهناك لُقِب [العرّاف] لأنّه كان يمارس فنون السحر. وذهب إلى روما لاحقاً، حيث عاش مع جيوفاني روشيلاي، الذي كان يعمل آمر قلعة سانت أنيولو، ومن ثم مع فيسيو، السفير البرتغالي، وأخيراً مع ريدولفي. ولقد كان خبيراً عظيماً في تقنيات التنجيم... وعندما توفي تم دفنه في سانتا أغاثا بين مقبرة تريسينو وجيوفاني لاسكاري. وعلى قبره كان هنالك ملاك له زوج من الألسنة ومطرقة، يهجم على هيكل عظمي لرجل ميت، يرمز لإيمانه بالبعث بعد الموت. ولم يكن ليقتل ذبابة لأي سبب كان. لقد فضل على أن يرتدي الكتّان حتى لا يضع على جسده شيئاً ميتاً. 
وهذا الأمر رغم ما يكتنفه من غموض إلا أنّه يعطينا فكرة ساحرة عن زوراسترو كشيء ما بين المهرج، والساحر، والمهندس- وأيضاً النباتيّ، كما عرف عن ليوناردو أنّه كان يتبع نظاماً غذائياً مماثلاً. فالرداء المصنوع من جوز العفص كان عجيباً، ولكنه لم يعدم ما يوازيه في بعض الملاحظات حول أزياء الحفلات التنكرية، حيث كان يصف ليوناردو زياً مصنوعاً بحبات ملتصقة من الدخن الأبيض والأسود على قماش مغطىً بالتربنتين والصمغ.  على أية حال، لم يشر اميراتو إلى سياق مسرحي: فيبدو أنّه يعني أن ليوناردو قام بصنع هذا اللباس الموشى، ربما كان عباءة، وتوماسو كونه رجل شاب مزهواً بنفسه قام بتجربتها، وبذلك حصل على اللقب. 
على الأرجح أن زوراسترو هو "المعلم توماسو" الذي أشار إليه ليوناردو في بعض ملاحظاته الخاصة بالحسابات عامي 1492-1493: 
الخميس 27 سبتمبر: المعلم توماسو يعود[إلى ميلانو]. لقد عمل على حسابه الخاص حتى اليوم قبل الأخير من شهر فبراير. وفي اليوم قبل الأخير من شهر نوفمبر قمنا بجمع حساباتنا ...للمعلم توماسو تسعة أشهر مستحقة السداد. فدفع عندها 6 شمعدانات. 
فهذا يضعه في مكانة الحرفي المستقل الذي يعمل تحت مظلة مرسم ليوناردو بميلانو. إنّه عامل معادن، الشيء الذي يربطه مع ما أورده اميراتو من اهتمامه بالتعدين. وفي مصدر آخر أقرب معاصرة- مخطوطة فينيسية اشتملت على بضعة نسخ من آليات ليوناردو- فهو موصوف فيها بالحدّاد.  وفي 1492-1493 اشترك ليوناردو في مشروع أكثر طموحاً- صبّ تمثال فروسية عملاق يعرف باسم جواد سفورزا- وبلاشك كان خبير المعادن ماسيني مشتركاً في ذلك العمل أيضاً، وفي عدد من المشروعات الأخرى: العسكرية، والمعمارية وكذلك المتعلقة في الحقيقة بالطيران. 
كان لزوراسترو خاصية زئبقية: فمكانته صعبة التحديد. لقد كان "المعلم توماسو" بالنسبة لليوناردو، ولكن بالنسبة للمحاسب الذي يسجل تكاليف لوحة الانغياري الجصية لا يعدو كونه الصبي، أو المساعد الذي يقوم بخلط الألوان. كما أنّه على الأرجح هو ذاته " توماسو خادمي" – "mio famiglio"- الذي يقوم بشراء أغراض ليوناردو في عام 1504. فإن كان الأمر كذلك فلدينا عينات من خط يده محفوظ ضمن أوراق ليوناردو في مخطوطة أرونديل: نص مستدير مخطوط بعناية.  
وهنالك شهادة مباشرة أخرى حول زوراسترو ظهرت مؤخراً. إنها في خطاب من دوم ميغيل دا سيلفا، أسقف فيزو- رجل برتغالي مثقف ونافذ جداً وقد كان واحداً من المتحدثين في كتاب رجل البلاط لكاستيجليون. وقد كان الخطاب مؤرخاً في 21 فبراير 1520، وموجهاً إلى جيوفاني روشيلاي، ابن بيرناردو. (وهذا الأمر يعزز صحة شهادة اميراتو حول زوراسترو، والذي يذكر كلاً من دا سيلفا وروشيلاي.) وفي وقت ما قبل الخطاب، عرفنا أن زوراسترو كان يقيم في فيلا روشيلاي الريفية، في كواراتشي، خارج فلورنسا. دا سيلفا يكتب عن زيارته المنزل، حيث كان مسروراً ليجد كل شيء مرتباً كما لو أن زوراسترو ما يزال هناك- الكثير من أواني الطبخ الجميلة بالمعاجين الجافة، والقطع الأخرى من الأواني التي كانت بالفعل في النار، والتي تقع العين عليها أينما اتجهت في المكان". "أواني الطبخ" هذه تفهم على أنّها دوارق كيميائية، وأوعية تقطير، وأمبيقات، ...،ألخ- وبينا يواصل خطاب دا سيلفا سرده يبين: 
زوراسترو الآن في منزلي [في روما] ويحكمني بالكامل. لدينا بعض الغرف السرية الخاصة، وركن من غرفة مربعة لطيفة، في مكان كان يستغل في السابق ككنيسة صغيرة، قد أعددنا مطبخاً ممتازاً [معملاً]، حيث لا أقوم فيه بشيء سوى النفخ بالكير وصب السيل الدافق من مصهور الرصاص. لقد صنعا كرات ذات لمعان وبريق، وتظهر فيها أشكال بشرية بقرون في رؤوسها وأرجل سرطانات وأنف مثل القريدس. وفي مدفأة قديمة صنعنا فرناً، وبنينا فوقه بالطوب، ثم عقمنا وفصلنا عناصر كل شيء عن بعضها، وبها قمنا باستخلاص النار من وحش بحري [dactilo marino]  والذي يحترق ويبرق للابد. في وسط الغرفة كانت هنالك طاولة كبيرة، مكتظة بالقدور والقوارير من كل نوع، والمعجون والصلصال والقار والزنجفر، وأسنان الرجال المشنوقين، والجذور. هنالك عارضة مصنوعة من الكبريت ومصقولة باستخدام مخرطة. وعليها تصطف دوارق من عنبر أصفر، خالية إلا من  أفعى رباعية الأرجل، والتي كنا نعتبرها معجزة. زوراسترو يؤمن أن إحدى العنقاوات حملتها عبر الجو من ليبيا وألقت بها على جسر مامولو، حيث عثر عليه هو وقام بترويضها. جدران غرفته ملطخة جميعها بوجوه غريبة ورسومات على الورق، من ضمنها واحد لقرد يحكي قصصاً أمام حشد من الجرذان التي كان تصغي السمع، والف شيء غيره يلفها الغموض من كل جانب. 
هذه الشهادة النابضة بالحياة تقدم لنا زوراسترو الخيميائي، يرشِّح ويستخلص أشربة غريبة عن طريق الإغلاء؛ زرواسترو راعي الزواحف الغريبة، وحقاً هو زوراسترو الفنان، الذي يلطخ جدران معمله الروماني بالوجوه الغريبة والحيوانات الناطقة. إنّه يكاد يكون كوميدياً، ونسخة شعبية من ليوناردو دا فينشي. اهتمامه بالكيمياء أو الصيدلة (النشاط ذاته بشكل واسع في ذلك الوقت ولكنه ينتهي بوجهات نظر مختلفة)  تلتقي مع عمله كخبير معادن. لا استطيع إلا أن أنسب إليه الوصفة التي كتبها ليوناردو على الأرجح في أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر. والتي يكتبها تحت عنوان "الدخان المميت" "Fumo mortale"، ويبدو على ورقة ذات علاقة بالحربية البحرية، ومكوناتها هي: 
الزرنيخ ممزوجا بالكبريت ورهج الغار، 
ماء الورد الطبي
لعاب كلب مسعور
مستخلص مقلي توت القرانيا
عنكبوت ذئبي من تارانتو 
هذا يبدو لي محض زوروآستر؛ وإنها لتكاد تكون قصيدة قصيرة.
عقب أشهر قليلة من كتابة ميغيل دا سيلفا خطابه هذا كان زوراسترو ميتاً. والنقش على ضريحه في سانت اغاثا كان يخلده بصفته "زورواسترو ماسينو، رجل خالد لنزاهته، وبراءته، وتحرريته، ولكونه فيلسوفاً حقاً نظر في عتمة الطبيعة إلى ما يستحق الحب من مزايا الطبيعة ذاتها." ليوناردو ما كان ليمانع أن يكون له النقش ذاته: "إنّه يختص بطبيعة الظلام..."
وتبقى ذكرى زوروآسترو تتبختر. وقد ضّمن الكاتب الساخر انطون فرانسسكو غراتسيني (المعروف باسمه المستعار Il Lasca "الصرصور") ساحراً "مجنوناً" يدعى زورواسترو في مجموعته Le Cene "العشاء") غراتسيني كان قد ولد في فلورنسا في عام 1503، وقد عكف على كتابة العشاء في منتصف ذلك القرن. فمن الجائز أن تكون الشخصية قد قامت بشكل عام على زورواسترو الحقيقي، بيد أنّها غير مفيدة كمرجع لسيرة  توماسو نظراً لأنّها مرسلة وتفتقر إلى الدقة. أما زورواسترو غراتسيني فقد كان ساحر كتاب كوميدي، مغرق في النمطية ولا سبيل لمعرفة صفاته الجسدية- "طويل، ذو بنية قوية، شاحب اللون، ذو وجه مكفهر، وفيه زهو، وله لحية سوداء كثيفة لم يمشطها يوماً"- هذا الوصف يتفق ووصف توماسو ماسيني. 
لقد قلل دارسو ليوناردو من شأن توماسو: فقد كان يبدو دائماً مجرد حاشية سفلية تصويرية- عالة غريب الأطوار ذو اهتمام بالسحر. وهنالك عنصر تقليدي في جميع الأوصاف السابقة له- ففي تصوير أماريتو له ما لا يقل عن النسخة الخيالية التي صنعها غراتسيني، حتى في خطاب دا سيلفا، والذي كان تقريراً فعلياً عنه، بيد أنّه بلا شك ينطوي على جرعة زائدة من الحيوية بهدف إثارة دهشة جيوفاني روشيلاي. أما نسخة ليوناردو عنه، على قلتها، فهي مختلفة جداً: توماسو صانع الشمعدانات، وطاحن الألوان، ومن يقوم بشراء الإمدادات- يؤدي أدواراً عملية إلى حد كبير. ويلاحظ المرء أيضاً استمرار علاقته بليوناردو. ووفقاً لأماريتو فقد "التحق" بليوناردو قبل مغادرة الأخير فلورنسا في1482؛ فهو يرحل مع ليوناردو إلى ميلانو، ويظهر هناك في مرسم ليوناردو في أوائل تسعينيات القرن الخامس عشر، ثم مرة أخرى في فلورنسا في 1505 هو من يمزج الألوان للوحة الأنغياري الجصّية. وهذا يغطي بالفعل خمسة وعشرين عاماً من المعرفة (بيد أنّها قد لا تكون بالضرورة علاقة عمل مستمرة)؛ كما أنّه من الجائز أيضاً أنهما كانا في روما معاً في 1513-1516. وربما كان توماسو بارعاً في الطُرائف والدعابة، ولكن من الواضح أنّه لم يكن ساذجاً ولا غبياً. فعدد مضيفيه ومجيريه في روما مثير للإعجاب: جيوفاني روشيلاي، دا سيلفا، جيوفان باتيستا ريدولفي.
وعندما يقول أميراتو أن توماسو "التحق" بليوناردو فهو يعني أنّه دخل مرسمه كتلميذ متدرب أو مساعد. وربما كان بديلاً لباولو دي ليوناردو الصغير في 1478، عندما طورد الأخير خارج فلورنسا بسبب سلوكه "الوقح". كان توماسو وقتها في السادسة عشرة: ابن بستاني من بيريتولا، ولكنه رجل شاب واعد. وبحسب اميراتو فهو يدعي بنوة بيرناردو روشيلاي الطبيعية: وهذا الشيء إما مزحة زورواسترية أو سوء فهم من قبل اميراتو على الأرجح، والذي هو المصدر الوحيد لها. (روشيلاي كان في الثالثة عشرة من عمره عندما وُلد توماسو، الشيء الذي قد يجعل الأبوة غير مناسبة بيد أنّي لا أفترض استحالتها). والأحتمال الأقوى أنّه كان يستمتع بحماية بيرناردو روشيلاي ورعايته، كما أصبح هو لاحقاً بالنسبة لجيوفاني ابن روشيلاي. كان برناردو عضواً مجتهداً في أكاديمية فتشينو، وفي السنوات اللاحقة أسس أكاديميته الإفلاطونية الخاصة في حدائق روشيلاي [Orti Oricellari] وهي تقع خلف كنيسة القديسة ماريا الجديدة. والجانب الزورواستري من توماسو ماسيني ربما بدأ بشكل دقيقة في سنوات السحر الفيتشيني، والذي نجد ليوناردو قد ارتبط به من خلال صلاته ببيرناردو بيمبو وبينشي. 
ولا يريد المرء أن يفقد أيقونة زورواسترو المفعمة بالحيوية: السحر والكيمياء وما يرافقهما من حب للظهور كان بلا شك جزءاً من عمله، وجزءاً من جاذبيته بالنسبة لأولئك المضيفين الرومانيين المترفين. (السيمياء بالطبع ذات جاذبية إضافية- الاحتمال البعيد والمغري للثروة غير النهائية). ولكن هنالك رجل حقيقي وراء هذا المظهر، ولقد كان محل تقدير ليوناردو. رجل نزاهة وكما يقول النقش على قبره: فهو بريء وفيلسوف. 



------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment