Sunday, March 10, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 25 - مس هول (1)





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (25) 
XXVI

مس هول( 1)


إن كثيرا من مرضاي في تلك الأيام سوف يتذكرون مس هول بالتأكيد، ومن رآها مرة لا يمكن أن ينساها فعلا. وبريطانيا العظمى وحدها، بريطانيا العظمى في أوج ازدهارها، تستطيع أن تنتج هذا النمط الفريد من عوانس العصر الفكتوري المبكر، بطول ست أقدام وثلاث بوصات، جافة صلبة مثل عصا، ممرضة جافة من الاسكتلنديين الذين لم يولدوا من جيلين على الأقل. لم ألمح أي تغير أبدا في مظهر مس هول خلال السنين الخمس عشرة من معرفتي بها، فالوجه البهي نفسه محافظ دائما على لفات الشعر الذهبية الباهتة ذاتها، واللباس البهيج نفسه دائما وتنسيقة الوردات ذاتها دائما في قبعتها. ولا أدري كم من السنين الهادئة أمضتها مس هول بحثا عن المغامرة في شتى بنسيونات روما من الدرجة الثانية. لكني أعرف أن مهمتها الفعلية في الحياة بدأت في اليوم الذي قابلت فيه تابيو معي في فيلا بورجيز، وقد وجدت نفسها أخيرا. لقد أمضت الصباح وهي تمشط الكلاب وتمسحها بالفرشاة في غرفة جلوسي الخلفية الباردة كالجليد  تحت درجات ثالوث الجبل ولم ترجع إلى فندقها إلا للغداء. وفي الساعة الثالثة انطلقت من منزل كيتس عبر الميدان مع جيوفانينا وروزينا، وهما على جانبيها بنصف حجمها، بأحذيتهما الخشبية ومنديليهما الأحمرين حول رأسيهما، تحيط بهن كلابي كلها وهي تنبح بابتهاج توقعاً لنزهتها في فيلا بورجيز – منظر مألوف لجميع من في ميدان اسبانيا في تلك الأيام. وتنتمي جيوفانينا وروزينا لأسرة سان ميشيل، ولم أرَ خادمات أفضل منهما خفيفات اليد والقدم، تغنيان طوال اليوم في شغلهما. وما من أحد إطلاقا غيري قادراً على أن يحلم بأخذ هاتين الفتاتين نصف المروضتين من أناكابري إلى روما. وفوق ذلك، فإن هذا لا يمكن أن يتم لو لم تظهر مس هول في الوقت المناسب لتصبح كالأم المربية لهما، تعتني بهما عناية بالغة كدجاجة عجوز بفراخها. وقالت مس هول إنها لا يمكن أن تفهم لماذا لا أسمح للفتاتين بالتجوال وحدهما في فيلا بورجيز، فقد كانت تطوف عبر روما كلها وحيدة طوال سنين عديدة من غير أن تلفت انتباه أحد أو يقول لها أي كلمة. وهذا صحيح بالنسبة لنمط مس هول التي لم تفلح أبدا في قول كلمة واحدة من إيطالية مفهومة، لكن الفتاتين يفهمانها بصورة جيدة تماما وهما مولعتان بها، وإن كنت أخشى أنهما لا تأخذانها بجدية أكثر مني. فلم ترَ مس هول مني إلا القليل جدا، وحتى أنا لم أر منها إلا الأقل، وأنا لم أنظر إليها إطلاقا إذا استطعت تلافي ذلك. وفي المناسبات النادرة حين تكون مس هول مدعوة لحضور غدائي، كانت هناك مزهرية كبيرة موضوعة على المائدة بيننا. ومع أن مس هول كانت ممنوعة أن تنظر إلي، فقد حاولت برغم ذلك أن ترفع رأسها فوق المزهرية بين حين وآخر لتسدد علي نظرة من زاوية عينها العجوز. ويبدو أن مس هول لم تدرك قطّ كم كنت أنانيا وجاحدا إلى حد وحشي لقاء كل ما فعلته من أجلي. وباعتبار وسائلها المحدودة في التواصل - لم يكن مسموحا لمس هول أن تسألني أي سؤال – وقد نجحت نوعا ما في استكشاف مقدار كبير مما كان يجري في البيت وأي الناس كنت أرى. لقد حافظت بعين متيقظة على جميع مرضاي من السيدات، وكانت تراقب الميدان طوال ساعات لتراهن داخلات وخارجات أثناء استشاراتي. ولقد وجه ريتز، لدى افتتاح جراند أوتيل، ضربة قاضية لبساطة الحياة في روما وهي في طريق الزوال. لقد بدأ الغزو البربري، والمدينة الخالدة اجتاحتها البهارج الحديثة. كان الفندق الضخم مزدحما بمجموعة أنيقة من لندن وباريس والمليونيريين الأميركيين وكبار مرتادي الريفيرا من الأجانب. كانت مس هول تعرف جميع هؤلاء الناس بأسمائهم، فقد راقبتهم طوال سنين من خلال أعمدة المجتمع في صحيفة "مورننغ بوست". لقد كانت مس هول موسوعة كاملة في النبالة الإنجليزية. كانت تعرف عن ظهر قلب ميلاد أبنائهم وورثتهم وبلوغهم  سن الرشد، خطوبة بناتهم وزواجهن، الملابس التي كن يرتدينها لدى إحضارهن إلى البلاط، ورقصاتهن، وحفلات عشائهن، ورحلاتهن الخارجية. وقد انتهى العديد من هؤلاء الناس الأنيقين إلى أن يصبحوا من مرضاي سواء كانوا يريدون ذلك أم لا، وكم كانت مس هول مبتهجة بذلك. آخرون، لم يكونوا قادرين أن يبقوا لحظة وحيدين، كانوا يدعونني للغداء أو العشاء. وآخرون كانوا يزورون ميدان اسبانيا ليروا الغرفة التي مات فيها كيتس. وآخرون أوقفوا عرباتهم في فيلا بورجيز ليربتوا على كلابي مع بعض كلمات الثناء على مس هول وحسن عنايتها بهم. وبالتدريج انغمسنا، مس هول وأنا، يداً بيد في الدوائر العليا من المجتمع بسبب غموضنا الفطري. فقد خرجت فترة طويلة في ذلك الشتاء. وكان ما يزال لدي الكثير لأتعلم من هؤلاء المتسكعين اللاهين، وقدرتهم على عدم فعل أي شيء، ومعنوياتهم العالية، وكان نومهم المريح يحيرني. وتجهد مس هول الآن للاحتفاظ بمذكرة خاصة للأحداث الاجتماعية في حياتي اليومية. تبتسم  بكبرياء وهي تجري بأبهى ثوب من الفراك موزعة بطاقاتي يمينا ويسارا. إن نجمنا الصاعد ازداد تألقه أكثر فأكثر، وطريقنا أعلى فأعلى، وما من شيء قادر على إيقافنا. ومرة كانت مس هول في جولة مع الكلاب في فيلا بورجيز حين أومأت لها سيدة معها كلبها الأسود (من نوع بودل( 2)) طالبة منها أن تصعد إلى عربتها. ربتت السيدة عل كلب اللاب وقالت إنها هي التي أعطت تابيو، وهو جرو صغير، للدكتور. وشعرت مس هول أن ركبتيها تتقصفان تحتها، فقد كانت سمو الأميرة ولية عهد السويد! كان يجلس إلى جانبها الفخم سيد جميل، وقد مد يده بابتسامة ساحرة وقال مباشرة:  
"مرحبا، مس هول، لقد سمعت عنك الكثير من الدكتور". 
إنه صاحب السمو ماكس أمير بادن، ولا أقل من زوج ابنة أخت الملكة المحبوبة ألكسندريا! من ذلك اليوم الذي لا ينسى، تخلت مس هول عن جماعة جراند أوتيل الأنيقة لتكرس كل وقت فراغها للأسرة الملكية، وكان هناك نصف دزينة منهن في روما على أقل تقدير في ذلك الشتاء. كانت تقف طوال ساعات خارج فنادقهم منتظرة فرصة أن تراهم داخلين أو خارجين، وكانت تراقبهم بانحناءة من رأسها وهم يمضون بعرابتهم عبر البنتشيو أو فيلا بورجيز، وكانت تتبعهم كبوليس سري إلى الكنائس والمتاحف. وفي أيام الأحد، كانت تجلس في الكنيسة الإنجليزية في شارع بابوينو على مقربة من مقصورة السفير بقدر ما لديها من جرأة، وإحدى عينيها على كتاب الصلاة والأخرى على السمو الملكي، تمط أذنها العجوز لتلتقط النبرة المميزة للصوت الملكي مترنما بين المنشدين، مصليا للعائلة الملكية وقراباتهم في كل أرض بحماسة المسيحيين الأوائل.
وفي الحال بدأت مس هول بيوميات أخرى، مكرسة كليا لارتباطاتنا بالأسرة الملكية. في يوم الاثنين الماضي كان لها الشرف أن تحمل رسالة من الدكتور إلى سمو جراندوقة ڤايمار في أوتيل كويرينال. وأعطاها البواب الجواب مزخرفا بكراون دوقي من ساكسيه و ڤايمار. وقد أهدي المغلف لها بفضل كرم الدكتور ليكون ذكرى ثمينة. وعهد إليها يوم الأربعاء بحمل رسالة إلى  سمو الأميرة يولاليا ابنة ملك اسبانيا في جراند أوتيل. ولسوء الحظ لم يكن ثمة من جواب. وبعد ظهيرة أحد الأيام، حين كانت مس هول مع الكلاب في فيلا بورجيز، لاحظت أن سيدة طويلة في حلة سوداء تمشي بسرعة ذهابا وإيابا بجانب زقاق فرعي. وقد عرفتها حالا وهي السيدة ذاتها التي رأتها في حديقة سان ميشيل، واقفة بلا حراك بجوار أبي الهول تتطلع إلى البحر بعينيها الجميلتين الحزينتين. ولما مرت السيدة أمامها، قالت شيئا ما لرفيقتها وهي تمد يدها وتربت على جيالا، الكلبة البُرزيّ( 3). تصور مدى رعب مس هول حين تقدم منها رجل أمن وأمرها أن تبتعد فورا مع الكلاب – إنها صاحبة السمو إمبراطورة النمسا وشقيقتها الكونتيسة تراني! كيف للدكتور أن يكون بهذه القسوة حتى إنه لم يخبرني في الصيف؟ وبالمصادفة المجردة لا غير علمت بعد وقت طويل أن الدكتور، بعد أسبوع من زيارة السيدة لسان ميشيل، استلم رسالة من السفارة النمساوية في روما وفيها عرض لشراء سان ميشيل وأن الشاري المحتمل لم يكن شخصا أقل من إمبراطورة النمسا. ولحسن الحظ رفض الدكتور العرض، وسيكون الأمر مدعاة للشفقة فعلا إذا كان عليه أن يبيع مكانا مثل سان ميشيل بمثل تلك الفرص الفريدة من أجل رؤية العائلة الملكية! ألم تكن طوال أسابيع في الصيف الأخير تراقب من مسافة معتبرة حفيدة ملكتها المحبوبة فكتوريا بذاتها، ترسم في التعريشة! ألم يكن ابن عم القيصر بعينه يعيش هناك طوال شهر كامل! ألم يكن لها الشرف في أن تقف وراء باب المطبخ لترى الإمبراطورة يوجيني تمر على مسافة ذراع من أمامها أول مرة جاءت فيها إلى سان ميشيل. ألم تسمع بأذنيها ذواتيهما أن صاحبة السمو الإمبراطوري تقول للدكتور إنها لم ترَ في حياتها شبها مدهشا لنابليون العظيم أكثر من رأس أغسطس الذي عثر عليه الدكتور بالتنقيب في حديقته! ألم تسمع بعد عدة سنوات الصوت الآمر للقيصر نفسه وهو يحاضر على حاشيته عن شتى الآثار القديمة والأعمال الفنية حين كانوا يمرون عبرها بصحبة الدكتور الذي لا يكاد يفتح فمه! وعلى مقربة من أشجار السرو التي كانت تقف مختبئة وراءها، كان صاحب السمو الإمبراطوري يشير إلى جذع تمثال أنثوي نصف مغطى باللبلاب ويقول للحاشية إن ما رأوه جدير بمكان الشرف في متحفه في برلين، لأن كل ما يعرفه عن (هذه التحفة) أنها يمكن أن تكون رائعة غير مجهولة من أعمال فيدياس نفسه. وأصيبت مس هول بالرعب لما سمعت الدكتور يقول إنها الشظية الوحيدة التي لم تكن جيدة في سان ميشيل. لقد تخلى عنها لدي مريض ودود كان قد اشتراها في نابولي، وهي من أسوأ منحوتات كانوفا. وللأسف الشديد الذي انتاب مس هول أن الجماعة غادرت مباشرة إلى الميناء لتبحر على متن مركبها سلايبنر(4 ) إلى نابولي. 
وبمناسبة إمبراطورية النمسا، ينبغي أن أعلمك أن مس هول كانت مستشارة النظام الإمبراطوري في سان ستيفان. ولقد منحت مس هول هذا الامتياز الراقي في يوم ما حين كان ضميري في حالة سيئة إلى حد ما، مكافأة لها على خدماتها لي ولكلابي. ولم أفلح قطّ في أن أدرك لماذا ألقي ذلك العبء على نفسي. ولقد استلمت مس هول هذا الوسام من يدي بانحناءة من رأسها وعينين طافحتين بالدموع. وقالت إنها ستأخذه معها إلى القبر. وقلت إني لا أعترض، وهي بالتأكيد ستذهب إلى الجنة على أية حال. لكني لم أكن أتوقع أن تأخذه معها إلى السفارة البريطانية. وكنت قد نجحت في الحصول من اللورد اللطيف دوفرين على دعوة لمس هول لحضور حفلة الاستقبال في السفارة على شرف عيد ميلاد الملكة، فالجالية الإنجليزية جميعا في روما كانت مدعوة باستثناء مس هول. وقد أمضت مس هول عدة أيام مختفية تعمل جاهدة في زينتها، وهي غارقة في التوقع البهيج. تصور مدى ذعري وأنا أقدم مس هول لسفيرها حين رأيته يضع المونوكل على عينه ويحدق إلى صدر مس هول عاجزا عن الكلام. ولحسن الحظ لم يكن اللورد دوفرين إيرلنديا بلا طائل. وكل ما فعله أنه أخذني جانبا بقهقهة من الضحك وجعلني أعد بأن أحتفظ بمس هول بعيدا عن نظر زميله النمساوي. وقالت لي مس هول ونحن في الطريق إلى البيت إنه كان أعز يوم في حياتها. كان اللورد دوفرين في غاية اللطف معها، وكان كل شخص يبتسم لها، وكانت تشعر بالتأكيد أن زينتها كانت نجاحا عظيما.
نعم، إنه لأمر حسن جدًّا أن تسخر من مس هول! لكن بودي أن أعرف ماذا سيحصل للعائلة الملكية حين تختفي مس هول من هناك لتحتفظ بيوميات أعمالهم، وتراقبهم بركبتين مرتجفتين ورأس منحن وهي تتجول بالعربة عبر البنتشيو وفي فيلا بورجيز، لتصلي من أجلهم في الكنيسة الإنجليزية في شارع بابوينو؟ ماذا سيحدث لنجومهم وشرائطهم حين تكبر البشرية وتستغني عن اللعب بالدمى؟ لماذا لا يعطونها كلها إلى مس هول ويتخلصون منها! وسيبقى هناك دائما  صليب فكتوريا، فنحن جميعا سنكشف رؤوسنا بشجاعة لنواجه الموت. هل تعلم لماذا يكون صليب فكتوريا نادرا في الجيش البريطاني إلى هذه الدرجة؟ لأن الشجاعة في شكلها الأعلى، شجاعة نابليون الليلية، نادرا ما تحصل على صليب فكتوريا، ولأن الشجاعة التي لا يسعفها الحظ تنزف حتى الموت بلا مكافأة.
إن وسام ربطة الساق هو أهم امتياز إنجليزي بعد صليب فكتوريا – وإنه ليوم سيئ للإنجليزي إذا ما انعكس الأمر.  
قال اللورد ملبورن: "أنا أحب وسام ربطة الساق، فما له من ميزة لعينة".
وأراني صديقي السفير السويدي في روما قبل يومين نسخة من رسالة لي كتبتها منذ عشرين سنة تقريبا. وقال إن الأصل وجهها إلى وزارة الخارجية السويدية للدراسة والتأمل. وكانت جوابا متأخرا لطلب رسمي متكرر من البعثة السويدية بأنه ينبغي علي في أقل تقدير أن أتحلى باللباقة لكي أعترف شاكرا باستلام ميدالية مسينا التي منحتني إياها الحكومة الإيطالية لقاء شيء ما كان من المفترض أن أقوم به أثناء الزلزال. وجاء في الرسالة ما يلي: 
صاحب السعادة،
إن مبدئي الذي أهتدي به في شأن الأوسمة لم يكن حتى الآن إلا قبول وسام، وإن لم أفعل أي شيء مهما كان لأستحقه. إن نظرة إلى الكتاب الأحمر( 5) تجعلك تتحقق من النتائج الرائعة لالتزامي الصارم بهذا المبدأ خلال عديد من السنين. إن الطريقة الجديدة المقترحة في رسالة سعادتكم، وهي أن أسعى للتقدير العام إزاء ما حاولت أن أقوم به من عمل مفيد، على قلته، يبدو لي تصرفا خطرا ذا قيمة عملية مريبة. إنه لا يجلب إلا التشوش في فلسفتي، ويمكن أن يغضب الآلهة المخلدين. لقد انسللت من أحياء الكوليرا البائسة في نابولي دون أن يلحظني أحد، وأنا أبغي أن أقوم بانسلال مماثل من دمار مسينا. إنني لا أحتاج أي ميدالية تذكرني بما رأيت. 
   *   *   
وبالمصادفة، يجب أن أعترف أن هذه الرسالة كلها خداع. فالسفير السويدي لم يرد قطّ ميداليتي عن مسينا إلى الحكومة الإيطالية، فقد عثرت عليها في أحد الأدراج، بضمير رائق ومن دون ارتباك في فلسفتي أكثر من قبل. وفي الواقع لم يكن ثمة من سبب لعدم قبولي الميدالية، لأن ما فعلته في مسينا كان ضئيلا جدًّامقارنة بما يفعله مئات الناس الذين رأيتهم من مجهولي الأسماء وغير مسجلين، وهم يجازفون بحياتهم. ولم أكن بذاتي في أي خطر ما عدا الموت من الجوع أو من حماقتي. صحيح أني أعدت إلى الحياة عددا من الناس نصف المختنقين بطريقة التنفس الاصطناعي، لكن هناك قلة من الأطباء والممرضات أو خفر السواحل الذين لم يقوموا بمثل ذلك مجانا. وأنا أعرف أني سحبت امرأة عجوزا وحيدة اليد مما كان مطبخها، لكنني أعرف أيضا أني تخليت عنها وهي تصرخ في الشارع للمساعدة، ورجلاها مكسورتان. ولم يكن هناك فعلا أي شيء آخر أفعله، حتى وصول أول سفينة مستشفى، ولم يكن ممكنا الحصول على أي مادة للضماد أو دواء من أي نوع كان. وكان هناك أيضا طفل عار وجدته في وقت متأخر من تلك الليلة في فناء الدار، وقد أخذته لقبوي حيث نام بهدوء طوال الليل، منطويا تحت معطفي وهو يمص إبهامي بين حين وآخر أثناء نومه. وفي الصباح أخذته إلى راهبات القديسة تيريزا في ما تبقى من كنيستهن حيث كان هناك أكثر من دزينة أطفال مستلقين على الأرض يصرخون من الجوع، وليس في الإمكان إيجاد قطرة من الحليب في مسينا طوال أسبوع. وكنت أتعجب دائما لعدد الأطفال الذي جرى انتشالهم من بين الأنقاض أو وجدوا في الشوارع، وكان يبدو أن العناية الإلهية قد منحتهم قدرا من الرحمة أكثر بقليل مما أعطت الناس الكبار. كانت قناة الجر قد تحطمت، ولم يكن ثمة من ماء إلا من آبار قليلة نتنة، ملوثة بآلاف الأجسام المتعفنة والمنتشرة  في البلدة كلها. لا خبز، لا لحم، وبالكاد أي معكرونة، لا خضار، لا سمك، ومعظم مراكب الصيد غرقت أو حطمت إلى شظايا بالأمواج المدية التي انقضت على الشاطئ، جارفة ألوف الناس، المحتشدين هناك طلبا للسلامة. مئات منهم قذف بهم على الرمال، حيث ظلوا مطروحين أياما حتى تفسخوا في الشمس. مضيق مسينا كان طافحا بأسماك القرش، وأضخم قرش رأيته في حياتي كان ملقى أيضا على الرمل، وما يزال حيا. راقبته بعينين جائعتين حين انشق منفغرا، وأنا آمل أن أنتزع قطعة لنفسي. كان يقال لي دائما إن لحم القرش جيد جدا. كان في بطنه ساق امرأة بكاملها في جراب صوفي أحمر وحذاء سميكا، وكأنها مبتورة بمبضع جراح. ومن المحتمل تماما أن هناك آخرين غير أسماك القرش تذوقوا لحم البشر خلال تلك الأيام، وكلما قل الكلام عن ذلك كان أفضل. ومن الطبيعي أن ألوف الكلاب والقطط المشردة، تتسلل بين الخرائب أثناء الليل، ولم تكن لتعيش على أي شيء آخر، ما لم يمسك الأحياء بها ويلتهموها كلما واتتهم الفرصة. وأنا بنفسي شويت هرا على مصباحي الكحولي. ومن حسن الحظ أن هناك وفرة من البرتقال والليمون والمندرين للسرقة من الحدائق. والخمر كانت وفيرة، وقد بدأ نهب آلاف أقبية النبيذ ومحلات الخمر في اليوم ذاته، ومعظم الناس كانوا سكارى تقريبا في المساء، وأنا منهم، وكان ذلك بركة حقيقية، أخذت بعيدا الإحساس المتضائل بالجوع، وكان هناك قليل من الناس يمكن أن يحاولوا اللجوء للنوم لو كانوا صاحين. لقد حدثت الهزات كل ليلة تقريبا، متبوعة بضجة البيوت المنهارة وزعقات الرعب المتجددة من الناس في الشوارع. وكنت أنام جيدا إلى حد ما في مسينا برغم الإزعاج من جراء التغيير الدائم لأمكنة نومي. كانت الأقبية أضمن مكان للنوم طبعا إذا استطاع المرء أن يتغلب على ما ينتابه من احتمال الوقوع في الفخ كجرذ من جراء سقوط جدار. ومع ذلك من الأفضل أن تنام تحت شجرة في بستان برتقال، لكن بعد يومين من المطر الغزير أصبحت الليالي أبرد من أن يحتمله رجل كل ما يتدثر به هو جراب المؤونة على ظهره. وحاولت أن أعزي نفسي بقدر ما أستطيع لفقدان كابي الاسكتلندي المحبوب بالتفكير أنه من المحتمل أن يكون ملفوفا حول بعض الثياب البالية أكثر من ثيابي. لكن لم أكن راغبا في اسبدالها بأي شيء أفضل حتى لو أتيحت لي فرصة بذلك. إن الرجل الشجاع وحده يمكن أن يشعر بعدم الراحة في بذلة مقبولة من الثياب بين جميع هؤلاء الناس الناجين في قمصان نومهم، وهم مخبولون بالرعب والجوع والبرد – ومن الممكن ألا يحتفظ بها طويلا. وليس لنا أن نستغرب حدوث السرقة من الأحياء والموتى، والاعتداءات، وحتى القتل غالبا قبل وصول الجنود وإعلان القانون العرفي. وأنا لا أعرف أي بلد لا يمكن أن يحدث فيه ذلك تحت ظروف مماثلة يستعصي  وصفها. ولتزداد الأمور سوءا، فإن قانون السخرية أرادها في حين أن ثمانمئة من البوليس في الكلية العسكرية لم يبق منهم على قيد الحياة إلا أربعة عشر، وقد فتحت الهزة الأولى أكثر من أربعمئة زنزانة لمجرمين محترفين ولصوص محكومين مدى الحياة ولم يصابوا بأذى في السجن القريب من كبوتشيني. وبعد أن قام طيور السجن هؤلاء بنهب مخازن الملابس والسلاح من أجل الثياب والمسدسات، فمن المؤكد أنهم حصلوا على الوقت الحقيقي الطيب لما تبقى من المدينة المترفة، حتى إنهم حطموا خزانة بنك نابولي وفتحوها، وقتلوا اثنين من حراسه الليليين. وعلى أية حال، هكذا كان الرعب وقد ساد كل العقول بأن كثيرا من هؤلاء المجرمين كانوا يفضلون أن يسلموا أنفسهم ويحبسوا في عنابر الباخرة في الميناء، أكثر من بقائهم في هذه المدينة المحكومة بالهلاك، على الرغم من ظروفهم الاستثنائية. وبقدر ما كنت مهتما بالأمر لم يضايقني أحد منهم إطلاقا، بل على العكس كانوا جميعا لطفاء ودودين ومساعدين لي كما كانوا لبعضهم بعضا. إن أولئك الذين يحصلون على أي نوع من الثياب أو الطعام كانوا دائما مسرورين أن يتقاسموه مع أولئك المحرومين من ذلك. وقد أهداني أحد لصوص المتاجر المجهولين حلة نسوية محشوة جميلة، وهي إحدى أحب الهدايا التي استلمتها في حياتي. وفي إحدى الأمسيات، وأنا أمر بجوار خرائب قصر، شاهدت رجلا حسن الهندام يلقي إلى الأسفل ببعض كسرات الخبز وحزمة من الجزر إلى حصانين وحمار صغير محجوزين في اسطبل تحت الأرض، وقد تمكنت من رؤية الحيوانات المعرضة للهلاك من صدع في الجدار. أخبرني أنه يأتي إلى هناك مرتين في اليوم ومعه ما يمكن أن يحصل عليه من فضلات الطعام، إن منظر هذه الحيوانات التعيسة وهي تموت جوعا وعطشا كانت مؤلمة له إلى حد أنه كان يفضل أن يطلق عليها الرصاص من مسدسه، لو امتلك الشجاعة لقتل أي حيوان، ولا حتى طائر سمانى( 6). نظرت باندهاش إلى وجهه الوسيم، الذكي والودي نوعا ما وسألته إن كان صقليا، فقال إنه ليس صقليا لكنه عاش في صقلية عدة سنوات. وطفقت تمطر بغزارة ونحن نمضي مبتعدين. سألني أين كنت أعيش، ولما أجبت بأن لا مكان محددا لي، نظر إلى ثيابي المبتلة واقترح أن يؤويني في تلك الليلة، وكان يعيش مع صديقين في مكان قريب. وتلمسنا طريقنا بين كتل الأبنية الضخمة وأكوام الأثاث المسحوق من جميع الأنواع، ونزلنا عددا من الدرجات ووقفنا في مطبخ كبير تحت الأرض شاحب الإضاءة بمصباح زيتي تحت صورة مادونا ملصقة على الجدار. كان ثمة ثلاث حشايا على الأرض، وقد رحب السنيور أميديو أن أنام على حشيته، فهو وصديقاه سيمضون الليل بطوله بحثا عن بعض أمتعتهم تحت خرائب منازلهم. تناولت عشاء ممتازا، وهو الوجبة اللائقة الثانية منذ وصولي إلى مسينا. كانت الأولى منذ حوالي يومين حين عثرت بصورة مفاجئة على حفلة غداء سارة في حديقة القنصلية الأميركية، وعلى رأسها صديقي الحميم ونثروب تشانلر الذي وصل بيخته في ذلك الصباح محملا بالمؤن للمدينة المشرفة على الهلاك من الجوع. لقد نمت عميقا على حسية السنيور أميديو، ولم أستيقظ إلا على العودة الآمنة لمضيفي وصديقيه من حملتهم الليلية الخطرة – وهي خطرة فعلا، إذ كنت على علم أن لدى الجنود أمرا بإطلاق النار على أي شخص يحاول أن يحمل معه أي شيء، حتى لو كان من بيته ذاته. ألقوا برزماتهم تحت الطاولة وبأنفسهم على حشاياهم وكانوا جميعا غارقين في نومهم حين غادرت. ومع أن مضيفي الكريم كان يبدو متعبا حتى الموت، فهو لم ينس أن يقول لي إنه يرحب بإقامتي معه ما دمت راغبا بذلك، ومن الطبيعي أني لم أكن طالبا أفضل من ذلك. وكان لي عشاء آخر في المساء التالي مع السنيور أميديو، وكان صديقاه قد استسلما سريعا للنوم على حشيتيهما، وكان عليهم، ثلاثتهم، أن ينطلقوا من جديد إلى عملهم الليلي بعد منتصف الليل. ولم أر في حياتي إطلاقا أكرم من مضيفي. ولما سمع أني بلا نقود، اقترح في الحال أن يقرضني خمسمئة لير، ويؤسفني أن أقول إني ما زلت مدينا له بالمبلغ. لم أتمالك نفسي من التعبير عن دهشتي من رغبته بإقراض ماله لغريب لا يعرف عنه أي شيء. أجابني بابتسامة أنني لا يمكن أن أجلس بجانبه لو لم يكن واثقا بي.
وفي أصيل اليوم التالي، وأنا أزحف بين خرائب أوتيل تريناكريا باحثا عن جثة القنصل السويدي،  فوجئت بجندي يصوب نحوي بندقيته، فاعتقلت وأخذت إلى أقرب مخفر. وبعد أن تغلبت على الصعوبة التمهيدية في تحديد موقع بلادي الغامضة والتدقيق في رخصتي الموقعة بالصورة المثلى، أطلق الضابط المسؤول سراحي، وقوام الجرم مؤلف فقط من سجل قنصل سويدي  نصف متفحم. غادرت المخفر قلقا إلى حد ما، لأني لمحت نظرة محيرة نوعا ما في عين الضابط حين أخبرته أني غير قادر على إعطاء عنواني الدقيق، فلم أكن أعرف حتى اسم الشارع الذي يعيش فيه مضيفي الكريم. كان الظلام قد حل، وبدأت أركض حالا، لأني تخيلت أني سمعت خطوات مختلسة خلفي وكأن شخصا ما كان يتبعني، لكني وصلت مكان نومي بلا مزيد من المغامرات. كان السنيور أميديو وصديقاه مستغرقين في النوم على حشاياهما. ولأني جائع كالمعتاد فقد جلست لتناول العشاء الذي تركه لي مضيفي الكريم على الطاولة. أردت أن أبقى مستيقظا حتى كانوا على وشك أن يبدأوا، واقترحت على السنيور أميديو أن أساعده تلك الليلة في بحثه عن أمتعته. كنت أقول لنفسي إن ذلك أقل ما يمكن أن أعمله مقابل أريحيته معي، حين سمعت فجأة صفرة حادة ووقع خطوات. شخص ما كان يهبط الدرج. وقفز الرجال النائمون الثلاثة على أقدامهم في لحظة. سمعت طلقة، وسقط شرطي عن الدرج خابطا رأسه بالأرض  عند قدمي. ولما انحنيت بسرعة عليه لأرى إن كان مات رأيت بوضوح السنيور أميديو يصوب مسدسه نحوي. وفي اللحظة ذاتها امتلأت الغرفة بالجنود، وسمعت طلقة ثانية، وبعد صراع مستميت تم التغلب على الرجال الثلاثة. ولما مر مضيفي أمامي، مكبلا بحبل متين مشدود حول ذراعية وساقيه، رفع رأسه ورمقني بنظرة وحشية خاطفة من كراهية وتأنيب جعلت الدم يتجمد في عروقي. وبعد نصف ساعة رجعت مرة ثانية إلى المخفر، حيث احتجزت طوال الليل. وفي الصباح حقق معي من جديد الضابط ذاته، وربما أدين بحياتي لذكائه ولطفه. وقال لي إن الرجال الثلاثة كانوا سجناء هاربين من حبس مؤبد في السجن القريب من كابوتشيني، وهم جميعا خطرون. وكان أميديو قاطع طريق روّع المنطقة حول جرجينتي لسنوات وفي سجله ثماني جرائم قتل. إنه هو أيضا وعصابته الذين سطوا على بنك نابولي وقتلوا الحارسين قبل ليلة بينما كنت مستغرقا في النوم على حشيته. وقد أعدم الرجال الثلاثة رميا بالرصاص مع الفجر. وكانوا قد طلبوا قسيسا، فاعترفوا عن خطاياهم وماتوا بلا خوف. وقال ضابط البوليس إنه يرغب بأن يقدم لي الثناء على الدور الهام الذي لعبته في القبض عليهم. حدقت في عينه وقلت إني لست فخورا بعملي. فقد تأكدت من زمن بعيد أني لا أصلح للقيام بدور المتهم، ولا أزال أقل صلاحية لدور الجلاد. ليس هذا شأني، وربما كان شأنه، وربما لم يكن. إن الله يعلم كيف يصيب عندما يشاء أن يضرب، وهو يعلم كيف يأخذ الحياة كما يعلم كيف يعطيها.
ولسوء حظي وصلت مغامرتي إلى آذان بعض المراسلين الصحافيين المتسكعين خارج المنطقة العسكرية – ولم يستطع أي من المراسلين الصحفيين أن يدخل البلدة في تلك الأيام لأسباب وجيهة – بحثا عن أخبار مثيرة، وكلما كانت غير صحيحة كانت أفضل؛ ومن المؤكد أن هذه ستبدو أبعد ما تكون عن التصديق بما يكفي هؤلاء الذي لم يأتوا إلى مسينا خلال الأسبوع الأول بعد الزلزال. ولم يتقذني من أن أغدو مشهورا إلا الالتباس الميمون باسمي. ولكن لما علمت من  أولئك الذين كانوا يعرفون الأذرع الطويلة للمافيا أن ذلك لن ينجيني من القتل إذا بقيت في مسينا، أبحرت في اليوم التالي مع بعض خفر السواحل عبر مضائق ريجيو.
ولم تكن ريجيو ذاتها لتوصف أو تنسى، حيث قتلت الهزة الأولى عشرين ألف إنسان كلية. وما يزال منظر البلدات الساحلية الصغيرة المتناثرة بين بساتين البرتقال، سكيلا، كانيتيلو، فيلا سانت جيوفاني، جاليكو، آركي، سان جريجوريو، أشد رعبا. وربما كانت أجمل منطقة في إيطاليا، وهو اليوم مقبرة واسعة لأكثر من ثلاثين ألفا من الموتى، وعدة ألوف من الجرحى المطروحين بين الخرائب خلال ليلتين من الأمطار الغزيرة بفعل الرياح الشمالية ذات البرودة الجليدية، بلا أي مساعدة من أي نوع كان، وآلاف من الناس يركضون نصف عراة في الشوارع كالمجانين، ويصرخون من أجل الطعام. وأبعد إلى الجنوب كانت شدة الارتجاج الزلزالي على ما يبدو قد بلغت ذروتها. وفي بيلارو، مثلا، حيث لم يبق على قيد الحياة إلا نحو مئتين من سكانها الخمسة آلاف، لم أكن قادرا على تمييز الشوارع أين كانت. والكنيسة التي كانت تغص بالناس المروعين، انهارت في الهزة الثانية، وقتلوا جميعا. وكان فناء الكنيسة مزروعا بالتوابيت المبقورة، وقد قذفت بالمعنى الحرفي من القبور – وقد رأيت من قبل هذا المنظر الفظيع في مقبرة مسينا. وكانت دزينة من النساء قاعدات على ركام الأنقاض حيث كانت الكنيسة مرتعدات في أسمالهن. لم يكن يصرخن، ولا يتكلمن، بل جلسن هناك في سكون تمام برؤوس محنية وعيون نصف مغلقة. وبين حين وآخر كانت إحداهن ترفع رأسها وتحدق بعينين خاويتين نحو قسيس عجوز رث الثياب يومئ بضراوة بين مجموعة من الرجال على مقربة شديدة منه. وبين حين وآخر كان يرفع قبضته المطبقة بلعنة مروعة باتجاه مسينا، عبر المياه، مسينا، مدينة الشيطان، سدوم وعمورية في واحدة، سبب كل شقائهم. ألم يكن دائما يتنبأ أن مدينة الآثمين ستنتهي بـ ــــــ؟ إن سلسلة من حركات كلتا يديه المتموجة في الهواء لم تدع أي شك بالنبوءة التي كان مقدرا لها أن تقع. عقاب الله! عقاب الله!
أعطيت من جراب مؤونتي المرأة إلى جانبي وفي حضنها رضيع رغيفا صغيرا من خبز رديء. فاختطفته دون أن تتفوه بكلمة، وناولتني فورا برتقالة من جيبها، اقتطعت لقمة من الخبز ووضعتها في فم المرأة وراءها وهي على وشك أن تصبح أما، وطفقت تلتهم الياقي بنهم مثل حيوان يتضور جوعا. وأخبرتني بصوت واهن رتيب كيف هربت والطفل على صدرها، ولا تدري كيف، لما تداعى البيت عند الهزة الأولى، وكيف جهدت حتى اليوم التالي محاولة أن تنتشل طفليها الآخرين وأبيهما من الدمار، كانت تسمع أناتهم حتى وضح النهار. ثم جاءت هزة ثانية وأصبح كل شيء ساكنا. كان عبر جبهتها جرح فظيع، لكن "صغيرها" – الكلمة المؤثرة التي تدعو الإمهات هنا جميع أطفالهن بها – لم يصب بأذى، شكرا لله. وألقمت الطفل ثديها، وهي تتكلم، وهو صبي صغير رائع، عار تماما، قوي كهرقل الطفل، وكان واضحا أن ذلك ليس الأسوأ إطلاقا لقاء ما حدث. وكان طفل آخر ينام في سلة إلى جانبها تحت حزمة من القش التالف؛ وكانت قد التقطته من الشارع، ولا أحد يعرف لمن كان ينتمي. ولما وقفت لأذهب، بدأ الطفل اللقيط يهتاج، فانتزعته من السلة وألقمته ثديها الآخر. نظرت إلى المرأة الفلاحة المتواضعة من كالابري، بأعضائها القوية وصدرها العريض ورضيعين رائعين يرضعان بقوة من ثدييها، وفجأة تذكرت اسمها. إنها دميتر( 7) بلاد الإغريق العظمى حيث ولدت، أم الرومان العظمى. إنها الطبيعة الأم، ومن صدرها العريض تدفق نهر الحياة كسابق عهده فوق قبور مئات آلاف الموتى. أيها الموت، أين هي لدغتك؟ أيها القبر، أين هو انتصارك؟ 
 *    *    *  
ولنرجع إلى مس هول:  لقد غدا من الصعب عليها بشكل متزايد أن تضبط من يأتي ومن يغادر من مريضاتي، إزاء كل هذه العائلات الملكية المهتمة بها. إن أملي في أن أتخلى عن معاينة النساء العصابيات حين غادرت باريس لم يكن ليتحقق، فقد كانت غرفة استشاراتي في ميدان اسبانيا ملأى بهن. كان بعضهن متقدما في السن ومن معارفي الخائفات من شارع ڤيليير، وأخريات كان يلقي بهن علي في أعداد متزايدة باستمرار اختصاصيو الأعصاب المرهقون في دفاع شرعي عن النفس. إن عشرات السيدات المتوترات والمشوشات من جميع الأعمار، اللواتي اعتاد البروفيسور وير-ميتشيل وحده أن يعهد بهن إلي، كن كافيات لاختبار قوة عقل أي رجل وصبره. والبروفيسور كرافت-إيبنغ من ڤيينا، المؤلف الشهير لـ"الاضطرابات العقلية الجنسية"، كان يرسل لي أيضا باستمرار مرضى من الجنسين وبلا جنس، وجميعهم تقريبا يصعب التعامل معهم، ولا سيما النساء. ومع دهشتي البالغة واقتناعي، كنت أشرف مؤخرا على عدد كبير من المرضى باضطرابات عصبية متنوعة، ممن وجههم إلي بلا شك رئيس السلبيتريير، ولكن بلا أي كلمة مكتوبة. وكان كثير من هؤلاء المرضى في حالات غير واضحة الحدود وليسوا مسؤولين عن أعمالهم تقريبا. ولم يكن بعضهم بأقل من جنون كاذب، ولا أي شيء آخر. فمن السهل أن تكون مريضا بالجنون، وأنا أعترف بمحبة خفية لهم. وبقليل من اللطف يمكن للمرء أن يتوصل إلى تفاهم مع معظهم، ويمكن أن يفشل. لكن ليس من السهل أن تكون مريضا بهستيريا النساء، وإذ تكون لطيفا معهن، فمن الأفضل أن تعاود التفكير في الأمر مرتين قبل أن تكون لطيفا معهن، وهن لن يطالبن بأفضل من ذلك. وأنت لا تملك عادة أن تفعل إلا القليل لهؤلاء المريضات، ولا سيما خارج المستشفى. يمكنك أن تدوخ مراكزهن العصبية بمسكن، لكنك لا تستطيع شفاءهن. وهن سيبقين حيث يكن، مبتليات بمركب من الاضطرابات العقلية والبدنية، وباء لهن ولعائلاتهن، ولعنة لأطبائهن. والمعالجة بالتنويم المغناطيسي، وهو مفيد في العديد من الاضطرابات العقلية المستعصية حتى اليوم، لكنه عادة يدل على خطأ في علاج هستيريا النساء من جميع الأعمار، فليس للهستيريا عمر محدد. وينبغي أن تكون محددة في أية حالة بالنسبة لاقتراح شاركو بالدولة المدينة. وهي إلى جانب ذلك غير ضرورية، لأن أولئك  النسوة العاجزات على أية حالة يرغبن أكثر من اللازم بتدخل طبيبهن ليعتمدن عليه أكثر مما ينبغي، وليتصورن أنه الوحيد القادر على فهمهن، ليعبدنه كبطل. وأخذت الصور تنقلب عاجلا أو آجلا، فلا مجال لفعل أي شيء، "يجب أن يمر من هناك"، كما اعتاد شاركو أن يقول بابتسامته المقيتة. كانت كراهيتي للصور منذ عهد بعيد، ولم أخضع شخصيا للتصوير منذ أن كنت في السادسة عشرة إلا في لقطات سريعة لا يمكن تجنبها لأجل جواز سفري حين خدمت في الصليب الأحمر أثناء الحرب. ولم أولِ أي اهتمام قطّ حتى لصور أصدقائي، وأستطيع أن أنسخ ملامحهم غير المنمقة على شبكية عيني حين أشاء بدقة أكثر بكثير من أفضل المصورين. إن الصورة العادية للوجه البشري تظل ذات قيمة ضئيلة لطالب علم النفس. لكن آنا العجوز كانت مهتمة بالصور بشكل هائل. فمنذ ترقيتها، وهو يوم لا ينسى، من أدنى بائعة أزهار في ميدان اسبانيا إلى أن تولت فتح الباب في بيت كيتس، صارت آنا حريصة على جمع الصور. وغالبا، بعد أن أعنفها بقسوة شديدة على بعض أخطائها الكثيرة، اعتدت أن أرسل حمامة السلام وفي منقارها صورة إلى كوخ آنا درج ثالوث الجبال. وأخيرا بعد أن أرهقني الأرق، غادرت بيت كيتس وكان هذا لصالحي، انتزعت آنا درجا كاملا من مكتبي ممتلئا بالصور من جميع القياسات  والأوصاف. وإن أردت الصدق، فقد كنت مصمما على الخلاص منها بسرور. آنا بريئة تماما، وأنا وحدي المجرم. وفي زيارة قصيرة إلى لندن وباريس في الربيع التالي، صدمني تحفظ حتى لا أقول برودة العديد من مرضاي السابقين وأقربائهم. وفي أثناء مروري عبر روما في طريق عودتي إلى كابري كان لدي الوقت تماما لأتغدى في المفوضية السويدية. وقدرت أن السفير بدا متجهما، وحتى مضيفتي الساحرة كانت صامتة بشكل غير معتاد. ولما هممت بالتوجه إلى المحطة لآخذ قطار الليل إلى نابولي، قال لي صديقي القديم إنه وقت مناسب لعودتي إلى سان ميشيل لأمكث هناك حتى آخر أيامي بين كلابي وقردتي. وأنا لا أصلح لأي مجتمع آخر، لقد حطمت سجلي ذاته وآخر إنجازاتي يوم غادرت بيت كيتس. وتابع بصوت غاضب ليخبرني أنه في عشية عيد الميلاد، لدى مروره عبر ميدان اسبانيا، المحتشد بالسياح كالمعتاد في ذلك اليوم، صادف آنا في مدخل بيت كيتس أمام طاولة ملأى بالصور، تنادي العابرين بصوت حاد: 
"تعال وانظر هذه السيدة الجميلة بشعرها المجعد، وآخر سعر بليرتين".
"انظر هذه السيدة الأميركية، تأمل هذا العقد من اللآلئ، وهذه الأقراط اللامعة، سأعطيك إياها بمئتين وخمسين، إنها صحبة حقيقية!"
"لا تفقد هذه المركيزة النبيلة، وكلها بالفرو!"
"انظر هذه المركيزة، وهما غير منفصلين، كأنما في حفلة رقص، والتاج على رأسه، بأربع ليرات، هدية حقيقية!"
"وتلك سيدة الفم الفاغر، سعر مخفض بليرة ونصف. 
"وهنا السيدة نصف المجنونة، ضاحكة دائما، آخر سعر بنس!
"وهذه السيدة ذات الرأس الأحمر وهي تعبق دائما برائحة الكحول، بنس ونصف.
"وهذه حسناء أوتيل أوربا، كانت مجنونة بالسيد الدكتور بليرتين ونصف".
وأنت ترى السيدة الفرنسية التي أخذت مبسم السيجارة من تحت المعطف، سيدة مسكينة، لم تكن غلطته، ولم يكن رأسه راكزا، سعر قليل بنس".
وهذه السيدة الروسية التي أرادت أن تقتل البومة، بليرتين ولا بنس أقل".
"وتلك البارونة، نصف رجل نصف امرأة. أمي، أنت لا تفهمين شيئا، قال السيد الدكتور إنه ولد مثل ذلك، بليرتين وخمسة وعشرين، فرصة حقيقية.
"انظر الكونتيسة الشقراء التي أحبها السيد الدكتور بشغف، انظر كم هي فاتنة، لا أقل من ثلاث ليرات!
"وهنا..."( 8) 
وسط جميع السيدات كانت متوجة صورته الوزارية ذاتها، بلباسه الرسمي الكامل وأوسمته وقبعته المردودة الحافة وفي الزاوية: "إلى أ. م. من صديقه سي. ب". وقالت آنا إنها راغبة أن تتخلى عنها بالسعر المخفض، بليرة واحدة، لأنها كانت تتعامل مع صور السيدات بشكل رئيس. وقد تلقت المفوضية السويدية أكوام الرسائل من مرضاي السابقين، آباء، أزواجا، وحبيبات، يحتجون بسخط على هذه الفضيحة. وهناك فرنسي مغتاظ اكتشف أثناء شهر العسل في روما صورة كبيرة لعروسه معروضة للبيع في واجهة محل حلاق في شارع كروس، وقد اهتدى إلى عنواني، وكان سيتحداني في مبارزة بالمسدسات على الحدود. وكان السفير يأمل أن يكون الفرنسي ماهرا في الرماية، وإلى جانب ذلك فقد تنبأ لي ألا أموت ميتة طبيعية.
ما تزال آنا العجوز تبيع الأزهار في ميدان اسبانيا، وخير لك أن تشتري باقة بنفسج منها ما لم تفضل أن تعطيها صورتك. إنها أوقات عصيبة، وآنا العجوز أصيبت بضعف البصر في كلتا عينيها. 
وفي حدود علمي حتى الآن، لم يكن ثمة من وسيلة للتخلص من هؤلاء المرضى، وأنا أرحب بأي اقتراح في ذلك الاتجاه. فلا جدوى من الكتابة إلى عائلاتهم ليأتوا ويأخذوهم إلى بيوتهم. لقد تعب منهم أقرباؤهم منذ زمن طويل وهم سيتوقفون بلا أي تضحية عن استمرار بقائهم معهم. وأنا أتذكر جيدا نظرة مغتمة لرجل صغير الحجم دخل يوما غرفة المعاينة بعد ذهاب مرضاي الآخرين. لقد ارتمى على كرسي وقدم لي بطاقته. وكان اسمه بذاته كريها إلي، مستر تشارلز و. واشنغتون لونغفيلو بيركنز الأصغر. اعتذر عن عدم الرد على رسالتين مني وبرقية، وكان يفضل أن يأتي بنفسه ليقدم لي رجاءه الأخير. وأنا كررت طلبي، وقلت إنه ليس عدلا أن تلقي بعبء السيد بيركنز الأصغر كله علي. فلم أكن قادرا على القيام بأي شيء أكثر. وقال إنه عاجز كذلك. قال إنه رجل أعمال، وهو يريد أن يعالج المسالة على أسس المصلحة، وهو راغب في أن يتخلى عن نصف دخله السنوي مقدما سلفا. قلت له إنها ليست مسألة مالية، فأنا بحاجة للراحة. هل كان يعلم بأنها طوال ما يزيد عن ثلاثة أشهر كانت تمطرني بثلاث رسائل يوميا، وكان علي أن أقطع هاتفي في المساء؟ وهل كان يعلم أنها اشترت أسرع الأحصنة في روما وكانت تلاحقني في جميع أرجاء المدينة، وكان علي أن أتخلى عن نزهاتي المسائية في البنتشيو؟ وهل كان يعلم أنها أخذت شقة في الزاوية المقابلة من شارع كوندوتيتو لتراقب عبر تلسكوب قوي الناس الذين يدخلون بيتي ويخرجون منه؟
نعم، كان تلسكوبا جيدا جدا. وكان على الدكتور جنكنز من سان لويس أن ينتقل إلى بيت آخر بسبب ذلك التلسكوب.
وهل كان يعلم أنهم استدعوني إلى جراند أوتيل ثلاث مرات في الليل لأسحب من معدتها جرعة زائدة من اللودنوم( 9)؟
قال إنها تستعمل دائما الفيرونال مع الدكتور ليبنكوت، واقترح أن علي أن أنتظر حتى الصباح التالي إذا أرسلت في طلبي من جديد، كانت دائما حذرة جدًّا لدى أخذ الجرعة. أي نهر في هذه المدينة؟ 
نعم، نحن ندعوه التيبر. لقد ألقت بنفسها الشهر الماضي من جسر سان أنجيلو، وقفز شرطي وراءها والتقطها.
قال إن ذلك لم يكن ضروريا، فهي سباحة ممتازة، فقد بقيت عائمة في نيوبورت أكثر من نصف ساعة. وكان مندهشا أن زوجته ما تزال في جراند أوتيل، وهي عادة لا تبقى في أي مكان أكثر من أسبوع.
قلت إن ذلك كان فرصتها الأخيرة، فقد نزلت من قبل في جميع فنادق روما الأخرى. وأخبرني المدير أن من المستحيل أن يبقيها مدة أطول، فقد كانت تتشاجر مع جميع الندل وخادمات الغرف طوال اليوم وكانت تنقل الأثاث في غرفة الجلوس طوال الليل. لو لم يتمكن من وقف مخصصاتها، فإن فرصتها الوحيدة ستكون أن عليها أن تكسب عيشها بعمل شاق.
كان لديها عشرة آلاف دولار في السنة من حقها الشخصي، وعشرة آلاف دولار أخرى من زوجها الأول، وهو مبلغ ضئيل تخلى عنه.
ألم يستطع أن يحتجزها في أميركا؟
حاول بلا جدوى، لم يكن يظن أن تكون مجنونة تماما، كان يود أن يعرف ماذا كان يراد منها أكثر. ألم يكن في مقدوري حجرها في إيطاليا؟
أخشى ألا تستطيع.
ونظرنا واحدنا للآخر بتعاطف متزايد.
وأخبرني أنها، حسب بيانات الدكتور جنكنز، لم تكن قطّ في حالة حب مع الدكتور نفسه أكثر من شهر، والمعدل كان أسبوعين، ووقتي سينتهي عاجلا على أية حال، ألا أشعر بالشفقة عليه وأتحمل حتى الربيع؟
يا حسرة، أكدت بيانات الدكتور جنكنز خطأها، فقد بقيت معذبتي الرئيسية طوال إقامتي في روما. غزت كابري في الصيف. وأرادت أن تغرق نفسها في الكهف الأزرق. وتسلقت سور الحديقة في سان ميشيل؛ وكدت ألقي بها في الجرف من شدة سخطي. وكنت أفكر بأني على وشك أن أقوم بذلك لو لم يحذرني زوجها من قبل أن نفترق أن السقوط من ألف قدم لا يمكن أن يعني لها شيئا.
وكان لدي سبب قوي لتصديقه، فمنذ حوالي شهرين قفزت فتاة ألمانية نصف مجنونة من سور بنتشيو الشهير ولم تصب إلا بكسر كاحل. وبعد أن أرهقت جميع الأطباء الألمان المقيمين، كل بدوره، أصبحت فريستها. كانت حالة تجريبية بشكل خاص، لأن الآنسة فريدا كانت لديها براعة خارقة بكتابة الشعر، ومعدل نتاجها الغنائي عشر صفحات في اليوم، وكلها يلقى علي. ولقد تحملتها شتاء كاملا. ولأن هذه الحالات تزداد سوءا في وقت الربيع، أخبرت أمها البلهاء أنها ما لم ترجع مس فريدا من حيث جاءت، فلن يوقفني أي شيء من حجرها. وكان عليهما أن تغادرا إلى المانيا في الصباح. لكن أيقظني ليلا وصول فرقة الإطفاء إلى ميدان اسبانيا، فقد أضرمت النار في الدور الأول من أوتيل أوروبا المجاور. أمضت مس فريدا وهي في لباس النوم بقية الليل في غرفة جلوسي تكتب الشعر في حالة عصبية ممزقة. ولقد نالت ما أرادت، فكان عليهما أن تبقيا أسبوعا كاملا في روما من أجل تحقيقات البوليس وتسوية مسألة التلف، فقد أضرمت النار في غرفة جلوسهما. لقد نقعت مس فريدا منشفة بالبترول، ورمتها في البيانو وأشعلت النار.
وبينما كنت أغادر بيتي في أحد الأيام استوقفتني لدى الباب فتاة أميركية رائعة المظهر، مثال الصحة، ولا خلل في الأعصاب هذه المرة، والشكر لله. قلت إنها كانت تبدو وكأننا ينبغي أن نؤجل الاستشارة حتى الغد، إذ كنت مستعجلا. قالت إنها كذلك، وقالت إنها جاءت إلى روما لترى البابا والدكتور مونتي الذي حافظ على العمة سالي بعيدا من الأذى طوال سنة، الأمر الذي لم ينجح أي طبيب آخر بعمله. قدمت لها نسخة رائعة من لوحة بوتيشيلي "بريماڤيرا" متمنيا أن تأخذ عمتها معها إلى أميركا، وقالت إنها تود ألا تسمع بها لو أهديتها الأصل. فالعمة لا يمكن الاعتماد عليها. وأنا لا أدري إن كانت جمعية كيتس التي اشترت البيت حين تركته قد ركبت أبوابا جديدة للغرفة التي مات فيها كيتس والتي كان يمكن أن أموت فيها لو انتهى أجلي. وإذا كان الباب القديم ما يزال هناك، فهناك أيضا ثقب رصاصة صغير في الزاوية اليسرى في حدود ارتفاع رأسي، ملأته بالجص ولونته بنفسي.
زائرة أخرى مواظبة لعيادتي كانت جبانة المظهر، وهي سيدة حسنة السلوك تماما، لكنها وخزت مرة وهي تبتسم بدبوس قبعة طويل ساق رجل إنجليزي بجوارها على الأريكة. وكان بين هؤلاء الزائرات أيضا زوجان من المصابين بهوس الاختلاس وقد اعتادا أن يحملا تحت معطفيهما أي شيء يمكن أن تقع أيديهما عليه، أمام ذعر خادماتي. وبعض مريضاتي لم يكنَّ مستعدات إطلاقا لدخول غرفة الانتظار، لكنهن يملن للإقامة في المكتبة أو في غرفة الجلوس الخلفية تحت عين آنا اليقظة التي كانت صبورة معهن بشكل عجيب، أكثر مني بكثير. ولكسب الوقت كنت أسمح لبعضهن بدخول غرفة الطعام ليسردن علي حكايات بلائهن وأنا أتناول غدائي. وكانت غرفة الطعام مفتوحة على فناء صغير تحت ثالوث درجات مونتي، حولته إلى نوع من مأوى للعلاج أو النقاهة خاص بحيواناتي المختلفة. ومن بينها بومة صغيرة حبيبة، متحدرة مباشرة من بومة منيرڤا. لقد وجدتها في الريف بجناح مكسور وهي نصف ميتة من الجوع. تماثل جناحها للشفاء، وقد أخذتها مرتين إلى المكان الذي وجدتها فيه وتركتها حرة، وفي المرتين طارت عائدة إلى عربتي لتجثم على كتفي، فهي لا ترغب أن تسمع بفراقنا. ومن ذلك الحين والبومة الصغيرة كانت تستقر على مجثمها في زاوية غرفة الطعام، تنظر بمحبة إلي بعينيها الذهبيتين. وقد تخلت حتى عن النوم في النهار لكي لا تفقد رؤيتي. ولما اعتدت أن ألاطف جسمها الناعم الصغير كانت تغلق عينيها بابتهاج وتقضم شفتي بلطف بمنقارها الحاد الصغير، وكأنها على وشك قبلة كما يمكن لبومة أن تفعل. ومن بين المريضات اللواتي سمحت لهن بدخول غرفة الطعام سيدة روسية شابة، سببت لي الكثير من الإزعاج. هل يمكن أن تصدق أن هذه السيدة انتابتها غيرة شديدة من البومة، وقد اعتادت أن تحملق بالطائر الصغير بضراوة إلى حد أني أعطيت آنا أوامر صارمة ألا تترك أبدا هاتين الاثنتين وحدهما في الغرفة. ولدى دخولي في أحد الأيام للغداء أخبرتني آنا أن السيدة الروسية قد جاءت قبل قليل ومعها فأر ميت ملفوف في ورقة. لقد أمسكت به في غرفتها، واعتقدت بالتأكيد أن البومة تحبه للفطور. وكانت البومة تعرف أفضل، فبعد أن نقرت رأسه، على طريقة البوم، رفضت أن تأكله. أخذته إلى الصيدلي الإنجليزي، فكان يحتوي فيه من الزرنيخ ما يكفي لقتل قطة.
   *    *
ولكي أعطي جيوڤانيا وروزينا مناسبة طيبة قمت بدعوة أبيهما للمجيء إلى روما لقضاء عيد الفصح معنا. لقد كان باكتشال العجوز صديقا حميما لي طوال سنوات عديدة. كان في أيامه المبكرة صياد مرجان مثل معظم الذكور من سكان كابري في تلك الأيام. وبعد أن تقلب في أشغال مختلفة انتهى إلى أن يغدو حفار القبور الرسمي في أناكابري، شغل سيئ في مكان حيث لا أحد يموت ما دام بعيدا عن الطبيب. وحتى بعد أن جعلته يستقر مع أطفاله في سان ميشيل فهو لا يحب  أن يسمع تخليه عن شغله كحفار قبور. وله محبة خاصة بالتعامل مع الميتين، وهو يستمتع بدفنهم متعة إيجابية. وصل العجوز باكتشال في الفصح الخميس في حالة ذهول تام. فلم يقم أبدا بسفرة قطار من قبل، ولم يزر إطلاقا أي مدينة، ولم يجلس أبدا في عربة. وكان عليه أن ينهض من الثالثة كل صباح وينزل إلى الميدان ليغسل وجهه ويديه في نافورة برنيني تحت نافذتي. وبعدما أخذته مس هول والابنتان ليقبلوا أصابع قدم القديس بطرس البرونزية  وليدب عبر سكالا سانتا بصحبة زميله جيوڤاني من المقبرة البروتستانتية ليعاينا مختلف المقابر في روما، قال إنه لا يريد أن يرى أي شيء آخر. وقد أمضى وقته الباقي جالسا بجوار النافذة مطلا على الميدان بقبعة الصياد الطويلة من طراز فريجيان التي لم يخلعها أبدا  عن رأسه. وكان يقول إنها اجمل منظر في روما، ولا شيء يمكن أن يفوق ميدان اسبانيا. وهذا ما كنت أحسبه في ذلك الشأن. وسألته لماذا كان يحب ميدان اسبانيا أكثر من سواه. 
أوضح باكتشال العجوز: "لأن فيه دائما جنازات عابرة". 


-------------------------------
(1 ) Miss Hall:  الآنسة هول، لكني آثرت عدم ترجمة الآنسة حفاظا على سلاسة الإيقاع. (م)
( 2) Poodle:  كلب ذكي شعره كثيف أجعد. (المورد) 
( 3) Gialla, the borzoi:  هكذا وردت في النص، والبُرزيّ:  كلب روسي لمطاردة الذئاب. (المورد)
( 4) Sleibner (في أساطير الشمال):  حصان بثماني قوائم.
( 5)   Red Book: هو الكتاب الذي كتبه كارل غوستاف يونغ بعد خلافه مع فرويد. (G)
( 6) لعل من المهم أن يعرف محبو الحيوانات أن هذين الحصانين والحمار الصغير تم إخراجهم أحياء في اليوم السابع عشر بعد الزلزال، وقد استردوا عافيتهم.
( 7) Demeter:  إلهة الزراعة عند الإغريق.
( 8) نداءات آنا وردت بالإيطالية، والترجمة تقريبية، استنادا إلى قاموس Collins. (م) 
( 9) Laudanum :  مستحضر أفيوني، صبغة الأفيون. (المورد)

--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment