قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة: علي كنعان
الحلقة رقم (24)
XXV
الراهبات الصغيرات
المشرفات على الفقراء
كان عدد الراهبات الصغيرات المشرفات على الفقراء في سان بيترو في ڤنكولي نحو خمسين، ومعظمهن فرنسيات، وكن جميعا صديقاتي، وكذلك كان العديد من الرجال والنساء العجائز الثلاثمئة المقيمين في ذلك الملجأ الضخم. والطبيب الإيطالي الذي كان مفترضا أن يشرف على هؤلاء الناس جميعا لم يظهر لي أي إشارة من غيرة مهنية، ولا حتى لما أخذت من جراند أوتيل سجادة مليونير بتسبورغ المطهرة كما ينبغي، ونشرت على أرضية الحجر الجليدية للمصلى لتمنح الراهبات الصغيرات أعظم ابتهاج. وكان لغزا مشكلا علي كيف كانت تلك الراهبات الصغيرات يتدبرن تأمين الطعام والكساء لجميع نزلاء مأواهن. وكان منظرا مألوفا لكل زوار روما في تلك الأيام أن عربتهن العتيقة المخلعة تزحف من فندق إلى فندق لتجمع ما أمكن الحصول عليه من من فضلات الطعام. وكانت عشرون راهبة صغيرة، يمضين اثنتين اثنتين، على أقدامهن من الصباح حتى المساء بسلالهن الكبيرة وحصالات التبرعات. كانت هناك عادة اثنتان منهن تقفان لدى زاوية قاعتي في ساعة الاستشارة، وسوف يتذكرهما بلا شك العديد من مرضاي. وكانتا مثل جميع الراهبات مرحتين وميالتين للمزاح، وتستمتعان تماما بقليل من الحديث كلما أتيحت لهما فرصة لذلك. كانتا صبيتين وجميلتين إلى حد ما – فالأم الكبرى كانت قد أفضت إلي من وقت بعيد أن الراهبات العاديات والكبيرات لا يصلحن لجمع المال. ولقاء ثقتها قلت لها إن للممرضة الشابة ذات المظهر الجذاب حظا أكبر بكثير من العادية باستجابة مرضاي لها، والممرضة المتجهمة لا يمكن أن تكون ممرضة ناجحة. وهؤلاء الراهبات اللواتي لا يعرفن إلا القليل عن العالم بصورة عامة، يعرفن الكثير عن الطبيعة البشرية. وكن من النظرة الأولى يعرفن من هو المحتمل أن يضع شيئا ما في صندوق التبرعات. وأخبرتني هؤلاء الراهبات أن الشباب يعطون عادة أكثر من الكبار، أما الأطفال يا حسرة! نادرا ما يعطون أي شيء إلا إذا أمرتهم بذلك ممرضاتهم الإنجليزيات. والرجال يعطون أكثر من النساء، والمشاة أكثر من الناس الجالسين في عرباتهم. كان الإنجليز زبائنهم المفضلين، ثم جاء الروس. وكان السياح الفرنسيون قلة حولهم. كان الأميركيون والألمان أشد كراهية للتخلي عن أموالهم، والطبقة العليا من الإيطاليين كانت لا تزال أسوأ، لكن الفقراء الإيطاليين كانوا كرماء. ولم تكن الشخصيات الملكية ورجال الدين من جميع الجنسيات في العادة زبائن جيدين جدا. كانت العناية بالرجال العجائز المئة والخمسين إجمالا تجري بسهولة، ولم تكن كذلك حال المئة والخمسين من النساء العجائز اللواتي كن دائما في شجار وعراك، الواحدة مع الأخرى. ولم تكن الغراميات الدرامية نادرة الحدوث بين الجناحين في المأوى، حين كان على الراهبات الصغيرات أن يخمدن النيران الكامنة تحت الرماد في أفضل شكل من فهمهن المحدود.
كان مسيو ألفونس الشخص المدلل في الملجأ، وهو أصغر فرنسي يمكن أن تراه، ويعيش خلف ستارة مزدوجة زرقاء في زاوية العنبر، وفيه كاملا ستون سريرا. لم يكن أي من الأسرة الأخرى مزودا بستارة، وقد منحوا مسيو ألفونس وحده هذا الامتياز لأنه أكبر من في الملجأ. هو بنفسه قال إنه في الخامسة والسبعين، وتعتقد الراهبات أنه فوق الثمانين، لكني من معاينة حالة شرايينه، كنت أرى أنه ليس بعيدا عن التسعين. كان قد أتى إلى هناك منذ عدة سنوات، ومعه حقيبة يد صغيرة ومعطف بال وقبعة رسمية، وما من أحد يدري من أين جاء. كان يمضي أيامه وراء الستائر في عزلة صارمة عن جميع النزلاء الآخرين، ولم يكن يظهر إلا أيام الأحد وهو يتهادى ذاهبا إلى الكنيسة، والقبعة السوداء في يده. وما من أحد يعلم ما كان يفعل وراء الستائر طوال اليوم. وقالت الراهبات إنهن لما كن يجلبن له طبق الحساء أو فنجان القهوة، وهذا امتياز آخر، يرينه جالسا في سريره دائما وهو يقلب حزمة من الأوراق في حقيبته القديمة أو يمسح قبعته بالفرشاة. وكان مسيو ألفونس خصوصيا جدًّافي استقبال الزوار. وكان عليك أن تنقر أولا على الطاولة الصغيرة الموضوعة إلى جانب سريره. وسيقوم عندئذ بوضع أوراقه كلها في الحقيبة بحرص ويغلقها، ثم ينادي بصوته الحاد: "ادخل، يا سيد!" ثم يدعوك بتلويحة اعتذارية من يده أن تجلس بجانبه على السرير. يبدو لي أنه كان يستمتع بزياراتي وسرعان ما أصبحنا صديقين حميمين. وقد خابت جهودي في أن أعرف شيئا من حياته الماضية، وكل ما عرفته أنه فرنسي، إنما ليس علي أن أقول باريسي. لم يكن ليتكلم بكلمة إيطالية، ويبدو أنه لا يعرف أي شيء عن روما، حتى إنه لم يزر القديس بطرس، لكنه ينوي أن يذهب إلى هناك في أحد الأيام القادمة، حالما تتاح له فرصة. وقالت الراهبات إنه لن يذهب إلى هناك أبدا، ولن يذهب إلى أي مكان، مع أنه كان قادرا تماما أن يعدو إلى حيثما يريد. والسبب الحقيقي الذي يضطره للمكوث في الملجأ أيام الخميس، وهو يوم خروج الرجال، هو اهتراء قبعته الرسمية ومعطفه القديم من جراء مسحهما الدائم بالفرشاة حتى لا يمكن إصلاحهما.
ولما جعلته يجرب ارتداء قبعة مليونير بتسبورغ ومعطف الفراك الجديد، آخر زي أميركي، كان يوما لا ينسى، وقد فتح آخر حجرة في حياة مسيو ألفونس، وربما أسعدها. وقد نزلت راهبات العنابر جميعا، وحتى الأم الكبرى، إلى باب المدخل يوم الخميس التالي لوداعه وهو يخطو داخل عربتي الأنيقة ڤكتوريا، رافعا بوقار قبعته الرسمية لمعجبيه.
وتضاحكن ونحن ننطلق بالعربة: "كم هو أنيق! يبدو كلورد إنجليزي!" مضينا في الكورسو وتجولنا قليلا حول بنسيو قبل أن نتوقف في ميدان اسبانيا حيث كان مسيو ألفونس مدعوا للغداء معي.
وبودي أن أرى وجه الرجل الذي يستطيع أن يقاوم الإغراء في أن يجعل هذه الدعوة فرصة دائمة كل خميس، لكي يواصل مراقبة ذلك. فعند الساعة الواحدة تماما في كل خميس من ذلك الشتاء، كانت عربتي الڤكتورية تضع مسيو ألفونس في 26 من ميدان اسبانيا. وحين تبدأ استشاراتي بعد ساعة، كانت ترافقه آنا إلى العربة التي تنتظره للقيام بجولته المعتادة حول البنسيو. وتتوقف بعدئذ نحو نصف ساعة في مقهى أراغنو حيث كان يجلس مسيو ألفونس في الركن المحجوز ليتناول فنجان قهوته وصحيفته "الفيغارو" في هيئة سفير عجوز. وخلال نصف ساعة أخرى من الحياة المجيدة من التجوال بالعربة في الكورسو، متطلعا بلهفة إلى بعض معارفه في ميدان اسبانيا ليرفع لهم قبعته الرسمية. ويختفي بعد ذلك من جديد وراء ستائره الزرقاء حتى الخميس التالي حين يبدأ بمسح قبعته مع الفجر، وفق ما تقوله الراهبات الصغيرات. وبين حين وآخر يأتي صديق أو اثنان للمشاركة في حفلة الغداء وسط بهجة غامرة تنتاب مسيو ألفونس. وما زال أكثر من واحد منهم يتذكره بالتأكيد. ولم يكن لدى أي منهم أقل شك في معرفة من أين جاء. وإلى جانب ذلك، كان يبدو أنيقا ورشيقا جدًّافي معطفه الفضفاض الجميل وقبعته الجديدة التي كان حريصا جدًّاعلى ألا تفارقه حتى وهو على المائدة. لم أكن أدري ماذا أجعل من مسيو ألفونس، وقد انتهيت إلى اعتباره دبلوماسيا متقاعدا. صار جميع أصحابي يخاطبونه بـ"سعادة السفير"، وكانت آنا تدعوه بشكل دائم "صاحب السعادة"، ويا ليتك ترى وجهه! ومن حسن الحظ أنه كان أصم إلى أبعد حد، وكان الحديث بشكل عام محدودا بكلمات مهذبة حول البابا أو حول الريح الشرقية الحارة. وكنت على أية حال أرهف النظر والسمع على كل ما يجري، وأنا جاهز للتدخل في أية لحظة لإبعاد دورق الشراب أو أهب لنجدته من أي سؤال محرج أو حتى أكثر من ذلك، إذ كنت أعفيه من جواب مربك بعد كأسه الثانية من الفراسكاتي. كان مسيو ألفونس ملكيا متحمسا، وهو مستعد للإطاحة بالجمهورية الفرنسية بأي ثمن. وكان يتوقع الخبر في أي يوم من مصدر موثوق جدًّا للعودة إلى باريس في أي لحظة. وكنا على أرض آمنة حتى الآن، وكنت أسمع كثيرا من الفرنسيين يلغون الجمهورية. لكن حين بدأ يتحدث في شؤون عائلية، وجب علي أن أكون حذرا جدًّا مخافة أن يذيع سر ماضيه الذي كان حريصا على كتمانه خارج الحقيبة. ولحسن الحظ كان صهره دائما يحذرني في الوقت المناسب: "صهري نائب العمدة". وكان مفهوما ضمنا بين أصدقائي وبيني أن نبعد الدورق ولا نسمح بقطرة إضافية من الخمر تصب في كأس مسيو ألفونس حالما تذكر تلك الشخصية السرية.
وأتذكرها تماما، كان النحات الأميركي الشهير والدو ستوري، وهو صديق حميم لمسيو ألفونس، يتغدى معنا في ذلك الخميس. وكان مسيو ألفونس في حالة نفسية منكسرة ويثرثر بطريقة غير عادية. وقبل أن ينهي كأسه الأولى من الفراسكاتي، راح يستشير والدو حول تجهيز جيش من جنود غاريبالدي السابقين لاجتياح فرنسا والانقضاض على باريس للإطاحة بالجمهورية. وكل ما في الأمر أنها ليست إلا مسألة مال، إن خمسة ملاييين فرنك ستكون فائضة، وهو نفسه راغب أن يدفع مليونا إذا ساءت الأمور.
وخطر لي أنه تورد نوعا ما، وشعرت أن صهره لم يكن بعيدا. أعطيت والدو الإشارة المعتادة لئلا يعطيه قطرة واحدة من الخمر.
أطلق ضحكة خافتة: "صهري نائب العمدة..".
وتوقف فجأة وأنا أدفع الدورق بعيدا عن متناول يده، وتطلعت إلى طبقه كما اعتاد أن يفعل حين يكون مغتاظا نوعا ما.
قلت: "لا بأس، هنا كأس أخرى من الخمر نخب صحتك، وأنا آسف أن أزعجك، ولتسقط الجمهورية! ما دمت تريدها هكذا".
وأمام دهشتي لم يمد يده إلى كأسه. ظل ساكنا تماما يحدق في طبقه. كان ميتا.
ما من أحد كان يعرف أفضل مني ماذا يمكن أن يعني لمسيو ألفونس ولي، لو أني اتبعت السبيل المعتاد وأرسلت في طلب الشرطة حسب القانون وقيام ضابط الطب الشرعي بفحص الجثمان بعد الوفاة، وتدخل القنصلية الفرنسية، وأخيرا سرقة الشيء الوحيد الذي يملكه الميت، وهو سر ماضيه، ولم يكن ذلك أقل شيء. أرسلت آنا لتخبر الحوذي بأن يجهز حصان العربة، لأن مسيو ألفونس أصيب بنوبة إغماء، وسآخذه إلى البيت بنفسي. وبعد خمس دقائق كان مسيو ألفونس جالسا بجانبي في العربة في زاويته المعتادة، وقبة معطف مليونير بتسبورغ الفضفاض تتدلى على عينيه، وقبعته السوداء تنسدل عميقا على جبينه كما كانت عادته. كان يبدو تماما كما اعتاد أن يظهر، إنما كان يبدو أصغر بكثير مما كان في الحياة، وهذا ما يفعله الموتى جميعا.
"عبر الكورسو؟" سأل الحوذي.
"نعم، بالطبع عبر الكورسو، إنها جولة مسيو ألفونس المفضلة".
كانت الأم الكبرى قلقة في بادئ الأمر، لكن وثيقة "الموت بالسكتة القلبية" بإمضائي والمؤرخة في البيت جعلت الأمر على ما يرام مع إجراءات الشرطة. وفي المساء كان مسيو ألفونس موضوعا في تابوته مع حقيبته كوسادة لرأسه الهرم ومفتاحها ما زال في شريطه حول عنقه. ولا تسأل الراهبات الصغيرات أي سؤال لا عن الأحياء ولا الموتى. وكل ما يرغبن بمعرفته عن هؤلاء القادمين إليهن بحثا عن ملجأ هو أنهم عجائز وجائعون. وما تبقى هو من شأن الله ولا يعنيهن أو يعني أي شخص آخر. وهن يعرفن تماما أن كثيرا من نزلائهن يعيشون ويموتون بينهن بأسماء مستعارة. أردت أن أدعه يأخذ معه قبعته المحبوبة في التابوت، لكن الراهبات قلن إن ذلك لا يجوز. وقلت إني آسف، كنت أشعر أنه يحبها بالتأكيد.
* *
أوقظوني في إحدى الليالي على رسالة ملحة من الراهبات الصغيرات المشرفات على الفقراء بأن آتي حالا. كانت عنابر المبنى الضخم كلها مظلمة ساكنة، لكني سمعت الراهبات يصلين في الكنيسة الصغيرة. وأوصلوني إلى غرفة في مساكن الراهبات حيث لم أدخلها من قبل قطّ. وكانت تستلقي على السرير راهبة، ما تزال شابة، وكانت شاحبة الوجه كالوسادة تحت رأسها، وعيناها مغلقتان ونبضها يصعب الإحساس به. إنها الأم العامة للراهبات الصغيرات المشرفات على الفقراء والتي وصلت في ذلك المساء من نابولي وهي في طريق عودتها إلى باريس من جولة تفقد حول العالم. كانت في خطر موت وشيك من مرض عضال في القلب. لقد وقفت إلى جانب أسرة ملوك وملكات ورجال مشهورين ساعة حياتهم كانت بين الحياة والموت، وربما حتى في يدي. لكن لم أشعر بمسؤولية مهنتي أشد وطأة مما شعرت في تلك الليلة، لما فتحت تلك المرأة عينيها وتطلعت إلي مغمغمة:
"ابذل ما في وسعك، سيدي الطبيب، لأن أربعين ألف فقير يعتمدون علي".
* *
إن الراهبات الصغيرات المشرفات على الفقراء يكدحن من الصباح حتى المساء في عملهن، وهو أجدى شكل عرفته من أعمال الخير، وإن كان لا يقدر حق قدره. لا داعي أن تأتي إلى روما لكي تجدهم، إن الفقر والشيخوخة موجودان في العالم بأسره وكذلك الراهبات الصغيرات المشرفات على الفقراء بسلالهن الفارغة وحصالاتهن الخاوية. ضع ما لديك من ملابس قديمة في سلتهن، لا تهتم بالحجم، فكل المقاسات مفيدة للراهبات الصغيرات المشرفات على الفقراء. ومن الأفضل أن تعطيهن قبعتك الرسمية كذلك، إذا بطل زيها. فهناك في عنابرهن دائما مسيو ألفونس عجوز، مختبئ وراء ستارة زرقاء مزدوجة، وهو منهمك يفرك بالفرشاة قبعته المتهدلة، آخر امتياز باق من الترف الغابر. أرسله يوم فسحته في جولة فرح عبر الكورسو بعربتك الفكتورية الأنيقة. ومن الأفضل لكبدك أن تذهب في نزهة طويلة في الريف مع كلبك. وادعُه الخميس التالي إلى الغداء، فما من مثير لفاقد الشهية أفضل من مراقبة رجل جائع وهو يأكل حتى الشبع. ناوله كأسه من خمر الفراسكاتي حتى تساعده في النسيان، ولكن أبعد عنه الدورق حين يبدأ يتذكر.
ضع بعض مدخراتك في حصالة الراهبات الصغيرات، ولو بنسا واحدا، وصدقني بأنك لن تحقق استثمارا أضمن. وتذكر ما كتبته على صفحة أخرى من هذا الكتاب – إنك تفقد كل ما تدخره لنفسك، وما تعطيه للآخرين سيبقى للأبد. وإلى جانب ذلك، ليس من حقك أن تحتفظ لنفسك بهذا المال، فهو لا يخصك، فالمال لا يخص أحدا هنا إطلاقا. إن المال كله ملك الشيطان الذي يجلس إلى منضدته ليلَ نهار وراء أكياسه من الذهب متاجرا بأرواح البشر. إياك أن تحتفظ طويلا بقطعة النقود القذرة التي يضعها في يدك، تخلص منها حالما تستطيع، وإلا فإن المعدن اللعين سيحرق أصابعك فورا، ويتغلغل إلى دمك، يعمي عينيك، يفسد أفكارك، ويحول قلبك إلى حجر. ضعه في حصالة الراهبات الصغيرات، أو اطرح المادة اللعينة في أقرب بالوعة، إنها المكان اللائق بها! ما الفائدة من تخزين أموالك، وهي ستؤخذ منك بأية حال. إن للموت مفتاحا آخر لخزينتك.
إن الآلهة تبيع الأشياء كلها بسعر عادل، قال شاعر قديم. وكان ينبغي أن يضيف أنهم يبيعون أفضل بضائعهم بأرخص سعر. إن كل ما هو مفيد لنا فعلا يمكن أن يشترى بقليل من المال، وليس هناك ما يعرض للبيع بسعر مرتفع إلا الشيء غير الضروري. إن كل ما هو جميل فعلا ليس معروضا للبيع إطلاقا، لكنه يقدم لنا هدية من الآلهة المخلدين. متاح لنا أن نراقب الشمس تشرق وتغيب، الغيوم تبحر جارية في السماء، الغابات والحقول، البحر، كل ذلك من دون أن نصرف بنسا. العصافير تغرد لنا بلا مقابل، والورود البرية يمكن أن نقطفها ونحن نواصل سيرنا في جانب الطريق. ولا أجرة لدخول رواق الليل المضاء بالنجوم. الفقير ينعم بالنوم أكثر من الغني. وللطعام البسيط مذاق في المدى الطويل ألذ من طعام ريتز. إن اطمئنان العقل وسلامه يزدهران في كوخ ريفي صغير أكثر من القصر الفخم في مدينة. قلة من الأصحاب، قليل من الكتب، وقليل جدًّا فعلا، وكلب هي كل ما تحتاج أن يكون في حوزتك ما دمت تمتلك نفسك. ولكن ينبغي أن تعيش في الريف. إن الشيطان هو الذي خطط بناء أول مدينة، لذلك أراد الله أن يدمر برج بابل.
هل رأيت الشيطان في حياتك؟ لقد رأيته. كان يقف ساندا ذراعيه إلى حاجز نوتردام. كان جناحيه منطويين، وكان رأسه يستريح في راحتي يديه. كانت وجنتاه غائرتين، ولسانه مندلقا بين شفتيه الكريهتين. وكان يتطلع بوقار وتفكير عميق إلى باريس تحت قدميه، جامدا بلا حراك وكأنه من حجر، كان يقف هناك منذ ما يقارب ألف سنة متأملا في المدينة التي كانت اختياره وكانه لا يستطيع أن ينتزع عينيه بعيدا عما كان يرى. أكان هذا هو رأس الشر الذي كان اسمه ذاته يملأني رعبا منذ أن كنت طفلا، زعيم الشر الرهيب في الصراع بين الحق والباطل؟
كنت أنظر إليه باندهاش. وخطر لي أنه كان يبدو أقل شرا مما كنت أتصور، فقد رأيت في حياتي وجوها أسوأ من وجهه. لم يكن في تين العينين الحجريتين بصيص من نشوة النصر، كان يبدو هرما وضجرا، ضجرا من انتصاراته السهلة، ضجرا من جحيمه.
يا لإبليس العجوز المسكين! يوم يقال كل شيء، فربما لم تكن غلطتك تماما أن تتردى الأمور إلى هذا الدرك في عالمنا هنا. وبعد كل شيء، فلست أنت الذي أعطى الحياة إلى عالمنا هذا، ولست أنت الذي أطلق الحزن والموت بين الناس. لقد ولدت بأجنحة ولم تولد بمخالب، إن الله هو الذي جعلك شيطانا وقذف بك إلى جحيمه لتكون القيِّم على ملعونيه. لو كنت تحب شغلك فلا يمكن أن تقف هنا بكل تأكيد منذ ألف سنة في العاصفة والمطر على رأس برج نوتردام. وأنا واثق أن من ولد بأجنحة ليس من السهل أن يكون شيطانا. يا أمير الظلام، لمَ لا تطفئ نار مملكتك في جوف الأرض وتخرج لتستقر بيننا في مدينة كبيرة؟ صدقني، إن الريف ليس مكانا لك – كسيد غني مستقل ولا عمل لك طوال اليوم إلا الأكل والشرب وتخزين أموالك. أو إذا أردت أن تزيد رأس مالك أو تضع يدك في عمل جديد مناسب، لم لا تفتح جحيما آخر للقمار في مونت كارلو أو تشرع في ماخور أو تصبح مرابيا للفقراء أو مالكا لمعرض جوّال من من الوحوش المستباحة التي تتضور جوعا وراء قضبانها الحديد! أو إذا أردت أن تغير الهواء فلمَ لا تذهب إلى ألمانيا لتبدأ مصنعا آخر من أجل أحدث غاز سام! ومن غيرك يستطيع أن يوجه غارته الجوية العمياء على نابولي ويلقي قنبلته المحرقة على ملجأ الراهبات الصغيرات المشرفات على المساكين بين نزلائهن الثلاثمئة من الرجال والنساء العجائز!
لكن هل تسمح لي أن أسألك سؤالا في مقابل النصيحة التي أعطيتك إياها؟ لماذا تمد لسانك بهذا الشكل؟ لا أدري كيف ينظرون إليه في جهنم، لكن مع كل الاحترام لك، فنحن نراه بيننا كعلامة على التحدي وعدم الاحترام. لا تؤاخذني، يا مولاي، لمن تمد لسانك هكذا طوال الوقت؟
--------------------
هذه الملحمة الإنسانية لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
No comments:
Post a Comment