Wednesday, March 20, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 6 - الموسيقيّ





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

6-الموسيقيّ
علاقة ليوناردو بأمثال الشويعر كاميللي وبيللينشيوني تقودنا إلى نوع آخر من إنجازاته التي دائماً ما يغفل المرء عن ذكرها. وقد اتفق كتاب السيرة الأوائل بالاجماع على أنّه كان موسيقياً لامعاً، وأنّه كان بشكل خاص يجيد العزف على آلة القيثارة. ولابد أنّه قد برع في ذلك خلال سنوات إقامته تلك في فلورنسا، وبما أنّ كلاً من المجهول وفازاري يؤكدان على أنّ ذلك كان لدى ذهابه إلى ميلانو، وعلى الأرجح في بدايات عام 1482، وكان قد مثُل أمام بلاط ميلانو ليس كرسامٍ أو تقنيّ ولكن كموسيقي. وهذه حقيقة واحدة لا يسع المرء إلا تصديقها. 
ولم تكن تلك القيثارة التي كان يعزف عليها تشبه آلة الهارب في شكلها الكلاسيكي القديم، مثلما تم تناولها في الحوارات الكوميدية للفردوس. لقد تطورت الآلة كثيراً وتعرف باسم القيثارة اليدوية [lira da braccio]. كما أنّها كانت بالاساس نوعاً من آلة الكمان اليدوية التي تطورت بدورها من آلة الفيولين السابقة. وللقيثارة اليدوية سبعة أوتار: خمسة منها لحنية، يتم ضبطها عبر مجموعة من المفاتيح في صندوق على شكل قلب. ويتم عزفها في العادة باستخدام قوس، وتثبت بالأصابع على لوحة الأصابع لإخراج مختلف النغمات. وبالإضافة إلى ذلك فلديها وترين حرين (corde di bordone) يمتدان خارج لوحة الأصابع: وهذين "المحايدين" ينتجان نغمة واحدة فقط، وإن تم شدهما بواسطة إبهام اليد اليسرى ( أو ربما باليد اليمنى كما في حالة ليوناردو) ينتجان ضربة. وهذين الوترين الحرين، بالمقارنة من حيث الصوت والتقنية مع أوتار القيثارة يمنحان الآلة اسمها. وهنالك قيثارة يدوية فينسية من القرن السادس عشر في المتحف الوطني للموسيقى في داكوتا الجنوبية. وهي تحمل جملة باللاتينية مكتوبة بالطلاء على أضلاعها المحفورة: " بينما يسير الحصان فوق الخراف، جيئة وذهاباً، يعيد الخشب صوتاً عذباً كالشهد." هذا الشعار الريفي المتجانس- يشير إلى شعر حصان القوس، ومصران الخروف الذي تصنع منه الأوتار، وخشب القيثارة- يبدو كواحد من نبوءات ليوناردو المنهمرة. 

ملاك يعزف القيثارة اليدوية في لوحة تُنسب لامبريغو دي بريديس
في لوحات تلك الفترة ظهرت وبشكل متكرر صورة ملاك يعزف القيثارة أو الفيولا اليدوية (كثيراً ما يصعب التمييز بينهما). وهي تظهر في الصور التي رسمها جيوفاني بيلليني، وكارباكشيو، ورافاييل ومانتينيا، وفي إضاءة حد إحدى صفحات كتاب الساعات لسفورزا. إنها بكل تأكيد قيثارة يدوية تلك التي يعزف عليها الملاك في لوحة امبريغودي بريديس في المعرض الوطني بلندن- يمكنك أيضاء روية الوترين الحرين بوضوح وهما يمران خارج إبهام الملاك الأيسر. وقد كانت هذه اللوحة في الأصل لوحة جانبية لتحفة ليوناردو سيدة الصخور، وقد رسمها أحد زملائه القدامى في ميلانو وربما عكست شيئاً من تجربة مراقبة عزف ليوناردو – والاستماع إليه.
إذن فآلة ليوناردو بالأساس كمان أصلي، كمان تعلمه قبل الحرف. أما متى ومن من تعلم العزف فشيء غير معلوم. ويجعل فازاري الموسيقى واحدة من إنجازات الصبي ليوناردو، ولكن ربما انطوى ذلك على تأخر في إدراك كاتب السيرة. 
ولقد أحطنا علماً بأنّه قد كان لفيروكيو عوداً ضمن مقتنياته: يشير هذا إلى أن الموسيقى كانت تُعزَّف في الورشة، وربما كانت تعلَّم هناك أيضاً، ولو بشكل غير رسمي على الأقل. بينفينوتو سيليني، كاتباً عن تلمذة والده جيوفاني في فلورنسا في ثمانينيات القرن الخامس عشر يقول: " بحسب فيتروفيوس، إن أردت أن تتقن العمارة، فعليك بمعرفة شيء من الموسيقى والرسم. عليه بدأ جيوفاني الذي كان يتدرب على الرسم بدراسة الموسيقى، وفي الوقت ذاته تعلم أن يعزف بامتياز على كلاً من آلتي الفيولا والفلوت." يقول سيليني أيضاً أنّ البوّاقين الفلورنسيين وغيرهم من الموسيقيين الذين مارسوا العزف في المناسبات المدنية- ووالده واحد منهم- كانوا جميعاً فنانين محترمين، و "بعض منهم كانوا من كبار الحرفيين مثل العاملين في صناعة الحرير والصوف، ولهذا السبب لم يشك أبوه في قيمة مزاولة هذه المهنة. " ويبدو أن لهاتين المقولتين كلاهما صلة بليوناردو- وأنّ إتقانه للموسيقى كان في انسجام مع دراسته للفن والمعمار، وأنّه كان هنالك تقليد عريق لتأليف الموسيقى وسط النقابات الفلورنسية.

ألعاب موسيقية. رسم تمهيدي لآلة وترية خيالية، و لغز باستخدام الرموز الموسيقية، كلاهما يعودان إلى فترة أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر.
ماهو نوع الموسيقى التي كان يعزفها ليوناردو دافينشي؟ لم تنج أي من مؤلفاته، والانتاج الموسيقى لفلورنسا أواخر القرن الرابع عشر كان ذائعاً ومتنوعاً- الغناء على طول فقرات الكارنفال، العزف الموسيقي في المقدمات والفواصل الذي ترافق مع العروض الدينية، وإيقاعات رقص غوغليلمو إبريو الأنيقة، وموسيقى الجهاز المبدع للفنان فرانسسكو سكورشيالوبي. ويعطينا فازاراي إشارة (أو على الاقل افتراضاً) عندما يضيف بمناسبة مواهب ليوناردو الموسيقية. " لقد كان أيضاً أمهر من يقرض الشعر ارتجالاً في عصره." وهذه الصور  التي يظهر فيها ليوناردو بصحبة قيثارة بينما يتلو أو ينشد الشعر ارتجالاً. والآلات من عائلة الفيولا كانت مرتبطة بشكل خاص بهذا الأمر. والموسيقيّ الفلمنكي يوهانس تينكتوريس، في ذلك الوقت مؤلفاً مقيماً في بلاط نيابوليتان، أوصى بالفيولا لأغراض "مرافقة وتجميل الموسيقى الصوتية وإنشاد الملاحم." تقليد الارتجال استمر حتى العصور الحديثة. وقد وصف الروائي الاسكتلندي توبياس سموليت أداء بواسطة أحدهم في عام 1765: " عندما أعطي الموضوع، ضبط أخيه فيولينته لمصاحبته، وبدأ في التكرار في السرد، وبفصاحة ودقة مذهلتين. عليه سوف يتلو – في ظرف دقيقة- مائتين أو ثلاثمائة بيت، جيدة النظم وجيدة الأداء".  
وهذه المهارات تتضاءل في حضرة مهارات الراوي[Frottolista]- مؤدي أغنيات الحب. [frottole].  ("Trifles") كانت بالأساس قصائد مغناة: وقد استخدمت المفردة بشكل عام للدلالة على عدد من أشكال الغناء- السونيتات، القصائد الغنائية، الثمانيات أو السداسيات (strambotti) ، الخ-  لموسقتها. وقد كانت هذه المؤلفات توصف بأنّها " نصف شعبية، نصف ارستقراطية"- فقد استخدمت إيقاعات شعبية ولكن بطريقة تم تصميمها لإمتاع المستمع المثقف. وأوج عصر هذا النوع من الغناء والذي كان يعرف بالfrottola كان بعيد وصول ليوناردو إلى مدينة ميلانو بقليل- حوالي نهاية القرن- وقد ارتبط بالتحديد بمحكمة إزابيلا ديستي بمانتوا، حيث تمتع الموسيقيون الناجحون مثل سيرافينو أكويلينو بنفوذ كبير. ونستطيع القول بشكل عام إن كان ليوناردو عازف قيثارة يدوية نموذجية في فلورنسا في 1480، لكان على الأرجح يعزف ذلك النوع الخفيف العذب من الموسيقى الوترية التي اتسمت بها أغنيات كرنفالات آل ميديتشي وغناء رواة مانتوا. ولسوف يغني أو ينشد قصائد حب بترارك وبوليزيانو ولورينزو دي ميديتشي، أو في الحقيقة بعض أناشيد كاميللي وبيلينشيوني الجارحة، والعديد منها جرى إعدادها لتؤدى بتلك الطريقة. وعلاقته بكاميللي تثير ليالي التسلية العفوية الحاضرة- الأداء الطيفي لأغنية "Orsu che fia?" مرة واحدة، والفقرات الأخرى حيث إل بيستويزي على الصوتيات وليوناردو على الكمان. ليوناردو لم يكن نموذجياً، على أية حال، وقد يبحث المرء أيضاً عن أمزجة أخرى. وكان هنالك فلورنسي مشهور آخر عزف على القيثارة اليدوية- الفيلسوف مارسيليو فيشينو، الذي قام بتأليف "ترانيم أورفيوس" ( كما يدعوها هو)، وقد أداها على القيثارة. وثمة نوع آخر من التأثير على ليوناردو ينبثق من الأمسيات الفلسفية النادرة في كاريجي. ومن الجائز أنّ انخراطه في مجتمع فيشينو قد أيقظ سفسطائية جديدة في ليوناردو الموسيقيّ. ولقد قام هو ذاته لاحقاً بتسمية الموسيقى " عرضاً للأمور الخفية"- وهي عبارة ذات طابع إفلاطوني قوي.  وبذلك أضاف إلى إيقاعات وغناء الراوي الممتع شيء روحي أو أثيري يجعلك تقف وتغمض عينيك بينما تتسلل الموسيقى إلى روحك. 
وقلت أنّه لم تبق أي من مؤلفات ليوناردو، ولكن هنالك أشباح صغيرة من العبارات الموسيقىة التي تنبعث من بعض الألغاز التي ابتكرها. فهنالك نصف دزينة من الألغاز والأحجيات باستخدام الترميز الموسيقي في مجموعة ويندسر. فهي في العادة تشكيلة من التصاوير والرموز اللفظية والموسيقية. والمثال المبين هنا يقرأ بسهولة كافية (طالما يعرف المرء أن الكلمة الإيطالية لسنارة الصيد هي amo) كالتالي: 
Amo [رسم لسنارة صيد],  re sol la mi fa re mi[أحرف موسيقية] rare [مكتوبة]  la sol mi fa sol[أحرف موسيقية], lecita [مكتوبة]
هذا ينتج الأهزوجة الرومانسية التالية: 
'Amore sola mi fa remirare, la sol mi fa sollecita' " الحب وحده ما يجعلني أتذكر، إنّه وحده ما يشعلني". وقطعتي الرموز الموسيقية يمكن عزفها على الأورغ أو البيانو DGAEFDE AGEFG. هذا لحن من تأليف ليوناردو دا فينشي. 
ووفقاً لفازاري فقد صنع ليوناردو دافنشي قيثارة يدوية خاصة لإبهار مضيفيه الميلانيين: " لقد أخذ معه قيثارة صنعها لنفسه، من الفضة غالباً، على شكل جمجمة حصان، وهو تصميم غريب وجديد والذي جعل الصوت أغنى وأقوى جرساً." ولا يبدو أنّ هنالك أية تصميمات لهذا في الدفاتر، بيد أنّه ووفقاً لإفادة كارلو أموريتي دارس ليوناردو من القرن الثامن عشر، والذي كان عالماً بمخطوطات ليوناردو في مكتبة الأمبروزيانا قبل أن يتم نقلها إلى فرنسا، وقد كان هنالك رسماً لقيثارة قد تكون هي "قيثارة الجمجمة" المشار إليها في حيوات فازاري. وقد جرت إعادة ترميم هذه الآلة الغريبة من قبل مجموعة من دارسي الموسيقى وصناع الآلات الموسيقية في كريمونا ، وقد اعتمدت العملية بالأساس على التخمين. 
وهنالك عدد آخر من الآلات الغريبة في الدفاتر- أشكال مبتكرة من الآت الأورغ النقالة، وآلات القانون، والآت البيانو الوترية، والطبول الآلية، و"أورغان الفيولا"، وما إلى ذلك. وفي حوالي 1499 قام ليوناردو بتجربة أخرى في هذا المجال: " الوتر المشدود لعود سوف ينتج حركة مجاوبة في وتر مشابه من ذات الدرجة على عود آخر، ويمكن رؤية هذا الشيء عند وضع قطعة من القش على وتر مشابه للوتر الذي يُعزف عليه."  وقد جاءتنا بعض المعلومات من المجهول الجاديّ، والذي يخبرنا بأنّ ليوناردو قام بتدريس الموسيقى لشاب صغير يدعى اتالانتي ميغليوروتي، وأنّ ميغليوروتي صحبه إلى ميلانو- وبذلك بدأ يظهر ناحية السطح واحد من مجتمعات ليوناردو الفلورنسية المتنوعة. وُلد اتالانتي دي مانيتو ميغليوروتي على الأرجح كابن غير شرعي في حوالي عام 1466، وعليه فقد كان في السادسة عشرة من عمره عندما سافر إلى ميلانو بصحبة ليوناردو. وربما كانت إحدى لوحات ليوناردو التي  ادرجت في قائمة عام 1482 والتي اصطحبها معه إلى ميلانو تمثل صورة شخصية له: "una testa ritratta d'atalante che alzava il volto'" (" صورة شخصية لاتالانتي رافعاً وجهه").  ورسماً جميلاً لرجل شاب عارٍ يعزف آلة غريبة قد يكون هو الآخر يحمل شكله. (الآلة المرسومة بسن معدنية لم تكن محبّرة وتكاد تكون غير مرئية في اللوحة المستعادة).  ونحن لا نعلم كم من الوقت اقام اتالانتي مع ليوناردو في ميلانو: المرة الثانية التي جاء فيها ذكره كان في مانتوا عام 1491، يغني دوراً رئيسياً في أوبرا بوليزيانو "أوريفيوس" لإدخال السرور على نفس إزابيلا دايستي. وكان يبدو أنّه قد أهلّ نفسه ليعمل كصانع آلات موسيقية لأنّ في عام 1493 تم تكليفه من قبل إزابيلا بأنّ يصنع لها آلة غيتار، " وأن يجعل عدد أوتارها كما يحلو له"، وفي عام 1505 كتب إلى ماركيز مانتوا (زوج إزابيلا) ليخبره أنّه قام بصنع قيثارة جديدة ذات أثني عشر وتراً و"بشكل غير مألوف"، ربما مستحضراً تلك القيثارة الفضية العجيبة التي صنعها معلمه لعدت سنوات خلت. 



------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment