قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة: علي كنعان
الحلقة رقم (29)
XXX
عيد سان أنطونيو
كان عيد سان أنطونيو أعظم أيام السنة في أناكابري. كانت القرية طوال أسابيع في هرج ومرج لإحياء الذكرى المهيبة لقديسنا الراعي. ولقد نظفت الشوارع، وجللت الأحصنة التي ستمر في الموكب بالبياض، وزينت الكنيسة بالستائر والأنسجة المزدانة بالصور الملونة، وجلبت الألعاب النارية من نابولي، واستؤجرت الفرقة من توري أنونسياتا، وهي أهم من كل شيء آخر. كان افتتاح سلسلة الاحتفالات مع وصول الفرقة عشية اليوم العظيم. وقد بدأت الفرقة، قبل أن تجتاز منتصف الطريق عبر الخليج، تصدح بكل ما هي جديرة به، وهي أبعد من أن نسمعها في أناكابري لكنها قريبة بما يكفي، بفضل الريح المواتية، لكي تزعج آذان أهالي كابري في القرية البغيضة أسفل منا. ولدى نزولها في الميناء، نقلت الفرقة وآلاتها الضخمة في عربتين كبيرتين وأخذت إلى أقصى نقطة تم إنجازها في طريق العربات. وكان عليهم أن يتسلقوا في تشكيلات منفصلة الدرجات الفينيقة المنحدرة، وهم ينفخون أبواقهم باستمرار. واستقبلهم تحت سور سان ميشيل وفد من البلدية. كان رئيس الفرقة المرموق في حلته الرسمية، وهي مغطاة بأشرطة ذهبية من الدرجة الممتازة، قد رفع عصاه فواصلت الفرقة دخولها المهيب في أناكابري، وأطفال القرية في مقدمتها، وأعضاؤها يصدحون بأبواقهم وشباباتهم ومزاميرهم بلحن سريع، ويقرعون الطبول والصنوج ويخشخشون الآلات المثلثة بأعلى ما يستطيعون. وقد استمرت حفلة الافتتاح الموسيقية في الميدان المزين كاملا بالأعلام، حتى منتصف الليل، بلا فترة استراحة. ولم ينعم الجنود الإنجليز إلا بقليل من النوم الخالي من الأحلام في ثكنتهم القديمة، وهم راقدون منذ 1806، إذ باغتهم إطلاق الصواريخ الأولى معلنة أن فجر اليوم العظيم قد أطل. وارتفع في الـ 4( 1) صباحا نفير الاستيقاظ عبر القرية صداحا على نحو شهواني في نسيم الصباح الندي. وتلا الكاهن القداس الصباحي في الـ 5 كالمعتاد دائما في الكنيسة، تساعده الفرقة في شرف المناسبة، ومعداتها خاوية. وفي الـ 7 كان الإفطار فنجانا من القهوة السوداء، نصف كيلو من الخبز وجبنة الماعز الطازجة. وفي الـ 8 كانت الكنيسة ممتلئة حتى آخر موضع فيها، الرجال في جانب، والنساء في الجانب الآخر، وأطفالهن نائمون على صدورهن. وكانت الفرقة وسط الكنيسة على منصتها المرتفعة بشكل خاص. وباشر قداس الاحتفال بشجاعة، على ألحان بورجيليسي، اثناعشر قسا من أناكابري في مقاعد الجوقة خلف المذبح العالي، واثقين بالعناية الإلهية والفرقة الموسيقية لتشاركهم في الأداء. وعزفت الفرقة اللحن الإضافي بسرعة عاصفة ومهارة كبيرة، تلقاها المصلون بإعجاب شديد. وفي العاشرة قدم العجوز المسكين دون أنطونيو القداس الكبير من المذبح العالي بأداء انفرادي مؤلم ونغمات احتجاج وصرخات حزن مفاجئة من داخل الأرغن الصغير الذي أبلته فداحة الاستعمال طوال ثلاثة قرون. وفي الـ 11 بدأت من المنبر مراسم إحياء ذكرى سان أنطونيو ومعجزاته، وكل معجزة مصممة ومعدة بشكل مرئي بإيماءات خاصة ولائقة بالمناسبة. الآن( 2) سيرفع الخطيب يديه بوجد صوفي إلى القديسين في السماء، والآن سيشير بسبابته إلى الأرض ليحدد تحتها منازل المحكومين بالهلاك الأبدي. وسيتهاوى الآن على ركبتيه بابتهالات صامتة لسان أنطونيو ويثب فجأة على قدميه مطوحا بنفسه عن المنبر وهو يعاجل ساخرا خفيا بضربة من قبضته. الآن سيحني رأسه بصمت نشوان إلى تراتيل الملائكة السعيدة؛ والآن، وهو ممتقع من الرعب، سيضع يديه على أذنيه لئلا يسمع صرير أسنان الشيطان وصرخات الخاطئين في مراجلهم. وأخيرا، ينكب على وجهه مبللا بالعرق نحو ساعتين من الدموع والشهقات والآثام في درجة حرارة 105 فرنهايت، وسينطرح على أرض المنبر بلعنة رهيبة على البروتستانت. الساعة 12. هياج كبير في الميدان. خرج الموكب! خرج الموكب! الموكب يتقدم. أتىت أولاً مجموعة من الأطفال الصغار، أقرب إلى الرضع، يدا بيد. كان بعضهم يلبس الزي الروماني( 3) الأبيض القصير وله أجنحة ملائكة كأطفال رفائيل المكتنزين. وآخرون عراة كليا ومزينون بأطواق من أوراق الكرمة وأكاليل من الزهر حول جباههم، وكأنهم مفصولون من نقش إغريقي ضئيل البروز. ثم جاءت بنات مريم، صبايا نحيفات طوال في حلل بيضاء وخمر زرقاء طويلة بأوسمة العذراء الفضية على شريط أزرق حول أعناقهن. ثم جاءت التائبات في ثياب سوداء وخمر سوداء، عوانس هرمات حتى اليباس، بقين مخلصات لحبهن الأول، المسيح عيسى. بعدهن جاءت جماعة الإحسان يتقدمها علمها، وتتألف من رجال كبار في مظهر وقور وملابس سوداء قديمة الطراز ومسوح كهنوتية بيضاء من عهد سافونارولا ( 4).
الموسيقا ! الموسيقا !
ثم جاءت الفرقة الموسيقية بملابسها الرسمية وأشرطتها الذهبية من عهد ملوك البوربون في نابولي، يتقدمه رئيس الفرقة المهيب صادحا بكل طاقته بمعزوفة البولكا البوهيمية العاصفة، وقد علمت أنها كانت المقطوعة المفضلة لدى القديس. بعد ذلك، ظهر سان أنطونو منتصبا على عرشه، باسطا يده في هيئة مباركة، وهو محاط بجميع الكهنة بلباس المهرجان والمئات يحيونهم بالمفرقعات. كان رداؤه مغطى بالأشرطة النفيسة ومنقوش بالجواهر وتقدمات النذور، وعباءته من القماش الفخم المقصب كانت مثبته على صدره بمشبك من الياقوت الملون. وكان يتدلى من عنقه سلك من خرز البلور الملون وقد علقت به حلية ضخمة من المرجان في شكل قرن لتحميه من العين الشريرة.
وجئت في أعقاب سان أنطونيو مباشرة، وأنا حاسر الرأس وفتيل الشمع في يدي، أسير بجوار العمدة – وقد منحوني هذا الشرف بإذن خاص من رئيس أساقفة سورينتو. وبعدنا جاء أعضاء المجلس البلدي وقد أراحوهم في ذلك اليوم من مسؤولياتهم الفادحة. ثم جاء وجهاء أناكابري: الطبيب، الكاتب العدل، الصيدلي، الحلاق، بائع التبغ، والخياط. بعدئذ جاء الشعب: البحارة، الصيادون، الفلاحون، وعلى مسافة محترمة منهم كانت جماعتهم من النساء والأطفال. وفي خلفية الموكب كانت تسير بتواضع مجموعة من الكلاب، وزوجان من الماعز وصغيراهما يخبان إلى جانبهما، وخنزير أو اثنان، تحت أنظار أصحابها. وكان المشرفون على الاحتفال والمختارون بعناية، يندفعون جيئة وذهابا على طول الموكب ليحافظوا على نظام المراتب ويضبطوا السرعة، والعصي المذهبة في أيديهم، وعصي الذهب بانتظار القديس. ولما كان الموكب يدور في مسيره خلال الأزقة، كانت تنثر عليه من كل نافذة سلال من الرتم زكي الرائحة، وهو الزهر المفضل لدى القديس. والرتم في الواقع يدعى زهرة سان أنطونيو. وكان يمتد عبر الشارع هنا وهناك حبل من نافذة إلى أخرى، وعند عبور القديس بجانبها تماما، ترى ملاكا ورقيا زاهي الألوان يندفع طائرا عبر الحبل مرفرفا بجناحيه مثيرا بهجة الجمهور الشديدة. وتوقف الموكب أمام سان ميشيل، ورُفع القديس بإجلال ليوضع على منصة منصوبة خصيصا ليستريح عليها قليلا. وطفق رجال الدين يمسحون العرق عن جباههم، واستمرت الفرقة تنفخ آلاتها بقوة كما كانت تفعل منذ أن انطلقت من الكنيسة قبل ساعتين، وبدا القديس في موقفه مفعما بحب الخير بينما تنثر عليه نساء بيتي من النوافذ باقات من الزهر، وباكتشال العجوز يقرع الأجراس من الكنيسة وبلداسار ينزل العلم عن سطح البيت. كان يوما عظيما لنا جميعا، وكان كل شخص فخورا بالشرف الذي أولونا إياه. كانت الكلاب تراقب ما يجري من التعريشة، بسلوك جيد ومهذب كالمعتاد، وإن كانت قلقة إلى حد ما. كانت السلاحف في الحديقة رائقة لكي تفكر مليا في مشاكلها الخاصة، والنمس أكثر انشغالا من أن يستسلم لفضوله. وكانت البومة الصغيرة واقفة على مجثمها تطرف بعينيها نصف المغلقتين، تفكر بشيء آخر. وبما أن بيلي غير مؤمن، فقد حبس في بيت النسناس، ومن هناك واصل جلبة شيطانية، زاعقا بأعلى صوته، يقرع قارورة الماء بطبق الصفيح، ويخشخش سلسلته، ويهز مزلاجه مستعملا أشد اللغات رعبا.
وعدنا إلى الميدان حيث تلقى سان أنطونيو التحية بدوي هائل من المفرقعات ثم أعيد تنصيبه في مزاره في الكنيسة، وعاد أصحاب الموكب إلى بيوتهم لتناول المعكرونة. وجلست الفرقة إلى وليمة قدمتها السلطات تحت عرائش أوتيل براديسو، ولكل رأس نصف كيلو من المعكرونة ومقدار ما يحب من النبيذ. وفي الرابعة، افتتحت أبواب سان ميشيل، وخلال نصف ساعة كانت القرية بكاملها في الحديقة، أغنياء وفقراء، رجالا ونساء وأطفالا ورضعا، مقعدين ومعتوهين، عماة وعرجانا، وأولئك الذين لم يكونوا قادرين على المجيء بأنفسهم، أتوا محمولين على أكتاف الآخرين. لم يكن غائبا إلا القساوسة، مع أن ذلك لم يكن خطأ منهم. كانوا منهكين من طول التجوال فاستندوا بظهورهم إلى مقاعد المرتلين خلف المذبح العالي، ودخلوا في صلوات حارة للقديس أنطونيو، وربما كان القديس أنطونيو ذاته يسمعهم في ضريحه، ولكن من النادر أن يسمعهم أي شخص آخر يمكن أن يلقي بالمصادفة نظرة داخل الكنيسة الخالية. وامتد صف طويل من الموائد، من طرف العريشة إلى طرفها الآخر، وعليها دنان( 5) ضخمة من أجود أنواع نبيذ سان ميشيل. وكان باكتشال العجوز وبلداسار والمعلم نيكولا منهمكين في العمل وهم يعيدون ملء أقداح الخمر، وكانت جيوڤانينا وروزينا وإليزا يتجولن بينهم ليقدمن السجائر للرجال، والقهوة للنساء، والكعك والحلوى للأطفال. أما الفرقة الموسيقية، وقد أعيرت لي بعد الظهر بتدبير خاص من السلطات، فقد كانت تصدح بألحانها بلا توقف من الرواق الأعلى. لقد ترامى البيت كله منفتحا، لم يغلق بالرتاج على أي شيء، وجميع مقتنياتي النفيسة كانت مطروحة كالمعتاد في فوضاها الواضحة على الطاولات والكراسي والأرض. وكان أكثر من ألف شخص يتجولون أحرارا من غرفة إلى غرفة، ولم يلمسوا شيئا، ولم يفقد أي شيء. ولما دقت الأجراس السلام المريمي انفض الاستقبال وانصرفوا جميعا ملوحين طويلا بأيديهم، وهم في أسعد حال، وذلك هو السر الذي صنعت الخمر من أجله. ومضت الفرقة، وهي في أبهى لباسها الرسمي، في طريقها إلى الميدان. وكان القساوسة الاثنا عشر قد وقفوا في تشكيل محكم خارج أبواب الكنيسة، بعد أن انتعشوا واستردوا سكينتهم بصلوات المساء لدى سان أنطونيو. وأخذ العمدة والمجلس البلدي والوجهاء مقاعدهم على مصطبة البلدية. التقطت الفرقة أنفاسها وصعد أعضاؤها بأنفسهم وآلاتهم إلى المنصة التي نصبت خصيصا لهم. وقف الشعب في الميدان مرصوصا كالسردين. ورفع رئيس الفرقة المهيب عصاه، وبدأت الحفلة الموسيقية الكبرى: أوبرا ڤيردي ريجوليتو، تروبادور، أوجينوتي( 6)، بيوريتان، رقصة الأقنعة، وتشكيلة مختارة من أغاني نابولي الشعبية، البولكا والمازوركا، والرقصات البطيئة والمرحة في تسلسل متواصل ووقت متزايد باستمرار حتى الحادية عشرة حين انفجر في الهواء كرمى لمجد سان أنطونيو ما يساوي ألفي ليرة من الأسهم النارية والشموع الرومانية ودواليب الهواء( 7) والمفرقعات. وفي منتصف الليل كان المهرجان قد استنزف ولكن ليس أهالي أناكبري والفرقة الموسيقية. لم يذهب أحد إلى السرير، وضجت القرية بالغناء والضحك والموسيقا طوال الليل. يحيا الفرح! يحيا القديس! تحيا الموسيقا !
كان على الفرقة أن تغادر في مركب الساعة السادسة صباحا. وفي طريقها إلى الميناء، توقفت تحت نوافذ سان ميشيل لتعزف كعادتها "سيريناد الوداع" على شرفي. وما زال في إمكاني أن أرى هنري جيمس يطل من نافذة غرفة نومه، وهو يرتج من شدة الضحك في بيجامته. من المؤسف أن الفرقة تناقصت خلال الليل عددا وكفاءة. قائد الفرقة أصيب بهذيان الحمى، واثنان من عازفي المزمار بصقا دما، ونافخ المزمار المزدوج أصيب بالفتاق، وقارع الطبل الكبير خلع عظم كتفه الأيمن، وقارع الصنوج شق طبلتي أذنيه. وعضوان آخران من الفرقة أصيبا بانهيار عاطفي ونقلا إلى الميناء على الحمير. والناجون انطرحوا على ظهورهم وسط الطريق، وهم بآخر أنفاسهم، ليعزفوا لحن الوداع الحزين لسان ميشيل. وبعد أن انتعشوا بفنجان قهوة سوداء، راحوا يجرجرون أقدامهم صامتين ويلوحون أيديهم بمودة وهم يهبطون الدرجات الفينيقية مترنحين إلى الميناء. لقد صار مهرجان سان أنطونيو في خبر كان.
---------------
(1 ) هكذا وردت الساعات (باستثناء العاشرة، موعد القداس) بالأرقام: 4، 5، 7، 8.. 11، 12.. وهي أبلغ وتوحي بالحركة الآلية، وقد آثرت أن أضع أل التعريف قبل الرقم لتستقيم العبارة. (م)
( 2) يكرر الكاتب كلمتي (الآن) في هذه الفقرة و(بعدئذ) في الفقرة التالية، وكأنه يلمح إلى الدقة التقليدية الصارمة في برنامج الاحتفال، ويمكن أن نستشعر بذلك نبرة خفية من السخرية. (م)
(3 ) Tunic.
(4 ) Girolamo Savonarola (1452-1498): كاهن إيطالي اشتهر بدعوته للإصلاح والوقوف ضد الفساد الكنسي. (م)
(5 ) وردت في النص piretti ولم أعثر على معنى لها فاخترت (الدنان) من سياق النص.
(6 )Ughenotti = Uguenot: البروتستنتي الفرنسي.
(7 ) Catherine weels
--------------------
هذه الملحمة الإنسانية لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
No comments:
Post a Comment