Sunday, March 10, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 31 - بداية النهاية





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (31) 

XXXII

بداية النهاية

كنت بعيدا عن سان ميشيل مدة سنة بطولها، يا له من وقت ضائع! ولقد رجعت بعين واحدة أقل مما كان حين غادرت. وليس ثمة ما يقال عنها أكثر، ولا ريب أنها كانت لكي أستعد لاحتمال أني كنت عازما أن أبدأ الحياة بعينين. لقد رجعت رجلا مختلفا. وبدا لي أني أطل على العالم بعيني الوحيدة الباقية من زاوية أخرى غير التي كنت أنظر منها قبل ذلك. فأنا لا أستطيع أن أرى بعد اليوم ما هو قبيح أو خسيس، بل يمكن أن أرى فقط ما هو جميل وحلو ونظيف. وحتى الرجال والنساء من حولي بدوا مختلفين عما اعتادوا أن يكونوا. وبخداع بصري غريب، لم يعد في وسعي أن أراهم كما هم، لكن كما يريدون أن يكونوا، كما كانوا يحبون أن يكونوا لو أتيحت لهم فرصة. وما زال في استطاعتي أن أرى بعيني العمياء كثيرا من الحمقى يختالون هنا وهناك، ولكن لا يبدو أنهم يثيرون أعصابي كما اعتادو أن يفعلوا. لا أبالي بثرثرتهم، دعهم ينطلقون بأقوالهم. وأكثر من ذلك أني لم أصل إلى الوقت الحاضر، فإذا كان علي أن أحب أقراني من المخلوقات في أي وقت، أخشى أن أغدو مصابا بعمى عينيّ كلتيهما أولا. أعتقد أن ثمة نوعا من التطور الانتكاسي يواصل مساره في عقلي ويجعلني أنجرف أبعد فأبعد عن الناس الآخرين وأتقدم أقرب فأقرب إلى الطبيعة الأم وإلى الحيوانات. وهؤلاء الرجال والنساء حولي يبدون لي الآن أقل أهمية بكثير في العالم مما كانوا. أشعر وكأني أبدد من وقتي معهم أكثر مما ينبغي، وكأني أستطيع أن أعمل جيدا تماما بدونهم، كما أنهم يستطيعون أن يفعلوا بدوني. وأنا أدرك جيدا أن ليس لديهم أي فائدة إضافية لي. خير للمرء أن ينسل خارجا قبل أن يطرد. علي أن أقوم بكثير من الأشياء الأخرى، وربما لم يبق لي كثير من الوقت. لقد انتهي هيامي في العالم بحثا عن السعادة، وحياتي كطبيب من أحدث طراز قد انتهت، وحياتي على البحر انتهت. سوف أبقى  حيث أنا لمصلحتي وأحاول أن أجعل منها الأفضل. لكن هل سيسمحون لي أن أبقى حتى هنا في سان ميشيل؟ إن خليج نابولي كله يمتد مشعا كمرآة تحت قدمي، والأعمدة على التعريشة، والأروقة، والكنيسة كلها تتوهج بالنور، ماذا سيكون مآلي إذا لم أحتمل الوهج؟ لقد تخليت عن القراءة والكتابة، وأخذت أستعيض عنهما بالغناء، ولم أكن أغني يوم كان كل شيء على ما يرام، كما أني تعلمت الضرب على الآلة الكاتبة، ولقد قيل لي إنها مفيدة وسارة لتزجية الوقت، بالنسبة إلى رجل وحيد وبعين واحدة. كل نقرة حرف على الآلة الكاتبة تصيب المخطوطة وجمجمتي معا بضربة مستعجلة على رأس كل فكرة تغامر أن تنبثق من دماغي. وفوق ذلك، لم أكن قطّ جيدا في التفكير، وبدا لي أن من الأفضل بكثير أن أن أواصل عملي بدونها. كان ثمة طريق رئيسي مريح يؤدي من دماغي إلى القلم في يدي. والأفكار التي كان علي أن أتجنبها، كانت تتلمس طريقها على طول هذا الطريق منذ أن بدأت تمسك بالألفباء. ولا عجب أن تكون عرضة لفقد اتجاهها في هذه المتاهة الأميركية من المسننات والعجلات! وبين هلالين، من الأفضل أن أنبه القارئ أن في وسعي أن أتحمل المسؤولية فقط عما أكتب بيدي ذاتها، وليس ما جرى تلفيقه في العمل مع آلة كاتبة من صنع شركة كورونا. وسأكون مسرورا أن أرى أي الطريقتين سيحبها القارئ أكثر. 
لكن إذا تعلمت يوما أن أستمر في هذا الإلهام العاصف، فأنا عازم أن أغني أغنية متواضعة لمحبوبي شوبرت، أعظم مغن في جميع الأوقات، لأشكره على ما أنا مدين له به. فأنا مدين له بكل شيء. وحتى لما كنت مستلقيا أسبوعا إثر أسبوع في الظلمة وبقليل من الأمل أن أخرج منها يوما، فقد اعتدت أن أدندن لنفسي واحدة بعد أخرى من أغانيه، كتلميذ المدرسة الذي يستمر في الصفير عبر الغابة الداكنة ليتظاهر أنه غير خائف. كان شوبرت في التاسعة عشرة لما ألف موسيقا  لقصيدة جوته "إرلكونغ" وأرسلها إليه بإهداء متذلل. ولن أغفر إطلاقا لأعظم شاعر في العصور الحديثة لأنه لم يقابل هذه الرسالة ولو بكلمة واحدة من الشكر للإنسان الذي جعل أغنيته خالدة، وهو جوته ذاته الذي كان لديه متسع من الوقت ليكتب رسائل شكر لزيلتر على موسيقاه العادية. لقد كانت ذائقة جوته في الموسيقا  سيئة كذوقه في الفن، فقد أمضى سنة في إيطاليا ولم يفهم شيئا من فن غوته، فالجمال البسيط للبدائيين لم يكن مفهوما لديه، وكان كارلو دولتشي( 1) وجويدو ريني( 2) مثله الأعلى. وحتى الفن الإغريقي الخالص في شكله الأسمى جعله لا مباليا، وكان أبوللو بيلڤيدير فنانه المفضل. لم يرَ شوبرت البحر في حياته أبدا، ومع ذلك ليس هناك من مؤلف موسيقي، ولا رسام، ولا شاعر باستثناء هومر، استطاع أن يدرك جلاله الهادئ، وغموضه، وغضبه كما فعل. وهو لم يرَ النيل إطلاقا، ومع ذلك فمن الجائز أن الفواصل الافتتاحية لرائعته ميمنون( 3) قد صدحت في معبد الأقصر. لم يكن الفن والأدب الهيلينيين معروفين لديه، باستثناء القليل الذي أخبره به صديقه مايرهوفر   ( 4). ولكن مؤلفاته: "آلهة بلاد الإغريق، بروميثيوس، كانيميد، مقاطع من أخيل، كانت روائع من عصر هيلاس الذهبي. لم تحبه امرأة إطلاقا، مع أن أسماعنا لم يصلها أبدا صرخة من اللوعة التي تفطر القلوب أقوى من غريتشين على دولاب الغزل، ولا أشد إذعانا مؤثرا من ميغنون، ولا أغنية حب يمكن الترنم بها أحلى من ستاندشن. كان في الحادية والثلاثين حين مات، فقيرا في حالة بائسة كما عاش. وهو الذي كتب "آن تهب الموسيقا" لم يكن لديه بيانو خاص به! وبعد وفاته، بيعت بالمزاد جميع مقتنياته في الدنيا، ثيابه، كتبه القليلة، وسريره، بست وثلاثين فلورين. وفي حقيبة مهترئة تحت سريره وجدوا مقطوعة موسيقية من أغانيه الخالدة تزيد قيمتها عن جميع الذهب الذي تمتلكه عائلة روثتشيلد في ڤيينا حيث عاش ومات. 
*    *    *
جاء الربيع من جديد. والرتم في أوان إزهاره، والآس انعقدت براعمه، والكرمة نبتت أوراقها، والأزهار في كل مكان. والورود وصريمة الجدي تتسلق سيقان السرو وأعمدة التعريشة. وكانت شقائق النعمان، الزعفران، والياقوتية البرية، والبنفسج، والأوركيدا، وبخور مريم، ترتفع من بين الأعشاب العابقة الرائحة. عناقيد من الجريس، وعشبة الحجر غامقة الزرق مثل الكهف الأزرق،  تنبثق من الصخور ذاتها. والحراذين يطارد بعضها بعضا بين اللبلاب. والسلاحف تتجول مترنمة لأنفسها باشتهاء ـ وربما لا تدرون أن السلاحف يمكن أن تغني. والنمس يبدو قلقا أكثر من أي وقت. والبومة منيرڤا الصغيرة ترفرف بجناحيها وكأنها تهم بالطيران لتزور صديقا في بلاد الرومان. وبربروسا، كلب الحراسة الضخم، اختفى في مهام من شأنه وحده، وحتى تابيو العجوز الضعيف يبدو وكأنه لا يمانع في قليل من المرح في بلاد اللاب. وبيلي يلوب جيئة وذهابا تحت شجرة التين طارفا بعينه في مظهر واضح لفتى من المدينة، مستعد لكل شيء. وتستمر جيوڤانيا بأحاديث طويلة مع حبيبها الذي لوحته الشمس تحت سور الحدبقة، وهذا حسن جدا، فهما سيتزوجان بعد عيد سان أنطونيو. والجبل المقدس فوق سان ميشيل حافل بالطيور وهم في طريقهم إلى موطنهم  للتزاوج وتنشئة فراخهم. يا لها من بهجة لي أن في ميسورهم أن يستريحوا هناك في سلام! لقد التقطت قبرة صغيرة مسكينة، وهي مرهقة من طول رحلتها عبر البحر إلى حد أنها لم تحاول حتى أن تفر بعيدا، وظلت ساكنة تماما في راحة يدي وكأنها أدركت أنها في يد صديق، وربما من وطنها – وسألتها فيما إذا كانت تغرد لي بأغنية قبل أن تغادر من جديد، فما من أغنية طير أحبها أكثر من غنائها؛ لكنها قالت أن ليس لديها فائض من الوقت، وعليها أن تسرع إلى موطنها في السويد لتغني هناك خلال الصيف. وكانت الصافر الذهبي يترنم في حديقتي طوال ما يزيد عن أسبوع بأنغام شبيهة بالمزمار. ولمحت في يوم آخر عروسه مختبئة في شجيرة غار. واليوم رأيت عشهما، أعجوبة من فن عمارة الطيور. وهناك أيضا كثير من رفرفة أجنحة وهمهمة أصوات عصافير في أجمة إكليل الجبل بجوار الكنيسة. تظاهرت بأني لا أعرف شيئا عنها، لكني كنت متأكدا جدًّابأن غزلا ما كان يدور هناك؛  وأتساءل أي طائر يمكن أن يكون؟ وفي الليلة الأخيرة انجلى السر، وأنا ماض تماما إلى سريري، لأن عندليبا شرع يغني السرنيدا تحت نافذتي: 
أغني بابتهال رقيق
    طوال الليل لك
في بستان هادئ
   حبيبي، لتأتي إلي.
وفكرت وأنا أغيب في النوم: "يا لبيبنيلا كم أصحبت جميلة؛"وأتساءل إن كانت بيبنيلا..".

 --------------------
(1 ) Carlo Dolci (1616-1686):  رسام إيطالي من عصر الباروك. (م)
( 2) Guido Reni (1575-1642):  رسام إيطالي من عصر الباروك. (م)
(3 ) Memnon:  ملك إثيوبي قتله أخيل في المرحلة الأخيرة من حرب طروادة. (W)
(4 ) Johann Mayerhofer (1787-1836):  شاعر نمساوي وكاتب كلمات أوبرا، كان صديق شوبرت.
--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment