Sunday, March 10, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 28 - إلْـ بَمبِينُو(1)





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (28) 
XXIX

إلْـ بَمبِينُو( 1)

هزت سانتآنا رأسها وأرادت أن تعرف إن كان من الحكمة أن يرسلوا طفلا صغيرا كهذا في مثل ذلك اليوم العاصف، وهل كان البيت الذي سيأخذون إليه الحفيد محترما، على الأقل؟ وقالت السيدة الكبرى أن ليس هناك ما يدعو إلى القلق، فالطفل سيكون ملفوفا جيدا، وهي تشعر باطمئنان أنه سيكون على ما يرام، فقد كانت دائما تسمع أنهم يرحبون بالأطفال في سان ميشيل. وبما أن الطفل راغب في أن يذهب، فمن الأفضل أن يسمحوا له بذلك، ألم تكن تعلم أن ذلك الصغير، وهو كما هو، كان لديه إرادته الخاصة؟ والقديس جوزيف لم يستشر، وفي الحقيقة لم يكن لديه كثير مما يقوله في العائلة. وحمل المهد من المزار دون سلڤاتور، أصغر قسيس في آناكابري. وأشعل حافظ المقدسات الشموع وانطلقوا خارجين(2 ). وجاء صبي من جوقة المنشدين أولا وهو يقرع الجرس، ثم جاءت فتاتان من بنات مريم باللباس الأبيض والخمار الأزرق، وتلاهما حافظ المقدسات ملوحا بمجمرة البخور، وأخيرا جاء دون سلڤاتور حاملا المهد. وفي حين كانوا يسيرون في أرجاء القرية، كان الرجال يحسرون رؤوسهم، والنسوة يشددن إلى صدورهن أطفالهن الذين ينبغي أن يروا الطفل الملكي، والتاج الذهبي على رأسه، وخشخيشة فضية بشكل ساحرة( 3) حول عنقه، وصبية الشوارع يهتف كل منهم للآخر: "إلْـ بَمبينو! إلـْ بَمبينو!" وأمام باب سان ميشيل وقف أهل البيت جميعا والزهور في أيديهم ليرحبوا بضيفنا. وقد جرى تحويل أفضل غرفة في البيت إلى حضانة ملأى بالزهر وقد تدلت من جدرانها أكاليل من اللبلاب وإكليل الجبل. وعلى الطاولة المكسوة بأفضل ما لدينا من قماش أبيض، أشعلنا شمعتين، لأن الأطفال الصغار لا يحبون أن يتركوا في الظلام. وفي زاوية من غرفة الحضانة، كانت تنتصب العذراء الفلورنسية وهي تحضن طفلها، وتتدلى من الجدران أيقونتان من طفولة لوقا روبيا وأيقونة العذراء المقدسة من إبداع مينو فيسكول وهي تتطلع في إطلالتها على المهد. وكان السراج المقدس يتدلى من السقف، هولا على البيت إذا اضطرب أو انطفأ، لأن ذلك يعني وفاة صاحبه قبل أن تنتهي السنة. وكانت موضوعة إلى جانب المهد قلة من الدمى المتواضعة، مثل تلك التي يمكن أن تنتجها القرية، لتبقى في صحبة البمبينو؛ دمية صلعاء الرأس، هي الوحيدة الباقية من طفولة روزينا وجيوڤانيا، وحمار خشبي مستعار من بنت إليزا الكبرى، وخشخيشة بشكل بوق ضد العين الشريرة. وكانت قطة إليزا تستلقي مع صغارها الستة في سلة تحت الطاولة، وقد جيء بها خصيصا لهذه المناسبة. وكانت تنتصب في جرة خزفية ضخمة على الأرض شجيرة مزهرة من إكليل الجبل. أتعرف لماذا إكليل الجبل؟ لأن العذراء لما أرادت أن تغسل ملابس المسيح عيسى الوليد، كانت تنشر القميص الصغير على شجيرة إكليل الجبل.
أودع دون سلڤاتور المهد في مزاره وترك البمبينو في رعاية ما في بيتي من نساء بعد توصيات في غاية التفاصيل ليراقبوه ويوفروا له كل ما يحتاج. وكان أطفال إليزا يلعبون يلعبون على الأرض طوال اليوم ليكونوا في صحبته، وفي السلام المريمي ركعت نسوة البيت أمام المهد وهن يتلين صلاتهن. سكبت جيوفانيا مزيدا من الزيت في المصباح من أجل الليل، وانتظرن بعض الوقت حتى استغرق البمبينو في النوم، ثم انسللن خارجات بصمت قدر الإمكان. ولما أمسى كل شيء ساكنا في البيت، توجهت إلى غرفة الحضانة لألقي نظرة على البمبينو قبل أن أمضي إلى السرير. كان نور السراج المقدس يضيء المهد، واستطعت أن أراه مستلقيا هناك وهو يبتسم في نومه. 
يا له من طفل صغير باسم مسكين، وهو لا يعرف إلا القليل من  أن يوما سيأتي، وحينئذ لا بد أن نتخلى عنه، نحن الذين كنا جميعا نركع بجوار مهده، وحينئذ لا بد أن يخونه أولئك الذين قالوا إنهم كانوا يحبونه، يوم تنتزع الأيدي الضارية ذلك التاج الذهبي عن جبينه وتضع مكانه تاجا من الأشواك وتسمره على الصليب، وحتى الله سيكون قد تخلى عنه.
الليلة التي مات فيها كان ثمة رجل عجوز كئيب يذرع هذه الأرضية الرخامية ذاتها جيئة وذهابا، حيث أقف الآن. لقد نهض عن أريكته مذعورا في نومه بحلم مزعج. كان وجهه داكنا كالسماء من فوقه، والخوف يلمع في عينيه. دعا الفلكيين والحكماء من الشرق وأمرهم أن يخبروه ما تأويل حلمه، ولكن قبل أن يتمكنوا من قراءة الكتابة الذهبية على السماء، اختلجت النجوم واحدا فواحدا وانطفأت. ممن كان عليه أن يخاف، وهو حاكم العالم! ما أهمية حياة رجل واحد لديه، وهو الحكَم على حيوات ملايين الرجال! من كان في استطاعته أن يحاسبه في تلك الليلة على أن يقوم أحد وكلائه بإنزال الموت على رجل بريء باسم إمبراطور روما؟ وحتى وكيله الذي لا يزال اسمه اللعين على شفاهنا، هل كان مسؤولا أكثر من سيده الإمبراطوري الذي وقع أمر إعدام رجل بريء؟ وبالنسبة لهذا، منفذ القانون والتقاليد في مقاطعة عاصية، أكان من العدل أن ينفذ حكم الإعدام برجل بريء؟ وذلك اليهودي الملعون الذي لا يزال هائما عبر العالم باحثا عن الغفران، هل كان يدرك ما فعل؟ أو أنه، لما خان سيده بقبلة حب، كان هو فاعل الشر الأعظم في كل الزمان؟ أكان في وسعه أن يقوم بشيء آخر؟ وهل فعلها بإرادته الحرة؟ كان لا بد من فعلها، كان عليه أن يفعلها، مذعنا لإرادة أقوى من إرادته. ألم يكن هناك على الجلجلة في تلك الليلة أكثر من رجل واحد مستعد أن يتحمل عذاب تلك الخطيئة التي لم يرتكبها؟
انحنيت على الطفل الباسم لحظات ثم انسللت خارجا على رؤوس أصابع قدمي.


------------------
(1 ) Il Bambino :  الطفل (بالإيطالية) وقد تركتها بلغتها الأصلية لأن الكاتب يكررها، كما أن الكلمة متداولة في الساحل الشرقي للمتوسط، ولو في حدود، والثقافة وكثير من العبارات متشابهة أو متقاربة في حوض المتوسط. (م)
( 2) يمكن ألا تكونوا قد سمعتم بهذا التقليد العريق. لقد اعتدت، خلال إقامتي في سان ميشيل، أن أستقبل زيارة من البمبينو كل سنة، وهذا أعظم شرف يمكن أن يسبغ علينا به. وكان يمكث في سان ميشيل أسبوعا، عادة.
(3 ) Siren:  الساحرة، وهي كائن خرافي برأس امرأة وجسم طير، والسيرينات ساحرات أودسيوس في رحلة العودة من حرب طروادة. (م)

--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment