أمّا كتاب «البحث عن الزمن الضائع» لــ «مارسيل بروست»، فلقد اقتنيته منذ زمن بعيد، ولكنّه هو الآخر ظل عصيّاً على القراءة، إلى أنْ أهداني صاحبي كتاب «البحث عن الزمن الضائع» مصوّراً، والذي أقدم على ترجمته ونقل هذه المغامرة الجريئة إلى اللغة الإنجليزية «آرثور جولد همر» ووضع رسومه الفنان «ايفين هيوت».
وما أن شرعت بقراءته حتى بدأت «كومبريه» تنفض عن جسدها أثيريته فتخرج جميع أزهار حديقة «بروست» وأزهار السيّد (سوان) ونيلوفر ساقية فيفون الأبيض وسكّان القرية الطيّبون ومنازلهم الصغيرة والكنيسة، وبدأت أتشرّبها كما تشرّبت كعكة (المدلين) الشبيهة بالصدفة شاي بروست وهو يغمسها فيه لتتداعى حياته أمام ناظريه ويستدعيها بقدراته اللغوية والتصويرية الباذخة.
لقد تفتّحت أمامي آفاق بروست، وأصبحت وأنّا أتقدّم في قراءته وأعيدُ ترسيم حدود عوالمه الباريسية وأخلق مجموعة من الصلات بيني وبينها كالقارئ والشبيه الذي ذكره «بودلير» في مقدمة كتابه أزهار الشر، وهنا أذكر مقولته بتصرف (أيها القارئ، يا شبيهي، يا أخي).
فمن بوسعه أنْ يمرّ على مقولة حصيفة وعميقة كهذه ولا ينحني لبروست : (مثل عصفورة يؤرجحها النسيم على خيط نور).
أو قوله: (ولقد أيقنت بعداء الستائر البنفسجية ولا مبالاة ساعة الحائط الوقحة التي كانت تثرثر بصوتٍ عالٍ كما لو لم أكن هناك.)
ثم شرعت في الوقت ذاته بقراءة النصّ العربي الذي ترجمه ياس بديوي وصدر بستة مجلدات عن دار شرقيات، وكان بديوي قد شرع بترجمته منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأصدر منه ثلاثة مجلدات (الثاني والثالث والرابع)، وتوفي قبل أن يتمها. لم ينغّص عليّ متعتي سوى تعسّر مترجمها الذي بذل بلا ريب جهدا عظيما.
ولكن الرواية كُتبت بفرنسية صافية، تتفلّت من أصابع المترجمين كلما حاولوا القبض على حياة النص الداخلية.
إنّه بلا ريب أمر يشقّ على من يريد التصدّي لمثل هذا العمل، والمشقة لا تقتصر على ترجماته العربية فحسب، بل وكذلك ترجماته إلى اللغات الأخرى.
ففي الكتاب الخامس مثلاً، كيف بمقدور المترجم أنْ يتصدى لترجمة جملة واحدة إذا أفردناها على هيئة شريط مستقيم فسيبلغ طولها أربعة امتار؟.
دفعتني هذه الأمور إلى أنْ أجعل لنفسي من عالم «بروست» نصيباً مختلفاً، فقررت بذل ما بوسعي لأتعلم فرنسية بروست في بحثه عن زمنه الضائع ليتسنى لي الاقتراب من مختبره عند تشكّل أولى لحظات خلقه، ولأكون قريبا من طقوس صنعته الخلّابة.
وهو ما سبق لي فعله من قبل مع نصوص حافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي، فلقد أردت مشاركتهم ذات المختبر الذي يُنضّج اللغة والأفكار مما اضطرني إلى تعلّم اللغة الفارسية، وصرت أقرؤهما بلغتهما الأم، وكأنني شريك لهما في برهة الخلق.
عالم «بروست» من العوالم التي لا يخرج المرء منها كما دخلها أول مرة، إنّه عالم ينهض بك أول الأمر قبل أن يعبر إليك بسلاسة ورشاقة.
ولقد انتخبت زمن «بروست» ليختلط بزمني في #مشروع_101_كتاب الأكثر تأثيراً في تاريخ الإنسانية، والذي انتهيت من تلخيض قرابة المئة كتاب منه وأطلقته قبل عام.
No comments:
Post a Comment