الأحد ، 13- مارس 2016. .
من هدريان إلى القابضين على الهواء .. مشاهدات في إيطاليا -
مقال لــ.
ترى هل دار في خلد هذا البنّاء العظيم كم من القرون وكم من العظماء سيأتى على صرحه هذا، وهل كان يدري عندما سئل: لم لا يخلّد إسمه على أي من أعماله العديدة؟ فأجاب: سيكون ذلك مبعث سعادتي، ولكنني أكثر سعادة في نسبتها إلى المؤسسين الأوائل الذين لهم الفضل في ترسيخ دعائم الإمبراطوريّة. هل كان "هدريان" يعلم أن هذا القول ستحفظه القرون؟
بقية المقال اضغط هنا:
http://www.alhayat.com/…/من-هدريان-إلى-القابضين-على-الهواء-…
المقال ـــــــــــ
إنّ كان ثمّة مكان يحتلّ الصدارة في قائمة الأماكن التي ينبغي عليك زيارتها في إيطاليا، فهو مبنى الآلهة (البانثيون) واسطة عقد روما وأحسن بناء احتفظ بشكله من أبنية العالم القديم، والذي لا تحتاج إلى الكثير من الوقت لتصبح مسكوناً بجماله. إن السير بضع خطوات في رواقه والدخول في فراغه يشعرك بمتعة غامرة تتخطى حدود العصور. هنا يختزل التاريخ ألفَيْ عام من الزمان بكل التفاصيل، ويزدحم أعلام ارتبط عبورهم بالمكان أو تردد حديثهم عنه بكثافة: هدريان، أنطونيوس، ماركوس، لوكيوس، دافنشي، مايكل أنجلو، رافائيل، جوته، قائمة ليس لها نهاية.
الكلمات المنقوشة على مدخل صرح البانثيون «شيّده ماركوس أجريبا بن لوكيوس»، والتي تعزو هذا البناء إلى «أجريبا»، مُضلّلة. فمعبد أجريبا الذي شُيّد في سنة 27 قبل الميلاد، أتى عليه حريق روما عام 80، ثم شَيّد الإمبراطور «دوميتيان» معبداً لعلّه لم يُرضِ «جوبيتر»، إذ أرسل عليه صاعقة من السماء أحرقته عام 110، ثمّ جاء البنّاء العظيم الإمبراطور «هدريان» عام 126، ووضع بنفسه تصميم المكان وأمر بنقل الأعمدة الجرانيتية الكورنثيّة التي تزيّن مدخله، ويبلغ وزن الواحد منها ستين طنّاً. وقد تم نقل تلك الأعمدة من جبل كلوديانوس في شرق صعيد مصر عبر النيل إلى الإسكندريّة، ثم حُملت عبر البحر الأبيض المتوسط إلى ميناء أوستيا في إيطاليا، وبعد ذلك تم نقلها عبر نهر التيبر. ولقد وصف تحفته هذه بقوله: كانت رغبتي أن يحاكي صرح الآلهة هذا عالمنا الأرضيّ والفضاء الكونيّ، فالقبّة السماويّة تكشف السماء من خلال بؤبؤ ضخم يبيّن اختلاف الليل والنهار. إن هذا الصرح المفتوح والمغلق بطريقة غامضة في آنٍ بمثابة ساعة شمسيّة، ودائرة السقف التي صقلتها أيدي الحرفيين الرومان المهرة تشكّل ساعاتها؛ هناك يستقرّ قرص الشمس معلّقاً مثل درع من ذهب. وما إن حلّ عام 609 حتّى وهب الإمبراطور «فوكاس» الصرح ودرعه إلى البابا «بونيفيس» الرابع الذي كرّسه للقدّيسة مريم وكلّ الشهداء. وفي 663 انتزع الإمبراطور البيزنطي «كونستانس» الثاني بلاط السقف الذهبي وصفائح الذهب التي تزّين الأبواب. وفي القرن الرابع عشر صار سوقاً للدواجن، وفي 1632 أذاب «أوربان» الثامن بقايا أروقة المعبد البرونزيّة لصنع المظلّة المرفوعة فوق المذبح العالي في كنيسة القدّيس بطرس. واعتقدت العامّة في القرون الوسطى أن المبنى كان مسكوناً بأرواح شرّيرة، وأن مريم البتول هي التي طردت الشيطان، الذي ضاق ذرعاً بالحبس حتّى فرّ من فتحة السقف. وقال مايكل أنجلو الناقد الحذر في فن المعمار عام 1500م عندما شاهده لأول مرّة: «هذا من صنع الملائكة». وقام بايرون بتدبيج قصيدة رائعة فيه، وكتب هنري جيمس لأخته بعد أن شاهده أول مرّة، بأنه مبعث أسى كلّ من ليس وثنيّاً. واختاره رافائيل مكاناً لمثواه الأخير، وتبعه سائر ملوك إيطاليا. ولمّا رآه جوته فتن به وقال: ترى كيف يتسنى لنا، نحن الصغار، المعتادين على الصغار، أن نضارع مثل هذا الكمال السامي؟
ترى هل دار في خلد هذا البنّاء العظيم كم من القرون ستأتي على صرحه هذا؟ وكم سيشهد من العظماء؟ وهل كان يدري عندما سئل: لم لا يخلّد اسمه على أي من أعماله العديدة؟ فأجاب: سيكون ذلك مبعث سعادتي، ولكنني أكثر سعادة في نسبتها إلى المؤسسين الأوائل الذين لهم الفضل في ترسيخ دعائم الإمبراطوريّة. هل كان «هدريان» يعلم أن هذا القول ستحفظه القرون؟ كان هدريان أحد أعظم الأباطرة الخيّرين كما أسماهم «ميكافيللّي»، عندما لاحظ الأخير أن الأباطرة الذين وصلوا إلى العرش من طريق التبنّي هم أفضل شأناً من أولئك الذين وصلوا إليه من طريق الوراثة. كان «أغسطس» يرى أن الولايات توابع لإيطاليا تفيد منها مالاً وثراء، وكان يحكمها حكماً صالحاً لتدر الخير على إيطاليا. أما هدريان فلم يعد يرى روما جابية الضرائب لإيطاليا، بل كانت الحاكم المسؤول عن دولة يستمتع كل جزء من أجزائها بقسط من عناية الحكومة مكافئ لما تستمتع به سائر الأجزاء. لقد رأى هدريان قبل موته الدولة كلها بعينيه وجمع شتاتها ووحدها، وكان قد وعد أنه: «سيدبر شؤون هذه المجموعة من الأمم تدبير من يدرك أنها ملك الشعب لا ملكه الخاص»؛ وقد أنجز ما وعد.
خبز وزيت
إنّ تكبّد عناء السفر إلى «ليجوريا» في إيطاليا لتناول قطعة من الفوكاشيا أعدّتها يدا أنبري (عنبر) هو عناء قليل... إذا ما قورن بمتعة مذاق الخبز، إنّه خبز الآلهة.
أما الفوكاشيا فهي خبز اشتقّ اسمه من لفظ الموقد، وهو في شمال إيطاليا يوازي البيتزا في الجنوب، والاختلاف بينهما في التخمير؛ ففي الأولى تبقى الخميرة مدّة أطول فيصير الخبز قابلاً للتشرّب بزيت الزيتون، بينما يبقى السطح أصلب في الثانية. والفوكاشيا مشهورة في الشمال، وألذّها تلك التي تعدّ من الطحين الصافي. وتفتخر ريكّو بإعداد أطيب الفوكاشيا، وخصوصاً في مطعم مانيولينا الذي كنّا ضيوفه. أمّا اسم المطعم فهو اسم السيّدة التي عاشت في هذه القرية عام 1885، وكانت تعدّ لمن ألمّ بها ذلك الخبز مع جبنة السترانسينو الطيّبة، خصوصاً أولئك الذين فاتتهم وجبة العشاء أو طرقوا بابها بعد منتصف الليل.
والسترانسينو من أجبان الشمال الإيطالي الفاخرة، ويصنعونها من حليب البقر بعد عودته من أعالي جبال الألب، وقد كدّه التعب فينتج حليباً دسماً تشوبه حموضة. وتعتبر «ليجوريا» عقداً واسطته جنوة المشهورة بالتقتير والبخل، ولها ذراعان: شمالي متّصل بالريفيرا الفرنسيّة، وجنوبي ينتهي عند بورتو فينيري. ومن أشهر قراها «راباللو» و»ريكّو». وإذا يمّمت لوجوريا... عرّج على ريكّو وأقرئ عنّا مانيولينا السلام، وتذوق أطيب فوكاشيا تخرج من الفرن ساخنة كدموع العاشقين.
مطعم «جاكومو أرنكاريو»
هرباً من سياط برد يناير ولسعات زمهرير الشولة، دلفنا إلى مبنى متحف الـ 900 بواجهاته الزجاجية العملاقة وأطلقنا العنان لأقدامنا في صعود لولبيّ على درج مطعم «جاكومو أرنكاريو»، واخترنا طاولة تطلّ على ساحة «دومو» في ميلانو. ولعلّ في ميلانو واحدة من الغرائب التي لا يمكن أن تعثر عليها في مكان آخر، فهي عاصمة إقليم لامبارديا في الشمال الإيطالي، وتقع في قلب وادي البو في وسط الطريق إلى نهر البو جنوباً والبحيرات وجبال الألب شمالاً، إلا أنها تُعدّ أكبر سوق تتركّز فيه تجارة السمك في إيطاليا، فيؤتى إليها بالسمك من كلّ بحرٍ وفجّ عميق قبل أن يوزّع على المدن الإيطالية الأخرى.
وأنت في ميلانو، لا يفوتنّك العجل الميلاني المسمّن برفاهية، والمهدى إليهم من النمسا، أو الرز بالزعفران، وهو ضرب من الرز لا يشاركها به أحد، فهو يُزرع في تيمونتي وتمونتوا، ويساوي وزنه ذهباً وهو الأمر الذي يتمدّد خارج المجاز اللغوي، عندما يُقدّم إليك متوّجاً بشريحة من الذهب.
كانت الحياة تدب في ساحة دومو التي نواجهها بوجل يليق ببرد يناير الذي يعرف طريقه إلى مسالك الجسد فيهزّه هزًّا عنيفاً وكأنه يُذوِّب بعضاً من جسمه فيه، أو يوزّع جسمه في جسوم كثيرة تشكّل ماراثون البرد الميلانيّ. في هذا المطعم طلبنا طبق التونة ترتار، وسلطة القباب والأفوكاتو ولحمة الفيسوني، وهو عجل عرفت الرفاهية طريقها إلى لحمه فصار لا يحتاج إلا لثلث ما تحتاجه اللحوم الأخرى من وقت لينضج.
تبادلنا حديثاً مع نادل طاولتنا (دانييل)، كان يقدم ساقاً ويؤخر أخرى ويداه تصفّ الأطباق عندما حانت لحظة قال فيها: إنه من برج الميزان، ثمّ عدّل طبقاً آخر على الطاولة قبل أن يسحب يده ويردف قائلاً: إنه برج الباشوات. وصمت لبرهة قبل أن تنفجر إحدى الجالسات معنا بضحكة مدويّة لم تتمكن من حبسها، فانطلقت من عقال فمها حتى أرسلت عيناها الدموع. أردت أن أتبيّن السبب في هذا الضحك الذي لا يبدو أنها ستكفّ عنه، خصوصاً بعد أن بدأت كلماتها تصلنا مقطّعة الأوصال وكأنها في قيامة غير منجزة، فقالت زميلتها: إنها تقول: إذا كنت يا دانييل من برج الباشوات حقاً، فما عليك إلا أن تثبت ذلك بعمل خصم على فاتورة الحساب.
لقد عمل دانييل في بقاع وجغرافيات تتوزّع مشارق الأرض ومغاربها، ولم يبقَ له من باشويته سوى الميزان، فقلت: لعلّ الجوزاء كانت تسكن قبة السماء حينما وُلد، فانحرف عنه المجد.
قال أحد الأصدقاء لدانييل وقد تساءل ما الذي يدعو إلى كلّ هذا الضحك: إنّ صديقتنا الضاحكة تسألك إن كنت مستعداً لتخصم من فاتورة الحساب على ما درجت عادة الباشوات؟. عندها رمقنا دانييل وتنقّل ببصره هنا وهناك، ثم أدار لنا ظهره من دون أن ينبس بكلمة واحدة، وخاصمنا خصاماً عتيداً كخصام الباشوات.
إلى ليجوريا
ليجوريا حيث السحران الماري والمونتي (البحر والجبل)، وما بينهما الريفيرا الإيطاليّة، وهي أصغر مقاطعات إيطاليا العشرين. فإذا كانت جنوة واسطة العقد، فبورتو فينو هي لؤلؤة الغوّاص، كانت في ما مضى قرية صغيرة نائية، واليوم هي محط رحال أثرياء إيطاليا وسياسيّيها، في فندق «السبلنديدو» حيث يطل عليك من الجدران أشهر نجوم هوليوود في الخمسينات: ليزا مانيلي، وهمفري بوغارت، وشارلتون هيستون، وديفيد نيفن، وغيرهم. ومن هناك يمكنك الحصول على أجمل إطلالة على البحر. وأمّا الطريق المفضي إلى الفندق فطالما قطعناه سيراً، غادين من راباللو أو رائحين إلى سانتا مارغريتا ليجور، في أجمل النزهات على ضفاف البحر. وإذا كانت بورتو فينو الغنيّة بالأسماك والأصداف والقواقع تنصب الكثير من مطاعمها فخاخاً للسيّاح الأجانب الذين لا يميّزون بين غثّ الوجبات من سمينها، فأطباقها الذائعة الصّيت متوافرة في الصفوة من مطاعمها المخبوءة بين الأزقّة، والتي لا يهتدي إليها الاّ الضالعون في تقصّي ما تجود به قرائح الطهاة الطليان. وحسبك ماريو الأسد، الذي كان ينفث سحره في مطعم «باتّي» حيناً من الدهر. إن طبق السلطان إبراهيم «رد مالوت»، مع زيتون «تاجاسكا» المحلّي الشهير والباذنجان، يؤذّن في الناس ليحجّوا إلى ليجوريا من كل فجّ عميق.
من هدريان إلى القابضين على الهواء .. مشاهدات في إيطاليا -
مقال لــ.
ترى هل دار في خلد هذا البنّاء العظيم كم من القرون وكم من العظماء سيأتى على صرحه هذا، وهل كان يدري عندما سئل: لم لا يخلّد إسمه على أي من أعماله العديدة؟ فأجاب: سيكون ذلك مبعث سعادتي، ولكنني أكثر سعادة في نسبتها إلى المؤسسين الأوائل الذين لهم الفضل في ترسيخ دعائم الإمبراطوريّة. هل كان "هدريان" يعلم أن هذا القول ستحفظه القرون؟
بقية المقال اضغط هنا:
http://www.alhayat.com/…/من-هدريان-إلى-القابضين-على-الهواء-…
المقال ـــــــــــ
إنّ كان ثمّة مكان يحتلّ الصدارة في قائمة الأماكن التي ينبغي عليك زيارتها في إيطاليا، فهو مبنى الآلهة (البانثيون) واسطة عقد روما وأحسن بناء احتفظ بشكله من أبنية العالم القديم، والذي لا تحتاج إلى الكثير من الوقت لتصبح مسكوناً بجماله. إن السير بضع خطوات في رواقه والدخول في فراغه يشعرك بمتعة غامرة تتخطى حدود العصور. هنا يختزل التاريخ ألفَيْ عام من الزمان بكل التفاصيل، ويزدحم أعلام ارتبط عبورهم بالمكان أو تردد حديثهم عنه بكثافة: هدريان، أنطونيوس، ماركوس، لوكيوس، دافنشي، مايكل أنجلو، رافائيل، جوته، قائمة ليس لها نهاية.
الكلمات المنقوشة على مدخل صرح البانثيون «شيّده ماركوس أجريبا بن لوكيوس»، والتي تعزو هذا البناء إلى «أجريبا»، مُضلّلة. فمعبد أجريبا الذي شُيّد في سنة 27 قبل الميلاد، أتى عليه حريق روما عام 80، ثم شَيّد الإمبراطور «دوميتيان» معبداً لعلّه لم يُرضِ «جوبيتر»، إذ أرسل عليه صاعقة من السماء أحرقته عام 110، ثمّ جاء البنّاء العظيم الإمبراطور «هدريان» عام 126، ووضع بنفسه تصميم المكان وأمر بنقل الأعمدة الجرانيتية الكورنثيّة التي تزيّن مدخله، ويبلغ وزن الواحد منها ستين طنّاً. وقد تم نقل تلك الأعمدة من جبل كلوديانوس في شرق صعيد مصر عبر النيل إلى الإسكندريّة، ثم حُملت عبر البحر الأبيض المتوسط إلى ميناء أوستيا في إيطاليا، وبعد ذلك تم نقلها عبر نهر التيبر. ولقد وصف تحفته هذه بقوله: كانت رغبتي أن يحاكي صرح الآلهة هذا عالمنا الأرضيّ والفضاء الكونيّ، فالقبّة السماويّة تكشف السماء من خلال بؤبؤ ضخم يبيّن اختلاف الليل والنهار. إن هذا الصرح المفتوح والمغلق بطريقة غامضة في آنٍ بمثابة ساعة شمسيّة، ودائرة السقف التي صقلتها أيدي الحرفيين الرومان المهرة تشكّل ساعاتها؛ هناك يستقرّ قرص الشمس معلّقاً مثل درع من ذهب. وما إن حلّ عام 609 حتّى وهب الإمبراطور «فوكاس» الصرح ودرعه إلى البابا «بونيفيس» الرابع الذي كرّسه للقدّيسة مريم وكلّ الشهداء. وفي 663 انتزع الإمبراطور البيزنطي «كونستانس» الثاني بلاط السقف الذهبي وصفائح الذهب التي تزّين الأبواب. وفي القرن الرابع عشر صار سوقاً للدواجن، وفي 1632 أذاب «أوربان» الثامن بقايا أروقة المعبد البرونزيّة لصنع المظلّة المرفوعة فوق المذبح العالي في كنيسة القدّيس بطرس. واعتقدت العامّة في القرون الوسطى أن المبنى كان مسكوناً بأرواح شرّيرة، وأن مريم البتول هي التي طردت الشيطان، الذي ضاق ذرعاً بالحبس حتّى فرّ من فتحة السقف. وقال مايكل أنجلو الناقد الحذر في فن المعمار عام 1500م عندما شاهده لأول مرّة: «هذا من صنع الملائكة». وقام بايرون بتدبيج قصيدة رائعة فيه، وكتب هنري جيمس لأخته بعد أن شاهده أول مرّة، بأنه مبعث أسى كلّ من ليس وثنيّاً. واختاره رافائيل مكاناً لمثواه الأخير، وتبعه سائر ملوك إيطاليا. ولمّا رآه جوته فتن به وقال: ترى كيف يتسنى لنا، نحن الصغار، المعتادين على الصغار، أن نضارع مثل هذا الكمال السامي؟
ترى هل دار في خلد هذا البنّاء العظيم كم من القرون ستأتي على صرحه هذا؟ وكم سيشهد من العظماء؟ وهل كان يدري عندما سئل: لم لا يخلّد اسمه على أي من أعماله العديدة؟ فأجاب: سيكون ذلك مبعث سعادتي، ولكنني أكثر سعادة في نسبتها إلى المؤسسين الأوائل الذين لهم الفضل في ترسيخ دعائم الإمبراطوريّة. هل كان «هدريان» يعلم أن هذا القول ستحفظه القرون؟ كان هدريان أحد أعظم الأباطرة الخيّرين كما أسماهم «ميكافيللّي»، عندما لاحظ الأخير أن الأباطرة الذين وصلوا إلى العرش من طريق التبنّي هم أفضل شأناً من أولئك الذين وصلوا إليه من طريق الوراثة. كان «أغسطس» يرى أن الولايات توابع لإيطاليا تفيد منها مالاً وثراء، وكان يحكمها حكماً صالحاً لتدر الخير على إيطاليا. أما هدريان فلم يعد يرى روما جابية الضرائب لإيطاليا، بل كانت الحاكم المسؤول عن دولة يستمتع كل جزء من أجزائها بقسط من عناية الحكومة مكافئ لما تستمتع به سائر الأجزاء. لقد رأى هدريان قبل موته الدولة كلها بعينيه وجمع شتاتها ووحدها، وكان قد وعد أنه: «سيدبر شؤون هذه المجموعة من الأمم تدبير من يدرك أنها ملك الشعب لا ملكه الخاص»؛ وقد أنجز ما وعد.
خبز وزيت
إنّ تكبّد عناء السفر إلى «ليجوريا» في إيطاليا لتناول قطعة من الفوكاشيا أعدّتها يدا أنبري (عنبر) هو عناء قليل... إذا ما قورن بمتعة مذاق الخبز، إنّه خبز الآلهة.
أما الفوكاشيا فهي خبز اشتقّ اسمه من لفظ الموقد، وهو في شمال إيطاليا يوازي البيتزا في الجنوب، والاختلاف بينهما في التخمير؛ ففي الأولى تبقى الخميرة مدّة أطول فيصير الخبز قابلاً للتشرّب بزيت الزيتون، بينما يبقى السطح أصلب في الثانية. والفوكاشيا مشهورة في الشمال، وألذّها تلك التي تعدّ من الطحين الصافي. وتفتخر ريكّو بإعداد أطيب الفوكاشيا، وخصوصاً في مطعم مانيولينا الذي كنّا ضيوفه. أمّا اسم المطعم فهو اسم السيّدة التي عاشت في هذه القرية عام 1885، وكانت تعدّ لمن ألمّ بها ذلك الخبز مع جبنة السترانسينو الطيّبة، خصوصاً أولئك الذين فاتتهم وجبة العشاء أو طرقوا بابها بعد منتصف الليل.
والسترانسينو من أجبان الشمال الإيطالي الفاخرة، ويصنعونها من حليب البقر بعد عودته من أعالي جبال الألب، وقد كدّه التعب فينتج حليباً دسماً تشوبه حموضة. وتعتبر «ليجوريا» عقداً واسطته جنوة المشهورة بالتقتير والبخل، ولها ذراعان: شمالي متّصل بالريفيرا الفرنسيّة، وجنوبي ينتهي عند بورتو فينيري. ومن أشهر قراها «راباللو» و»ريكّو». وإذا يمّمت لوجوريا... عرّج على ريكّو وأقرئ عنّا مانيولينا السلام، وتذوق أطيب فوكاشيا تخرج من الفرن ساخنة كدموع العاشقين.
مطعم «جاكومو أرنكاريو»
هرباً من سياط برد يناير ولسعات زمهرير الشولة، دلفنا إلى مبنى متحف الـ 900 بواجهاته الزجاجية العملاقة وأطلقنا العنان لأقدامنا في صعود لولبيّ على درج مطعم «جاكومو أرنكاريو»، واخترنا طاولة تطلّ على ساحة «دومو» في ميلانو. ولعلّ في ميلانو واحدة من الغرائب التي لا يمكن أن تعثر عليها في مكان آخر، فهي عاصمة إقليم لامبارديا في الشمال الإيطالي، وتقع في قلب وادي البو في وسط الطريق إلى نهر البو جنوباً والبحيرات وجبال الألب شمالاً، إلا أنها تُعدّ أكبر سوق تتركّز فيه تجارة السمك في إيطاليا، فيؤتى إليها بالسمك من كلّ بحرٍ وفجّ عميق قبل أن يوزّع على المدن الإيطالية الأخرى.
وأنت في ميلانو، لا يفوتنّك العجل الميلاني المسمّن برفاهية، والمهدى إليهم من النمسا، أو الرز بالزعفران، وهو ضرب من الرز لا يشاركها به أحد، فهو يُزرع في تيمونتي وتمونتوا، ويساوي وزنه ذهباً وهو الأمر الذي يتمدّد خارج المجاز اللغوي، عندما يُقدّم إليك متوّجاً بشريحة من الذهب.
كانت الحياة تدب في ساحة دومو التي نواجهها بوجل يليق ببرد يناير الذي يعرف طريقه إلى مسالك الجسد فيهزّه هزًّا عنيفاً وكأنه يُذوِّب بعضاً من جسمه فيه، أو يوزّع جسمه في جسوم كثيرة تشكّل ماراثون البرد الميلانيّ. في هذا المطعم طلبنا طبق التونة ترتار، وسلطة القباب والأفوكاتو ولحمة الفيسوني، وهو عجل عرفت الرفاهية طريقها إلى لحمه فصار لا يحتاج إلا لثلث ما تحتاجه اللحوم الأخرى من وقت لينضج.
تبادلنا حديثاً مع نادل طاولتنا (دانييل)، كان يقدم ساقاً ويؤخر أخرى ويداه تصفّ الأطباق عندما حانت لحظة قال فيها: إنه من برج الميزان، ثمّ عدّل طبقاً آخر على الطاولة قبل أن يسحب يده ويردف قائلاً: إنه برج الباشوات. وصمت لبرهة قبل أن تنفجر إحدى الجالسات معنا بضحكة مدويّة لم تتمكن من حبسها، فانطلقت من عقال فمها حتى أرسلت عيناها الدموع. أردت أن أتبيّن السبب في هذا الضحك الذي لا يبدو أنها ستكفّ عنه، خصوصاً بعد أن بدأت كلماتها تصلنا مقطّعة الأوصال وكأنها في قيامة غير منجزة، فقالت زميلتها: إنها تقول: إذا كنت يا دانييل من برج الباشوات حقاً، فما عليك إلا أن تثبت ذلك بعمل خصم على فاتورة الحساب.
لقد عمل دانييل في بقاع وجغرافيات تتوزّع مشارق الأرض ومغاربها، ولم يبقَ له من باشويته سوى الميزان، فقلت: لعلّ الجوزاء كانت تسكن قبة السماء حينما وُلد، فانحرف عنه المجد.
قال أحد الأصدقاء لدانييل وقد تساءل ما الذي يدعو إلى كلّ هذا الضحك: إنّ صديقتنا الضاحكة تسألك إن كنت مستعداً لتخصم من فاتورة الحساب على ما درجت عادة الباشوات؟. عندها رمقنا دانييل وتنقّل ببصره هنا وهناك، ثم أدار لنا ظهره من دون أن ينبس بكلمة واحدة، وخاصمنا خصاماً عتيداً كخصام الباشوات.
إلى ليجوريا
ليجوريا حيث السحران الماري والمونتي (البحر والجبل)، وما بينهما الريفيرا الإيطاليّة، وهي أصغر مقاطعات إيطاليا العشرين. فإذا كانت جنوة واسطة العقد، فبورتو فينو هي لؤلؤة الغوّاص، كانت في ما مضى قرية صغيرة نائية، واليوم هي محط رحال أثرياء إيطاليا وسياسيّيها، في فندق «السبلنديدو» حيث يطل عليك من الجدران أشهر نجوم هوليوود في الخمسينات: ليزا مانيلي، وهمفري بوغارت، وشارلتون هيستون، وديفيد نيفن، وغيرهم. ومن هناك يمكنك الحصول على أجمل إطلالة على البحر. وأمّا الطريق المفضي إلى الفندق فطالما قطعناه سيراً، غادين من راباللو أو رائحين إلى سانتا مارغريتا ليجور، في أجمل النزهات على ضفاف البحر. وإذا كانت بورتو فينو الغنيّة بالأسماك والأصداف والقواقع تنصب الكثير من مطاعمها فخاخاً للسيّاح الأجانب الذين لا يميّزون بين غثّ الوجبات من سمينها، فأطباقها الذائعة الصّيت متوافرة في الصفوة من مطاعمها المخبوءة بين الأزقّة، والتي لا يهتدي إليها الاّ الضالعون في تقصّي ما تجود به قرائح الطهاة الطليان. وحسبك ماريو الأسد، الذي كان ينفث سحره في مطعم «باتّي» حيناً من الدهر. إن طبق السلطان إبراهيم «رد مالوت»، مع زيتون «تاجاسكا» المحلّي الشهير والباذنجان، يؤذّن في الناس ليحجّوا إلى ليجوريا من كل فجّ عميق.
No comments:
Post a Comment