ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
5-الزجّالون
في قائمة أخرى كتبت في الفترة ذاتها تقريباً نجد اسم أنطونيو دا بيستويا. وهو يعود إلى شاعر الماسة البكر أنطونيو كامميلي، والمعروف ب إل بستويا، أو إل بيستويزي، وهو الذي كان يعتبر مدخلاً لفئة أخرى من مجتمع ليوناردو الفلورنسي في أواخر سبعينيات القرن الخامس عشر. وربما التقيا عندما كان ليوناردو في بيستويا عام 1477: من الجائز أن يكون كاميللي واحداً من أولئك الأصدقاء في بيستويا، والذين يشير إليهم ليوناردو. وقد كانت بعض القصائد التي وجدت بين أوراق ليوناردو على الأرجح تنتمي إلى كاميللي: ويمكن تحديد تأريخ واحدة منها على وجه الدقة في شهر نوفمبر من عام 1479 تقريباً.
والآن وفي منتصف الأربعينيات من عمره، كان كاميللي واحداً من أفضل شعراء العامية في جيله. لقد كان يتبع في شعره ذلك الأسلوب العاميّ، اللاذع، التهكمي الذي كان يعرف دائماً باسم البورشيليسكو، تيمناً بأول من سن هذا الأسلوب، الحلاق الفلورنسي دومينيكو دي جيوفاني، والمدعو إل بيرشيلو. وقد أُشتق الاسم من العبارة alla burchia والتي تعني حرفياً " على عجلٍ"، أو "ارتجالاً"، فشعر هؤلاء سريع الايقاع وهم يقرضون القصائد بحس إرتجالي، وبخشونة متعمدة، وعامّية، كانوا هم شعراء وفناني جاز وراب القرن الرابع عشر- وهم طائفة جد مختلفة عن الشعراء الإنسانيين أمثال بوليزيانو، ولاندينو بتلميحاتهم الكلاسيكية وغرورهم البتراركي. أما الآخرين الذين ينتمون لشريان اللاتقليدية هذا فهم الفلورنسيون لويجي بولشي وبيرناردو بيلينشيوني، ولاحقاً إلى حدٍ ما فرانسيسكو بيرني، المولود على مسافة من بلدة فينشي في لامبوريكيو عام 1498. لقد اعترف بيرني بالفضل لكاميللي- أيتها الروح الغريبة من بيستويا!"- وشاعر الهجاء بيترو اريتينو امتدح "سرعة ولماحية" قلمه.
ولقد كتب كاميللي "السونيتات"، ولكن ليس في صيغة الأسطر الأربعة عشر التي كتبت على منوالها إنجلترا في عهد الملكة إليزابيث. لقد كانت المفردة أكثر عمومية: Sonetto تعني ببساطة " أغنية صغيرة"، ونادراً ما يمكن تمييزها عن سائر الأغنيات والأناشيد- " frottole, rispetti, strambotti, etc" والتي كان يتبعها هؤلاء الشعراء في كتاباتهم. ولطالما أُنشدت هذه الأبيات في حضور الموسيقى، وقد عرف عن بعض الشعراء مثل سيرافينو، وأكوينلينو أنّهم موسيقيون أيضاً. كما كان كاميللي في بعض الأحيان رومانسياً ولكنّه في أغلب الأوقات كان متهكماً ساخراً، كما في القصيدة الروحية "Orsu che fia?" (ماذا أصابك؟)، والتي جاء جزء كبير منها على لسان زوجته المحبطة:
Io starei megli moglie d'un sartore,
Che mi mettria tre punti in uno occhiello
Vivo a marito a guise di donzella:
Che'l diavol te ne porti e tua sonnetti…
[إنّي أفضّل أن أكون زوجة لخياطٍ: يضع بعض الغرز في سرّتي. أما أنت فتمضي أوقاتك في كتابة الأغنيات والأهازيج، إنّي أعيش مع زوج مثل الفتيات:لتذهب أنت وقصائدك إلى الجحيم..]
لقد اتضح أنّ مخاصمة الشاعر ليست بسبب كتابته "للأغنيات والأهازيج"، بل بسبب خوفه من أن تحبل مرة أخرى:
Quel che a te piace a me non par bel gioco
Ch'io non vo' piu cagnoli intorno al foco
[ ليس بي شغف باللهو الذي تحبين، فلا قبل بي بمزيد من الجراء حول المدفأة...]
الفقر، والجوع وخيبة الأمل والسجن مواضيع شائعة، تطرح في نبرة فكهة يشوبها التحدي. مثل تعدد الصور الغنائية التي تناولت دمامة كاميللي- فهو "نحيف وضئيل"، يبدو مثل " بومة تنوح بلا منقار"، وهلم جراً- ثم يلقي بالعبارة الرئيسية:
Dunque chi volveder guardi mi tutto
Un uom senza dinar quanto par brutto
[إذن فلينظر من أراد إليّ ملياً: كم يبدو قبيحاً الرجل الذي لا مال له]
بعض القصائد الساخرة ليست سوى معرضاً من الهجاء العبقري- وهو الأسلوب الذي يدعوه كاميللي "الحديث اللاذع" (dire pepe) – ولكن نبرته لم تكن يوماً تخلو من سحر ولا مبالاة:
Cantava il concubine della gallina;
La rugia da sul giorno era nei prati..
[ كان عاشق الدجاجة يصدح، وندى النهار كان على المروج]
وقد لخص كاردينال بيبيينا الأنيق اسلوب كاميلي جيداً فقال: "le facezie, il sale, e il miele"- "فكاهة، وملح وعسل".
ومن الجائز جداً أن يكون كاميللي قد كتب القصيدة القصيرة الفكاهية في الزجل المكتوب باللاتينية على إحدى صفحات مخطوطة أتلانتكس. وقد كانت مناسبة القصيدة هي حصار بلدة كول دفال د السا من قبل قوات الحلف البابوي في نوفمبر 1479- وقد كانت جزءاً من الحرب التي عقبت مؤامرة باتسي. وقد استسلمت البلدة في 14 نوفمبر، وقد تحولت أسوارها إلى أنقاض بسبب إحدى القذائف المدفعية الضخمة التي كانت تلقّب بالغيبيلينا. كان هذا المدفع هو موضوع القصيدة التي وجدت في أوراق ليوناردو- والمتحدث المُتَخيل في الحقيقة- والتي تبدأ كالتالي:
Pandite iam portas, miseri, et subducite pontes
Nam federigus a dest quem Gebellina sequor…
[ اقذف الآن، افتحي بواباتك أيتها المخلوقات البائسة، وانزلي معابرك، لأن فيديريكو قد وصل، وهو مولاي أنا الغيبيلينا...]
"فيديريكو" هو فيديريكو دا مونتيفيلترو، دوق أوربينو، وأحد الجنرالات المناهضين للحلف الفلورنسي. وفي الورقة ذاتها توجد عدة رسومات لمدافع بيد ليوناردو: وهنالك علاقة وثيقة بين الرسوم والقصيدة. وكاميللي هو الكاتب بحد ذاته، وهنالك مؤشرات ظرفية أخرى. راعيه في ذلك الوقت، نيكولو دا كوريجي صاحب كتاب رجال البلاط من مدينة فيرارا، والذي كان شخصية عسكرية عليا في الحلف الفلورنسي، وربما أمضى كاميللي بعض الوقت عسكرياً تحت إمرته. ونحن نعلم أن كاميللي كان في فلورنسا في صيف 1479- وفي 20 أغسطس لبى استدعاء المحكمة بسبب الدين- وعليه فليس من الغريب أنّه كان هنالك في أواخر نوفمبر أو ديسمبر، وهو التأريخ المفترض لميلاد القصيدة.
إن كان هذا المتبجح غريب الأطوار من نتاج قلم إل بيستويزي، فستكون كذلك بعض القطع الأخرى في مخطوطة اتلانتكس المكتوبة بالخط ذاته. ومن بينها قصيدة ذات طابع شخصي وهي تخاطب ليوناردو، أو ربما، كانت على الأرجح مسودة لقصيدة.
لسوء الحظ تلطخت ببقعة حبر كبيرة، ولكن اصبح جزءاً منها على الأقل مقروءاً بفضل تقنية التصوير بالأشعة تحت الحمراء. وظهر من عنوان القصيدة "S […]4"" – يعني هذا على الأرجح Sonetto 4"" وتبدأ هكذا:
Lionardo mo non avete d[..]
Lionardo parche tanto penato[?]
(ليس لديك أي [...] يا حبيبي ليوناردو، لم أنت مهموم يا ليوناردو؟)
ويصعب تأويل بقية القصيدة، ولكن يبدو أنّها تدور حول الاعتذار أو المصالحة: الكلمة الأخيرة من القصيدة هي perdonato، [لقد غفرت]. وعلى هذه الصفحة كتبت أيضاً أجزاء من الشعر بخط ليوناردو المرآتي. وهنالك اقتباسين من أوفيد " الأشياء التي لم تحدث في حضور أي شاهد، أشياء لا يعرفها سوى الليل الداجي" و " أيها الزمن، الذي يُبلي كل شيء"- وواحدة من بترارك. وهنالك أيضاً مقطع جميل- يحمل طابع كاميللي بقوة، ولكنّه في الحقيقة اقتباس من لوقا بولشي (شقيق لويجي):
Deh non m' avete a vil ch'io son povero
Povero e quei che assai cose desidera
[لا تستخف بي لأنّي فقير: يلحق الفقر بالرجل عندما تكثر رغباته]
وتعطينا هذه الصفحات فكرةً عن محاولات ليوناردو في كتابة الشعر، ربما متأثراً في شيء من التذبذب بكاميللي.
وهنالك قصيدة أخرى بالخط ذاته تبدو من الطرائف الساخرة يقصد بها برناردو بيلينشوني، وهو شاعر فلورنسي ينتمي لذات المدرسة البورشيلية التي ينتمي إليها كاميللي، ولكنه أصغر عمراً. بيلينشيوني كان مقرّباً من لورينزو دي ميديتشي، والذي تبادل معه القصائد الفاحشة، كما كان أيضاً من خاصّة والدة لورينزو، لوكريزيا تورنابوني، وبذلك أصبح هدفاً مناسباً لكاميللي النزِق. وربما عرفه ليوناردو أيضاً- ولكنهم بكل تأكيد عرفوا بعضم البعض في وقت لاحق في ميلانو وكانت لهم أعمال مشتركة.
كانوا أنداداً في العمر ذاته، وكان بيرناردو صبياً فقيراً سما به حذقه- وهو نوع من الناس أحبه ليوناردو. لقد كان شاباً ألمعياً وقوي الشكيمة: طفل فظيع. وكان شاعر ميديشي وكاهنه ماتيو فرانكو عدواً- كتب بيللينشيوني سوناتة يهجوه يقول في مطلعها: "Taci, non ciarlar pin che tu schimazzi" (أهدأ، واترك الثرثرة، قبل أن تُمسخ فتصبح قرداً). وقد أحبه لويجي اللاذع، ومدح حذقه في مؤلفه العظيم الملحمة الهزلية مورغانتي الكبرى، والمنشورة في عام 1481- في كتاب اقتناه ليوناردو لاحقاً، ومنه اقتبس تلك الأبيات. وهكذا كانت التيارات الأدبية الفلورنسية تسري في مرسم ليوناردو وتتدفق حوله.
وإن بحث المرء عن التأثير الأدبي على ليوناردو، فإن الأسلوب العفوي والمقتضب لكاميللي سيبدو أقرب روحاً وطبعاً إلى ليوناردو من أسلوب بوليزيانو الأكثر تهذيباً، والذي شعرنا به يكتنف لوحة جنيفرا. لم يكن ليوناردو يوماً منحازاً للآداب الجميلة: هنالك زيارات للأمزجة الأدبية، ولكن أسلوب كتابته كان إيجازياً، وعامِّياً، ويميل إلى الى الفظاظة في الخواتيم، وإن وصل إلى مرتبة الشعر في بعض الأحيان فسيكون ذلك بسبب حدته وكثافة تعبيره، وليس من خلال براعة ألفاظه وحُسن أسجاعه.
وثمة شيء محبب في صداقته مع شاعر بيستويا سليط اللسان- فذلك الـ "Lionardo mio" تحديداً يشير إلى الصداقة- بيد أنّ تلك القصيدة تخبرنا أيضاً أن ليوناردو كان معذّباً [penato]، ولذلك فهو مهموم، ومغتم، وحزين (على الرغم من أنّها قد تعني "العمل الشاق"، كما في الشخص الذي " يكابد المشقة في سبيل شيء ما). وأنّه كان "فقيراً" ولكنّ كانت له فلسفة حيال ذلك. العمل في الورشة لم يكن مزدهراً، بمقدرونا تخمين ذلك، إلا أن الأمسيات كانت بهيجة.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment