قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة: علي كنعان
الحلقة رقم (32)
في البرج القديم
I
إن "قصة سان ميشيل" انتهت هنا بشكل باتر، وهي على وشك أن تبدأ تماما، شظية لا معنى لها. تنتهي برفرفة أجنحة وتغريدة عصافير والجو مفعم بالربيع. أتكون قصة حياتي ذاتها، الخالية من أي معنى، ستنتهي هكذا تماما بعصافير تغني تحت نافذتي والسماء ساطعة بالضياء! لقد كنت أفكر كثيرا جدًّاعلى هذا النحو في الموت خلال هذه الأيام الأخيرة، ولا أدري لماذا. الحديقة ما زالت حافلة بالأزهار، والفراشات والنحلات ما زالت تطير محومة، والحراذين ما تزال تتشمس بين اللبلاب، والأرض ما تزال تضج بحياة جميع الكائنات الزاحفة. والبارحة تماما سمعت هازجة متأخرة تغني باشتهاء تحت نافذتي. فلماذا ينبغي علي أن أفكر في الموت؟ من رحمة الله أنه جعل الموت محجوبا عن عيون الناس. ونحن ندرك أنه هناك، يتعقبنا كظلنا، ولا يغفل أبدا عن مراقبتنا. ومع ذلك لا نراه، ونادرا ما نفكر فيه. وأغرب شيء أننا كلما اقتربنا من قبورنا أكثر، كلما ازداد انسحاب الموت من أفكارنا. وبالفعل، إن الأمر يحتاج لإله حتى ينجز معجزة كهذه!
نادرا ما يتحدث كبار السن عن الموت، ويبدو أن أبصارهم الضعيفة لا ترغب أن تركز على أي شيء غير الماضي والحاضر. وبالتدريج، ولأن ذاكرتهم تضعف، حتى الماضي يغدو أكثر فأكثر غير واضح المعالم، وهم يعيشون بكليتهم في الحاضر تقريبا. وذلك هو السبب أن كبار السن عادة أقل شقاء مما يتوقع الجيل الشاب أحوالهم، وهم ينعمون بأيام تكاد تكون خالية من المعاناة الجسدية كما أرادتهم الطبيعة أن يكونوا.
نحن نعلم أننا سنموت، وهو الشيء الوحيد الذي نعرفه مما هو مدخر لنا، في الحقيقة. وكل ما تبقى مجرد تخمين، وفي معظم الأحيان نخمن خطأ. ونحن نتلمس طريقنا خلال حياتنا في جهل مبارك لما يمكن أن يحدث لنا بين يوم وآخر، كأطفال في غابة غير مطروقة، أي المصاعب علينا أن نواجه، وأي مغامرات أكثر أو أقل إثارة يمكن أن نلاقي قبل المغامرة العظيمة، وهي أعظم إثارة من كل ما عداها، إنها مغامرة الموت. وفي حيرتنا بين حين وآخر، نجازف في أن نضع لقدرنا سؤالا جبانا، لكننا لا نتلقى أي جواب، لأن النجوم أبعد ما تكون عنا. وكلما سارعنا للتحقق من أن قدرنا يكمن في أنفسنا وليس في النجوم، فذلك أفضل لنا بكثير. فالسعادة لا يمكن أن نجدها إلا في نفوسنا، والتماسها من الآخرين إضاعة للوقت، وليس لدى قلة منهم أي توفير. علينا أن نحمل الحزن وحدنا بأحسن ما نستطيع، فليس عدلا أن نلقيه على الآخرين، سواء كانوا رجالا أم نساء. علينا أن نخوض معاركنا بأنفسنا ونضرب بأقسى ما نستطيع، ما دمنا مقاتلين بالولادة كما نحن. سوف يحل السلام يوما علينا جميعا، سلام بلا أي إهانة حتى للمهزوم إذا حاول أن يقوم بواجبه بقدر ما يستطيع.
وفي ما يخصني، فالمعركة قد انتهت بهزيمتي. لقد طردت من سان ميشيل، ثمرة حياتي كلها. لقد بنيتها حجرا فوق حجر بيدي وبعرق جبيني. لقد شيدتها على ركبتي لتكون حرما للشمس حيث كنت ألتمس المعرفة والضياء من الإله المجيد الذي كنت أعبده طوال حياتي. لقد أنذرتني النار في عيني مرارا وتكرارا أني لا استحق أن أعيش هناك، وأن مكاني في الظل، لكني لم أعبأ بتلك الإنذارات. لقد كنت أرجع، صيفا إثر صيف، إلى ضياء سان ميشيل المكنون بالعمى، كالجياد التي ترجع إلى حظائرها المشتعلة لتهلك في اللهب. حذار من الضياء، حذار من الضياء!
لقد رضيت بقدري أخيرا، فأنا في شيخوختي أعجز من أن أقاوم إلها. وانسحبت إلى حصني في البرج القديم حيث عزمت أن أجعل مقومتي الأخيرة. كان دانتي لا يزال حيا لما شرع الرهبان في بناء برج ماتيريتا، وهو نصف دير، نصف حصن، راسخ كالصخرة التي أقيم عليها. ولكم ترددت خلال أسواره منذ أن جئت إلى هنا أصداء صرخته المريرة: "ليس هناك أعظم أسى من أن تتذكر أيام السعادة وأنت في حالة شقاء". ولكن بعد كل شيء، هل كان عراف فلورنسا مصيبا؟ أصحيح أن ليس هناك ما هو أقسى ألما من تذكر سعادتنا الغابرة في شقائنا؟ أما بالنسبة إلي، فلا أظن ذلك. إن أفكاري تعود بابتهاج، وليس بحزن، إلى سان ميشيل حيث عشت أسعد أيام حياتي. لكنه صحيح أن لا أحب أن أرجع بنفسي إلى هناك من جديد – أشعر وكأني أقتحم أرضا مقدسة، مقدسة لماض لا يمكن أن يعود، يوم كانت الدنيا صبية، وكانت الشمس صديقتي.
إنه لأمر رائع أن أتجول في الضوء اللطيف تحت أشجار الزيتون في ماتيريتا. ومن الجميل أن أجلس وأحلم في البرج القديم، ويوشك هذا أن يكون الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أقوم به. فالبرج يتجه نحو الغرب، حيث تغيب الشمس. وفي الحال ستغوص الشمس في البحر، ثم يطل الشفق، فالليل بعد ذلك.
لقد كان يوما جميلا.
--------------------
هذه الملحمة الإنسانية لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
No comments:
Post a Comment