قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة: علي كنعان
الحلقة رقم (34)
III
كانت الأجراس في برج الكنيسة تقرع السلام المريمي. أصدرت ريح خفيفة حفيفا خلال أشجار السرو خارج النافذة حيث كانت العصافير تزقزق قبل أن تأوي إلى النوم. وصار صوت البحر أهدأ فأهدأ، وخيم الليل بسكونه المبارك على البرج القديم.
جلست هناك في أريكة ساڤونارولا( 1)، مرهقا وتواقا للراحة. كان الذئب يستلقي نائما عند قدمي، وطوال أيام وليال لم يتركني إلا نادرا. وكان يفتح عينيه بين حين وآخر ويحدق إلي بنظرة مفعمة بالمحبة والحزن تكاد تجعل عيني طافحتين بالدموع. وبين حين وآخر، كان يقف ويضع رأسه الكبير على ركبتيّ. أكان يعرف ما أعرف، وهل كان يدرك ما أدرك، أن ساعة افتراقنا كانت تجري مقتربة؟ لقد ربت على رأسه بصمت، ولأول مرة لم أعرف ماذا أقول له، كيف أوضح له السر العظيم الذي لا أملك أن أوضحه لنفسي.
"أيها الذئب، سأمضي بعيدا في رحلة طويلة، إلى عالم قصي جدا. وفي هذه المرة، لن تستطيع أن تجيء معي، يا صديقي. ينبغي لك أن تبقى من بعدي حيث أنت، حيث عشنا أنت وأنا معا وقتا طويلا جدا، نتقاسم الخير والشر. ينبغي ألاّ تحزن حدادا علي، ويجب أن تنساني كما سينساني أي شخص آخر، فذلك هو قانون الحياة. لا تقلق، سأكون على ما يرام، وكذلك أنت. إن كل ما يمكن عمله من أجل سعادتك قد تم. سوف تسمر في محيطك المعتاد ذاته من العيش حيث يعتني بك أناس محبون وبالعناية الحميمة ذاتها التي عاملتك بها. وستنال وجبتك الوفيرة موضوعة أمامك كل يوم حينما تقرع أجراس الظهيرة، وعظامك الطرية مرتين في الأسبوع كما كان في السابق. والحديقة الكبيرة حيث اعتدت أن تمرح ما تزال لك، ولا بد أن تنسى حتى القانون وتشرع في مطاردة القطة المتسللة تحت أشجار الزيتون، وسأواصل من حيث أكون أن أدير عيني العمياء نحو المطاردة، مغلقا عيني السليمة كما اعتدت أن أفعل إكراما للصداقة. وبعدئذ، يوم تتصلب أعضاؤك وتغشي العتمة عينيك، سوف تستريح تماما أسفل عمود الرخام الأثري في أجمة السرو بجوار البرج القديم إلى جانب أصحابك الذي مضوا إلى هناك قبلك. وحين يقال كل شيء، من يدري إذا كنا لن نلتقي من جديد؟ وفرصتنا هي ذاتها سواء كانت عظيمة أو ضئيلة".
وتوسلت العينان المخلصتان: "لا تذهب بعيدا، ابق معي أو خذني معك".
"سأمضي إلى عالم لا أعرف عنه شيئا. لا أعرف ما سيحدث لي هناك، وما أزال أقل معرفة بما يمكن أن يحدث لك، لو جئت معي. لقد قرأت حكايات غريبة عن ذلك العالم، ولكنها مجرد حكايات لا أكثر، فلا أحد ممن ذهبوا إلى هناك رجع ليخبرنا بما رأى. رجل واحد وحسب كان يمكن أن يخبرنا، لكنه ابن الله، ولقد قفل عائدا إلى أبيه، وظلت شفتاه مختومتين بصمت مبهم".
ربَّتُّ على الرأس الكبير، لكن يدي المخدرة لم تشعر إطلاقا بملمس معطفه الصقيل.
ولما انحنيت لأمنحه قبلة الوداع، شع خوف مباغت في عينيه، وتراجع برعب زاحفا إلى مضجعه تحت طاولة الطعام.
ناديته ليعود لكنه لم يستجب. وعرفت ما كان الأمر يعني. فلقد رأيته من قبل. وحسبت أنه لا يزال باقيا لي يوم آخر أو يومان. وقفت وحاولت التوجه نحو النافذة لالتقاط نفس عميق من الهواء، لكن أوصالي رفضت أن تطيع، ورجعت غاصا في كرسي. تطلعت حول البرج القديم. كان كل شيء مظلما وساكنا، لكن خيل إلي أني سمعت أرتميس، الإلهة الصارمة، تنتزع سهمها المفاجئ من كنانتها، متأهبة أن ترفع قوسها. ولمست كتفي يد لامرئية. وسرت قشعريرة في بدني. حسبت أني على وشك الإغماء، لكني لم أشعر بأي ألم ورأسي كان صافيا.
"مرحبا بك، يا سيدي! سمعت عدو جوادك الأدهم خلال الليل، لقد فزت بالسباق برغم كل شيء، لأني أستطيع أن أرى وجهك الكئيب وأنت تنحني فوقي. لست غريبا عني، فغالبا ما التقينا من قبل منذ أن وقفنا متجاورين إلى جانب سرير في بهو القديسة كلير. ولقد اعتدت يومئذ أن أدعوك شريرا وقاسيا، جلادا يستمتع بعذاب ضحيته البطيء. لم أعرف الحياة عندئذ كما أعرفها الآن. أعرف الآن أنك أرحم الاثنين بما لا يقاس، وأن ما تأخذه بعيدا بيد ترده باليد الأخرى. أعرف الآن أنها الحياة، فلست أنت الذي أوقد الرعب في تلك العيون الشاخصة على مداها وأحكم توتر العضلة في تلك الصدور اللاهثة من أجل نسمة أخرى من الهواء، ودقيقة أخرى من تباريح النزع الأخير أيضا.
"لن أتصارع معك اليوم من أجلي. فلو جئتني يوم كان الدم فتيا، فلا بد أن يكون الأمر مختلفا. كان لدي متسع من الحياة في ذلك الوقت. كنت قد أعددت نفسي لقتال شديد ورددت الضرب بأقسى ما أستطيع. وأنا الآن مرهق، عيناي كليلتان وأوصالي منهكة وقلبي تالف، ولم يبق لي إلا عقلي، وعقلي يقول لي أنْ لا فائدة من الصراع. لذا سأجلس ساكنا في أريكة الساڤونارولا وأدعك تفعل ما عليك أن تفعله. وأنا فضولي أود أن أرى كيف ستباشر العمل، فلقد كنت دائما مهتما بعلم النفس. وبودي أن أحذرك بأني مصنوع من مادة متينة، فاضرب بأقسى ما تستطيع وإلا فمن الممكن أن تخفق في مرماك من جديد كما أخفقت مرتين من قبل، إن لم أكن مخطئا. وآمل، يا سيدي، أنك لا تحمل لي أي حقد علي من الأيام الماضية. وا حسرتاه! أخشى أني اعتدت أن أجعلك مشغولا إلى حد ما في تلك الأيام في شارع ڤليير. أتوسل إليك، سيدي، فأنا لست شجاعا كما أتظاهر أن أكون، فلو منحتني بضع قطرات من جرعة النوم الأبدي لديك قبل أن تبدأ، فلا بد أن أكون شاكرا".
"إني أعمل دائما وأنت، لأن عليك أن تعرف ذلك، غالبا ما رأيتني في عملي. أترغب في أن ترسل في طلب كاهن، فما يزال لدينا وقت؟ هم يرسلون دائما في طلب كاهن عندما يرون أني قادم".
"لا فائدة في طلب الكاهن، فليس في وسعه أن يفعل شيئا من أجلي الآن. فوقت الندم بالنسبة لي قد فات أكثر مما ينبغي، وما زال الوقت بالنسبة إليه أبكر من أن يدينني، وأفترض أن الأمر قلما يعنيك في كلتا الحالتين".
"لا أبالي بذلك، فالناس الصالحون والناس الأشرار كلهم سواء عندي".
"لا خير في أن أرسل في طلب كاهن لن يقول لي إلا أني ولدت شريرا، وأن أفكاري وأعمالي كانت ملطخة بالخطيئة، وأن علي أن أندم، وأن أتوب عنها كلها. وأنا لا أندم عما فعلت إلا قليلا، ولا أتوب عن أي شيء. لقد عشت وفق فطرتي، وأعتقد أن فطرتي كانت سليمة. لقد خدعت نفسي مرارا بما يكفي لما حاولت أن أخضع لإرشادات عقلي. لكن عقلي كان على خطأ، وقد عوقبت من قبل على ذلك. أود أن اشكر أولئك الناس الذين كانوا لطفاء معي. أما الأعداء فلي قلة منهم، ومعظمهم أطباء، ولم ينبني من أذاهم إلا القليل، ولقد تابعت طريقي بالسلوك ذاته تماما. وأتمنى أن ألتمس المغفرة من أولئك الذين سببت لهم ألما. هذا كل شيء، وما تبقى يخص الله ويخصني، وليس الكاهن الذي لا أقبل أن يكون قاضيا يحاسبني".
"وأنا لا أحب كهانك. إنهم هم الذين علموا الناس الخوف من مقاربتي، وهم يهددونهم بالأبدية وجحيمهم الملتهبة. وهم الذين انتزعوا الأجنحة من كتفي وشوهوا وجهي الودي وحولوني إل هيكل عظمي شنيع لأجوس من بيت إلى بيت، والمنجل في يدي، كلص في الليل لأرقص رقصة الموت في الصور الجصية على جدران الأديرة يدا بيد مع قديسيهم وملعونيهم. وأنا لا شأن لي مع أي من نعيمهم أو جحيمهم. أنا قانون الطبيعة".
"سمعت البارحة صفارية ذهبية تغرد في الحديقة، ومع غروب الشمس جاءت هازجة صغيرة وغردت لي تحت النافذة، فهل سأسمعها من جديد في حياتي؟"
"حيثما توجد الملائكة توجد العصافير".
أتمنى صوتا وديا يقرأ لي"فيدون" من جديد".
"الصوت فان، والكلمات خالدة، سوف تسمعها من جديد".
"وهل أسمع من جديد ترتيل قداس الموتى لموزارت، محبوبي شوبرت وألحان بيتهوڤن الجبارة؟"
"لم تكن إلا رجع صدى من السماء استرقت له السمع".
"أنا جاهز. اعزف، يا صديقي!"
"لن أعزف. سأجعلك تنام".
"وهل سأحلم؟"
"نعم، إنه كله حلم".
"وهل سأستيقظ؟"
ولم يتلقَّ سؤالي أي جواب.
* *
"من أنت، أيها الغلام الجميل؟ أأنت هيبنوس، ملاك النوم؟"
وقف هناك لصيقا بجانبي بخصلات متوجة بالورد وجبين مثقل بالأحلام، جميلا كعبقري الحب.
"أنا أخوه، وليد الليل الأم ذاتها. اسمي ثاناتوس. وأنا ملاك الموت. إنها حياتك التي تخفق متضائلة في نور المشعل الذي سحقته تحت قدمي".
* *
حلمت بأني رأيت رجلا عجوزا يترنح تعبا على مدى دربه الموحش. كان يتطلع حوله بين حين وآخر وكأنه يبحث عن إنسان ما ليدله على الطريق. وبين حين وآخر، كان ينهار على ركبتيه وكأن قواه قد خارت فلا يستطيع مواصلة السير. لقد انطرحت الحقول والغابات، الأنهار والبحار مدفونة تحت قدميه، وحتى الجبال المكللة بالثلوج سرعان ما اختفت في ضباب الأرض التي تتلاشى دونه. واصل طريقه متقدما، صاعدا. ورفعته غيوم عاصفة على أكتافها القوية وحملته بسرعة مدوخة خلال الفضاء اللامحدود، على هدى إيماءات نجوم أقرب فأقرب إلى العالم الذي لا يعرف ليلا ولا موتا. وتوقف أخيرا أمام بوابات الفردوس المسمرة مع الصخرة الصلبة بمفاصل ذهبية. كانت البوابات مغلقة. أكانت هي الأبدية، أكانت يوما، أكانت دقيقة ركع فيها على العتبة راجيا - ولات حين رجاء- أن يسمح له بالدخول؟ فجأة، تحرك بأيد لامرئية، انفتحت الأبواب على مداها لتسمح بمرور شكل عائم بأجنحة ملاك ووجه ساكن لطفل نائم. وثب على قدميه وحاول التسلل بتهور يائس عبر البوابات لحظة كانت تغلق في وجهه تماما.
"من أنت، أيها المتطفل الجريء؟" صاح صوت صارم. وانتصب أمامي زول طويل، يلبس عباءة بيضاء، وفي يديه مفتاح ذهبي.
"يا حارس بوابات الفردوس، يا قديس بطرس المبارك، أتوسل إليك دعني أقيم هنا!"
ألقى القديس بطرس نظرة سريعة على أوراق اعتمادي، السجلات الضئيلة من حياتي على الأرض.
قال القديس بطرس: "تبدو سيئة، سيئة جدا. كيف جئت إلى هنا، لا بد أن ثمة خطأ ما، أنا واثق من ذلك..".
وقف فجأة حالما حط أمامنا بسرعة ملاك رسول بالغ الصغر. سوى من سترته القصيرة المنسوجة من لعاب الشمس وتويجات الورد، وكلها تتلألأ بندى الصباح، وهو يطوي جناحيه البنفسجيين. كانت ساقاه عاريتين ورديتين، وكان على قدميه الدقيقتين صندل ذهبي. وكان يضع على خصلات رأسه قبعة من زنبق الودي ونرجسه مائلة إلى أحد الجانبين. وكانت عيناه طافحتين بألق الشمس وشفتاه ممتلئتين بالحبور. وكان يحمل في يديه الصغيرتين كتاب القداس منورا، قدمه للقديس بطرس بمظهر باسم من الاهتمام.
وعبس القديس بطرس وهو يقرأ القداس: "يتوجهون إلي دائما عندما يقعون في ورطة، وحين يكون كل شيء على ما يرام، لا يعيرون تحذيراتي أي انتباه". وقال للملاك الساعي: "قل لهم، قل لهم إني آت حالا، قل لهم ألا يجيبوا على أي سؤال حتى أكون معهم".
رفع الملاك الساعي إصبعه الوردية إلى قبعته الزنبق، بسط جناحيه البنفسجيين وطار مبتعدا بسرعة كعصفور ومغردا مثله. ونظر القديس بطرس إلي محتارا بعينيه المتفحصتين. ثم التفت إلى ملاك رئيس( 2) عجوز، وقف حارسا بجانب الستارة الذهبية وهو يتكئ على سيفه المسلول:
"دعه يتنتظر عودتي. إنه مغامر ماكر، لسانه ناعم، انتبه لئلا يفك عقدة لسانك. فنحن لدينا جميعا نقاط ضعفنا، وأنا أعرف ما هي نقطة ضعفك. ثمة شيء غريب حول روحه. فأنا لا أفهم كيف أتى إلى هنا. وكل ما أعرفه أنه يمكن أن ينتمي إلى القبيلة ذاتها التي أغوتك بعيدا عن الفردوس لتتبع الشيطان وأدت بك إلى السقوط. كن يقظا، حافظ على سكوتك، وابق سهران!"
مضى. نظرت إلى الملاك العجوز، ونظر الملاك الرئيس العجوز إلي. فكرت أن من الحكمة ألا أقول شيئا، لكني أخذت أراقبه من زاوية عيني. وفي الحال رأيته يفك إبزيم نطاق سيفه بحذر شديد، وسنده إلى عمود لازوردي. وبدا أنه منتعش. كان وجهه العجوز لطيفا جدا، وكانت عيناه وديعتين حتى إني شعرت بأنه مسالم جدًّا مثلي.
قلت بارتياع: "أيها الملاك الرئيس المبجل، هل سأنتظر القديس بطرس طويلا؟"
قال الملاك الرئيس: "سمعت الأبواق تصدح في بهو الحساب، فهم يحاكمون كردينالين استدعيا القديس بطرس ليساعدهما في مرافعتهما". وأضاف بضحكة خافتة: "لا، لا أظن أنك ستنتظر طويلا، وحتى القديس إغناطيوس، أقسى محام في الفردوس، لا ينجح عادة في إدخالهما. فالنائب العام أكثر كفاءة منه. كان كاهنا يدعى ساڤونارولا يوم أعدما حرقا.
وقلت: "الله هو القاضي الأسمى وليس الإنسان، والله رحيم".
وردد الملاك الرئيس: "نعم، الله هو القاضي الأسمى والله رحيم. لكن الله يحكم على عوالم لا حصر لها، أعظم فخامة وثروة بكثير من ذلك النجم شبه المنسي الذي جاء منه هذا الرجلان".
وأمسك الملاك الرئيس بيدي وقادني إلى المدخل المقنطر. وبعيني اللتين صعقهما الهول رأيت ألوفا من النجوم والكواكب المضيئة، وهي تنبض بالحياة والنور، ماضية في طريقها المقدور عبر الفضاء المطلق.
"أترى تلك البقعة الصغيرة في غاية الصغر، شاحبة كضوء قنديل شحم على وشك الانطفاء؟ ذلك هو العالم الذي جاء منه ذانك الرجلان، نمال تدب على أرض باردة".
وقلت: "الله خلق عالمهما وهو الذي خلقهما".
"نعم، الله خلق عالمهم. هو أمر الشمس أن تذيب الأحشاء المتجمدة لأرضهم. وهو طهرها بالأنهار والبحار، وهو كسا سطحها الخشن بالغابات والحقول، وهو جعلها آهلة بالحيوانات الأليفة. كان العالم جميلا وكان كل شيء على ما يرام. ثم خلق الإنسان في آخر يوم. وربما كان من الأفضل لو أنه استراح قبل أن يخلق الإنسان في ذلك اليوم بدل اليوم التالي. وأظن أنك تعرف كيف جرت الأمور كلها. إن قردا ضخما متضورا من الجوع بدأ العمل بيديه القرناوين ليصنع بنفسه سلاحا لقتل الحيوانات الأخرى. ماذا باستطاعة أنياب الماكرودوس( 3) بطول ست بوصات أن تفعل ضد شظية صوان حادة، أمضى من ناب نمر مسيَّف الأسنان؟ وماذا باستطاعة المخالب المنجلية لدب الكهوف ( 4) أن تفعل ضد غصن مرصع بأشواك ومسامير خشبية رُكِّبت لها أصداف حادة الأطراف كموس الحلاقة؟ ماذا بمقدور قوتهم الوحشية أن تفعل ضد مكره وأحابيله وأشراكه؟ وهكذا كبر كائنا متوحشا يقتل الأصدقاء والأعداء، وحشا شريرا ضد كل الكائنات الحية، وشيطانا بين الحيوانات. راح منتصبا فوق ضحاياه يرفع راية انتصاره المضرجة بالدم على عالم الحيوان، متوجا نفسه ملك الخلق. وبالاصطفاء، قوي مظهره الوجهي وكبُر حجم دماغه. وتحولت صرخته الخشنة في الغضب والخوف إلى أصوات منطوقة وكلمات. تعلم كيف يستخدم النار. وتطور ببطء إلى إنسان. وامتص جراؤه( 5) الدم من لحم الحيوانات التي قتلها وما زالت تختلج، وتعاركوا كالرجال الذئبيين الجائعين على مشاش العظام التي حطمها بفكيه الضخمين وبعثرها في مغارته. وهكذا كبروا أقوياء متوحشين، مثله، ميالين للافتراس، متحمسين لمهاجمة أي شيء حي يعترض طريقهم والتهامه، حتى لو كان أحد إخوتهم في الرضاعة. لقد ارتعدت الغابة من اقترابهم، وتولد الخوف من الإنسان بين الحيوانات. واهتاجوا غيظا على عجل بسعارهم، فراحوا يقتلون الواحد بعد الآخر بفؤوسهم الحجرية. لقد بدأت الحرب الضارية، الحرب التي لن تتوقف أبدا.
"وسطع الغضب في عيني الإله، فندم لأنه خلق الإنسان. وقال الإله:
"سأمحق الإنسان عن وجه الأرض، ما دام فاسدا ومشحونا بالعنف".
"أمر خزانات الغمر العظيم أن تنفجر ونوافذ السماء تنفتح لتحيق بالإنسان والعالم الذي دنسه بالدم والجريمة. وليته بذلك قد أغرقهم جميعا! لكنه أراد برحمته المخلصة أن يظهر عالمهم من جديد نظيفا مطهرا بمياه الطوفان. وبقيت اللعنة في نسل قلة من العرق المحكوم، قضى الله لهم أن يمكثوا في الفلك. وبدأ القتل أيضا، والحرب التي لم تتوقف أبدا تركت طليقة من جديد.
"ونظر الله بصبر لامحدود، كارها أن يضرب، راغبا حتى النهاية أن يغفر، حتى إنه أرسل ابنه ذاته إلى عالمهم الشرير ليعلم الناس اللطف والمحبة وليصلي من أجلهم: وأنت تعرف ماذا فعلوا له. وفي الحال أضرموا عالمهم كله بنيران الجحيم، وهم يرجمون السماء بالتحدي. وبمكر شيطاني صنعوا لأنفسهم أسلحة جديدة ليقتلوا بعضهم بعضا. لقد سخروا الموت لينقض من السماء ذاتها على منازلهم، ولوثوا الهواء- مانح الحياة بأبخرة الجحيم. وهم يهزون الأرض كلها بجلبات معاركهم المدوية. وحين يخيم الليل على القبة الزرقاء، يمكن أن نرى من هنا في الأعالي ضوء نجمهم ذاته يلمع أحمر وكأنه ملطخ بالدم، وفي وسعنا أن نسمع أنات جرحاهم. إن أحد الملائكة الذين يحفون من حول العرش قال لي إن عيني السيدة العذراء تتوردان بالدموع كل صباح، وأن الجرح في جنب ابنه قد انفتح من جديد".
وتساءلت: "لكن الله ذاته هو إله الرحمة، فكيف يمكن أن يسمح باستمرار هذه الآلام؟ كيف يستطيع أن يصغي بلامبالاة إلى صرخات العذاب هذه؟"
وتطلع الملاك العجوز حوله بقلق مخافة أن يسمع أحد جوابه.
همس وكأنه مصعوق بصوت كلماته: "الإله هرم ومتعب، وقلبه مفجوع. وأولئك الذين يحيطون به ويتهجدون له بمحبتهم اللامحدودة، لا تطاوعهم قلوبهم بأن يقلقوا راحته بهذه الأنباء من الأهوال والمحن، والتي لا تنتهي أبدا. وغالبا ما يصحو من نومه الخفيف الذي ينتابه ويسأل عن سبب دوي الرعد الذي يترامى إلى أذنيه وتـوهجات الضوء الفظيع التي تخترق الظلام. ويقول أولئك المحيطون به أن الرعد هو صوت غيومه العاصفة، وأن التوهجات من وميض برقه ذاته. ثم تنطبق أجفانه المرهقة من جديد".
"هكذا أفضل، أيها الملاك الرئيس المبجل، هكذا أفضل! فلو رأت عيناه ما كنت قد رأيت، وسمعت أذناه ما كنت قد سمعت، لجعلت الإله يندم من جديد لأنه خلق الإنسان. ومن جديد كان سيأمر خزانات الغمر العظيم أن تنفجر، ونوافذ السماء تنفتح لتحيق بالإنسان والعالم الذي دنسه بالدم والجريمة. وفي هذه المرة كان سيغرقهم جميعا ولا يترك في الفلك إلا الحيوانات".
"حذارِ من غضب الله! حذارِ من غضب الله!
"لست خائفا من الله. لكني خائف من أولئك الذين كانوا بشرا، من الأنبياء القساة، من الآباء المباركين، من القديس بطرس وصوته الصارم الذي أمرني أن أنتظر عودته".
"وأنا خائف من القديس بطرس إلى حد ما"، اعترف الملاك الرئيس العجوز،"لقد سمعت كيف وبخني لأن الشيطان قادني إلى الضلال. لقد غفر الله بذاته لي وسمح لي أن أعود إلى فردوسه. ألا يعرف القديس بطرس أن الغفران يعني النسيان؟ الأنبياء قساة، أنت مصيب. لكنهم عادلون، ولقد نور الله عقولهم وهم يتكلمون بصوته ذاته. ولا يستطيع الآباء المباركون إلا أن يقرؤوا أفكار البشر من خلال الضوء الشاحب في عيون المخلوقات الفانية، وأصواتهم هي أصوات البشر".
"ما من إنسان يعرف إنسانا آخر. كيف يستطيعون أن يحاكموا ما لا يعرفون، وما لا يفهمون؟ ليت القديس فرنسيس كان بين قضاتي، لقد أحببته طوال حياتي وهو يعرفني، ويفهمني".
"لم يحاكم القديس فرنسيس أي شخص، لم يكن لديه إلا الغفران مثل المسيح نفسه، وقد وضع يده في يده وكأنه أخوه. والقديس فرنسيس لا يرى غالبا في بهو الحساب، حيث ستقف عاجلا، وهو ليس محبوبا كثيرا هناك. إن كثيرا من الشهداء والقديسين يغارون من سيماه المميزة، وأكثر من واحد من نبلاء الفردوس يشعرون بعدم الارتياح إلى حد ما بمعاطفهم البهية المطرزة كلها بالذهب والأحجار الكريمة، إذا ظهر"القديس المسكين"( 6) بينهم في ملابس الكهنوت الرثة البالية، وكلها رقع من القدم والتمزق. وتستمر السيدة العذراء في إصلاحها وترقيعها بقدر ما تستطيع، وتقول أن ليس من الحكمة أن تزوده بملابس جديدة، لأنه سيعطيها لغيره وحسب".
ليتني أستطيع أن أراه، وأود أن أسأله سؤالا كنت طوال حياتي أسأل به نفسي، وما من أحد يستطيع الإجابة عليه إلا هو. أيمكنك، أيها الملاك الرئيس الحكيم، أن تقول لي؟ إلى أين تذهب الحيوانات الصديقة؟ ينبغي علي أن أعرف، لأن لي..".
لا أجرؤ أن أقول أكثر.
"هناك في دار أبي كثير من البيوت"، قال سيدنا المسيح. إن الله الذي خلق الحيوانات سينظر في ذلك. إن السماء واسعة بما يكفي لإيوائهم أيضا.
"أنصت"، همس الملاك العجوز، مشيرا بإصبعه نحو المدخل المفتوح،"أنصت!"
وتناهى إلى أذني تناغم رقيق معزوفا على أوتار قيثارات وأصوات أطفال عذبة، وأنا أطل على جنان الفردوس، وهي معطرة بأريج أزاهير النعيم.
وقال الملاك الرئيس وهو يحني رأسه بوقار: "ارفع عينيك وانظر.
لقد تعرف عليها قلبي قبل أن تتبين عيناي هالة الذهب الشاحبة حول رأسها. يا له من رسام لا يضاهى، ساندرو بوتشيللي! جاءت إلى هناك كما رسمها تماما في لوحات عديدة، في ريعان الصبا وبهاء الطهارة، إلى جانب تلك اليقظة اللطيفة من الأمومة في عينيها. وكانت تحيطها بربيع خالد عذارى متوجات بالزهر باسمات الشفاه، وعيون فتية، وملائكة صغار جدًّا بأجنحة مطوية من البنفسج والذهب يحملون معطفها، وآخرون يفرشون سجادة من الورد أمام قدميها. والقديسة كلير، محبوبة القديس فرنسيس، همست في أذن السيدة العذراء، وبدا لي أن أم المسيح تلطفت لترمقني بلحظة خاطفة وهي تمر على مقربة مني.
قال الملاك الرئيس برقة: "لا تخف، لا تخف، فالسيدة العذراء رأتك، وستذكرك في صلواتها".
ثم قال: "لقد تأخر القديس بطرس، إنه يقاتل في معركة قاسية مع ساڤونارولا لإنقاذ كارديناليه".
ورفع زاوية الستارة الذهبية وأطل بنظرة على البهو المعمد.
"ألا ترى ذلك الروح الودود في لباسه الأبيض وقد شك وردة فوق أذنه؟ غالبا ما كنت أتبادل معه الحديث، ونحن جميعا نحبه هنا، وهو بسيط وبريء كطفل. وغالبا ما أراقبه بفضول، وهو يتجول وحيدا يلتقط ريش الملائكة المتساقط على الأرض، وقد حبكها بنوع من مكنسة الريش، وحين يعتقد أن لا أحد يراه ينحني ليكنس غبار النجوم القليل عن الأرض الذهبية. ولا يبدو أنه يعرف لمَ يفعل ذلك، ويقول إنه لا يتمالك نفسه عن عملها. وأنا أتساءل من كان في الحياة. لقد جاء إلى هنا من وقت غير بعيد، ولعله قادر أن يخبرك بكل ما تريد أن تعرف عن الحساب الأخير".
تطلعت إلى الروح في الثوب الأبيض، فإذا به صديقي أركانجيلو فوسكو، كناس الشوارع من الحي الإيطالي الفقير في باريس! العينان البريئتان المتواضعتان ذاتهما، الوردة ذاتها مشكوكة فوق أذنه، الوردة التي قدمها بفروسية جنوبية إلى الكونتيسة يوم أخذتها لتهدي الدمى لأطفال.
قلت وأنا أمد يدي نحو صديقي: "عزيزي أركاجيلو فوسكو، لم أشك أبدا في أنك ستتأتي إلى هنا".
نظر إلي بهدوء ولامبالاة وكأنه لم يعرفني.
"أركانجيلو فوسكو، ألا تعرفني، ألا تتذكرني؟ ألا تتذكر كيف اعتنيت بأطفال سلڤاتور بحنان ليلا ونهارا لما أصيبا بالدفتريا، وكيف بعت ملابسك ليوم الأحد لتدفع ثمن تابوت الطفلة الكبرى حين ماتت، البنت الصغير التي كنت تحبها كثيرا؟"
وسرى ظل من الألم على وجهه.
"لا أتذكر".
"آه! يا صديقي! أي سر مروع تكشفه لي بهذه الكلمات! وأي حمل ثقيل ترفعه عن قلبي! أنت لا تتذكر! ولكن ماذا جرى لي حتى أتذكر؟"
"لعلك لست ميتا فعلا، لعلك تحلم أنك ميت لا أكثر".
"لقد كنت حالما طوال حيواتي، فإن كان هذا حلما فهو أروع الأحلام كلها".
"لعل ذاكرتك أقوى من ذاكرتي، قوية لتبقى ولو فترة قصيرة حتى تفارق الجسد. لا أعرف، ولا أفهم، الأمر كله أشد غموضا من طاقتي. وأنا لا أسأل أي سؤال".
ذلك هو سبب كونك هنا، يا صديقي. لكن قل لي، يا أركانجيلو فوسكو، أما من أحد هنا يتذكر حياته على الأرض؟"
"إنهم لا يقولون، وهم يقولون إن أولئك الذين يذهبون إلى جهنم فقط هم الذين يتذكرون، لذلك تدعى جهنم".
لكن قل لي على الأقل، أركانجيلو فوسكو، هل كانت المحاكمة صعبة، هل كان القضاة قساة؟"
لقد بدوا قساة في بادئ الأمر، وأخذت أرتعد بكل كياني، وكنت خائفا أن يسألوني بشكل خاص عن حذاء نابولي الذي خطف مني زوجتي وطعنته بسكينه ذاتها. لكن من حسن الحظ أنهم لم يكونوا راغبين بمعرفة أي شيء عن الحذاء. كل ما سألوني عنه هو إن كنت قبضت أي ذهب وقلت إني لم أقبض أبدا غير النحاس في يدي. وسألوني إن كنت اختزنت أي بضائع أو مقتنيات من أي نوع، وقلت إني لم أمتلك إلا قميصي الذي مت فيه في المستشفى. ولم يسألوني عن أي شيء آخر وسمحوا لي بالدخول. وعندئذ جاء ملاك ومعه حزمة ضخمة في يديه.
قال الملاك: "اخلع قميصك العتيق والبس ثياب الأحد. هل تصدق ذلك، لقد كانت ملابس الأحد القديمة التي بعتها لأدفع أجرة متعهد الدفن، وقد قام الملائكة بتطريزها كلها باللآلئ، ستراني فيها الأحد القادم، إذا كنت ما تزال هنا. ثم جاء ملاك آخر وبين يديه صندوق كبير.
قال الملاك: "افتحه، إنها مدخراتك، كل النقود النحاس التي أعطيتها لأولئك الفقراء أمثالك. فكل ما وهبته على الأرض مدخر لأجلك في السماء. وكل ما كنت تحتفظ به ضاع".
هل تصدق ذلك، لم يكن في صندوق المال قطعة نحاسية واحدة، كل نقودي النحاس تحولت إلى ذهب.
وأضاف هامسا لئلا يسمعنا الملاك الرئيس: "أقول إني لا أعرف من تكون، لكنك تبدو في حالة مزرية إلى حد ما، ولا تمتعض مني إذا قلت لك إني أرحب بأن تأخذ أي شيء تحبه من صندوق المال. لقد قلت للملاك إني لا أعرف ماذا سأفعل بكل هذا المال، والملاك قال لي أن أعطيه لأول شحاذ يمكن أن أقابله".
لو أني حذوت حذوك، أركانجيلو فوسكو، فلا يمكن أن أكون في حالة مزرية كما أنا اليوم. يا حسرة! لم أهب ملابس الأحد، وذلك سبب أني اليوم في ثياب رثة كلية. ومن عظيم سروري فعلا أنهم لم يسألوك بوجه خاص عن حذاء نابولي الذي أرسلته إلى عالم آخر. يعلم الله كم حياة حذاء كان يمكن أن يحسب علي لكي أدفع الثمن، أنا الذي كنت طبيبا لأكثر من ثلاثين سنة!"
سحبت الستارة الذهبية جانبا بأيد خفية وانتصب ملاك أمامنا.
"لقد جاء وقتك لتمثل أمام القضاة"، قال الملاك العجوز. "كن متواضعا وكن صامتا، وفوق كل شيء، كن صامتا! وتذكر أن الكلام هو الذي أدى إلى سقوطي، وهو الذي سيؤدي إلى سقوطك إذا أفلت لسانك".
وهمس أركانجيلو فوسكو، وهو يغمزني بمكر: "أعتقـد أن من الأفضل ألا تتورط بأي مجازفة غير ضرورية. لو كنت مكانك فلن أتفوه بأي شيء عن الحذّائين الآخرين الذين تحدثت عنهم. فأنا لم أقل أي شيء عن حذائي لأنهم لم يسألوني عنه. ومع ذلك ربما كانوا لا يعرفون إطلاقا أي شيء عنه – من يدري؟"
قادني الملاك من يدي ونزل بي إلى البهو المعمد، بهو الحساب، وهو رحب مثل قاعة أوزيريس بأعمدة من اليشب والأوبال وتيجان من أزهار اللوتس الذهبي وأعمدة من أشعة الشمس تدعم العقد وكلها مكسوة بنجوم السماء.
رفعت رأسي فرأيت أعدادا لا تحصى من شهداء وقديسين في ثيابهم البيضاء، ونساك وزهاد ومعتكفين على رؤوس الأعمدة، وملامحهم الهمجية ملفوحة بشمس النوبة، ورهبان أديرة عراة وأجسامهم الهزيلة مغطاة بالشعر، وأنبياء بعيون صارمة، تتدلى لحاهم على صدورهم، ورسل مباركون في أيديهم أغصان من سعف النخيل، وبطاركة وقساوسة من جميع البلدان والمعتقدات، وقلة من الباباوات بتيجانهم اللامعة وكاردينالين في ملابسهما الحمراء. كان قضاتي جالسين أمامي في شبه دائرة، صارمين وعديمي التأثر.
قال القديس بطرس، وهو يناولهم أوراق اعتمادي: "يبدو الأمر سيئا، سيئا جدا!"
ونهض القديس إغناطيوس، المحقق الأكبر، عن مقعده وتكلم: "حياته ملطخة بآثام شائنة، روحه مظلمة وقلبه مدنس. وأنا، كمسيحي وكقديس، أطلب له اللعنة، ولتعذب الشياطين جسده وروحه خلال الأبدية كلها".
وترددت همهمة موافقة خلال القاعة. رفعت رأسي وتطلعت إلى قضاتي. وهم جميعا قابلوا نظرتي بصمت صارم. حنيت رأسي ولم أقل شيئا، لقد تذكرت تحذير الملاك العجوز بأن أظل ساكتا، وفوق ذلك لم أعرف ما أقول. وفجأة لمحت بعيدا في آخر القاعة قديسا صغير يومئ لي برأسه مهتاجا. وفي الحال، رأيته يتخذ طريقه متوجها بجبن بين القديسين الكبار إلى حيث كنت أقف قرب الباب.
قال القديس الصغير بنظرة ودية في عينيه اللطيفتين: "انا أعرفك جيدا، لقد رأيتك قادما". ثم أضاف هامسا وهو يضع إصبعه على شفتيه: "ورأيت صديقك أيضا يخب في أعقابك".
وهمست متسائلا: "من أنت، أيها الأب الطيب؟"
وأعلن القديس الصغير: "أنا القديس روكو، القديس راعي الكلاب، ليتني أستطيع مساعدتك، لكني قديس صغير إلى حد ما هنا، ولن يصغوا إلى ما أقول"، همس وهو يختلس النظر نحو الأنبياء والآباء المباركين.
وتابع القديس إغناطيوس: "إنه ملحد، كافر ساخر، كذاب، أفاك، عراف مليء بالسحر الأسود، فاسق..".
ونصب العديد من الأنبياء المسنين آذانهم بانتباه.
ودافع القديس بطرس: "إنه شاب ومتحمس، من الأفضل أن..".
وهمهم ناسك: "التقدم في السن لن يصلحه".
قال القديس جون: "إنه يحب الأطفال".
ودمدم بطرك في لحيته: "وهو يحب أمهاتهم أيضا".
وقال القديس لوقا، الطبيب المحبوب: "كان طبيبا يعمل بجهد بالغ".
ورد القديس دومينيك محتجا: "الجنة ملأى بمرضاه وكذلك الجحيم، كما قيل لي".
وأعلن القديس بطرس: "لقد بلغت به الوقاحة أن يجلب كلبه معه، فهو يقعي منتظرا سيده خارج بوابات الفردوس".
وهمس القديس إغناطيوس كالفحيح: "ليس عليه أن ينتظر سيده طويلا".
وقذف نبي عجوز صارم المظهر بصوت مغتاظ: "كلب لدى بوابات الجنة!"
"من هو ذاك؟" همست للقديس راعي الكلاب.
"لا تقل شيئا، بحق الله، تذكر تحذير الملاك الرئيس. أظن أنه حبقوق".
"إذا كان حبقوق من قضاتي، فأنا هالك، لا محالة"، وكما قال ڤولتير: "إنه قادر على مغالبة الجميع".
وزمجر حبقوق: "كلب لدى بوابات الجنة، كلب، حيوان نجس!"
وكان ذلك فوق ما أطيق.
إنه ليس حيوانا نجسا"، رددت صارخا، وأنا أحدق بغضب في حبقوق، إن الذي خلقه هو الله ذاته الذي خلقك وخلقني. فإذا كانت لنا جنة، فلا بد أن تكون هناك جنة للحيوانات أيضا، مع أنكم أيها الأنبياء العجائز الصارمون، قساة إلى هذا الحد وراسخون في قداستكم، نسيتم كل شيء عنهم. وهذا ما فعلتموه من أجل ذلك الأمر، أيها الرسل المباركون"، تابعت فاقدا أعصابي أكثر فأكثر. "وإلا، لماذا أغفلتم في مخطوطاتكم المقدسة أن تسجلوا قولا واحدا لإلهنا في الدفاع عن إخوتنا العجم؟"
وقاطعني القديس أناستسيوس: "الكنيسة التي انتميت إليها على الأرض لم تعر الحيوانات أي اهتمام، ولا نحب أن نسمع أي شيء عنهم في الجنة. أيها الأحمق الكافر، كان من الأفضل لك أن تفكر في روحك ذاتها بدلا من أرواحهم، فروحك الخبيثة ذاتها على وشك أن ترجع إلى الظلام من حيث جاءت".
"روحي جاءت من الفردوس، وأنا لا أومن بجحيمكم".
وصاح المحقق الأكبر بصوت كالصفير، ومقلتاه تقدحان شررا خفيا: "سوف تؤمن بها حالا".
وانطلق صوت صائحا: "عليه لعنة الله، إنه مجنون!"
ودوّت صرخة رعب في قاعة الحساب:
"إبليس! إبليس! الشيطان بيننا!"
ونهض موسى من مقعده، عملاقا وعنيفا، وفي يديه القويتين وصاياه العشر، وفي عينيه ومضات البرق.
"لكم يبدو غاضبا"، همست مصعوقا للقديس راعي الكلاب.
ورد القديس الصغير مذعورا: "إنه دائما غاضب".
وهدر موسى بصوت كالرعد: "لا تقولوا أية كلمة أخرى عن هذه الروح، إن الصوت الذي سمعته من شفاه الشيطان التي تنفث الدخان. رجلا كنت أو شيطانا، انقلع من هنا! يهوه، يا رب إسرائيل، ارفع يدك لتسدد له ضربة ماحقة! أحرق لحمه وجمد الدم في عروقه! وليرجع إلى جهنم من حيث جاء".
"إلى جهنم! إلى جهنم!"، رددت الصرخات في قاعة الحساب.
حاولت أن أتكلم فلم يصدر أي صوت من شفتي. تجمد قلبي، وشعرت بأن الله والإنسان تخليا عني.
همس الملاك الصغير إلى جانبي: "إذا ساءت الأمور، فسأعتني بالكلب".
وفجأة، وخلال السكون الرهيب، خيل إلي أني سمعت تغريد الطيور. هازجة صغيرة من الحديقة حطت بلا وجل على كتفي وغنت في أذني:
"أنت أنقذت حياة جدتي، عمتي، وإخوتي وأخواتي الثلاثة من العذاب والموت بفضل يد إنسان على تلك الجزيرة الصخرية. مرحبا بك! مرحبا بك!"
وفي اللحظة نفسها، نقرت قبرة إصبعي وسقسقت لي:
"قابلت صائد ذباب في بلاد اللاب، وقال لي إنك في صباك عالجت جناح أحد أسلافه ودفّأت جسمه المتجمد من البرد بجوار قلبك، ولما فتحت يدك لتطلقه حرًّا، قبلته وقلت: "بسرعة موفقة، يا أخي الصغير! بسرعة سليمة، يا أخي الصغير!" مرحبا بك! مرحبا بك!"
"ساعدني، يا أخي الصغير! ساعدني يا أخي الصغير!"
وبسطت القبرة جناحيها وطارت بعيدا وهي تغرد بنبرة حبور: "سأحاول، سأحاول، سأحااااول!"
وتابعت عيناي القبرة وهي تطير مبتعدة نحو أفق التلال الزرقاء التي أمكنني رؤيتها تماما عبر قنطرة المدخل القوطي. كم كنت أعرف تلك التلال من لوحات فرا أنجيليكو!( 7) أشجار الزيتون الرمادية-الفضية ذاتها، وأشجار السرو الداكنة وهي تنتصب في وجه سماء المساء الصافية. سمعت أجراس أسيسي تقرع لصلاة التبشير، وأتى إلى هناك القديس الأمبري(8 ) الشاحب، وهبط درب التل الملتوي وئيدا مع الأخ ليو وإلى جانبه الأخ ليوناردو. رفرفت طيور بأجنحة سريعة وغردت حول رأسه، وتغذت أخرى من يديه المبسوطتين، وعششت أخرى آمنة بين طيات ثوبه الكهنوتي. وكان القديس فرنسيس يقف ساكنا إلى جانبي وهو يتطلع إلى قضاتي بعينين رائعتين، تينك العينين اللتين لا يمكن لإله أو إنسان أو وحش أن يقابلهما بغضب.
وغطس موسى في مقعده تاركا وصاياه العشر تتساقط.
وغمغم بمرارة: "إنه هو دائما، دائما هو، الحالم الضعيف مع سربه من الطيور وأتباعه من المتسولين والمنبوذين. ومع أنه بهذا الضعف، إلا أنه قوي بما يكفي ليمنع يدك من الانتقام، يا إلهي! ألست يهوه عندئذ، الله الغيور، الذي هبط على جبل سيناء وجعل شعب إسرائيل يرتعد من الهول؟ ألم يكن غضبك الذي أمرني أن أرفع عصا الانتقام لأسحق كل عشبة في الحقل وأحطم كل شجرة، وأن كل الناس والوحوش لا بد أن يموتوا؟ ألم يكن صوتك الذي تكلم في وصاياي العشر؟ من سيخشى وميض البرق، يا إلهي! إذا أخرست رعد غضبك تغريدة عصفورة؟
هوى رأسي على كتف القديس فرنسيس.
كنت ميتا، ولم أكن أدري بذلك.
------------------
( 1) Girolamo Savonarola (1452- 1498): مصلح إيطالي، والكرسي ذو قاعدة عريضة مقوسة بدل القوائم وهو يحيط بالجذع من الظهر والجانبين كالأريكة. (م)
( 2) Archangel: كبير الملائكة أو الملاك الرئيس، وسأكتفي غالبا بالملاك العجوز، تجنبا لتكرار الصفتين "الرئيس العجوز" وإثارا للسلاسة. (م)
( 3) Machaerodus, Machairodus : من الوحوش المفترسة المنقرضة يشبه النمر، وله نابان علويان كالخناجر. (W)
( 4) Ursus Spelaeus: Cave Bear: دب الكهوف، وهو من الحيوانات المنقرضة. (W)
( 5) لعل كلمة (صغار) ألطف، لكن الكاتب استخدم Cubs بقصد، تأكيدا على النزعة الوحشية للإنسان. (م)
(6 ) وردت في النص “Il Poverello" ومعناها: الرجل الفقير، وهي لقب خاص بالقديس فرنسيس. (ش)
( 7) وردت في النص “Il Poverello" ومعناها: الرجل الفقير، وهي لقب خاص بالقديس فرنسيس. (ش)
( 8) Fra Angeleco (1400- 1455): رسام من فلورنسا. (W)
--------------------
هذه الملحمة الإنسانية لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
No comments:
Post a Comment