Sunday, March 10, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 27 - ملاذ الطيور





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (27) 
XXVIII

ملاذ الطيور

كان رحيل الكاهن المحترم دون جياتشينتو فجأة إلى عالم آخر بالنار والدخان قد ترك تأثيرا مضنيا على الحالة العامة لراعي كنيستنا دون أنطونيو صحيا ونفسيا. كان كاحله الملتوي قد تحسن بسرعة، وفي الحال صار قادرا على استئناف نزهاته الصباحية المعتادة ليكون حاضرا لدى إفطاري. وكنت أدعوه دائما، وفقا لعادة نابولية، "لتأكل معي"، لكنه كان يرفض دائما أن يأخذ كأس الشاي مني بلباقة: "لا، شكرا، أعفيني منه". إن مجال زيارته الوحيد لي هو أن يجلس إلى مائدة الإفطار مقابلا لي متطلعا إلي وأنا آكل. ولم يكن دون أنطونيو مهتما برؤية الحراج من قبل قطّ في المنطقة المجاورة، وكل ما كنت أقوله أو أفعله كان مصدرا دائما لإثارة فضوله. كان يعلم أنني بروتستانتي، ولكن بعد محاولات ملتبسة في مناقشة الموضوع، اتفقنا على أن نتخلى عن اللاهوت في محادثاتنا وندع البروتستانت وشأنهم. كان ذلك تنازلا عظيما من جانبه، لأنه اعتاد مرة كل أسبوع أن يرسل جميع الأحياء والأموات البروتستانت إلى الجحيم من منبره بأقذع عبارات  الذم الرهيبة. إن البروتستانت كانوا اختصاص دون أنطونيو، ملاذه الأخير في جميع مصاعبه الوعظية. ولست أدري ماذا يمكن أن يفعل بدون البروتستانت. كانت ذاكرة الكاهن واهنة إلى حد ما، وكان مألوفا أن ينقطع خيط مجادلته في أخطر اللحظات إحراجا، ويرين صمت مطبق أثناء عظاته. وكانت جماعته من المؤمنين تعرف ذلك جيدا ولا يشغلها ذلك في أقل تقدير، وكان أفرادها جميعا يواصلون باطمئنان تأملهم في شؤونهم الذاتية، في زيتونهم وكرومهم،  وفي أبقارهم وخنازيرهم. وكانوا يعرفون كذلك ما سوف يلي. كان دون أنطونيو يتمخط بسلسلة من نفخات مدوية وكأنها من صور يوم الحساب، ويغدو في أرض آمنة من جديد.
"لكن هؤلاء البروتستانت الملاعين، وهذا المبتز لوثر! ليقتلع الشيطان ألسنتهم من أفواههم، وليحطم عظامهم ويشويهم وهم أحياء، حتى الأبد". 
وصادف أن مررت مع صديق لي أمام باب الكنيسة مرة في أحد الفصح في ذات اللحظة التي فقد فيها الكاهن قدرته على الكلام، وخيم الصمت الغامر المعتاد. همست في أذن صديقي أن علينا أن ندخل من أجل ذلك الآن.
"لكن هذا المبتز لوثر، وهؤلاء البروتستانت الملاعين! الذين الشيطان..".
وفجأة لمحني دون أنطونيو في المدخل. فاسترخت القبضة المطبقة التي رفعها عاليا ليسدد بها ضربة ساحقة للملحدين الملعونين ولوح بيده في مودة واعتذار نحوي:  لكن طبعا ليس السنيور الدكتور! طبعا ليس السنيور الدكتور!
نادرا ما انقطعت عن الذهاب إلى الكنيسة في أحد الفصح لآخذ مكاني بجوار الباب إلى جانب متسول أناكابري الرسمي. وكنا نبسط أيدينا معا نحو الداخلين، هو من أجل النقود وأنا من أجل عصفور في جيب رجل، في طيات وشاح امرأة أسود أو في راحات أيدي الأطفال. وهذا يدل بصورة طيبة على الوضع الاستثنائي الذي استمتعت به في تلك الأيام بين القرويين، إذ أنهم قبلوا بلا استياء تدخلي في طريقة احتفالهم بقيامة ربنا الذي تكرسه التقاليد منذ ما يقارب ألفي سنة وما يزال قساوستهم يشجعونهم عليها. كانوا يجهزون الأشراك في كل كرم وتحت كل شجرة زيتون، من أول يوم في أسبوع الآلام. كان صبية القرية جميعا يسحبون مئات من الطيور الصغيرة وهم يطوفون في الشوارع، على مدى أيام. واليوم، يطلقون رموزا مشوهة من الحمام المقدس في الكنيسة لتلعب دورها في إحياء الذكرى البهيجة لعودة المسيح إلى السماء. لكنها لا تعود أبدا إلى سمائها، إنما ترفرف إلى حين عاجزة متحيرة، تكسر أجنحتها على النوافذ، قبل أن تهوي لتموت على أرض الكنيسة. ومع انبلاج الفجر، كنت على سطح الكنيسة والمعلم نيكولا يمسك بالسلم كمساعد لي، على كره منه، لكي أحطم بعض زجاج النوافذ. لكن لم تجد إلا قلة ضئيلة جدًّا، من تلك الطيور المحكومة بالهلاك، طريقها إلى الحرية.
الطيور! الطيور! كم كان يمكن لحياتي ألا تكون في مثل هذه السعادة على هذه الجزيرة الجميلة لو لم أكن مولعا بهم كما أفعل! كنت أحب أن أراهم يجيئون كل ربيع آلافا، آلافا، وكان بهجة لأذني أن أسمعهم يغردون في حديقة سان ميشيل. لكن كان ثمة وقت كنت أوشك أن أتمنى فيه لو أنهم لم يأتوا، وذلك لما كنت أود لو أن في إمكاني أن أشير لهم وهم بعيدون فوق البحر أن يظلوا طائرين، أن يواصلوا الطيران عاليا فوق الرؤوس مع أسراب الإوز البري، مباشرة إلى بلادي القصية في الشمال حيث يمكن أن يكونوا في أمان من الإنسان. لأني كنت أدرك أن الجزيرة  الجميلة التي كانت نعيما لي كانت جحيما لهم، كذلك الجحيم الآخر الذي كان بانتظارهم أبعد على طريق الآلام، في هيلجولاند( 1). لقد وصلوا قبل طلوع الشمس تماما. وكان كل ما يطلبونه هو أن يستريحوا قليلا بعد طيرانهم الطويل عبر المتوسط، وكان هدف الرحلة بعيدا جدا، البلاد التي ولدوا فيها والتي عليهم أن ينشئوا صغارهم فيها. جاؤوا بالآلاف:  حمام مطوق، سمَّان، قماري، طائر مخوِّض، سمانى، صُفارية ذهبية، قبرات، عنادل، ذُعرة، صغنج، سنونو، هازج، أبو الحناء وكثير من الفنانين الصغار الآخرين وهم في طريقهم ليمنحوا الغابات والحقول الخرساء في الشمال حفلات الربيع الموسيقية. وبعد ساعتين، أخذوا يصفقون بأجنحتهم عاجزين في الشباك التي مدها رجل ماكر فوق الجزيرة كلها من الجروف الصخرية العالية المطلة على البحر من منحدرات جبل سولارو وجبل باربروسا. وكانوا في المساء معلبين بالمئات في صناديق خشبية صغيرة بلا طعام ولا ماء، ونقلوا على بواخر إلى مرسيليا ليؤكلوا بمتعة في مطاعم باريس الأنيقة. كانت تجارة رابحة، وكانت كابري طوال قرون مقر الأسقف الممول كليا من بيع طيور الصيد بالشباك. وكان يدعى في روما "أسقف السمانى". أتعرف كيف كانوا يصطادونهم بالشباك؟ كانوا يخفون تحت الأدغال، بين الأعمدة، عصافير في أقفاص الشباك، يرددون بلا انقطاع زقزقاتهم  الرتيبة بصورة آلية. لم يكونوا قادرين على التوقف، بل كانوا يصيحون ليلَ نهار حتى يموتوا. وقبل أن يعرف العلم بزمن بعيد أي شيء عن موقع المراكز العصبية في الدماغ البشري، ألهم    الشيطان تلميذه الرجل باكتشافه الفظيع، وهو أن وخز عيني العصفور بإبرة حامية حمراء سيجعل العصفور يغرد بصورة آلية. إنها قصة قديمة، كانت معروفة من قبل لدى الإغريق والرومان، وما زالوا يعملون بها اليوم على امتداد الشواطئ الجنوبية لاسبانيا وإيطاليا( 2) واليونان. ولا ينجو من هذه العملية إلا قلة من الطيور بالمئة، وهي ما تزال تجارة رابحة، فالسمانى العمياء تستحق اليوم خمسا وعشرين ليرة في كابري. وخلال ستة أسابيع من الربيع وستة أسابيع من الخريف، كانت منحدرات جبل بربروسا كلها مغطاة بالأشراك من القلعة الخربة في القمة حتى سور حديقة سان  ميشيل في أسفل الجبل. وكانت تعتبر أفضل صيد على الجزيرة كلها، وغالبا ما يقع ألف طائر في الأشراك هناك في يوم واحد. كان الجبل ملك رجل من البر الرئيس، جزار سابق، خبير مشهور بسمل عيون الطيور، وهو عدوي الوحيد في أناكبري باستثناء الدكتور. والحرب بينه وبيني كانت متواصلة باستمرار، حتى منذ أن بدأت بناء سان ميشيل. وكنت قد قدمت التماسا للحكومة في روما، لكنهم قالوا لي أن لا شيء يمكن فعله، فالجبل ملكه والقانون إلى جانبه. ولقد استنجدت بالسيدة العليا في البلاد، فاستقبلتني بابتسامتها الساحرة التي جعلتها تفوز بقلب إيطاليا كلها، وشرفتني بدعوة أن أبقى على الغداء، وكانت أول كلمة قرأتها في لائحة الطعام "فطيرة محشوة بالقبرة". واحتكمت إلى البابا، فأخبرني كردينال سمين أن قداسة الأب قد حمل في محفته في ذلك الصباح مع الفجر إلى حدائق الڤاتيكان ليشاهد صيد الطيور بالشباك، فالصيد كان وفيرا وقد أمسكوا ما يربو على مئتي عصفور. لقد كشطت الصدأ من المدفع الصغير من عيار رطلين، الذي تركه الإنجليز في الحديقة في 1808 ورحت أطلق النار مرة كل خمس دقائق من منتصف الليل حتى طلوع الشمس أملا بتخويف الطيور وإبعادها عن الجبل القاتل. ورفع الجزار السابق دعوى ضدي لتدخلي في مجال تجارته القانونية. وقد غرموني مئتي ليرة عوض التلف. ولقد دربت جميع الكلاب أن تنبح طوال الليل على حساب النوم الذي لم يبق لي منه إلا القليل. وبعد أيام قليلة مات كلبي ماريما فجأة، وقد وجدت آثار زرنيخ في معدته. لمحت المجرم في الليلة التالية لاطيا خلف السور الحديقة، فطرحته أرضا. فأقام دعوى ثانية، ودفعت غرامة خمس مئة ليرة على ذلك الاعتداء. ولقد بعت مزهرية إغريقية جميلة والسيدة العذراء المحبوبة برغبة إلى سيتجنانو لكي أرفع المبلغ الضخم الذي طلبه مقابل الجبل، أغلى من سعره بمئات المرات. ولما جئت بالمال جدد مناورته القديمة وكشر في وجهي قائلا إن السعر تضاعف. كان يعرف الرجل الذي يتعامل معه. لقد بلغ سخطي درجة كان بإمكاني عندها أن أتخلى عن كل ما أملك لأغدو مالك الجبل. لكن ذبح الطيور استمر كما كان من قبل. وحرمت من نومي، ولم أكن لأفكر بأي شيء آخر. ومن شدة يأسي، هربت من سان ميشيل وأبحرت إلى مونت كريستو لأعود وقد عبرت آخر الطيور الجزيرة.
وكان أول شيء سمعته لما رجعت أن الجزار السابق بات مطروحا على حافة الموت. كانت القداسات تتلى مرتين في الكنيسة يوميا لخلاصه، بثلاثين ليرة لكل قطعة، فقد كان واحدا من أغنى الرجال في القرية. ومع اقتراب المساء، وصل الكاهن طالبا مني باسم المسيح أن أزور الرجل الذي يموت. كان طبيب القرية يشتبه بأنها ذات الرئة، والصيدلي متأكد أنها سكتة، والحلاق يعتقد أنها مشكلة دم، والقابلة تظن أنه خوف. والكاهن نفسه كان منتبها للعين الشريرة، وكان ميالا إلى الإصابة بالعين. رفضت أن أذهب. وقلت إني لم أكن قطّ طبيبا في كابري إلا للفقراء وإن الأطباء المقيمين على الجزيرة قادرون أن يتغلبوا على أي من هذه الأمراض. ولن أجيء إلا على شرط واحد، وهو أن يقسم الرجل على الصليب، إذا تجاوز مرحلة الخطر فلن يسمل عيني عصفور، وعليه أن يبيعني الجبل بالسعر الباهظ الذي كان منذ شهر. ورفض الرجل. وفي الليل، أعطي آخر الأسرار المقدسة. ومع الفجر ظهر الكاهن من جديد. لقد قبل شرطي، وأقسم على الصليب. وبعد ساعتين كنت أسحب من غشاء الجنب الأيسر ثُمن غالون من القيح أمام ذعر طبيب القرية ولمجد قديس القرية، وخلافا لتوقعاتي، تماثل الرجل للشفاء – معجزة! معجزة!
إن جبل بربروسا اليوم حرم للطير. ألوف من الطيور المتعبة من عبور البحر تستريح على منحدراته كل ربيع وخريف، آمنة من الإنسان والوحش. وكان محظورا على الكلاب أن تنبح عندما تستريح الطيور على الجبل. ولم أسمح بخروج القطط من المطبخ قطّ إلا بجرس إنذار مربوط حول أعناقها. أغلقت على بيلي المتشرد بيت النسناس، فالمرء لا يعرف ما يمكن أن يفعله قرد أو صبي مدرسة.

لم أقل حتى الآن كلمة تقلل من شأن المعجزة الأخيرة للقديس أنطونيو، وهي قد أنقذت في أقل تقدير، ولسنوات عديدة، حيوات خمسة عشر ألف طير على أقل تقدير كل سنة. لكن حين انتهى كل شيء لدي، لا أبغي إلا أن أهمس إلى أقرب ملاك، مع كل واجب الاحترام للقديس أنطونيو، أني أنا وليس هو الذي سحب القيح من غشاء الرئة الأيسر للجزار، وأتوسل للملاك أن يمنحني كلمة طيبة، إذا لم يقلها لي أي شخص آخر. وأنا واثق أن الله العظيم يحب الطير، وإلا فإنه لا يمكن أن يعطيها الجناحين ذاتهما اللذين أعطاهما لملائكته. 

--------------------------
(1 ) Helgoland:  جزر ألمانية في بحر الشمال. (W)
(2 ) اليوم محظورة بفعل القانون.

--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment