قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة: علي كنعان
الحلقة رقم (33)
II
تخايل الشعاع الأخير من النور الذهبي خلال النافذة القوطية، وانعطف حول البرج من كتب القداس وصليب القرن الثالث عشر الفضي على الأسوار إلى تماثيل تاناجرا الأنيقة والأقداح الڤنيسية على طاولة الطعام، من الحوريات المتوجات بالأزهار والباخوسيين الراقصين إلى مزمار بان على النقوش الإغريقية، إلى الملامح الشاحبة على الأرض الذهبية للقديس فرانسيس، قديس أمبريا المحبوب، وإلى جانبه القديسة كلير، وفي يدها باقة من زنبق الماء. وفي الحال، أحاطت هالة من الذهب بوجه العذراء الفلورنسية الهادئ، وسرعان ما تنبثق من العتمة الربة الرخامية العبوس، أرتميس لافريا، وسهم الموت المباغت في كنانتها. وتوج قرص شمسي وهاج من جديد رأس أخناتون المبتور، الحالم الملكي على ضفاف النيل، سليل الشمس. وإلى جواره وقف أوزيريس، قاضي روح الإنسان، وحورس المتوج بالصقر، وإيزيس الغامضة وأختها نفتيس، مع أنوبيس، مراقب القبر يزحف عند أقدمهما.
وتلاشى النور مبتعدا، وزحف الليل مقتربا.
"يا إله النهار، يا واهب الضياء، ألا يمكن أن تبقى معي هنيهة أطول؟ الليل طويل جدًّاعلى الأفكار التي لا تجرؤ أن تحلم بطلوع الشمس، والليل حالك جدًّاأمام العيون التي لا تستطيع أن ترى النجوم. ألا يمكنك أن تمنحني أكثر ولو ثواني معدودات من خلودك الوضاء لأتملى عالمك الجميل، والبحر الحبيب، والغيوم الشاردة، والجبال المجيدة، والجداول المصلصلة، والأشجار الودية، والأزهار بين العشب، والطيور والوحوش، وأخوتي وأخواتي، في السماء وفي الغابات والحقول؟ ألا يمكن أن تترك لي على الأقل قليلا من الأزهار البرية في يدي لتسعد قلبي، ألا يمكن أن تترك لي قليلا من الأنجم في سمائك لتريني الطريق؟
"وإذا لم يكن لي بعد اليوم أن أرى ملامح الرجال والنساء من حولي، ألا يمكن أن تمنحني نظرة شاردة لطفل صغير أو حيوان ودي؟ لقد حدقت طويلا في وجوه الرجال والنساء، وأنا أعرفها جيدا، فلم يعد فيها ما يعلمني إلا القليل. إنها قراءة مملة حين أقارنها بما كنت قد قرأته في توراة الله ذاته، وفي وجه الأم الطبيعة المكتنف بالأسرار. عزيزتي الممرضة العجوز، يا من بددت من جبهتي الملتهبة ما لا يحصى من أفكاري الشريرة بتربيتات لطيفة من يدك الهرمة المتغضنة، لا تدعيني وحيدا في الظلام. فأنا خائف من الظلام! ظلي معي أطول قليلا، واروي لي مزيدا من حكاياتك العجيبة عن الجن، بينما تضعين طفلك القلق في السرير ليغرق في نوم ليله الطويل!
"يا نور العالم، يا حسرة! أنت إله، وما من صلاة كائن بشري وصلت إلى سمائك. أنى لي، أنا الدودة، أن أتأمل شفقة منك، يا إله الشمس عديم الرحمة، منك أنت الذي تخلى حتى عن الفرعون العظيم أخناتون الذي تردد رجع ترنيمته الخالدة إلى الشمس عبر وادي النيل قبل هومر بخمس مئة سنة حيث غنى:
"عندما ترتفع فالبلاد كلها في سعادة ومسرة
والناس يقولون: إنها الحياة أن نراك، والموت ألا نراك.
الغرب والشرق يرفع الحمد لك، وحين تشرق يعيشون،
وحين تغيب يموتون".
ومع ذلك، فأنت لم تنظر إليه بشفقة في عينك المشرقة، بينما آلِهة الزمن القديم قذفوا هيكل أعظم عابد لك في النيل وانتزعوا قرص الشمس عن جبينه، والصقر الملكي عن صدره، ومحوا اسمه البغيض من الصفائح الذهبية الملفوفة حول جسمه الضعيف، لاعنين روحه لتهيم بلا اسم في العالم السفلي إلى الأبد.
وبعد آلهة النيل بزمن طويل، سقطت آلهة الأولمب وآلهة الڤاـلهالا( 1) في الهوان. أما آخر صفي من عابديك، وهو القديس فرانسيس من أسيسي، المغني العذب لأنشودة الشمس، فقد رفع ذراعيه إلى سمائك، يا إله الشمس الخالد، وعلى شفتيه الصلاة ذاتها التي أتوجه بها إليك اليوم، بألا تأخذ نورك المبارك بعيدا عن عيوننا المريضة التي أرهقها السهر والدموع. توسل إليه الأخوة بإلحاح فسافر إلى رييتي لاستشارة طبيب عيون مشهور، وخضع بلا وجل لعملية نصحه بها. ولما وضع الجراح المشرط في النار ليحميه، تكلم القديس فرانسيس إلى النار كصديق، قائلا:
"أخي يا ملاك النار، لقد خلقك القدوس الأعظم، قبل جميع الأشياء الأخرى، من اللطافة الفائقة قويا، جميلا، ومفيدا. كن لي في هذه الساعة رحيما، وكن لطيفا. أبتهل إلى الله العظيم الذي خلقك أن يخفف حرارتك من أجلي عسى أن أكون قادرا على تحمل إحراقك لي بصبر".
ولما أنهى صلاته على المشرط المتوهج بالحرارة، أدى إشارة الصليب وظل ثابتا لم ينتفض بينما كان المشرط ينغرز في اللحم الرقيق بنشيش مسموع، وكان الكي ممتدا من الأذن حتى الحاجب. وقال القديس فرانسيس للطبيب: "إذا لم يكن الكي ناجحا تماما، اغرزه من جديد!"
ورد الطبيب متعجبا، وهو يتأمل في رقة اللحم تلك القوة الروحية العجيبة: "سأقول لك يا أخي، لقد رأيت اليوم أشياء عجيبة!"
يا للأسف! كانت صلاة أطهر الرجال كافة عبثا، وعانى بلا جدوى، لقد تخليت عن البائس المسكين كما تخليت عن الفرعون العظيم. ولما وضع الأخوة المحفة بحملها الضئيل تحت أشجار الزيتون عند سفح التل، وهم في طريق عودتهم إلى بلدتهم، لم يعد القديس فرانسيس قادرا أن يرى أسيسي الحبيبة وهو يرفع يده ليمنحها بركته الأخيرة.
فأنى لي، أنا الآثم، أشد عبادك تواضعا، أن أقوى على الأمل في رحمة منك، منك أنت الذي أعطاني من قبل ما لا يحصى من النعم النفيسة بيدين سخيتين! أنت وهبتني عيني لتأتلقا بالفرح ولتطفحا بالدموع، وأنعمت على قلبي أن ينبض بالشوق ويدمى بالشفقة، وأعطيتني النوم، ومنحتني الأمل.
لقد اعتقدت أنك وهبتني ذلك كله هدية. وكنت مخطئا. فلم تكن إلا دينا، واليوم تريد أن تستردها كلها إليك لتسلمها إلى كائن آخر ليرتفع بدوره خارج ذات الأبدية التي أغوص فيها راجعا. يا إله النور، ليكن الأمر هكذا! الله أعطى والله يأخذ، تبارك اسم الله!
---------------------
( 1) Velhala = Welhalla: مثوى الشهداء والضحايا في الأساطير الاسكندينافية.
--------------------
هذه الملحمة الإنسانية لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
No comments:
Post a Comment