ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
10-الرحيل
ينظر الرجل خارجاً وبعيداً، وراء الإطار الذي يحتويه ويعيقه. وفي وقت ما بعد سبتمبر 1481- تأريخ آخر إشارة له في شهادات حسابات سان دوناتو- غادر ليوناردو فلورنسا إلى ميلانو، وربما بدون عودة (بحسب علمنا) لأكثر من ثمانية عشرة سنة، لكنْ هذا الشيء لم يدر بخلده لدى مغادرته، وعليه فلا نستطيع الجزم بأنّه كان يغادر بلا رجعة أو كنوع من التحدي- يدير ظهره لمسقط رأسه، ووالده، ومهنته المتوقفة وغير المعروفة- أو ما إذا كان ذاهباً لقضاء إجازة قصيرة بكل بساطة: رحلة نحو الشمال، متذوقاً شيئاً جديداً.
وكما ذكرت آنفاً، فإنَّ ظرف مغادرة ليوناردو إلى ميلانو الأكثر مفاجأة هو أنّه ذهب إلى هناك بصفته موسيقياً. وكما ذُكر أيضاً، فهنالك تضارب في الشهادات الأولى عما إذا كان قد "أرسل" من قبل ليورينزو دي ميديتشي أم أنّه تلقى "دعوة" من لودوفيكو سفورزا. وخلف هذه العقدة الصغيرة يختبيء سؤال كبير: على أي مزاج غادر ليوناردو فلورنسا؟ هل أُبتعث كسفير ثقافي، شخص كان مقدراً كمثال للموهبة والعبقرية الفلورنسية؟ أم هل سافر تحت سحابة، بإحساس الفشل والإحباط- فلوحاته لم تكتمل، ونمط حياته مثير للجدل، وسمعته مزيج من العبقرية والشقاء؟ هذا ليس في الحقيقة سؤال اختيار: فالمزاجان كلاهما واردان. كان ليوناردو مستعداً للرحيل، ولورينزو أيضاً كان مستعداً لتركه يغادر. القلق والنفعية- دافعان اثنان قويان يندمجان هنا في حلم واحد عجيب: كمان وصندوق صوتي فضي على شكل جمجمة حصان.
تأريخ رحيل ليوناردو على وجه الدقة ليس بمعلوم. ولكن آخر سجلاته في فلورنسا (تسليم "النبيذ الأرجواني" ذاك من كروم سان دوناتو) مؤرخ في 25 أبريل 1483. ويقول المجهول الجادّي أنه كان في الثلاثين من عمره عندما رحل: فإن أخذنا هذا الأمر بحرفية، فتأريخ مغادرته سيكون في وقتٍ ما بعد 15 أبريل 1482.
وهنالك احتمال مثير للاهتمام هو أنَّ ليوناردو ذهب ضمن حاشية بيرناردو روشيلاي وبيير فرانسسكو دا سان مينياتو، اللذيْن كانا قد أُرسلا إلى ميلانو كمبعوثيْن فلورنسيين في بدايات 1482. وبالتأكيد لم تكن هنالك صعوبة في ربط ليوناردو بالأفلاطوني الأنيق بيرناردو روشيلاي الدارس ذي الشعبية الواسعة، وراعي توماسو ماسيني، والذي يحتمل أنّه هو من كلّف ليوناردو برسم لوحة القديس جيروم.
وهو الآن في أواخر ثلاثينياته. لقد كان واحداً من أغنى الرجال في المدينة، وصهر لورينزو دي ميديتشي، وسوف يظل في ميلانو لأربع سنوات، في السنتين الأخيريتين منها يعمل كسفير فلورنسي مقيم. وربما جرت الإشارة إلى علاقة ليوناردو بروشيلاي وزميله المنتدب إلى ميلانو بيير فرانسيكو دا سان مينياتو في إحدى السونيتات التي كتبها بيرناردو بيلينشيوني الشاعر الثرثار.
وقد كان عنوانها "S a Madonna Lucretia essendo l'auctore a Fiesole"- وهي في عبارة أخرى تعني- أغنية كتبت في فيزولي ومعنونة إلى لوكريزيا تورنابوني والدة لورينزو دي ميديتشي. وهي تشير إلى "السيد بيرناردو" وبييرو اللذيْن يرجح أنّهما معروفان كروشيلاي وسان مينياتو وهي تشتمل على السطور التالية:
A Fiesole con Piero e Leonardo
E fanno insieme una conclusion
[في فيزولي ليوناردو مع بيرو، ووصلا لاتفاق معاً]
بيرناردو وبيير فرانسسكو، كانا قد عُينا مندوبين في 10 ديسمبر 1481، وغادرا فلورنسا إلى ميلانو في 7 فبراير 1482. وهذا ربما يعطينا فكرة عن تأريخ مغادرة ليوناردو.
قبل أن يغادر بفترة قصيرة، كتب ليوناردو تلك القائمة لأعماله الفلورنسية والتي كثيراً ما اقتبستها. هنالك اللوحات، والرسومات، والنماذج التي أخذها معه إلى ميلانو: حقيبته. إنها تشتمل على لوحتين للسيدة " العذراء"، واحدة منهما هي على الأرجح مادونا بينوا، و"شخصيات معينة من لوحة القديس جيروم"، ورسم شخصية لأتالانتي ميغليوروتي "رافعاً وجهه"، "وبعض معدات السفن"، وبعض "الأجهزة المائية"، و"الكثير من الزهور المرسومة من الطبيعة"، و"عدد كبير من تصاميم العقد" أو التصاميم الفينشية. وهذه يمكن التعرف إليها في أعمال ليوناردو المعروفة في أواخر سبعينيات القرن الخامس عشر، بيد أنّ هذه الوثيقة هي الأخرى محزنة، إذ لم يعد بالإمكان التعرف على كثير من تلك الأشياء المذكورة والاحتمال الأرجح أنّها قد ضاعت. فهنالك "8 سان سيباستيان"، أو "رأس الغجري"، أو "رأس الدوق" (ربما ولأسباب ستتكشف قريباً كان الرأس لدوق ميلانو الراحل فرانسسكو سفورزا)؟ وفي بعض الحالات لا يكون الوصف مقروءاً حتى- وهنالك رسومات "4 disegni della tavola da santo angiolo" رسومات تم تنفيذها من أجل لوحة يظهر فيها ملاك مقدس، أو لوحة في كنيسة القديس أنجيلو؟ وهل لذاك الغرض صنعت "componimenti d'angioli" ["تركيبة الملائكة" أم "الزوايا"؟ ولعه بالشعر بادٍ بالفعل- خمسة عناصر منفصلة تصنّف اللوحات بمرجعية الشعر (رأس في رسم جانبي يتسم بجمال الشعر"، وجه كامل بشعر مجعّد"، "رأس فتاةٍ بجدائل تلم بعثرتها عقدة"، إلخ.) وهنالك لوحة ضمن الأعمال الفنية يظهر فيها العقيق الأبيض- وهو حجر كريم من نوع الكوارتز الذي يعدُّ من العقيق والعقيق الأحمر من أفضل أنواعه المعروفة.
والصفحة التي تظهر عليها القائمة تحمل بعض المفاجآت الأخرى. فالبند الأول فيها (أو أول ما تشير إليه المدونات الحديثة على أنّه العنصر الأول)- "رأسٌ، وجه كامل، لشابٍ بشعر رأسٍ جميل". كانت المدخلة الأولى مكتوبة بيد شخص آخر غير ليوناردو، وربما في وقت مختلف. إنّها مقلوبة بالنسبة لبقية القائمة، وهي مكتوبة من اليسار إلى اليمين. والخط يتطابق تقريباً مع الذي كتبت به الأبيات اللاتينية حول المدفع المسمى الغيبيلينا، والسونيتة المطموسة التي تبدأ بعبارة "Leonardo mio"- وهو بعبارة أخرى خط الشاعر البيستويّ أنطونيو كامّيلّي. وفي الركن السفلي من الصفحة رسم كاريكاتوريّ غير متقن، صورة لرجل شاب كئيب الملامح بشعر طويل وسلاح ناري من نوع البيريتا. وأتساءل عما إذا كانت هذه هي آخر صورة لليوناردو في فلورنسا-'Lionardo mio...perche tanto penato?' "ليوناردو يا صاحبي، لم أنت معذّبٌ" ربما كان هذا الرسم بخط يد البيستويزي نفسه، أو ربما بخط زورواسترو، والذي كانت جدران معمله في روما "تعجّ بالوجوه العجيبة".
قائمة أعمال ليوناردو، مؤرخة في 1482 على صفحة كثيرة الخربشات من مخطوطة أتلانتكس.
فإن كانت قائمة الأعمال وثيقة بأثر رجعي، فإنّ "رسالة طلب العمل" المعنونة إلى لودوفيكو سفورزا تبدو خطوة متقدمة جداً وعلى درجة من الطموح بالنسبة لمستقبل ليوناردو في ميلانو. وربما كتبت في فلورنسا، وأُعدت لتقديمها لودوفيكو في أقرب سانحة. وتتميز النسخة الناجية من الرسالة بخطٍ طباعي يدوي جميل، وربما كتبت بيد ناسخ محترف، بيد أنّ وجود بعض التغييرات والإدراجات الطفيفة يعني أنّها لم تكن النسخة النهائية. إنّها إعلامٌ متقن بالمهارات التي يحوزها ليوناردو ويستطيع تكريسها للخدمة، في أسلوب تعبيري يتميز بثقة شديدة، لكنْ المفاجيء بالأمر أنّ الهندسة العسكرية كانت من بين تلك المهارات بشكل عام، والتي لم يكن معروفاً عنه التخصص أو الخبرة بها حتى تلك اللحظة. وهذا الدور الجديد الذي يحلم به بينما يعدُّ العدة لمغادرة فلورنسا: مهندس لدوق ميلانو.
ويبدأ رسالته متخيّراً من الألفاظ جميلها:
سيدي الأعظم
لقد رأيت بعين فاحصة واختبرت اختراعات جميع من يعدّون أنفسهم صناعاً وخبراء في عتاد الحرب، وقد خلصت إلى أنَّ آلاتهم من حيث التصميم أو التشغيل لا تختلف كثيراً ولا قليلاً عن الآلات المستخدمة بشكل عام. وعليه فإنني أتقدم بكل ثقة-ودون أية نية سيئة- لوضع مهاراتي في خدمة معاليكم، وأنّ أبوح لسيادتكم بأسراري، وسأقوم بعرض كل هذه الأشياء بكل سرور، في أي وقت ترونه مناسباً لكم.
ثم يتبع ذلك بقائمة مرّقمة تبين "الأجهزة" التي سيقدم أسرارها للودوفيكو- قطعة إعلانية للعتاد العسكري:
1. لدي طرق لصنع قناطر قوية وخفيفة جداً، يسهل نقلها، وهي مفيدة سواءً في حالة مطاردة الأعداء أو غزوهم، وأخرى أكثر صلابة لا يمكن تحطيمها بالنار ولا بالضرب.
2. في وقت الحصار أعرف كيفية إخراج المياه من الخنادق، وصنع جميع أنواع القناطر، والطرق السرية، والسلالم، والأجهزة الأخرى المناسبة لمثل هذا النوع من العمليات.
3. إن لم يكن بالإمكان تدمير المكان المحاصر بالمدفعية، بسبب ارتفاع جوانبه أو قوة موقعه، فلديَّ الطرق الكفيلة بتدمير أية قلعة أو حصن حتى وإن كان مبنياً على جلمود صخر.
4. ولديَّ أنواع معينة من المدافع سهلة الحمل للغاية، تقذف بحجارة صغيرة، كما لو أنّها عاصفة ثلجية، والدخان المتصاعد منها سوف يملأ قلب العدو رعباً، وتكبدهم الخسائر وتشيع فيهم البلبلة.
5. لديَّ أساليب لصنع أنفاق تحت الأرض دون إصدار صوت، وممرات هواء سرية لتهوية أي مكان يُرغب في أن يصل الهواء إليه، وحتى إن لزم الأمر أن يمر من تحت الخنادق أو الأنهار.
6. سوف أصنع عربات مصفحة، لا يمكن تدميرها على الإطلاق، والتي سوف تخترق صفوف العدو بعتادها، لا قبل لأي فرقة من الجنود من بها، ولا طاقة لأي عسكر بتحملها، وربما يتبعها المشاة، وهم في أمن من الأذى ودون حاجة للدخول في مواجهة مع العدو.
7. عند الحاجة سأقوم بصنع مدفع وقذيفة مدفعية وعتاد خفيف، وسأراعي في صنعها الجمال و الفائدة، بشكل يختلف كثيراً عما يشيع استخدامه من الآت.
8. عندما يغدو استخدام المدفعية غير مجدٍ، سأضع المقاليع، والمجانيق، ومسامير الكالتروب .
9. في حال المعارك البحرية لديَّ عدة أنواع من الآلات عالية الفعالية للهجوم والدفاع، وسفن بمقدورها مقاومة هجوم المدفعية الثقيلة والبارود واللهب.
باختصار، لقد خلص إلى " أستطيع ابتكار أنواع غير متناهية للآلات لأغراض الهجوم والدفاع." والسؤال الذي يطرح نفسه باستمرار، وسرعان ما سيتبادر إلى ذهن لودوفيكو سفورزا، هو: أيستطيع؟ إنّه جائز- فلليوناردو مهارات هندسية أساسية، فهو يتمتع بسرعة التعلم، وقد كان يعمل بمعية الخبير بالمعادن توماسو ماسيني- ولكنْ ليس هنالك من دليل على أنّ أيّ من هذه الماكينات موجود سوى على الورق. والوثيقة لا تخلو من خيال علمي حول الأمر، كما لو أنّ خياله كان يسبقه. إنّه قلب الحالم متعدد المواهب الذي سيضع النقاط على الحروف لاحقاً.
وفي نهاية الخطاب يتذكر ليوناردو أنّه فنان أيضاً- وفي التلوين أستطيع فعل كل شيء يمكن فعله"- ويضيف في النهاية عرض معين للودوفيكو والذي يعتقد البعض بأنّه هو الدافع الحقيقي لرحلته لميلانو:" وسوف أكون قادراً على بدء العمل على الحصان البرونزي الذي سوف يكون المجد الخالد والشرف الباقي لذكرى الأمير والدك السعيدة ودار سفورزا الشهيرة." هنا يرد ذكر تمثال الفارس العظيم فرانسسكو سفورزا لأول مرة، وهو الذي سيشغل ليوناردو عبثاً، لسنوات قادمات. وفي 1480 ذهب معلمه السابق فيروكيو إلى البندقية لينشيء عملاً مماثلاً: تمثال الفارس لكوندوتيرو بارتولوميو كوليوني. وأخبار تكليف سفورزا كانت تتردد في أرجاء فلورنسا لبضع سنين: وقد أنتج مرسم بولايولو بالفعل بعض التصميمات. وقد كانت هذه الصروح عظيمة، وباهظة، وأعمال عامة إلى حد كبير: فليوناردو عظيم الفكر.
فهو يلف هذه الوثائق بعناية، وبطبيعته المتكتمة تلك: مخزوناً من الماضي، وإعلاناً للمستقبل، فتوضع داخل حقيبة السفر أو غرارة السرج، بجانب الرسومات واللوحات نصف المكتملة، وأشكال الطين، والعقيق البراق، والقيثار الفضي في قرابه.
--------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment