Wednesday, March 20, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 9 - التبجيل





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
9-التبجيل
في أوائل عام 1481، تم تكليف ليوناردو، بتزيين المذبح الكبير لدير سان دوناتو الأوغسطيني في سكوبيتو وهي قرية على مقربة من أسوار المدينة ولا تبعد كثيراً عن بوابة براتو. وهو ديرٌ غنيٌ كان يشتري أعمالاً من صنع بوتشيللي وفليبينو ليبي. وقد تولى سير بيرو دا فينشي أعماله التجارية منذ 1479، والذي يحتمل جداً مشاركته في تنفيذ الأعمال المطلوبة، وربما في التفاصيل التي تنطوي على ثغرات في العقود. وبالقدر نفسه الذي كان يبدو عليه العقد غير مرضٍ من وجهة نظر ليوناردو، يستشف المرء عنصراً لإضفاء الصعوبة على الأمور- شيء ما يجعل ليوناردو يقف على قدميه، وقد كان هذا أفضل ما يستطيع السير بيرو الإتيان به. 
الموافقة المبدئية تمت في مارس 1481، وقد نُصَّ على أن يسلِّم ليوناردو اللوحة " في غضون أربعة وعشرين شهراً أو ثلاثين شهراً كحدٍ أقصى، وفي حالة عدم التنفيذ يسلّم ليوناردو ما تم عمله على سبيل الغرامة، ولنا الحق في تقرير ما سيتم فعله بشأنه". وهذه الشروط ليست بالغريبة ولكنها تشير إلى سمعة عدم مسؤولية ليوناردو. وقد كانت طريقة الدفع غير مألوفة على أية حال. فهو على ما يبدو لن يحصل على أية نقود مقدماً. بل يتلقى ثلث ملكية ما في فال دا إلزا  الذي كان موروثاً للدير من قبل سيموني، والد الأخ فرانسيسكو". فالملكية ثابتة ( " لا يستطيع إبرام أية عقود بخصوصها")، ولكن كان لديه الخيار، بعد ثلاث سنوات، في بيعها مرة أخرى إلى الأخوة، " إن كانوا يرغبون في ذلك"، مقابل مبلغ وقدره 300 فلورين. وجاءت التعقيدات مع هذه الملكية: فقد كان على ليوناردو دفع ما يلزم للوفاء بمهر يبلغ 150 فلوريناً للزواج بابنة سالفيسترو دي جيوفاني". وقد كان هذا الملحق على الأرجح جزءاً من الهبة التي قدمها سيموني والد الأخ فرانسسكو- دفع مهر لأسرة أحد معارف العائلة الفقراء، هو شكل من أشكال الإحسان دائماً ما يوجد في وصايا تلك الفترة. ليوناردو هو الآخر تعهد بتوفير "الألوان، والذهب وكل النفقات التي تظهر من حسابه الخاص". 
وقد كانت نتيجة هذا العقد العجيب أن عرض الدير أن يدفع لليوناردو 15 فلورينا (القيمة المتفق عليها للعقار ناقص الدَين المتعلق بها). والدفع هنا مؤخر (فهو ممنوع من بيع الملكية لمدة ثلاث سنوات)، ولا يتضمن العقد أي توفير للمواد. والمحصلة النهائية ليست سيئة، ولكن الظروف غير مريحة. فالملكية في الفال دا إلزا وهو يقع في المنطقة الريفية إلى الجنوب من فلورنسا- الشيء الوحيد الذي تسلمه مقدماً: ربما ذهب ليقيم فيها.
وبحلول شهر يونيو، بعد ثلاثة أشهر من الموافقة المبدئية، بدأت صعوبات الوضع تظهر. لقد كان عليه أن يطلب من الدير " دفع المهر المذكور أعلاه، لأنّه قال إنّه لا يملك الوسيلة لدفعه، وكان الوقت يمر، وقد أصبح حاجة ملحة بالنسبة لنا". وتم خصم مبلغ 28 فلوريناً من حسابه مع الإخوة لقاء هذه الخدمة. ولقد تم انتقاص مبالغ أخرى مقدماً من قبل الدير لشراء الألوان للعمل. وفي يونيو أيضاً – كما علمنا سلفاً- "المعلم ليوناردو الرسام"  قد تلقى " حمولة عربةٍ من خشب الوقود، وشحنة واحدة من الكتل الكبيرة" كدفعة من أجر تزيين ساعة الدير. وفي أغسطس كان " يدين لنا بموغا واحدة [حوالي 5 بوشل] من الحبوب التي كانت تحملها عربتنا إليه في منزله". (يفترض أنّ منزله هذا هو نفسه الملكية التي في فال دا إلزا.)
وفي 28 سبتمبر- تأريخ آخر وثيقة في المجموعة- "كان يدين لنا ببرميل واحد من النبيذ الأرجوانيّ . 
وهذه هي الحقيقة في ما يخص ظروف ليوناردو في 1481: لم يكن قادراً على شراء ألوانه، وكان يشتري الحبوب والنبيذ اقتراضاً، وقام بأعمال غريبة للدير، وتم سداد مقابلها من خشب الوقود، وبدأت ملامح المذبح الأولى تتضح على لوح من خشب الحور ليلة بعد ليلة. 
مخرجات هذا العقد، وتلك الظروف المقتضبة، كانت لوحة تبجيل المجوس للمسيح الطفل ، آخر وأعظم أعماله الفلورنسية الأولى (لوحة 10). وهي الأكبر من بين كل لوحاته القماشية: 8 أقدام طولاً ومثلها تقريباً في العرض (2.46×2.43 متراً). 
الأبعاد والتنسيق غير المألوف على شكل مربع، يعكسان- فرضاً- المساحة المفترض أن تشغلها اللوحة فوق مذبح القديس دوناتو. لم يتم تسليم اللوحة أبداً (الشيء الذي ربما كان من العدالة الإلهية إذ تم هدم الدير بشكل كامل في بدايات القرن السادس عشر). وقد تركت قبل أن تكتمل عندما غادر ليوناردو إلى ميلانو في بدايات 1482. ووفقاً لفازاري، تركها في مكان أمين بمنزل صديقه جيوفاني دي بينشي، شقيق جنيفرا. وقد آلت إلى مجموعة آل ميديتشي في وقت ما قبل 1621، عندما كانت قد أدرجت ضمن اللوحات الموجودة بقصر ميديتشي. وهي الآن واحدة من أكثر اللوحات شهرة في الأوفيزي، بيد أنّها ليس سوى طبقة تحتية للوحة أكثر منها لوحة قائمة بذاتها. 
وعلى الرغم من أنَّ التركيب المعقد للوحة لم يك بادياً للعيان، إلا أنَّ أكثر التفاصيل كانت غير مألوفة: إنّه عمل ما زال في نسخته الأولية. وقد كانت مواد الطلاء من السخام الممزوج بالغراء المخفف، والرصاص الأبيض.  
كما يوجد بعض الطلاء الزائد بالبني، لكنْ هنالك تساؤلات مؤخراً حول ما إذا كانت هذه العلامات لليوناردو. والدرجة الغالبة على اللوحة هي البني المصفر نسبة لانحلال اللون من الطبقات العليا للصبغة الملمعة (Varnish). 
والموضوع الأساسي كان واحداً من أكثرها شيوعاً في لوحات عصر النهضة- وصول الملوك الثلاثة أو المجوس لتقديم فروض الولاء للمسيح الطفل في بيت لحم. ولا بدَّ أنّ ليوناردو قد علم بلوحة بينوزو غوتسولي الجصَّية في قصر ميديتشي ونسخة بوتشيللي للموضوع ذاته في كنيسة القديسة ماريا الجديدة، والذي كلف بتنفيذه جيوفاني لامي من نقابة الصيارفة حوالي عام 1476. (وهذه- وهي موجودة الآن في الأوفيزي- هي الثانية من أربع لوحات ناجية تناولت موضوع تقديم الولاء بريشة بوتشيللي: وربما تعود أقدمها إلى ما قبل 1470، وهي موجودة في المعرض الوطني بلندن.) ولقد استخدم ليوناردو جميع المكونات التقليدية، ولكن الطلاء كان ثورياً في تعامله مع تلك المجموعة الكبيرة من المكونات. وهذه ليست معالجة بل دوامة عاصفة من الأشكال ووجوه- تزيد أشكالها عن الستين في مجملها: الأشخاص والحيوانات. وثمة شيء غامض في ذلك الحشد واللوحة في حالتها الضبابية غير المكتملة: كثرة الشخوص هذه في مواقفها التعبدية والفضولية تبدو في أغلب الأحوال كأنّها تجمهرٌ واحتشاد. وقد تضمن الفضاء الأم والطفل أيضا، في بقعة ساكنة وسط اللوحة، ولكن ضغط الزحام حول هذا المكان يشير أيضاً إلى ضعفهما. هنالك شيء ما يكاد أن يبتعلهما. دوامة الخطر هذه ترهص بقصة الطفل مؤكدة رمزية الهدايا التي قدمها الملوك.
وهنالك بعض الترجمات للتفسير الديني.  تتسلل جذور الشجرة الوسطى لتمس رأس المسيح الطفل- تلميح لنبوءة أشعياء: " و يخرج قضيب من جذع يسى و ينبت غصن من اصوله " . وفي خروج الشجيرات عن البناء تجاوز للهيكل، وهي إشارة تقليدية "لبيت داؤود" المهدم، والذي سيعاد تأسيسه بميلاد المسيح- يبدو البناؤون على السلالم، منشغلين بإعادة البناء- لكنَّ شكل البناء يتسم إلى حدٍ كبير بالطابع الفلورنسي. توحي أعمدته وأقواسه بمعبد سام مينياتو ديل مونتي، أقدم كنيسة في فلورنسا بعد المعمدانية، والتي تعرف ببنائها على موقع ضريح أشهر شهيد بالمدينة، وهو مينياس أو مينياتو. ومثل واجهة كنيسة القديسة ماريا الجديدة في لوحة القديس جيروم، نجد في هذا مرجعية بصرية مؤكدة للمعتقدات الدينية في مشهد فلورنسي. 
مكونات رمزية عيد الغطاس المتعددة موجودة هنا، ولكن العنصر الأساسي مفقود. أين يوسف؟ والذي يظهر في لوحات التبجيل الأخرى، ولكنه ليس بواضح هنا. هل هو الرجل الملتحي في الجماعة الموجودة في يمين اللوحة وهو يرفع يده إلى حاجبه في دهشة؟ أم هو الشخص المتأمل الذي يراقب من الهامش في أقصى يسار اللوحة؟ على الأرجح هو الشخص الأول، ولكن الغموض هو الغالب: الأب غير واضح، لقد تم دمجه في الما-حول. ربما يتجنب المرء التفسير التحليلي النفسي لهذا الشيء، ولكنه رمز يتكرر بدرجة لا تسمح بتجاهله- ليوناردو دائماً ما يفصل يوسف عن العائلة المقدسة. إنّه مفقود في لوحة عذراء الصخور( وهي بحسب ما تواتر تسجل واقعة حدثت أثناء الهرب من مصر، وعليه فيجب أن تشمله). وهو غير موجود في نسخ عديدة من لوحة العذراء والطفل مع القديسة حنّا، حيث أنَّ الشخص الثالث في العائلة ليس والد الطفل بل جدته. ولا يتطلب الأمر أن يصبح الشخص فرويدياً ليشعر بوجود تيارات سيكولوجية عميقة تتحرك هنا. 
في بدايات عام 2001 أعلن الأوفيزي عن نيته لتنظيف وإعادة ترميم لوحة التبجيل. وقد أثار هذا الشيء احتجاجاً فورياً بقيادة عميد مناهضي إعادة الترميم، البروفيسر جيمس بيك من جامعة كولومبيا بنيويورك.  لقد كانت اللوحة غاية في الرقة، وظلالها ودلالاتها فائقة التعقيد، والصدأ المترسب عليها يستعصي على محاولات الترميم. وعندما تحدثت حول هذا الأمر إلى انطونيو ناتالي، مدير قسم فنون عصر النهضة بالأوفيزي، استخدم الكلمة المفضلة لدى التجمع الموالي للترميم-"الوضوح:"Legibility"".  لقد تحدث ببلاغة حول اللوحة باعتبارها "قصيدة مدفونة". " إن كنت تدرس بترارك، فهل تستطيع قراءة بضع كلمات هنا وبضع كلمات هناك؟ لا. إنّه الشيء ذاته في ما يخص اللوحة- أنت تود أن تستطيع مشاهدة كل جزء منها". 
وليس هنالك من شك في أنّ حالة اللوحة سيئة. فسطح اللون مغطىٍ ب"جلد" متسخ من الملمعات الحديثة: مخاليط ثقيلة من الصمغ، والزيت والراتنج. وفي المناطق الداكنة من اللوحة شكلت هذه المخاليط ترسبات بنية سميكة. كما أنّها قد تعرضت أيضاً إلى التبييض أو imbianchimento نتيجة لعملية التأكسد: فتلك الشبيكات الدقيقة التي تملس السطح- تأثير الزجاج المكسور. ولكن معارضي الترميم يشككون بفكرة الوضوح، إذ يعتبرونها رغبة "لتوضيح" شيء ما عمد الفنان إلى الإبقاء عليه غامضاً "في حالة لوحة التبجيل على الأقل". فالترميمات الحالية- يقال- إنّها قوادة للذوق العصري المحب للإضاءة والرقة- بالنسبة للتصوير الضوئي أو الأنواع الإلكترونية من الوضوح. إذن فالترميم قرار تجاري تتخذه المعارض: مسألة تسويق وصيانة بالقدر نفسه. " المسألة الحقيقية فلسفية،" يقول البروفيسور بيك. " هل نحن نريد عصرنة لوحات القدماء؟ تنظيف اللوحة يشبه عملية شد بشرة الوجه لشخص في السبعين من عمره."
القسم الفني بالأوفيزي مكان غير قابل للوصف على الجهة المقابلة للمعرض من الشارع. وفي غرفة صغيرة في الطابق الثاني، تم وضع ثلاثة حوامل حتى تشكل معاً طاولة كبيرة، إنّها التبجيل، لوحة ليوناردو. الغرفة صغيرة وقد صفّ على أرضيتها البلاط الأبيض، وهنالك ورقة ذات لون كريمي على النوافذ، إنّها حواجب للضوء وهي مفيدة لحفظ اللوحات بأفضل حال. 
وهنالك منفضة غبار من الريش وحقيبة لحمل المشتريات معلَّقتان على خطّاف. بينما  رائحة المواد الكيميائية المنتشرة تذكر المرء بمعمل طبي أو مسرح عمليات بيطري. ويستثار تصوير الطب للوحات كمريض عظيم ومُسنٍّ بشكل متكرر من قبل المرممين. والوضع لا يخلو من حميمية بأي حال من الأحوال: لقد جردت اللوحة من جلالها في المعرض، ووضعت أفقياً في انتظار العملية الجراحية. يجوس حولها المرمم الشهير الفيو ديل سيرا، يأخذ قياساتها- هذه هي الأسابيع الأولى من العملية، وقد توقفت بسبب الجدل المثار. ديل سيرا بيستويّ مكتنز الجسم في بدايات ستينياته، بشعر أبيض مقصوص، وقميص قصير الكمّين. له نظرة فنان، وهو يحب أن يعتبر كذلك. وتشتمل قائمة ترميماته على أعمال لمارتيني، ودوكيو، وسيمابوي، وغيتو، ومانتينيا، وبيروجينو، ورافائيل، وتيشيان. ومن ضمن مشروعاته الأولى نجد لوحة بوتشيللي ميلاد فينوس، ولوحة ليوناردو البشارة.  إنّه غير مبالٍ بالجدل المثار حول الموضوع: فقد منحه الوقت للتعرف على اللوحة بشكل أفضل على أقل تقدير. " كل ترميم"، يقول:" هو عمل تفسيري. ليس هنالك قوانين عالمية أو تلقائية يمكن تطبيقها على جميع الحالات. تحتاج للحساسية، والاحترام، والمعرفة- لتطرح الأسئلة على نفسك باستمرار: فهذا هو ما يلزم." 
ونحن ننظر إلى اللوحة من كل الجهات، ننحني عليها وننظر من تحتها إلى ظهرها. وقد تشكلت اللوحة من عشرة ألواح أو لوحات رأسية، ملتصقة بعضها ببعض بواسطة الصمغ؛ وقد تمت إضافة مادة لاصقة لتثبيت اللوحة لاحقاً، ربما في القرن السابع عشر. وللوحات عرض موحدٍ ومتساوٍ (حوالي 9 بوصات عرضاً) ولكن هنالك واحدة أضيق محصورة في الطرف الأيسر، ويفترض أنّ المقصود منها زيادة حجم العمل الذي تم التكليف به. ويشير ديل سيرا إلى مشكلة التحدّب، أو التقوّس في وسط الألواح، وهو الشيء الذي يشكّل تهديداً بتشقق سطح الطلاء. وينبع هذا في جزء منه من الإبلاء العادي للزمن والرطوبة، بيد أنّه من ناحية أخرى يعكس اختيار ليوناردو للخشب منذ خمسمائة عام مضت. يشرح ديل سيرا بالرسومات البيانية أهمية الخشب الأصلي. وعند صناعة الألواح، يتم قطع جزء من جذع الشجرة رأسياً- وفي هذه الحالة شجرة الحور الأبيض الطيّع بالإيطالية gattice . ويكون القطع أقرب إلى المركز، شعاعياً، وهو الأفضل، لأنَّ حلقات الشجرة تتسم باتزان تناظرها، والقطع الخارجي، أو الطرفي، ليس مستحسناً. قام ديل سيرا مؤخراً بترميم لوحة البشارة، ولوحة معمودية المسيح ليست بالغريبة عليه: والألواح الفعلية في كلتيهما بحال ممتازة. وقد رسمت تلك اللوحات بين جنبات ورشة فيروكيو: استخدمت فيهما مواد عالية الجودة. ولأنّ لوحة التبجيل هي عمل مستقل، تم تنفيذه عندما كان يشتري الحبوب والنبيذ اقتراضاً من مخدميه- فقد استخدم ليوناردو القطع الأبخس ثمناً. ويضيف ديل سيرا، وقد أنذره سيمابوي، معلم غيتو، والذي استخدم "قطعاً رقيقة جداً من الخشب، من النوع الذي قد يلقي به النجار"- باختصار، البقايا. 
يتعامل ديل سيرا مع اللوحة باسترخاء ودون تكلف: فهو لم يتكيء بمرفقه عليها تماماً بينما نتحدث ولكن المرء يشعر أنّه قد يفعل ذلك. لقد بلل قطعة من الصوف-القطني وقام بتلميع مساحة صغيرة من اللوحة: فانبثق من الظلام بغتة رأسا الثور والأتان المرسومان بشكل باهت في الرسومات التمهيدية على الجانب الأيمن من اللوحة تكاد العين تخطئهما.
ستزداد قصة الترميم تعقيداً في الشهور القادمة. في أواخر 2001 قرر الأوفيزي القيام بفحص تقني للوحة من قبل خبير تشخيص الفنون موريزو سيراسيني. وبعد أشهر من التحليل المضني رمى سيراشيني بالقنبلة: الطبقة البنية المحمرة التي تعلو الطلاء والتي تُرى في عدد من أجزاء لوحة التبجيل لم تكن بريشة ليوناردو. والدليل يكمن في التحليل الميكرسكوبي للأجزاء العرضية من عينات الطلاء الصغيرة- ذلك البعد الغامض في دقة الميكرون سمكاً من سطح الطلاء. وتقريباً في جميع الأجزاء العرضية التي أخذها، وجد أنَّ الطقة العليا من الطلاء البني قد نفذت إلى الطبقة الدنيا، والتي كانت سابقاً أحادية اللون. ولدى وضع اللون عليها، كانت هنالك شقوق وخدوش إلى عمق يسمح بدخول الطلاء البني الرطب إليها. يقول سيراشيني وهذا هو لبّ المسألة- إنَّ هذا التشقق ربما حدث فقط في فترة محددة من الزمن، ربما من خمسين إلى مائة سنة. وعليه فإنَّ الطبقة العليا قد وضعت بعد وفاة ليوناردو، بريشة فنان مجهول متبعاً تعاليم رواد زمانه في ما يخص كيفية تحسين حالة لوحة ما.  
وقد تمت معارضة تفسير سيراشيني للدليل مذاك، ولكن في وجه هذا البعد الجديد من الجدل، فإنَّ مشروع الترميم قد تم تجميده بكل هدوء وحكمة، وأصبحت لوحة التبجيل الآن معلقة مرة أخرى في قاعة ليوناردو بالأوفيزي، بكامل ما عليها من غبار وغموض بينما يستمر الجدل حولها.  
هذه التحفة غير المكتملة لليوناردو أثناء السنوات التي قضاها بفلورنسا، تقدم لنا نظرة عميقة ولكنها مراوغة لذهنيته، وسلوكه في العمل، وتناوله لعدد من مواضيع الرمزية المسيحية وتصوير الإرث الفلورنسي، وحسه الفائق للعادة بالديناميكية والتدفق التدويمي. ولكنّها تحمل خبراً آخرَ لنا، لأنّ في أقصى يمين اللوحة يقف رجل شاب طويل في عباءة طويلة وهو يكاد يكون صورة شخصية لليوناردو في عمر يقارب التاسعة والعشرين. (اللوحة1).   
وموضوع التصوير الشخصي في عصر النهضة هو موضوع شائك، لأنَّ الدليل البصري في كثير من الأحيان يكون سيّاراً، ولكننا نعرف أنَّ الفنانين الإيطاليين من القرن الرابع عشر دائماً ما يضمِنون لوحاتٍ شخصية في اللوحات الجماعية، وأنّ ذلك التقليد يظهر الفنان ناظراً للخارج من اللوحة، محدداً نفسه كوسيط بين المشهد التخيلي الذي خلقه والعالم الواقعي للمتفرج. وفي بعض الحالات كانت الصورة الشخصية معينة مثلما في معالجة الغوتسولي للمجوس، حيث يحدد الفنان الوجه الناظر خارج الحشد من خلال رسم اسمه على قبعته. وعادة ما يصنع المرء استنتاجات أو يستمع لاستنتاجات معاصرة. فالصور الشخصية المحفورة على الخشب للفنان التي تزين النسخة الثانية من حيوات فازاري (من نقش فنان الحفر على الخشب الألماني كريستوفر كوريولانو وفقاً لتعليمات فازاري) كانت مؤشراً مفيداً. على سبيل المثال كان واضحاً من قطعة الحفر على الخشب لماساتشو أنَّ فازاري اعتبر الوجه المائل للتجهم في لوحته مال الإتاوة – وهي واحدة من جصيات ماساتشو بكنيسة برانكاشي- هو ليس سوى صورة شخصية. وهذا الأمر مقبول بشكل عام، لكن فازاري لم يك يوماً محصّناً من الخداع: لقد قام بمحاكاة صورة لسيمابوي على شخصية في لوحة اندريه دا فلورنسا الكنيسة المنتصرة في كنيسة القديسة ماريا نوفيلا، ولكن الشخصية موضع السؤال ترتدي شارة فارس الرباط وهو في الغالب إنجليزياً زائراً.  
وقد كان أول معتادي رسم الصور الشخصية هو فرا فيليبو ليبي، والذي يواجهنا من الحشود في لوحة المذبح الباربادوري (كانت سابقاً في سان سبيريتو والآن في اللوفر). وقد تم التكليف بها في 1437، ويبين هذا العمل ليبي في بدايات ثلاثينياته؛ حيث يكبر تدريجياً في لوحة تتويج العذراء (الأوفيزي)، والمكتملة في عام 1447، وفي شهادة القديس ستيفن في كاتدرائية براتو، والتي نفذت خمسينيات القرن الخامس عشر. وفي جميع هذه الأعمال يظهر كراهب داكن السحنة مستدير الوجه ذي أذنين بارزتين بشكل مضحك. وقد أصبحت هاتان الأذنان رمزاً إلى حد ما وعلامة مميزة له. فهما يظهران بشكل بارز في الرأس المنحوت على قبره في كاتدرائية سبوليتو. وقد أضيف هذا في حوالي 1490 بعد عشرين عاماً من وفاة ليبي، ولكن كانت أذناه الكبيرتان عصيتين على النسيان. 
اندريه مانتينيا رسام آخر من منتصف القرن، كان عمله يعج بالصور الشخصية. فوجهه الممتليء ذو النظرة القلقة أحادي اللون، يُرى في واحدة من أبواق أعمدة غرف العرسان في لوحة غرفة نوم العروسين(غرفة نوم الزفاف) في قلعة الغونزاغا في مانتوا. وهي تعبر عن حس حاذق لرسام مسجون في حلمه الخاص. فالرجل الشاب الذي يطل من الظلام في لوحته عرض المعبد (برلين) هي الأخرى لوحة شخصية. واللوحة ترتبط بزواجه في 1454 بنيكولوسيا بيلليني، أخت الرسام الفينيشي جيوفاني بيلليني. (ونسخة بيلليني الخاصة من لوحة العرض تكاد تكون متطابقة في تكوينها، ما عدا أنّه قد أصبح فيها شخصان ينظران من جهة اليمين، أحدما هو مانتنيا مرة أخرى والآخر هو بيلليني. وقد كانت نيكولوسيا نفسها هي المثال المستخدم لرسم مادونا في كلا اللوحتين على الأرجح.) ومرة أخرى كانت لهذه الصور سمة موحدة- منحنى الفم المتجه إلى الأسفل- مرة أخرى يتم عكس هذا الشيء في صورة شخصية محفورة على الخشب لمانتينيا في حيوات فازاري.  
وبحلول بداية ثمانينات القرن الخامس عشر، وعندما كان ليوناردو يعمل على لوحة التبجيل، كان رسم الصورة الشخصية هذا قد أصبح تقليداً. ملامح بيروغينو غير المحببة من صف من الوجوه في لوحته الجصّية القديس بطرس يتسلم المفاتيح،  والتي تم التعرف عليها من خلال مقارنة مع صورة شخصية مؤكدة، تعود للعام 1500 في كلية الصيرفة. وهو بالتأكيد الشخص الوسيم، صاحب الوجه ذو العينين القاتمتين لدومينيكو غيرلاندايو الناظر إلى الخارج من عدد كبير من لوحاته الجصّية.
وهذا التضمين للفنان هو في جزء منه تصريحٌ واثقٌ بالهوية الشخصية، ووضع فعلي: فهو يضمن نفسه فقط كما هو يقوم بتضمين ملامح "المانح" أو من قام بالتكليف بالعمل. وفي هذا العمل "التأملي"، وضعية النظر خارجاً يقوم الفنان بتنفيذ دور ما أسماه ليون باتيستا البيرتي بالمعلِّق أو commentator. ويصف البرتي هذه الشخصية باعتبارها مكونّاً ضرورياً لنوع من اللوحات يطلق عليه اسم asoria – قصة أو تأريخ- والذي يعني بالضرورة لوحة لمشهد أو حلقة ذات عدد من الشخصيات. " ينبغي أن يكون في القصة شخص ينبهنا ويعلمنا بما يحدث، أو يوميء إلينا بيده لننظر."  والتصاوير المحتشدة للتبجيل ليست سوى مثال تقليدي للوحة كقصة، ونقل لمشهد أو قصة درامية أصيلة الطراز. فالرجل الشاب في نهاية الحشد في لوحة التبجيل لليوناردو يؤدي دور المعلّق بالضبط كما حدده البرتي، وهو يشغل الموقع ذاته الذي يشغله الرجل الشاب الذي يتجه إلى الخارج في لوحة التبجيل لبوتيشيلي (اللوحة 86)، والذي هو الآخر يعتقد أنّه لوحة شخصية. وربما عرف ليوناردو هذا العمل بالتأكيد، وأكمل قبل بضع سنوات لصالح كنيسة سانتا ماريا نوفيلا.

أهي صور لليوناردو صغيراً؟ في أعلى اليسار تفصيلة من لوحة داؤود لفيروكيو، 1466، وأعلى اليمين قطعة من "مطوية فيورافانتي" 1478، أما أسفل اليسار فدراسة لمعلّق لوحة التبجيل 1481، وأسفل اليمين فنان يستخدم جهاز المنظور 1478-1480.
المقارنات البصرية على ما يبدو تدعم الرأي القائل بأنّ هذا هو ليوناردو على طرف اللوحة. فهنالك أوجه شبه مع وجه داؤود لفيروكيو، ومع وجه الرجل الشاب في مطوية فيورافانتي، ومع وجه الفنان الشاب الذي ينظر من خلال جهاز المنظور. وأيضاً من خلال الدراسات بالقلم والحبر والخاصة بلوحة التبجيل في اللوفر فهنالك رجل شاب طويل القامة طويل الشعر لا يتفق مع أي شكل في اللوحة الفعلية، ولكن لفتته توحي بأنّه ربما كان دراسة مبكرة للمعلِّق، كما يعتقد أيضاً أنّه صورة شخصية.
مسحة بصوف قطني رطب في معمل الترميم بالأوفيزي، والرجل الشاب الوسيم صاحب الوجه الواسع الذي يحدق لوقت قصير. ماهو مزاجه؟ إنّه يشيح بعيداً عن الشخصيات المركزية للأم والطفل لكنَّ يده اليمنى تبدو كما لو أنّها تمتد إلى خلفه تدعونا للنظر إليهم. إنّه المعلِّق: مستقلٌ، هاديء، هامشي، مثير للتساؤل وربما متهكمٌ أيضاً. إنّه يجلب إلينا هذا المشهد المهم ولكنه ليس جزءاً منه. 


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment