Sunday, March 24, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 4 - أولى ذكرياتي..





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

4- "أولى ذكرياتي.."

لم تكن أولى ذكريات ليوناردو زعماً عن أمّه أو أبيه، أو أي شخص آخر. إنّها كانت لطائر. وبعد عقود عدة، في أوائل الخمسينيات من عمره، كان يكتب بعض الملاحظات حول تحليق الطيور- موضوعه الدائم الشهير، وبشكل خاص أنماط تحليق طائر الحدأة الحمراء متشعب الذيل (الاسم العلمي Milvus vulgaris)، وعندما هيّج شيءٌ ما ذكراه، كتب في أعلى الورقة الملاحظة المقتضبة التالية: 

يبدو أن الكتابة بهذا التفصيل حول الحدأ هي قدري،  فبما أنّ تلك كانت أول ذكريات طفولتي، يخال لي أنني عندما كنت في مهدي، أنّه جاءت إليَّ حدأة، وفتحت فمي بذيلها، وضربتني به باطن شفتيّ عدة مرات  .

لقد كان هنالك نقاش طويل حول ما إذا كانت هذه المقالة الوجيزة هي من ذكرياته حقاً، أو استحضار ذكرى كما يسميها ليوناردو [ricordazione]، أم كانت مجرد تهيؤات. وإن كان قد خيّل إليه ذلك، فهنالك المزيد من النقاش بعد- على الأقل في الجناح النفسي لدراسة ليوناردو- في ما يتعلق بذلك الجانب من حياته الذي يُعنى بهذه المسألة. 

هل هي حقاً من طفولته: حلم قديم، أو كابوس ينبض بالحيوية، للحد الذي يجعله يبدو الآن كذكرى حقيقية؟ أم هي خيال شخص كبير والذي تم "إسقاطه" في الماضي على فترة الطفولة، ولكن ماهو الشيء الذي يربطه أكثر إلى كاتب الملاحظة- ليوناردو في منتصف عمره من عام 1505 ميلادي،  منه إلى الطفل الذي ما زال في مهده؟ 

لقد كان مشهد طيور الحدأة شائعاً عند صعود جبل البانو المشرف على بلدة فينشي. وقد ترى إحداها في يومنا هذا إن كنت محظوظاً. فالعين لا تخطئها بذيلها المتشعب وجناحها المفرود الواسع المحدّب الذي يضفي عليها شيئاً من الأناقة، والألوان الزعفرانية التي يلمع بين طياتها ضوء السماء في ريشها عند أطراف الأجنحة والذيل. وقد استوحت الطائرة الورقية التي صنعها الإنسان الإنجليزي من تقليد طيرانها وحركتها(الحدأة Kite)، بينما في إيطاليا يدعونها نسراً [aquilone]. والحدأة من بين جميع الجوارح هي الأكثر تكيفاً مع المجتمع البشري: فمنها الزبّالة والرفقاء في رحلات الصيد. وقد شهد شكسبير على وجودها في لندن في عهد الملكة اليزابيث، ويمكن رؤيتها الآن في القرى والمدن الصغيرة في جميع أرجاء العالم الثالث. وقد عرفت في أوساط القوات البريطانية في الهند بالصقور الزبّالة (Shite-Hawks). ووفقاً لصياد الصقور البريطاني جيميماه باري-جونز، فإنّ الحدأ " تستغل إمكانية الالتقاط متى ما سنحت الفرصة" وكذلك معروف عنها عادتها في الانقضاض من علٍ وسرقة الطعام من الأطباق"  إذن التعليق الأخير هذا يبين إمكانية أن تكون هنالك تجربة حقيقية وراء هذه الذكرى من طفولة ليوناردو. لقد "انقضّت" أو هبطت حدأة جائعة تبحث عن لقمة تقتات بها، فروّعت الصغير في مهده.  بيد أنَّ- الشيء الغريب واللافت في القصة- الطائر أقحم ذيله في فمه، وضربه أو نقر على شفاهه به (بحسب التهجئة العتيقة لليوناردو [percuotesse]: الفكرة الأساسية هي للطرق [percussion]- واحتمال حدوثها أقل، ولذلك فهي عنصر خيالي، وإسهاب في سرد الذكرى مصدره العقل الباطن. وتشجع الكلمات التي استخدمها ليوناردو بنفسه على فكرة وجود العنصر الخيالي. بيد أنّه سمى الحادثة ذكرى، إذ أنّ لها سمة مبهمة، وهي التي تعكس الحيرة التي تعتري المرء حيال الذكريات الأولى والمدى الذي تتشكل عنده أكثر من التذكّر الواقعي. وذكراه الأقدم كانت قد "بدا" له أنَّ حدأة هبطت. هنالك تجريب. فهو يستعيد إحاطته بشيء ما قوي في ذهنه ولكنّ ليس على درجة كافية من الوضوح في عقله.  فهو يعتقد أنّها حدثت، ولكن ربما لم تحدث. لقد استخدم الكلمة "يبدو" بالفعل في أول الجملة: " لأنّ قدري على ما يبدو" أن أدرس الحدأ. فالمفردة "قدر" هي الأخرى مثيرة للاهتمام.  لأنّها تشير في هذا السياق إلى ما يمكن أن يعتبر إلزاماً ما أو عهداً. فهو يقول إنّ شيئاً ما يدفعه للعودة باستمرار إلى هذا الطائر، وأن يستمر في الكتابة عنه على وجه التحديد. 

"القدر" يعني أنّ هذا شيء غير الإرادة الواعية، وأنّ هنالك عملية ما تتم في الخفاء. 

فمن جهة ما يرتبط شأن الحدأ لدى ليوناردو بشكل دقيق باهتمامه المشهور بفكرة طيران البشر في السنوات القليلة قبل وبعد 1505. وكانت المخطوطة الصغرى " حول طيران الطيور"، الآن في تورين، قد كتبت في ذلك الوقت. وهي تتضمن تصريحاً شهيراً: "الطائر العملاق سوف ينطلق في أولى رحلاته على ظهر تشيشرو العظيم"، ليعبيء الكون دهشةً، وتفيض شهرته على سجلّات العالم، ويأتي بالمجد الأبدي إلى العش حيث وُلد."  والفهم العام المرجّح لهذا هو أنّ ليوناردو كان يخطط لرحلة طيران تجريبية لآلة الطيران خاصته أو "الطائر العملاق" من قمة جبل تشيشيري، بالقرب من فيزولي، جنوبي فلورنسا بالضبط. وتبين بعض السطور المدونة على الصفحة ذاتها من المخطوطة وجوده بالقرب من فيزولي في مارس 1505.   عليه فإنّ ذكرى الحدأة تخطر على البال في وقت كان فيه مشغول الفكر للغاية بإمكانية طيران الإنسان، وأصبحت إلى حدٍ ما منبعاً ذاتياً لذلك الاستغراق. حطت عليه الحدأة وأرّتْه "قدره" بينما كان ما يزال في مهده. 

الدراسة السيكولوجية الأولى لفانتازيا ليوناردو كانت من قبل فرويد:[Eine Kindheitserinnerung des Leonardo da Vinci] "ذكرى من طفولة ليوناردو دا فينشي"، ونشرت عام 1910. يحلل فرويد القصة بشكل أساسي كما لو أنّها كانت حلماً، بمعناها في اللاوعي ورموز الذكريات المخزونة فيه. ومفتاحها، كما يعتقد، هو علاقة الطفل ليوناردو مع أمّه- بعض ما يقوله حول هذا الموضوع لا يُعتد به لأنّه يحتج بوجود روابط مع الأمّ على أساس العلاقات الرمزية للعُقاب (فهو يستخدم الترجمة الألمانية غير السليمة لملاحظة ليوناردو، والتي تسببت في ترجمة اسم الطائر بشكل خاطيء إلى Geier، بمعنى العقاب) . ويجب ترك ملاحقه المدروسة في رمزية العُقاب المصرية، هي وغيرها مما يبدو لكاتب السيرة فرويدياً على وجه التحديد أو الإسهاب. ولكن الفكرة الأساسية - بأنّ حلم أو وهم ليوناردو هذا، وتحديداً في مهده، مرتبط بمشاعره حيال أمّه- لا تخلو من رؤية تحليلية نفسية سليمة على ما يبدو. 

ووفقاً لفرويد، فإنّ الحدأة التي تضع ذيلها في فم طفل هي ذكرى مدفونة للإرضاع من الثدي: " ما يستتر وراء الذكرى هو بالكاد استحضار لذكرى الرضاعة- أو إرضاعه- من ثدي أمه، مشهد للجمال الإنساني الذي تعهد هو- مثل العديد من الفنانين- بتصويره بفرشاته." (فرويد يشير هنا إلى الليتا مادونا، رُسِمت في ميلانو في أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر). والرضاعة من الثدي هي "أول مصدر للمتعة في حياتنا"، وهي ذات انطباع يدوم "  نقشه في الوجدان لا ينمحى".  ولكن فكرة أنَّ ذيل الحدأة هذا يمثل حلمة ثدي الأمّ قد لا يأخذنا إلى نقطة أبعد، لأنّ الفانتازيا ليست صورة فقط، ولا حتى بشكل أساسي، للأمان الطفولي. فالشعور بها مختلف جداً. لأنّ سلوك الطائر على ما يبدو أصبح مهدداً، وهجومياً، وضارباً. ويمكن أن نفهم من هذا أنَّ مشاعر ليوناردو حيال أمّه كانت هي نفسها متناقضة، إلى حد أنْ يتم التعبير عن خوف رفضها وعدائيتها بهذه الصورة الممعنة في الاضطهاد. ويستحضر المرء ميلاد أول طفلة لكاترينا عام 1454، عندما كان ليوناردو في عامه الثاني: وهو عمر يكون فيه الطفل عرضة للشعور بأنَّ مقدم طفل جديد لهو بمثابة كارثة زوال عاطفة الأمومة. وبالتالي فإنَّ – وهذا اتجاه أكثر فرويدية- الجانب المزعج من ذيل الحدأة هو قضيبي، يرمز لتهديد منافسة الأب. 

يطبِّق فرويد هذه المفاهيم على ما أحاط به علماً من نشأة ليوناردو، والذي لم يكن في 1910 بقدر ما نعرف اليوم، بيد أنّ الخطوط العريضة كانت واضحة بشكل كافٍ من الإقرارات الضريبية لأنطونيو دا فينشي ذي المعارف الواسعة، والتي تم نشرها قبل ذلك بسنوات قليلة. يقول فرويد عن الفانتازيا " يبدو أنها تخبرنا" أنَّ ليوناردو "لم يمض السنوات الأولى الحرجة من حياته بجانب والده وزوجته، ولكن مع أمّه الحقيقية الفقيرة المنبوذة." وفي هذا الطور الحرج من الطفولة، " تصبح انطباعات بعينها راسخة، وتتشكل أساليب الاستجابة للعالم الخارجي،" والشيء الذي كان قد تشكّل هنا بالتحديد هو عدم الارتباط بالوالد. كان سير بيرو غائباً عن البيت، خارج الدائرة العاطفية للعلاقة بين الأم والطفل. ولكنّه أيضاً يمثل تهديداً لها، وعقبة محتملة. لذلك فإنّ فانتازيا الحدأة تشير إلى توتر مبكر بين راحة الأم وتهديد الوالد، في تهيئة للمشهد لتوترات لاحقة: " ليس لمن يرغب في أمّه كطفل مهرب من الرغبة في وضع نفسه في مكان أبيه، قد يعجز عن التماهي معه بنفسه في خياله، وأن يجعل من خلافته –بعده- مهمة حياته لاحقاً."   وأنّه ربما كان لوفاة والد ليوناردو في 1504- ليس ببعيد من الوقت التقريبي لكتابة الملاحظة حول الحدأة- شيء من الأهمية بالخصوص. 

يقول نقاد تحليل فرويد أن هذا وضع أكوامٍ من علم النفس الممعن في التخمين على أساس هشٍ من تأريخ ممعنٍ في التخمين، وهم على حقّ، ولكنّه يملك ما يتمسك به. وعن مسألة طفولة ليوناردو فلا نملك نحن إلا النذر اليسير من المعرفة، وتخمينات الدكتور فرويد تبدو لي جديرة بالاعتبار. 
وهنالك قطعة أخرى من الكتابة حول الحدأ بقلم ليوناردو، ولكن من الواضح أنّها لم تكن معروفة لدى فرويد، والتي تقود إلى منطقة من النوع ذاته. وفي هذا يستشهد ليوناردو بارتباط فلوكلوري للحدأة مع الحسد أو الغيرة invidia: يقرأ المرء عن الحدأة التي عندما ترى صغارها في العش قد أصبحت سمينة جداً، فهي تنقر على أضلاعها حسداً وتأبى أن تطعمها."  هذه من "كتاب الحيوان"، لليوناردو، وهو مجموعة من المقولات والقصص الرمزية عن الحيوانات، مكتوبة في دفتر صغير كان يستخدمه في ميلانو في منتصف تسعينيات القرن الخامس عشر. وعليه فهي قبل بضع سنوات من كتابة "ذكرى" الحدأة. وهي أصداء لقطعة من منوعات شائعة، Fiore di virtu زهرة الفضيلة، بقلم الأخ من القرن الثالث عشر تومازو غوزاديني- وهو كتاب يُعرف عن ليوناردو تأليفه. وبينما ليس له أهمية العلاقة الشخصية التي تغذّي الذكرى الأكثر شهرة، فيبدو أنّه يرتبط بها بشكل مثير للاهتمام. ولدينا هنا أيضاً علاقة بين الحدأة وطفل (في هذه الحالة صغارها هي). السمة الرئيسية للمقالة هي انسحاب الحبّ الوالديّ. وهو الشخص المفترض به توفير الراحة والرعاية- الطائر في العش يطعم صغاره- أصبحت صورة للعدائية المؤلمة: الحدأة "تنقر" الطفل بمنقارها، كما هي في الذكرى "تضرب" الطفل بذيلها. مرة أخرى قد يأخذ المرء هذا إما كخوف من تحوّل الأمّ من مقدمٍة للغذاء إلى مدمّرة (" quod me nutrit me destruit' في وسم رمزي قديم)، أو مثل خوف الوالد باعتباره منافساً عدائيأ على حبِّ أمِّه. مرة أخرى تقود الحدأة إلى منطقة من مخاوف وانفعالات الطفولة.   

والقطعة الأخرى التي كانت لتتقاطع دون شك مع فرويد تقع في واحدة من مجموعات النبوءة لليوناردو- تلك الألغاز واللعب بالكلمات منظومة بطرافة في أسلوب نبويّ. وتميل هذه العبارات إلى التعبير عن معانٍ غير متوقعة تتجاوز في مداها حلول الألغاز.  ومن الأمثلة النبوءة التي تقول، " سوف يرفع الريش الرجال- كما تفعل الأطيار- إلى السماء." والإجابة المذكورة هي "ريشات الأقلام"، والتي تكتب كلمات تسمو بقارئها، ولكن على ما يبدو أنّ الإجابة المستترة هي "طيران الإنسان". وبشكل مماثل " سوف تسند المخلوقات الطائرة الإنسان بريشها" (الإجابة "أسرّة الريش"). 

والأكثر سحراً من بينها هي النبوءة التي إجابتها ببساطة "الحلم"، والتي هي بالتأكيد ليست سوى قصة عن أحلام ليوناردو المزعجة ذاتها. 

" سيبدو للرجال أنهم يرون حالات تدمير مجهولة في السماء. وسيبدو أنّهم يحلّقون في السماء، ومن ثمّ يهربون في رعب من ألسنة اللهب التي تنصبٌّ عليهم من هناك. وسوف يسمعون كل أنواع الحيوانات التي تتحدث في لغات بشرية.  وستنزلق أجسادهم في لحظة إلى عدة أجزاء من العالم دون أدنى حركة. وفي وسط الظلام سوف يرون أكثر العظائم روعةً. يا أعجوبة النوع الإنساني، أي جنون دعاك لفعل هذا؟ سوف تتحدث مع الحيوانات من كل نوع، وسوف تتحدث إليك هي بلغات الإنسان. سوف ترى نفسك تسقط من أعلى القمم دون أن تؤذي نفسك. وسوف تجرفك السيول معها فتمتزج بتيارها الخاطف...

والسطر التالي أصبح مبهماً بسبب تمزُّق الورقة. ويظهر منها "Usera[i] car[…]n madre e sorell [… ]'. وقد خمّن كارلو بيدريتي الجملة كالتالي: [Userai carnalmente con madre e sorelle] – " سوف تضاجع أمّك وأخواتك". وهو يقارن العبارة في كتاب الحيوان، الجزء الخاص بشهوانية الجمل: " Se usasse continuo con la madre e sorelle mai le tocca.."".   عليه فإنّ أحلام " الطيران في السماء" و"التحدث مع الحيوانات" هذه تمتزج بشكل غريب مع فانتازيا علاقات سفاح الأقارب مع الأمّ. ومرة أخرى نجد أنفسنا في المنطقة ذاتها التي حدّد فرويد معالمها في تحليله لفانتازيا الحدأة. 

ويمكن استشفاف هذه اللمحات السيكولوجية بجلاء في واحدة من أكثر لوحات ليوناردو غموضاً- ليدا والبجعة (اللوحة رقم29). وقد فقدت اللوحة، ولكن يمكن إعادة تشكيلها جزئياً من الرسوم التخطيطية الأولية لليوناردو، ومن النُسخ بالحجم الطبيعي التي رسمها تلاميذه أو أتباعه. 

وتعود أقدم رسوماته التخطيطية المعروفة إلى تأريخ 1504 أو 1505، وتتزامن بدقة مع الملاحظة المذكورة حول الحدأة. والطابع العام للوحة مقتبس من الأسطورة الكلاسيكية. جوبيتر أو زيوس في علاقة حبّ مع الأميرة الاسبارطية ليدا، ليتجسد في هيئة بجعة، وأغواها لتحمل، ومن زواجهما يولد- أو، في اللوحات، يفقس البيض حرفياً دون مبالغة- زوجين من التوائم: كاستور وبولوكس، وهيلين وكلايتيمنيسترا. هذا الطائر، الأمّ، والأطفال أنصاف الطيور الذين فقسوا بطريقة غريبة من بيوضهم في مقدمة اللوحة- يبدو أنّه يعود مرة أخرى إلى حافة فانتازيا الحدأة. ومثل تلك الفانتازيا ترتبط اللوحة بوضوح باستغراق فكر ليوناردو بالطيران وفي هذه المرة" "تشيشيرو" مثل جبل تشيشيري، الذي خطط ليوناردو ليطلق منه "طائره العملاق" أو آلته الطائرة في عام 1505 للميلاد- يعني " البجعة" في اللهجة الفلورنسية.

وتضيف لوحة أخرى هي العذراء والطفل مع القديسة حنَّة في اللوفر تذييلاً عجيباً لقصة الحدأة هذه. فاللوحة تأتي متأخرة، في عام 1510، ولكنّ كانت هنالك نسخة منها موجودة- على هيئة كارتون تمهيدي بالحجم الطبيعي- منذ عام 1501، وعليه فهي الأخرى تنتمي بشكل عام إلى فترة أوائل خمسينيات ليوناردو. ومن الواضح أنَّ اللوحة تتناول موضوع الأمومة. فالقديسة حنّة هي والدة مريم، بيد إنّه كثيراً ما لوحظ أنّ تصوير ليوناردو لها يجعلها تبدو في عمر مماثل لعمر مريم، وبالتالي تبدو انعكاساً للعلاقات المتشابكة لطفولة ليوناردو، بثلاثيتها كاترينا، والبيرا ولوشيا- الأم، وزوجة الأب، والجدّة. وربما قد سُويّت المسألة هناك، لأن الاكتشاف العجيب لأحد الأتباع الفرويديين، أوسكار فيستر، للطائر الخفي الكامن في طيات ثوب العذراء أو عباءتها. وقد كان هذا في عام 1913، وفيستر- متبعاً الزلة الفرويدية الأصلية- يدعو هذا الطائر- عُقاباً، ولكن هذا ليس بالأمر المهم. "الطائر" يظهر بوضوح أكبر عندما تقلب اللوحة على جانبها. وحالما يتم قلبها يبدو واضحاً هناك، ولكن (مثل ذكريات الطفولة الراسخة تلك) هل هو موجود فعلاً؟ فهذا هو ما رآه فيستر: " على طول القماش الأزرق، والذي يظهر حول ردف المرأة في المقدمة[ التي هي مريم]، والذي يمتد في اتجاه حِجرها وركبتها اليمنى، يستطيع المرء أن يرى رأس العقاب المميز للغاية، وعنقه، والمنحنى الحاد حيث يبدأ جسده." ولقد تعرّف على جناح الطائر باتباع طول القماش حيث يمتد إلى أسفل حتى قدم مريم. "يمتد جزء آخر من القماش "باتجاه الأعلى ويستقر في كتفها وعلى الطفل"، وهنا يرى فيستر"الذيل الممتد" للطائر، ويكمل قائلاً: " مشعاً خطوطاً تمثّل خط الريش". و الشيء الأعجب – " بالضبط كما في حلم طفولة ليوناردو الخيالي"- الذيل "يقود إلى فم الطفل، مشيراً إلى ليوناردو نفسه. 

وهنالك ثلاثة تفسيرات محتملة لهذه "الأحجية المصورة"، كما وصفها فيسترPfister. الأول هو أنَّ ليوناردو قد وضع طائراً عن قصد. والثاني أنّه قد أسقط شكل الطائر قسراً في هذا التأمّل في موضوع الأمومة. والثالث هو أنّ الطائر ليس سوى مجموعة من الخطوط والظلال اجتمعت على هذا الشكل بالصدفة، وليس لديه أي أهمية أكثر من كونه ضرباً من طباعة المنسوجات- وهي مهارة تلوين تعززها موهبة قد كان ليوناردو يعمل على صقلها على مدى ثلاثين سنة.  أما الإجابة الأكثر أماناً فهي الإجابة الأخيرة- إن كان الأمان هو ما ينشد المرء.  

وتعاوده بهذه الأساليب أصداء هاته الذكرى الأولى- لطائر "أتاه" في مهده- عبر السنين، تتشابك مع مشاعر حب الأمّ والفقد، وبالطموح الزاخر لرحلة آلية، كما لو أنّه بذلك يتقابل مرة أخرى مع ذلك الزائر السماوي الذي يذكر نصفه ويتخيل النصف الآخر. 

-------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment