ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
الجزء الأول
الطفولة 1452-1466
الأشياء التي حدثت قبل سنوات طويلة عادةً ما تبدو قريبة وكأنّها قد حدثت للتو، وكثير من الأشياء التي حدثت قريباً تبدو قديمةً كما لو أنّها تجاوزت أيام الصبا.
مخطوطة اتلانتكس، الصفحة 29، الجزء الأول.
1-الميلاد
لم تكن البيئة المحيطة مختلفة جداً قبل خمسمائة عام. لربما جالت عين المرء عندما يقف على سفح التلّة المشرفة على بلدة فينشي التوسكانية الصغيرة كما تفعل الآن فوق منظر طبيعي شكّلته قرون من الزراعة- حقول القصب على طول ضفة النهر، وحقول الكرم الضيقة، والمنازل التي تحيط بها أشجار الظل، وفوقها بساتين الزيتون، بلمعانها الفريد من نوعه عندما يمسها الهواء العليل، متسلقةً إلى السطوح تجاه ذلك الخط الملتوي من الأشجار حيث تبدأ مرتفعات جبل البانو. وقد تغطت المنحدرات في أعلاه بستار كثيف من الغابات: أشجار الصنوبر البري، والغار، والصنوبر التركي، والكستناء الحلو. يصنع المزارعون طحين الكستناء، كما يفعل بعضهم اليوم، شجرة الكستناء كانت تدعى (albero di pane)، أي شجرة الخبز.
وربما كان المشهد أقل بهاءً على الأرجح في ذلك الوقت. فقد اختلفت نسبة الأرض المزروعة إلى الأخرى المقفرة، وكذلك كان نمط ملكية الأرض مختلف جداً. ولكن الصورة كانت في الأساس واحدة: إنّها عملية الترقيع التي يراها المرء اليوم. وفي خِضّم ذلك كله، وعلى سرج ربوة تبدو استراتيجية ومحمية في آن. وقفت فينشي ذاتها، بعنقود مبانيها الحجرية حول البرجين التوأمين للقلعة، والكنيسة. على الصعيد السياسي كانت تمثل القاعدة الأمامية للجمهورية الفلورنسية- وقد كانت ملكاً لفلورنسا منذ 1254، ولفترة تزيد على العقدين من الزمان قبل ذلك كانت ملكاً لكونتات عائلة جيدي، والذي بنى القلعة المعروفة. كانت فلورنسا على بعد مسيرة يوم عن طريق إمبولي ومونتيلوبو. كانت تأتي إلى نافذتك في صورة تلك البلدة الريفية، الزراعية، القروية الهادئة.
منظر لقرية فينشي
هنا ولد ليوناردو دي سير بيرو دا فنشي، في إحدى أمسيات الربيع عام 1452. ويظل المكان بالضبط سواءً أكان ذلك في البلدة أو الريف المتاخم لها غير واضح. كان آل دافنشي عائلة من السكان المحليين مُحترمة، وترتبط مهنياً بفلورنسا، وقد كان لها منزل معيّن في البلدة. ورد وصفه في الكاستاتو أو شهادة تسجيل الأرض لعام 1451 أنّه: " una casa posta nel borgo di vinci" ، وقد كان يقع، بعبارة أخرى، في ذلك الجزء من البلدة الواقع خارج أسوار القلعة مباشرة: أولى ضواحي فينشي في القرون الوسطى. ويرجّح أنّه كان يقع في الجزء العالي من الشارع المنحدر الآن والمسمى طريق روما. وبه حديقة صغيرة تبلغ حوالي ثلاث بواشل في مساحتها. وقد كان الحداد غوستو دي بيترو من ضمن الجيران المباشرين للعائلة، وكاهن الأبرشية بيرو دي بارتولوميو سيشي. ومن الجائز-دائماً - أن يكون ليوناردو قد ولد في هذا البيت، ولكن هنالك مزيج من الافتراضات والروايات التي تنفي هذا الأمر بشدة. فهنالك افتراض بأنّ ولادة طفل غير شرعي، مثلما كان ليوناردو، كانت لتتم بدرجة كبيرة من التكتم في واحد من أملاك العائلة بالريف. كما تزعم الروايات بأنّه ولد في منزل حجري والذي ما زال بالإمكان مشاهدته في انشيانو، وهي قرية صغيرة في التلال على بعد ميلين شمالي البلدة.
المنزل الموجود في انشيانو في صورة تعود إلى عام 1900
أما عمر هذه الروايات فليس معروفاً: وأكثر ما يمكن قوله إنّها كانت متداولة بحلول منتصف القرن التاسع عشر. وقد ذُكرت طباعةً للمرة الأولى بقلم إمانويل ريبيتي عام 1845. وقد أشار إلى منزل في انشيانو باعتباره مكان ولادة ليوناردو المزعوم. وهو يؤكد تواضعه ونموذجيته: a casa colonica، أو منزل فلاح أجير من النوع الشائع في جميع المناطق التوسكانية. وفي وقت لاحق من القرن التاسع عشر صادق غوستاف يوزيللي الباحث العظيم المتخصص في دراسات ليوناردو على هذا التحديد، بيد أنّه علَّق قائلاً بعدم وجود "تأكيد قاطع" لهذا الأمر.
والبيت عبارة عن مسكن من طابق واحد، مبني من الحجر الأصفر-الرمادي. يتكون المبنى الرئيسي من ثلاث غرف بأرضية من الطين، ومجموعة من جذوع الكستناء، ومدفأة من الحجر الكبير. وهنالك مبنى صغير يقع على زاوية قائمة مع هذا المبنى، بفرن للخبز في نهايته. هذان المبنيان يتفقان مع وصف المنزل في المستندات القديمة عبارتي: a casa di signore أي بيت السيد وهو للملّاك لاستخدامه وقتما أرادوا a casa di lavoratori، أي بيت العاملين، وهم المستأجرين الذي عملوا في الأرض ودفعوا أجرتهم من محاصيلها زيتاً أو حبوباً أو نبيذاً، أو فاكهة، أو جبناً أو عسلاً أو خشباً وما إلى ذلك. والهيكل المعماري الذي يتخذ شكل الحرف اللاتيني L يشكّل جانبين من الفناء مفتوحين على الجانبين الآخرين باتجاه الوادي، بيد أنَّ الزراعة البلدية قد أفسدت المنطقة إلى حدٍ كبير الآن. ويبدو أنَّ الجزء الخارجي من المنزل قد أعيد ترميمه بشكل عام، وربما يعرف المرء الكثير من الصورة الباهتة القديمة التي يعود تأريخها إلى حوالي عام 1900، والتي تبين المكان وحالته المبتذلة والتخريب الذي لحق به، بنافذة صغيرة محفورة عبر الواجهة، ومجموعة من النساء بتنوراتهن الطويلة يقفن حول كومة من الأعناب المقطوفة.
وقد كانت هنالك مجموعة كبيرة من الأبحاث الأرشيفية حول المنزل والتي يعود توثيقها إلى بدايات القرن الخامس عشر ومنذ أيام ريبيتي وأوزيللي. وللرواية التي تربطه بليوناردو أساس تأريخي، ماعدا الخطوة الأخيرة والتي تضفي على تحديد مكان ولادته شيئاً من اليقين. فالمنزل يعود بلا شك إلى آل دافنشي- وقد حفرت شارة العائلة على الواجهة- ولكن الحقيقة المُرَّة للأمر أنه لم يكن ضمن ملكيتهم في عام 1452، عند ولادة ليوناردو، فقد تم شراؤه من قبل والد ليوناردو، سير بيرو دافنشي، بعد نيف وثلاثين عاماً، وقد ظل في عهدة العائلة حتى عام 1642، عندما بيع إلى دير فلورنسي من قبل حفيدٍ لأخ ليوناردو غير الشقيق غوغليلمو. وفي وقت ولادة ليوناردو كان المنزل من ملكية كاتب العدل سير توم دي ماركو، وكان يوصف كمعصرة الزيوت أو طاحونة الزيتون. (بحسب أوزيللي، الكاتب في أواخر القرن التاسع عشر، كان هنالك حجر رحىً قديم ما يزال في مكانه قرب المنزل.) وقد كانت هنالك بعض الصلات الواهية بين كاتب العدل سير توم وآل دا فينشي: فهناك صلة مهنية عامة- فقد كان آل دافنشي عائلة من كتّاب العدل- كما أنَّ هنالك علاقة خاصة ومضنية، لأنّه وفي 18 اكتوبر 1449 كتب للسير توم عقداً مرسوماً بتحويل جزء من أسهمه في الملكية إلى اثنين آخرين، وكان الرجل الذي كتب العقد ووقَّعه كشاهد هو أنطونيو دا فينشي، جد ليوناردو. بعض الملاحظات المتعلقة بالعقد تبين أنَّ أنطونيو كان في أنشيانو وقتئذٍ، وفي منزل معروف لأحد المزراعين، عندما تم استدعاؤه ليحرر العقد "Si giocava a tavola"" : كان يلعب الطاولة عندما حدثت هذه المقاطعة. وهذا أمر ليس بالسهل بالنسبة لممارسة انطونيو دا فنشي لهواياته: ولكن هذه الصلة العابرة بالمنزل لا يمكن أن تُعدَّ دليلاً على أنَّ حفيده قد ولد هناك. إنّه نوع المنازل الريفية الذي قد يكون لدافينشي تحديداً. إنه يعبر عن تصور مهم لنشأة ليوناردو- أنّها كانت ريفية، وقريبة من الأرض، معتدلة بيد أنّها ليست بأي حال من الأحوال متواضعة، كما أنّه يستجيب أيضاً لرغبتنا في شيء ملموس: لنمنح حقيقة مولده سكناً ريفياً.
على الرغم من أنّ المكان يظل غير مؤكد، فإنَّ التأريخ بل وساعة الميلاد أيضاً محدَّدان. فقد وثّق الجد الجد أنطونيو بنفسه حدث الميلاد. بعد حوالي ثمانين سنة، وعلى ظهر صفحة دفتر قديم، كان في وقت ما لجده، دوَّنَ عليها بالفعل تأريخ الميلاد والعماد لأطفاله الأربعة. وقد كان ثمة فسحة صغيرة في عقب الورقة ليسجل فيها هذا الوصول الجديد، هذا الجيل الجديد- )1452. ولد لي حفيد، ابن سير بيرو ولدي، في اليوم الخامس عشر من أبريل، يوم السبت، في الساعة الثالثة من الليل. وهو يحمل اسم ليوناردو." كانت الساعة تحسب من وقت الغروب (أو بشكل أكثر دقة من رنين أجراس كنيسة آفي ماريا بعد صلاة المساء). الساعة الثالثة من الليل كانت حوالي العاشرة والنصف مساء.
ويواصل أنطونيو حديثه: " تم تعميد الطفل على يد كاهن الأبرشية، بيرو دي بارتولميو: جار الأسرة في البلدة. هذا الشيء يعني على الأرجح أنَّ المعمودية تمت في فينشي، في كنيسة أبرشية الصليب المقدس. وقد ظل جرن المعمودية المصنوع من الحجر الخام موجوداً هناك دائماً ومنذ عهد ليوناردو. كان العرف يقضي بتعميد الطفل في اليوم التالي لولادته، وفي هذه الحالة الأحد 16 أبريل، في عام 1452، كان الأحد الأول بعد القيامة، أحد النزول. وربما تم تدوين المعمودية في سجل عماد بلدة فينشي، ولكن أقدم هذه السجلات يعود في تأريخه إلى خمسينيات القرن السادس عشر. وقد حضر طقس المعمودية ما لا يقل عن عشرة من الآباء الروحيين: وهو رقم سخي جداً (مقارنة بستة أشخاص شهدوا على والد ليوناردو بيرو، ومتوسط اثنين إلى أربعة في مناسبات التعميد في القرن السادس عشر.) وقد كان ضمن عرّابي ليوناردو اثنان من جيرانه القريبين في بلدة فينشي: بابينو دي ناني بانتي، وماريا، ابنة ناني دي فينزو. وكذلك حضر اريغو دي جيوفاني تيديسكو، وكيل الأعمال الألماني المولد من عائلة ريدولفي النافذة، والذي يملك أراضٍ حول بلدة فينشي، و مونا ليزا دي دومينيكو دي بريتوني تحديداً، والتي تذكرنا بأنَّ الاسم اللصيق بأشهر لوحات ليوناردو كان اسماً شائعاً. (Monna أو Mona تعني ببساطة عقيلة، أو حرم، وهي نقيض السيدة، أوسيدتي ولكنها أقل ارستقراطية من المقابل الإنجليزي للكلمة (Mistress, Mrs)) إن كان مولد ليوناردو حدثاً متكتماً عليه بالفعل- كما يشير أنصار فرضية أنشيانو- فإنَّ المعمودية كما يبدو كانت مناسبة حاشدة وحافلة، وعلى الأرجح تمت بصورة احتفالية على نحو ما، وكثير من نبيذ الزنجفر الممتاز من كرم دا فينشي. على الرغم من كونه ابناً غير شرعي، فقد تم الترحيب بمقدم ليوناردو إلى العالم وعائلته. حيث لا يشير ما قاله أنطونيو، أو الطقس الذي سجله إلى خلاف ذلك.
التدوين الكريم لميلاد وعماد ليوناردو كُشف عنه في السجلات الفلورنسية في ثلاثينيات القرن العشرين على يد باحث ألماني، هو الدكتور إيميل مولر. (الحقيقة أنَّ خطاب مولر الذي يعلن فيه اكتشاف تذييلٍ يقول: "Viva il Fuhrer! Viva il Duce!" (عاش الزعيم، عاش موسليني) قد لا يحببه إلينا، ولكنّه قد لا يغير من قيمة اكتشافه.) ليوناردو مراوغ، ويبدو أنَّ مراوغته تمتد إلى السجلات التأريخية في كثير من الأحيان: المستندات التي تدل على الغموض، الحقائق التي تتحول إلى ألغاز. ويمتن المرء لهذه الشهادة المستندة على الحقائق، والمكتوبة بيد جده الثمانيني الثابتة والواضحة، وبالنسبة لنا جميعاً فهي تضع ميلاد ليوناردو في مشهد الربيع المحسوس على الدوام في فينشي. أشجار التين ترفل في نوْرها، وتعبق الأسطح بشذى الزهور المخملية البرية، وتحت الظلال تتفتح باكورة زهور الزيتون: زهور صغيرة صفراء تبشّر باقتراب الحصاد.
-----------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقلتأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment