قطعة سكر في فنجان «مهاجراني»
في الساعة السادسة مساءً، إستقبلتُ «عطاء الله مهاجراني» الذي بدا مُتهللَ الوجه، وبصحةٍ جيدة، فرحبتُ به، وسألته: ما الذي تعكف عليه الآن؟
فقال: فرغتُ من تفسير «سورة يوسف» وأعمل الآن على «سورة الكهف»، ثم أخرج كتاباً من حقيبته الجلدية -التي تنم هيئتها عن أستاذ مشغول بالدرس والمحاضرة، أو عن طالب العلم الذي يكمن عميقاً في هذا الرجل-، كان كتاباً من قرابة 700 صفحة لـ «أوُرهانْ باموك»، الروائي التركي، الحائز على نوبل بعنوان (غرابة في عقلي)، والتي يستعير عنوانها من بيت في قصيدة الشاعر الإنكليزي «ويليام ووردزوورث» يقول فيه «كان ثمة غرابة في عقلي، وشعور لا يعود إلى ذلك الزمان، ولا إلى ذلك المكان»، وفيها يرصد «باموك» حبه لمدينته، برغم تناقضاتها وانقلاباتها المتعددة على ذاكرتها من خلال بائع اللبن والأرز والبوظة المتجول، وخصوصاً في الشوارع الخلفية حيث يكمن تاريخ مختلف، وآمال، وأحلام مختلفة، وتشتمل الرواية على شبكة واسعة من الحبْكات، والشخصيات، التي تتقاطع في متن النص الروائي.
وقال لي: «أرجو أن تغفر لي بعض التظليلات والخطوط التي رافقت قراءتي للكتاب، فلقد عكفت عليه ثلاثة أسابيع دون أن يصرفني عنه شيء»..، وأثنى عليه كثيراً.
فقلت في نفسي: إنّ تظليلات «عطاء الله» وخطوطه ليست سوى غنيمة مضاعفة، فالهديّة أولاً كتاب لــ «أروهان باموك»، الذي لم يسبق لي أن أطلعت عليه من قبل، وثانيا هو منمنم بروح عطا الله متمثلة في تلك السطور التى ظللها بنفسه.
قدمنا له الشاي الإيراني الذي أعده جلال (الطاهي الإيراني)، فإستساغه عطاء الله وتناول منه عدة أقداح، ثم قال وهو يذيب قطعة سكر في شايه: «هناك مشهد في فيلم (أحمر) للمخرج "كريستوف كيسلوفسكي"، وتظهر فيه الممثلة "جولييت بينوش" وهي تذيب قطعة سكر في قهوتها. ثم قال إن المخرج قام بتصوير تلك اللقطة لعدة أيام بالرغم من أنها لا تستغرق سوى ثوان معدودات لا تزيد على الخمس.
فتذاكرنا الشاي تحت جسر «زينرود» في مدينة أصفهان، وقلت له: كذلك الشاي في صحراء الجزائر يتبعون فيه نظام الثلاث كؤوس ويكون مرّا قليلاً وهو ما يميز طعم الشاي الإيراني والجزائري.
ثم تطرقنا الى الحديث عن تجربة (الشاي) فى مدينتي بشار وبسكرة.
فيما بعد، ذهبت أنا الدؤوب على تقصي المعرفة أبحث عن لقطة قطعة السكّر حتى وجدتها في فيلم ( أزرق )، وهو الجزء الأول من ثلاثية Three Colors Trilogy، وأنتج في عام 1993 ، وأنتج بعده ضمن ذات الثلاثية فيلم أبيض وختمها بفيلم أحمر، وقرر كيسلوفسكي الاعتزال بعد فيلمه الأخير، وشعر بالرضا أن يترك فنه من أجل القراءة والتدخين. حسب تعبيره.
وتوفي بعد ذلك بسنتين، ولم يكن قد تجاوز السادسة والخمسين من عمره.
أما اللقطة فكانت تصور فينوش مع حبيبها الذي يعرض عليها العودة وكانت في حالة صدود عنه بعد أن دعته بنفسها إلى إعادة الصلة به بعد وفاة زوجها وابنها في حادث سير، إلا أنها لم تعد تجد في نفسها القدرة على الصمود أكثر.
وعندما رمت قطعة السكر في القهوة أراد المخرج الذي إختبر عددا لا يحصى من قطع السكر مكعباً يذوب بسرعة لا تزيد على أربع أو خمس ثوان.
فالمشهد بالنسبة له لم يكن يحتمل أن يزيد على ذلك، وعند تجريبه لأنواع من السكر وجد أن هناك سكراً يتشرب القهوة في ثمانية ثوان وقد تبلغ 11 ثانية.
فمكث أياماً في التجريب حتى عثر على قطعة تتشرب القهوة في خمس ثوان. عندها فقط صور المشهد.
كان هذا المخرج الفذّ يريد أن يشتمل المشهد على لحظة توحد مع قطعة السكر، فبينوش لم تكن تريد من العالم أكثر من هذه القطعة، وكان في الخلف ينبعث لحن مذوّب كالسكّر لم يكن بوسعنا أن نتبينه، فحملها اللحن الى رجل يقتعد جانبا من الطريق، فسألته "بينوش" وقد إستعذبها اللحن: لمن تعود هذه الموسيقى؟ فقال هذه ألحان أنجزتها من وحي الخاطر، وهنا أراد المخرخ القول أنّ الأشياء التي يشترك فيها الناس كافّة كتذويب قطعة السكّر أو الإنجذاب للحن شجّي لدليل على وحدة البشر في السلوك والمآرب، ما أروع «عطاء الله مهاجراني»، لقد منحني فرصة أخرى لمشاهدة هذا الفيلم بوعي جديد.
#محمد_أحمد_السويدي
#مهاجراني
No comments:
Post a Comment