ندعوكم للتعرف على حكاية «الْمطَرْبش أَنوَر عليفتشا» من رحلة "بَيروتْ – بِرلينْ – بَيروتْ" لــ "كَامل مُرُّوَه" وهي جزء من مشروعنا #أدب_الرحلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورأيت "مطربشا" يسير مع امرأة محجبة إلى يمينه، ومع فتاة حسناء سافرة إلى يساره، فاستوقفته وقلت له بالفرنسية: هل لك أن تدلني على مطعم؟
ولم يفهم الرجل الفرنسية، فكررت السؤال بالألمانية، ثم بالتركية، ففهم طبعاً، لأنّ كل "بشناقي" يتكلم التركية إلى جانب الكرواتية والصربية، وعلى الأثر سألني الرجل عن هويتي، فما كدت أقول له إنني عربي، حتى طوقني وراح يقبلني، ثم قَدَّمني إلى والدته وزوجه، قائلاً لهما:
- هذا أخ عربي من البلاد المقدسة.
- هذا أخ عربي من البلاد المقدسة.
وأراد الرجل أن يدعوني إلى بيته، فاعتذرت لضيق الوقت، فأصرّ على مرافقتي على الأقل في المدة الباقية، وعلى الأثر أرسل والدته إلى البيت في سيارة، ورافقني هو وزوجه في التجوال. وكنا كلما خطونا بضع خطوات التقينا بأحد معارفه، فيقدمني إليه قائلاً:
- هذا أخ عربي من الديار المقدسة.
- هذا أخ عربي من الديار المقدسة.
وينضم الصديق إلينا، حتى أصبحنا نسير في شبه مظاهرة. وكان كل منهم يلقي عليّ سؤالاً عن العرب وعن بلادهم، ويتلهفون لسماع الأنباء عنا. وقد أدهشني سعة إطلاعهم على شؤون بلادنا، بينما نجهل وجودهم.
وانتهى بنا المطاف إلى مطعم فخم، وكان عددنا يتجاوز العشرين بين شباب وفتيات، وانتشرنا على مائدة طويلة. وقد أدهشني أن يكون الطعام طليقاً من كل قيد في كرواتيا، وأن يتمتع الإنسان بما شاء من المآكل، بينما يعيش الألمان على بعد عشرين كيلومتراً فقط من زغرب في ضائقة وكرب.
"عربي وأبيض؟"… لو سألت أن أحصي كم مرة أُلقي عليّ هذا السؤال أثناء غربتي في أوروبا، وفي البلقان بصورة خاصة، لما استطعت. فكل بلقاني تعرفت إليه كان يبادرني بهذا السؤال.
لقد سبق لي أن تعرضت لهذا الموضوع، وأعود الآن إليه بمناسبة وصولي إلى زغرب والعودة إلى إلقاء ذلك السؤال.
وفي أثناء الدعوة نهض الداعي –واسمه أنور عليفتش– وأعرب عن سروره وسرور إخوانه بهذه الصدفة التي جمعتهم بعربي، ثم غمزني بعينه وقال "بعربي… أبيض". وعلى الأثر نهضت وألقيت كلمة شكرت فيها حفاوة الإخوان، ثم تبسّطت في الحديث عن العرب، فكانت دهشة السامعين عظيمة عندما سمعوني أقول إنّ العرب بيض وليسوا سوداً، وإنّ مدينتنا –حتى في وضعها الراهن– تبز المدنية الأوروبية في عدة نواح.
ولعل السبب الرئيسي في جهل أوروبا الوسطى والبلقان للعرب هو إحجام العرب عن زيارتها.
فبينما يتردد العرب من مختلف ديارهم إلى إنكلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يندر أن يزور أحدهم البلقان، لذلك يجهل البلقانيون عنّا كل شيء إلا ما تنقله إليهم الأفلام الأميركية من صور مُشَوَّهة عن العرب والحياة العربية.
وإنني أنصح الذين يزورون أوروبا للاستجمام واللهو أن يزوروا أثينا وصوفيا وبوخارست وبلغراد وبودابست بدلاً من باريس ولندن، فيجدوا في العواصم البلقانية من أسباب التسلية والترفيه عن النفس ما لا يجدون في أي مكان آخر.
ولا ننسى أن البلقان يشبه بلادنا شبهاً غريباً، فهو مزيج من الغرب والشرق، وإن كان جوهره شرقياً أكثر مما هو غربي. ولا ننسى أيضاً أن البلقان ظل أربعمائة سنة خاضعاً للحكم التركي، وكان خالياً قبل ذلك من أي طابع ثقافي، فترك فيه الترك طابعهم، وهو طابع مستوحى بصورة إجمالية من الثقافة العربية.
والواقع أن كل أثر شرقي ظل في البلقان هو عربي الأصل. ويسهل على العربي طبعاً ملاحظة هذا الأثر، ولكن البلقاني بات يعتقد مع مرور الزمن أنه أثر تركي.
ومع أن البلقان مجاور لأوروبا الوسطى وبصورة خاصة لإيطاليا وألمانيا، ومع أن ألمانيا هي أكبر دولة صناعية في العالم وأغناها بالإنتاج الصناعي، فإن الرقي الآلي في البلقان لا يبزّنا في شيء.
بيد أن الخطوة الاجتماعية التي خطاها البلقان واسعة جداً. والخلاصة فإن البلقان هو تتمة طبيعة الشرق في اتجاه الغرب، والغرب في اتجاه الشرق، وفيه يجد الشرقي –كالغربي– ما يرضيه ويطيب له.
في الساعة السابعة والنصف غادرنا المطعم قاصدين إلى المحطة في شبه مظاهرة. وكان يرافقني زهاء ثلاثين شخصاً على الأقل، وأنا الذي دخل زغرب لساعتين خلتا وحيداً فريداً.
No comments:
Post a Comment