Thursday, March 21, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 10 - قضية سالتاريللي





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

10- قضية سالتاريللي
أألاعيب حب إفلاطوني أم عاطفة حقيقية؟ السؤال الذي يدور حول لوحة جنيفرا يقترب الآن أكثر من قصة حياة ليوناردو. 
وفي بداية أبريل 1476 تم نشر إدانة من مجهول في واحد من الظروف الموضوعة حول المدينة لهذا الغرض والمعروفة باسم tamburi  أي [الطبول]، أو بشكل أكثر تصويرية جحور الحقيقة [buchi della vertia]. وقد نجت نسخة موثقة من هذا الإعلان ضمن سجلات مكتب العدل- ضباط الليل والمحافظين على الأخلاق من الأديرة الذين كانوا يحرسون ليل فلورنسا، بيد أنّه يجوز وصفهم أيضاً بإدارة الآداب. وقد كان فحواه كالتالي: 
إلى ضباط مجلس الشعب. إنني أشهد هنا بأنَّ جاكوبو سالتاريللي أخ جيوفاني سالتاريللي، يقيم معه في متجر صائغ في فاكيرشا مقابل الحفرة، كان في زيِّ أسود اللون، وفي السابعة عشرة من عمره أو نحوها. ويعقوب هذا يمارس عدد من الأنشطة المنافية للأخلاق ويعمل على إرضاء أولئك الأشخاص الذين يطلبون منه فعل أمور محرمة. فقام بهذا الأسلوب بكثير من الافعال إلى حد أنّه قدم مثل هذه الخدمات إلى عشرات الأشخاص الذين أعرف عنهم قدراً كبيراً من المعلومات، وفي الوقت الراهن أسمِّي بعضهم. وهؤلاء الرجال مارسوا اللواط مع جاكوبو المذكور وأنا مستعد لأداء القسم. 

لقد سمّى المخبر أربعة من عملاء أو شركاء جاكوبو المزعومين وهم: 
بارتولوميو دي باسكينو، صائغ يعيش في فاكيروشا.
* ليوناردو دي سير بيرو دا فينشي، يعيش مع أندريه ديل فيروكيو.
باكينو صانع السترات، يعيش قرب أورسان مايكل، في ذلك الشارع بجانب متجرين كبيرين لجزّ الصوف والمؤدي إلى رواق آل سيركي، وقد افتتح متجراً جديداً للبزات.
ليوناردو تورنابوني، والمعروف أيضاً بسم "إل تيري"، يرتدي زياً أسود اللون.
وقد دونت عبارة "absolute cum conditione utretamburen-tur". وهذا يشير إلى أنهم كانوا طلقاء لحين إتمام التحريات حولهم، وأنّه قد تم إلزامهم بحضور المحكمة عند استدعائهم. وقد مثلوا أمام المحكمة بعد ذلك الإعلان بشهرين، في السابع من يونيو. ويبدو أنَّ القضية المرفوعة ضدهم قد أسقطت رسمياً.   
وقد تم نشر هذه الوثيقة الفضائحية أول مرة في عام 1896، ولكن من المؤكد أنّ أمرها كان معروفاً قبل ذلك التأريخ، ففي الجزء الرابع من توثيق فازاري لحياة ليوناردو والمنشورة في عام 1879، أشار جايتانو الميلانيّ إلى "تُهم معينة" ضد ليوناردو، ولكنه أحجم عن ذكر ماهيتها. جان- بول ريختر، وأشار غوستافو إوزيللي، بالطريقة ذاتها إلى جريمة غير محددة: أسماها إوزيللي "إشاعة ماكرة". وعندما نُشر الشجب أخيراً من قبل نينو سميراجليا سكوناميغليو، كان يتألم وهو يقول إنَّ ليوناردو كان "فوق الشبهات" بخصوص المسألة، وكان " بعيداً عن أي شكل من أشكال الحب المخالف لقوانين الطبيعة"  
وتبدو فترة الإنكار هذه غريبة منذ فرويد، والدراسات التي تلته مثل إيروس و ليوناردو لغيوشيبا فوماغالي ، فترة الإنكار الأولى هذه تبدو غريبة. فاليوم أصبح مقبولاً وعلى شكل واسع أنَّ ليوناردو كان ذا ميول جنسية مثلية. على الأقل كان أحد كاتبي سيرته الأوائل، جيوفاني باولو لوماتسو صريحاً بهذا الشأن: ففي كتابه أحلام وأفكار لعام 1564،  تخيّل الحوار التالي بين ليوناردو وفيدياس، النحات العظيم من العصور القديمة. يسأل فيدياس ليوناردو عن واحد من "تلاميذه المفضلين":
فيدياس: هل سبق لك أن شاركته أبداً تلك "اللعبة الخلفية" التي يعشقها الفلورنسيون كثيراً؟
ليوناردو: مراتٍ كثر! يجب أن تعلم أنّه كان شاباً غاية في الجمال، خاصة وهو يقترب من سن الخامسة عشر.
فيدياس: ألا تشعر بالخزي عندما تتحدث عن ذلك؟
ليوناردو: كلا. لم عليّ أن أشعر بالخزي؟ فهذا مدعاة للفخر إلى حد كبير بين الأعيان... 
ويشير لاماتسو بالتحديد إلى علاقة ليوناردو مع تلميذه الميلانيّ غياكومو كابروتي، والمعروف باسم "سالاي". كان فازاري أكثر تكتماً، ولكن وصفه لسالاي يؤدي إلى الفكرة ذاتها: " لقد كان جميلاً ومليحاً فوق العادة، وله شعر مجعّد محبب كان ليوناردو يعشقه." الصفة التي استخدمها فازاري- vago: أي مليح، وسيم، فاتن، تحمل معنىً يشير إلى الأنوثة. ويسير غيره من الرجال اليافعين خفية بطريقة توحي بالمثلية الجنسية- صبيٌ يدعى باولو، شاب صغير اسمه فيورافانتي: سوف نلتقي بهؤلاء لاحقاً. وبينما يُرجح أنَّ احتواء دفاتر رسم  ليوناردو على رجال عراة لا يخرج عن إطار التقليدية، ولكن بعضها يعبر بصراحة عن شهوانية مثلية. وأوضح مثال على ذلك هو ما يعرف بالملاك المتجسد والذي يظهر بانتصاب كامل. (انظر صفحة 468). وهذا الرسم بالمقابل يتعلق بلوحة يوحنا المعمدان المحفوظة في اللوفر، وعلى الأرجح آخر لوحاته: دراسة تذوب شعراً لرجل شاب يظهر عليه التخنث، ويسترسل شعره في تجعيدات " يعشقها" هو في سالاي، وهي إحدى ثوابت عمله منذ أول لوحاته في مرسم فيروكيو في بدايات سبعينيات القرن الخامس عشر.   
يود البعض أن يحفظوا الميول الجنسية لليوناردو في هذه الوضع الشاعري الأبوي للملائكة الصغار المتمايلين مشكلي الجنس، ولكن يتعين عليهم أن يتنافسوا مع تلك المستندات مثل الصفحة 44 من مخطوطة أرونديل، والتي هي نوع من قوائم الكلمات التي تحتوي على مفردات مجانسة للمفردة cazzo، وهي لفظة مبتذلة تدل على القضيب؛ أو الرسم في واحدة من كراسات فورستر التي أطلق عليها كارلو بيدريتي لقب إل كازو في كتابه (القضيب الراكض)، أو النسخة التي تمت استعادتها مؤخراً من جزء من مخطوطة أتلانتكس، ويظهر فيها قضيبان، ذوا رجلين فأصبحا يبدوان مثل الحيوانات الكارتونية، يوميء أحدهما بأنفه على نحو دائري، أو شكل حفرة، وفوقه تظهر خربشة لاسم "سالاي". والأخير منحوتاً ليس من قبل ليوناردو ولكنه يشير إلى ما صدر من تعليقات تسودها روح الدعابة بين تلاميذه ومتدربيه. 
والمسألة برمتها- في النهاية- مسألة تفسير. ومثلي مثل معظم دارسي ليوناردو اليوم، فأنا أفسره على أنّه مثليّ- بيد أنَّ هنالك دليلاً ما لا يخلو من حرافة، والذي سوف أقوم لاحقاً بإلقاء نظرة عليه، وهو أنّ مثليته هذه ليست محضة. فالتهمة المنسوبة إليه في 1476 معقولة بما يكفي، بيد أنّ هذا لا يعني الجزم بصحتها. 
ماذا يعني أن يكون المرء مثلياً في فلورنسا القرن الرابع عشر؟  من المتوقع أن تكون الإجابة معقدة ومبهمة. فمن ناحية كانت المثلية الجنسية منتشرة بشكل واسع، كما يشير حوار لوماتسو، حيث "اللعبة الخلفية" أو اللواط بشكل أكثر تحديداً يرتبط بمدينة فلورنسا، وقد ذهب الألمان إلى أبعد من ذلك، إلى حد استخدامهم الكلمة Florenzer التي تعني فلورنسي ليشيروا إلى اللواط. وقد كان هنالك تصالح علني في أوساط آل ميديتشي مع المثلية الجنسية: فقد كان عرف عن كل من النحات دوناتيلو، الشاعر بوليزيانو، المصرفي فيلبي ستروتسي أنّهم مثليين. بوتشيللي هو الآخر كان مشهوراً بذلك، وكان مثل ليوناردو محلاً لشجبٍ من مجهول، ومن بين الفنانين المثليين الذين جاؤوا بعدهم كان هنالك مايكل آنجلو وبيفينوتو سيليني. والأخير كان خلطياً نهماً على ما يبدو: فهو يستعيد ذكر فتوحه الجنسية المغايرة باستمتاع في سيرته الذاتية، ولكن في الحقيقة أنّه قد خضع لعقوبة الغرامة في عام 1523 من قبل قضاة فلورنسيين على "الأعمال الفاجرة" مع شخص يدعى جيوفاني ريغوغلي. وقد اتهمه النحات باندينيللي بأنّه "لوطيٌّ قذر"، وأجاب سيليني في زهو: " أتمنى من الله لو أنني عرفت كيف أمارس مثل هذا الفن النبيل، لأننا قرأنا في الكتب أنّ جوبيتر كان يمارسه مع جانيميدي في الجنة، بينما مارسه أعظم الأباطرة والملوك هنا على الأرض.  وهذا الشيء يمس الفكرة ذاتها التي يسقطها لوماتسو في حواره على ليوناردو: أنّ المثلية الجنسية هي "مدعاة للفخر" بين "الرجال المحترمين". 
وهنالك عامل آخر هو هوس الفلورنسيين بالأفلاطونية. فنموذج أفلاطون للحب بين الرجال والصبية كان معروفاً جداً، وقد جاء الكثير حول هذا الموضوع في كتاب فيشينو في الحب، بيد أنَّ فيشينو قد أظهره إلى حد كبير عفيفاً وجنسياً في آن، فمن الواضح أنَّ فكرة الحب "الإفلاطوني" أو السقراطي" خدمت كمسوغ للمثلية الجنسية شائعٌ في ذلك العصر. وقد وجدنا ليوناردو على درجة من القرب لوسط فيشينو: هيئة مقبولة للشهوانية الذكورية المهذبة والتي قد تكون واحدة من جوانب جاذبيته. 
أضفى هذا كله بريقاً جديداً على المثلية الجنسية في فلورنسا سبعينيات القرن الخامس عشر، ولكنها ليست من ذلك النوع الذي يعترف به ضباط آداب الليل. فاللواط كان جريمة كبرى اسمياً، وتستوجب العقوبة (نظرياً ولكن لم يتم تطبيقها على الإطلاق في أغلب الأوقات)، وعقابها الحرق على الوتد. 
ويبين أحد الاستطلاعات الإحصائية التي أجراها مكتب نيابات الليل، أنَّ أكثر من 10.000 رجل قد اتهموا باللواط- خلال فترة خمسة وسبعين عاماً ما بين 1430-1505، أي ما متوسطه تقريباً 130 عاماً. وقد كانت نسبة المدانين منهم واحداً في كل خمسة متهمين. وقد تم إعدام القليل منهم، ونفي البعض الآخر، والوسم أو التغريم، أو الإهانة على الملأ.  إذن فإنَّ رفع العقوبات عن ليوناردو في 1476 لم يكن بالشيء الغريب، ولا كان من قبيل العبث. فهو بدون شك تم اعتقاله على الأغلب، وكان عرضةً لخطر العقوبة الوحشية. فالهوة عميقة بين وجد الحب الإفلاطوني وزنازين اعتقال ضباط الليل. كما أنّ الإدانة كانت تمثل النهاية الحاسمة للاستنكار العام لتلك الجريمة وسط الأغلبية المؤمنة بالله. فقد تم شجب المثلية الجنسية ورفضها بشكل مستمر من المنابر، ولكن لم يصل كل ذلك إلى ما وصل إليه الواعظ برناردينو دي سيينا، الذي حرض المؤمنين على البصق في أرضية سانتا كروس والهتاف " "Al fuco! Bruciate tutti I sodomiti! "إلى النار، أحرقوا جميع السدوميين!". وساءت الأمور بدرجة أكبر في عام 1484، عندما جرّمت إحدى النشرات البابوية المثليين بشدة واعتبرتهم أتباعاً للشيطان: فانحرافاتهم الهرطقية كانت لا تقل عن "ممارسة اللواط مع الشياطين" مثلما كان يقال عن الساحرات. وكان بمقدور متعاطي الأدب منهم أن يقرأوا عن العقوبة الأدبية التي يلقاها المثليون في جحيم دانتي. ففي الدائرة الجحيمية السابعة يوجد " العنف ضد الله، والطبيعة والفن"- وهم على التوالي اللاعنون، السدوميون، والمرابون. فالسدوميون هم "فريق التعساء" (turba grana) أو الحثالة القذرة (tigna brama)، ومدانون بالتسكع والدوران في دائرة لا نهائية في "الصحراء الحارقة".  وكلٌ من دائرتي الصحراء وإكمال النفس ("fenno una rota di se): قد صنعتا من نفسيهما عجلة) وهي صورة من صور العقم، فاللواط محرمٌ- باعتباره تعدياً على الطبيعة- لأنّه غير منتج.  وفي هذه القراءة الدانتوية الأكثر قوة- أكثر منها في هتاف الوعاظ المصابين بفوبيا المثلية- يكمن القلق الحقيقي.
عرف ليوناردو عمل دانتي هذا، واقتبس منه في كراساته. كما قد يكون أيضاً قد تعرف على رسومات بوتيشيلي للملهاة الإلهية- يعود تأريخ أقدم هذه الرسومات على الأرجح إلى سبعينيات القرن الخامس عشر، وقد تم تضمين بعض النقوش المستوحاة منها في طبعة لاندينو لكتاب دانتي، والذي تم نشره في فلورنسا في 1481. ولكننا لا نملك سوى الطبعات الأحدث، والتي صدرت في منتصف تسعينيات القرن الخامس عشر لصالح لورينزو دي بييرفرانشسكو دي ميديتشي،  ولكن صورته للسدوميين العراة المعذبين بالوسم بالنار والمسحوبين في الأنحاء في دائرة مثل سلسلة من عصابة لا حد لها، تنبئنا بمدى الذنب والوعيد الذي قد يكون بانتظار شاب صغير قيد الاعتقال بسبب اللواط. 
هذه هي خلفية الإدانة المقدمة للسلطات في أبريل 1476. ولا نعلم أي شيء حول دوافعه على وجه التحديد ما عدا هذا: فقد كان المقصود بمكيدة الإدانة العلنية هو جاكوبو سالتاريللي، والرجال الأربعة المتهمون بمشاركته الجرم. وقد كان عملاً إجرامياً- أو في أول مراحل الشروع به على أية حال. 
فمن كان جاكوبو سالتاريللي؟ يخبرنا الشخص الذي اتهمه بأنّه كان في حوالي السابعة عشرة من العمر، ولديه أخ اسمه جيوفانني، والذي كان يعيش معه ويعمل في متجر صائغ ذهب على الفاكيروشا. وفي الإقرار الضريبي الفلورنسي وجدنا أنَّ آل سالتاريللي طائفة كثيرة العدد تتركز في منطقة معينة، هي عربة الراية في ميدان الصليب المقدس: ومن العائلات  السبع المدرجة في سجلات عام 1427، هنالك ستة من حاملي لقب الغونافالوني. وأكثر هذه العائلات ثراءً هي عائلة جيوفاني دي رينزو سالتاريللي، والتي قُدرت ثروتها ب 2918 فلورين، وقد ذُكر كفرَّاء أو بائع فرو، وخاصة فرو السناجب الرماديّ المزرق والمسمى فايو vaio. 
وفي عام 1427 كان لجيوفاني سبعة من المكفولين، وفي الجيل اللاحق، أي في تعداد 1457، وجدنا أنَّ ثلاثة من أبنائه، بارتولوميو، وأنطونيو، وبيرناردو، مازالوا يعيشون في الحي ذاته.  ويبدو أنَّ جاوكوبو سالتاريللي كان ينتمي لهذه العشيرة، فإن صح ذلك، فهو الآخر قد نشأ على الأرجح في حي الصليب المقدس، حيث كان ليوناردو يقيم ويعمل. 
ويلاحظ المرء الشدة التي غلبت على هذه الفئة من الإدانات الباروكية ومرجعياتها. وكان يعيش سالتاريللي وباسكينو- اثنان من المتهمين- ويعملان في فاكروشا. ( ولا يتضح من العبارة ما إن كانا يعيشا ويقيما في متجر الصائغ ذاته، أم إلى جواره.) والمخبر هو الآخر من السكان المحليين، لأنَّ المتجر الذي يعمل فيه جاكوبو موصوف كما يبدو للواقف على قبالة تلك الطبول أو الجحور، ويفترض أنّه يعني ذلك الذي أودعه التقرير. فالفاكيروشا شارع قصير وواسع يؤدي إلى الركن الجنوبي الغربي لميدان مجلس الشعب. أي على بعد مربعين شمالي جادة سيماتوري، حيث يعيش متهم آخر هو باكينو صانع السترات. ويبدو أنَّ الإدانة في مستوى جار فضولي أثارت حمية حركة المتهمين المميزة في الجوار. أو ربما كان الجار منافساً لهما. فهنالك متجر آخر للذهب يملكه الفنان أنطونيو ديل بولايولو، فهو يعلن عنه ضمن عدد من "الملكيات الصغيرة" في إقراره الضريبي لعام 1480. ويديره باولو دي جيوفاني سوجلياني، والموصوف باعتباره "رسام ومساعد" بولايولو. 
ومن الجائز أنَّ من قام بتعليق الوثيقة هو سوجلياني، إذ أنّ من شإنها جلب المتاعب على اثنين من الصاغة المنافسين، سالتاريللي وباسكينو، ولفنان منافس، ليوناردو؟ 
استخدام صيغة المجهول في إعلان الإدانة ضد منافسين في العمل، يظل سمة في الحياة الإيطالية إلى يومنا هذا. 

عذابات المثلية الجنسية. تفصيلة من الرسم الإيضاحي للدائرة السابعة من الجحيم في جحيم دانتي، من أعمال بوتشيللي.
ولم يذكر صاحب الإعلان عنوان إقامة أو عمل الرجل الذي يبدو اسمه غريباً في قائمة المذنبين: ليوناردو تورنابوني، أو "إل تيري". ربما لأنَّ كل شخص في فلورنسا يعلم أنّك قد وجدت تورنابوني في قصر تورنابوني، على الشارع الشهير الواسع الذي يمتد من جسر سانتا ترينيتا. وكان آل تورنابوني من أبرز العائلات في المدينة. حلفهم الطويل مع آل ميديتشي كان راسخاً منذ أوائل أربعينيات القرن الخامس عشر من خلال زواج بيرو دي ميديتشي بلوكريزا تورنابوني. وقد كانت موضع إعجاب المؤرخين وكُتَّاب التأريخ: شاعرة وسيدة أعمال حاذقة ورقيقة العاطفة- ذلك النوع من المرأة الفلورنسية التي مهدت الطريق لنساء مثل جنيفرا دي بينشي من الجيل اللاحق. وكان جيوفاني شقيق لوكريزا هو مدير بنك آل ميديتشي فرع روما، ولكنه أيضاً كان ذا صلة بخصوم آل مديتشي القدامى آل بيتي من خلال زواجه بلوكا بيتي ابنة فرانسسكا. وقد كان جيوفاني هو من أمر بإنشاء اللوحات الجصية لغيرلاندايو في كنيسة سانتا ماريا نوفيلا. ويمكن رؤية العديد من آل تورنابوني هنالك، إذ التقطتهم كاميرا غيرلاندايو، وربما كان بينهم ليوناردو تورنابوني. 
كان آل ترونابوني عائلة كبيرة، وليوناردوا هذا لم يكن معروفاً بشكل دقيق، ولكن حقيقة أنّه يمتُّ بصلة قرابة إلى والدة لورينزو دي ميديتشي، قد أضافت بعداً جديداً للمسألة على مايبدو. وقد تساءل البعض عما إذا كانت هنالك أية تقاطعات لتيارات سياسية في العمل. وهل تم القبض على ليوناردو في أي نوع من حملات تشويه ضد ليوناردو تورنابوني، وآل ميديتشي من خلاله؟ ومثلما افتريت على مدير متجر بولايولو، يظل هذا الشيء غير مؤكد. 
الشيء الذي ربما بدا أكثر شبهاً بأنَّ علاقة تورنابوني-ميديتشي قد أضافت بعداً جديداً للتأثير بعد الحادثة: إلى حد أنّه ربما تم الهمس ببعض الكلمات في آذان بعينها لتأكيد أنَّ العلاقة قد تم التعامل معها بسرعة وسرية. فمفردة "تبرئة" المستخدمة بجانب اسم ليوناردو تشير إلى إسقاط التهم التي سيقت ضده. وهي لا تدل على أنّه كان بريئاً منها، ووجود الحماية على الميديتشية على صفحة الاتهام تقوي من احتمالية أنّ نفوذه هو ما كفاه العقوبة وليس براءته.   
ووفقاً للمخبر، فإنَّ جاكوبو سالتاريللي قد كان راضياً في تقديمه لتلك الخدمات الجنسية للعشرات من الأشخاص. وليس من الواضح تماماً ما إذا كان جاكوبو قد مَثُل باعتباره يافعاً مثلياً رديء الأخلاق أم باعتباره بغياً ذكراً. هذا التمييز ليس دقيقاً، ولكنه يبدو مهماً: ليوناردو يرافق محباً أم يزور صبياً بغياً؟ والمسألة برمتها تبدو قمة في الترف: فاكيريشا تعتبر عنواناً فخماً، حيث يعمل سالتاريللي موظفاً بأجر كبير كصبي لصائغ ذهب أو مساعداً له. وهنالك أيضاً تلك اليد الخفية الشائعة جداً في تقارير المخبرين- فهنالك "عشرات" مزعومة من الزوار، ولكن الاسماء والوجوه التي ذكرت تحديداً لا تزيد على أربعة. أربعة عشاق لا يمكنهم أن يجعلوا من صبي مومساً، حتى إن كان يتلقى منهم هدايا بعينها عقب كل لقاء. 
وعندما نشر سميراغليا سكونياميليو الإدانة على الملأ لأول مرة في عام 1896، خيّل إليه أنَّ ليوناردو قد أُتهم ظلماً بسبب استخدامه لساتاريللي- بكل عفوية- كمثال. ويبدو هذا معقولاً دون شك، بيد أننا الآن نقبل حقيقة توجهات ليوناردو المثلية إلى حد أننا نفكر في علاقة الفنان بالمِثال باعتبارها سياقاً أكثر منها تبرئة. واحتمال أنَّ جاكوبو قد خدم ليوناردو كمِثال تدعمه الملاحظة المشفرة التي كتبها ليوناردو، ومن ثم قام بكشطها، على ورقة في مخطوطة أتلانتكس. فالصفحة تعود في تأريخها إلى حوالي عام 1505، والكلمات التي كتبها ليوناردو هي: "Quando io feci domeneddio putto voi mi metteste in prigione, ora s'io lo fo grande voi mi farete pegio"- " عندما رسمت المسيح الطفل وضعتني في السجن، والآن إن رسمته كبيراً سوف تفعل بي ما هو أسوأ."  وهذا أمر يصعب تفسيره، ولكن أحد التأويلات قد تكون أنَّ يسوع الطفل كان عملاً لعب فيه جاكوبو دور المثال؛ وأنّ هذا قد سبب له المشاكل مع سلطات الكنيسة عندما تم وصم جاكوبو بالمثلية الجنسية؛ وأنَّ نوعاً مماثلاً من المشاكل يختمر الآن حول رسم أو نحت يظهر فيه المسيح "راشداً". العمل الوحيد الموجود لليوناردو والذي ينطبق عليه وصف "المسيح الطفل" هو الرأس الفخاري للمسيح الشاب، والذي يعود تأريخه إلى سبعينيات القرن الخامس عشر. هذا هو جاكوبو، بشعره الطويل، وعيناه المسبلتان المتجهتان بنظرهما إلى الأرض، وذلك "الطقس"- بحسب تعبير جيوفاني باولو لوماتسو- "والذي ربما كان من أثر طراوة الشباب، ولكنّه يبدو كبيراً أيضاً".  
وهنالك شاب آخر يفاجئني، وربما ظهرت صورة جاكوبو في إحدى الرسومات بمكتبة بيربونت مورغان في نيو يورك (صفحة 123). وهذا بالتأكيد أحد آثار مجتمع فيروكيو، ولقد نُسِب إلى كلٍّ من فيروكيو وليوناردو. وهو يظهر شاباً ذا وجه غاية في الجمال والاستدارة، وله شعر تلتف خصلاته السميكة في حلقات، وفي شفتيه الممتلئتين بعض امتعاض، إلى درجة أنّهما مع العينين المسبلتين في فتور يضفيان علي مظهره حنقاً وطابعاً من الغرور. والرسم، صورة ثلاثية الأرباع، ذات شبه غريب بعذراء لوحة البشارة لليوناردو، حيث تتميز كلاهما بذات النوع من التقاطع بين الشهوانية المثلية والمواضيع الدينية مثل المسيح الشاب. وفي برلين رسم لفيروكيو على الأرجح يظهر المثال ذاته. وهو الآخر يُنسب إلى ليوناردو، وقد كُتب اسمه بخط جميل في الركن الأيمن الأسفل من اللوحة التي ثُقِّبت للنقل، وربما كانت دراسة مبكرة للملائكة في نصب فورتيغويري، والذي جاء التكليف بتنفيذه في 1476. 
وهو على أية حال من نوع المثال الذي يجلس للفنانين في جادة غيبلينا، ويبدو أنّه قد يوافق إن عرضت عليه "أشياء محرمة" بعينها. 

              رأس فخاري للمسيح شاباً، ينسب إلى ليوناردو
والفكرة تكمن في أنَّ تعليق ليوناردو المحير حول المسيح الطفل، يشير إلى قضية سالتاريللي، ويشير إلى أنَّ إدانة عام 1976 سوف تقود إلى فترة من السجن. وربما كانت أيضاً فترة قصيرة- ليس سوى الاعتقال والاحتجاز من قبل ضباط الليل- ولكنّها ربما تركت أثرها في نفسه. وهي تضيف ميزة معينة إلى بعض البدع الغريبة التي قام ليوناردو برسمها ووصفها لإطلاق سراح الرجال من السجن.   
ولقد وجدت في مخطوطة أتلانتكس- آلة لنزع القضبان عن النوافذ، وأخرى عليها ديباجة تقول " لفتح السجن من الداخل".  (صفحة 147) وتعود بتأريخها إلى عام 1480. وهي بين أولى اختراعات ليوناردو، وربما لها علاقة بتجربة الأسر هذه في 1476، وما زالت في عقله بعد ذلك بثلاثين سنة: " لقد وضعتني في السجن." الحرية- كتب ليوناردو ذات مرة- هي " أهم مواهب الطبيعة" ، وجميع ما نعرفه عنه يشير إلى أنَّ أي نوع من التقييد سواءً أكان جسدياً أم مهنياً أم فكرياً أو عاطفياً حقاً- كان شاقاً عليه.  
فمشكلة سالتاريللي هي الأولى ولكنها ليست الإشارة الوحيدة لمثلية ليوناردو خلال سنواته الأولى بفلورنسا. فهنالك مذكرة مشفرة أخرى يجب أن نضعها في الاعتبار- جاء التشفير بسبب أنّها غير شرعية إلى حدٍ ما- والتي عُثر عليها في صفحة من الرسومات والأشكال في الأوفيزي.  ومن ضمن الرسومات هنالك زوج من الرؤوس، واحد منها ربما كان صورة شخصية قديمة له (انظر صفحة 175). والكتابة مطابقة لخط ليوناردو "العدلي" القديم، ومليئة بالزخارف الملتفة والحلزونية؛ وفي بعض الأجزاء كانت تبدو كما لو أنّه يخربش أو يجرِّب قلماً جديداً. وكتب ليوناردو شيئاً في أعلى الورقة عن رجل شاب يدعى فيورافانتي دي يومينيكو يعيش في فلورنسا. وهي صعبة القراءة، بل وتستحيل تماماً قراءة ما هو مكتوب حيث توجد لطخة في الركن العلوي الأيسر من الورقة. وهكذا قام جي. بي. ريختر بنسخ السطور في عام 1880:
Fioravanti di deomenicho j[n] Firenze e co[m]pere
Amantissimo quant'e mio…

لوحة شخصية بالقلم والحبر لرجل شاب، 1475، من مرسم فيروكيو.
وهو يترجم هذه العبارة إلى: " فيورافانتي دي دومينيكو في فلورنسا، أحب أصدقائي إلى نفسي، كما لو أنّه [أخي]، الكلمة الأخيرة هي تخمين للخربشة غير القانونية في نهاية السطر الأخير. وفي دراسته لليوناردو في عام 1913، يقدم جينس ثيس قراءة أكثر اختلافاً:
Fioravanti di domenicho j[n] Firenze e che aparve
Amantissimo quanto mi e una vergine che io ami
لتصبح الترجمة: " فيورافانتي دي دومينيكو في فلورنسا الشخص الذي يبدو أنّه يحبني جداً. وهو البكر الذي قد أحب." 
يفضل كارلو بيدريتي قراءة ريختر، ولكنه يرى أنَّ السطر الثاني التالي لكلمة "mio" لا يعدو كونه "تعرجات خطية لا معنى لها". ويصعب بالتأكيد حشد كل التفاصيل الدقيقة التي يدعي ثيس أنّه يراها هناك، وعليه فلا يستطيع المرء أن يجزم بأنّ الملاحظة تتجه إلى المثلية العلنية، ولكن من الواضح أنّ ليوناردو كان يحمل مشاعر حميمة للغاية تجاه "محبوبه" فيورافانتي. الصيغة الأبوية القياسية للاسم تنفي أي احتمال للتعرف عليه على الإطلاق.   ومن الجائز أنَّ صفاته أو ملامحه قد سجّلت في صفحة ما من رسومات ليوناردو التمهيدية في فلورنسا، ولكنّه سيظل مبهماً مثل جاكوبو سالتاريللي- ليس وجهاً بل نغمة معينة، أو نزوة. 

------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment