ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
8- التنين
كانت لوحات البشارة، وسيدة القرنفل، ومعمودية المسيح: مجرد ثلاثة أعمال تكريسية ضمن أعمال كثيرة نبعت من مرسم فيروكيو، ولكن حظيت كل منها بلمسة من ريشة الصبي ليوناردو دافنشي المفعمة بالشغف. الأعمال الأخرى التي تعود إلى الفترة الفلورنسية الأولى، قد أورد كتاب السيرة السابقون ذكرها ولكنّها الآن مفقودة. والحسرة الشديدة لضياع عمل بعينه وصفه المجهول الجادّيّ بعبارته " لوحة لآدم وحواء بألوان مائية". ويقول فازاري بأنّ ليوناردو قد تلقى تكليفاً بعمل هذا بعد رسم الملاك في لوحة المعمودية. ويقول إنّها كانت " لوحة كارتونية لبساط حائطي مزخرف يفترض نسجها من الذهب والحرير في إقليم فلاندرز قبل إرسالها إلى ملك البرتغال، ويظهر فيها آدم وحواء عند اقتراف خطيئتهما في الجنة الأرضية". و أفاد كاتبا السيرة كلاهما بأنَّ لوحة الكارتون تلك التي رسمها ليوناردو الآن- أي في أربعينيات القرن السادس عشر- توجد في منزل أوتافيانو دي ميديتشي. ووصف فازاري لها يبدو كما لو أنّه رآها، وما فتنه كان تصوير جنة عدن:
لهذا رسم بالفرشاة موزعاً الضوء والظل، مع تحديد الضوء بالرصاص الأبيض، وهناك مرج من العشب تمرح فيه بعض الحيوانات، وقد تم رسمه بكثير من العناية والإخلاص للطبيعة التي ليس في العالم شيء في مثل إلهامها أو كمالها. هنالك شجرة تين تبدو قصيرة في اللوحة، وقد تم تصوير أوراقها وفروعها بدقة وشغف إلى حدِ أنَّ الذهن ليطرب من فكرة أن يكون بمقدور الإنسان التحلي بكلّ هذا الصبر. وهنالك أيضاً شجرة نخلٍ، حيث رُسمت أشكال السعف المنتشر ببراعة عظيمة لا تنبغي لشخص لا يملك فهم وصبر ليوناردو.
ويضيف فازاري ملاحظة مثيرة للاهتمام بأنّ اللوحة قد تم تسليمها لأوتافيانو دي ميديتشي بواسطة عم ليوناردو. ولا يمكن أن يكون هذا العم هو فرانشسكو (الذي توفي في عام 1507، والذي يستبعد أن يكون ذا أية صلات مباشرة بميديتشي على أية حال)، ولكنّه قد يكون اليساندرو أمادوري، كاهن فيزولي الذي كان أخاً لأولى زوجات أب ليوناردو، ألبيرا، وقد كان ليوناردو ما يزال يعرفه لوقت طويل بعد وفاة البيرا في 1464، وفي أواخر سني حياته كان يتساءل" عما إذا كان الكاهن اليساندرو أمادوري ما يزال على قيد الحياة أم لا). وإنّه لمن الجائز أنَّ ليوناردو قد منح لوحته الكارتونية عن آدم وحواء لأمادوري عندما غادر فلورنسا في 1482، تماماً كما أعطى لوحة تبجيل المجوس غير المكتملة إلى صديقه جيوفاني دي بينشي، فأسلوب الكارتون المرسوم بالفرشاة بتقنية الظل والضوء وإضفاء الإضاءة بالرصاص الأبيض- يشبه كثيراً ذلك المستخدم في لوحة التبجيل، والتي تظهر فيها هي الأخرى شجرة نخلٍ مرسومة بإتقان.
وفي ذلك الوقت أيضاً كان ليوناردو قد رسم "لوحة بألوان الزيت يظهر فيها رأس ميداس مكسياً بثعابين ملتفة": على ما يبدو هي أول أعماله التي نفذها بطابع كلاسيكي. ولقد ذكرها المجهول الجادّيّ وفازاري (بيد أنّ ذلك جاء فقط في الطبعة الثانية من كتابه الحيوات)، وربما ورد ذكر العمل في مجموعة ميديتشي حوالي عام 1553 باعتباره " صورة على الخشب للغضب الجحيمي، وبيد ليوناردو دافنشي ودون زخرفة" لم تترك اللوحة أي أثر لها، بيد أنّه كان هناك ولفترة طويلة لبس بينها وبين لوحة طوافة قنديل البحر لكارافاجيو.
وهنالك عمل آخر مفقود من أعمال ليوناردو الأولى وقد نجا فقط في قصة طويلة يسردها فازاري. تبدو القطعة مثل حلقة من رواية إيطالية، ومن الممكن جداً أن تكون اللوحة التي تشير إليها محض خيال، ولكن القصة تحكى في إسهاب وبقدر كاف من التفاصيل الظرفية، ولا يستطيع المرء أن يغالب شعوره بأنّه قد يكون هنالك شيء ما من الحقيقة فيها. فهي تبدأ بصورة مقنعة جداً: " بدأت القصة عندما كان سير بيرو دا فيننشي في منزله في الريف، وزاره أحد العاملين بمزرعته..." لقد صنع الفلاح "درعاً" أو ترساً مدوراً (rotello) من شجرة تين كان قد قطعها، وكان يتساءل عما إذا كان السير بيرو يستطيع أخذها إلى فلورنسا ليتم طلاؤها. وكان السير بيرو سعيداً بإسداء ذلك المعروف إلى الرجل " الذي كان حاذقاً جداً في اصطياد الطيور والأسماك، وكثيراً ما استعان به السير بيرو في تلك الأمور". وجلب الدرع كما هو متفق عليه إلى فلورنسا وطلب من ليوناردو تلوينها ببعض الطلاء. ففحصها ليوناردو بإزدراءٍ- لقد كانت " ملفوفة ومصنوعة بشيء من الخشونة"- ولكن بعد أيام قلائل بدأ العمل عليها:
لقد قام بتسويتها في النار، وسلمها إلى شخص يعمل في خراطة الأخشاب والذي قام بصقلها وتشذيبها، فتحولت إلى شيء ناعمٍ، ولم يكتف بذلك بل طلاها بطبقة من الجصً، وجهزها وفقاً لطرقه الخاصة، وبدأ يفكر في ما يمكنه وضعه عليها من ألوان، حتى تصبح مرعبة لكل من يقف قبالتها، مثل فعل رأس ميداس في إحدى المرات. ولهذا الغرض جمع ليوناردو العظاءات، والأوزاغ، والصراصير والفراشات، والجراد، والخفافيش، وغيرها من المخلوقات الغريبة من نوعها، وجلبها إلى غرفة خاصة به لا يستطيع غيره الدخول إليها، وأخذ يؤلف أجزاء مختلفة من هذه المخلوقات حتى حوّلها إلى أكثر الوحوش فظاعة ورعباً..ثم رسمه وجعله يبدو كما لو أنّه خارج من شق مظلم في إحدى الصخور، وهو ينفث السم من فمه، والنار من عينيه والدخان من منخريه.
لقد انهمك لفترة طويلة جداً في العمل حتى إنَّ الرائحة المقززة لبقايا الحيوانات الميتة في الغرفة أصبحت فوق الاحتمال، ولكن " لم يلاحظ ليوناردو هذا الشيء نسبة لانكبابه على فنّه." ولكن عندما انتهى، كان والده والمزارع قد صرفا النظر عن الأمر برمته. فأرسل ليوناردو إلى أبيه يخبره بأنّه جاهزٌ:
وعليه ذهب سير بيرو فوراً إلى غرفة ليوناردو تلك ليأخذ الدرع، وطرق الباب، فجاء ليوناردو إلى الباب وطلب منه الانتظار للحظة، ثم دخل إلى الغرفة وقام بوضع الدرع على حامل للوحات، وأسدل الستائر على النافذة، حتى يصبح الضوء خافتاً، ثم دعاه إلى رؤيتها. وقد أخذته المفاجأة من النظرة الأولى كليةً، لقد تلقى السير بيرو مفاجأة شديدة، لم يكن يظن أنّها هي الدرع وما رآه كان مرسوماً عليها، فقد بدأ يتراجع، ولكن ليوناردو أوقفه، وقال له، " لقد أدى العمل الغرض المفترض به، إذاً يمكنك أن تأخذها وتذهب بها، لأنها أدت وظيفتها." واعتقد سير بيرو أنَّ العمل ككل كان رائعاً، وامتدح بصوتٍ عالٍ خيال ليوناردو العجيب.
وتظل هذه القصة الرائعة دون إثبات ولكن أساسياتها محببة للغاية. فهي قصة فلورنسية- ضمن ما سرده فازاري وهي موضوعة جنباً إلى جنب لوحة معمودية المسيح، وآدم وحواء الضائعة، وسيدة القرنفل: عليه كان هذا في مطلع سبعينيات القرن الخامس عشر في ورشة فيروكيو. فالسياق مثير للاهتمام. ونحن في الورشة يباشر ليوناردو تقويم الدرع رديئة الصنع " في النار"، ثم يجهّزها بالجصً " وفقاً لطرائقه الخاصة"- ولكن ليوناردو هو الآخر كان لديه مرسمه الخاص: " غرفة له لا يستطيع أي شخص غيره أن يدخلها". وتعكس هذه المعلومة على الأرجح بدقة كافية التدابير المرعية في الورشة- وعلى أية حال بحلول منتصف سبعينيات القرن الخامس عشر عندما حصل ليوناردو على لقب مساعد معلم. فالقصة هي الأخرى تحمل دلالة عظيمة على كون ليوناردو خيالياً، يؤلف مخلوقه القوطي هذا - الانيمالاتسو كما يدعوه فازاري- وراء أبواب غرفته المغلفة. ويستحضر المرء تعليق في أطروحة التلوين: " إن أراد الرسام أن يصور المخلوقات أو الشياطين التي في الجحيم، فعليه أن يصبَّ فيها الكثير من الابتكار."
ولقد زادت حبكة القصة ببعض الدراسات للتنانين في ويندسر، ورسمٍ لقتال تنانين في متحف اللوفر، ويعود كلاهما لسبعينيات القرن الخامس عشر، وكذلك بقطعة في الأطروحة يوصي ليوناردو فيها بدقة بنوعٍ من أساليب التركيب التي نسمع عنها في الحكاية الفازارية:" لا تستطيع اختلاق أي حيوان ليس له أعضاء معروفة من حيوانات أخرى. فإن كنت تريد أن تصنع تنيناً فيمكنك أن تعطيه رأس كلب ضخم من نوع الداروس أو الساطر، ولعينيه تلك التي للقطة[ألخ.]." ويتحدث لوماتسو عن لوحة رسمها ليوناردو لتنين ينازل أسداً، " لقد رسمها بشيء من الفن لا يستطيع أي شخص ينظر إليه أن يعرف أي منهما هو المنتصر". ويضيف، " ولقد كانت لديَّ لوحة مأخوذة من هذه الصورة التي كانت عزيزة جداً عليَّ." هنالك رسم مهيب عن هذا الموضوع فقط في الأوفيزي، ويعتقد البعض أنّه نسخة من إحدى لوحات ليوناردو الأصلية. ودراسات التنين هذه- بعضها حقيقي والآخر مشاع- لا يمكن اعتبارها دليلاً على أنَّ قصة فازاري عن الدرع الملون قد حدثت على الإطلاق، ولكنها تبين أنّ ليوناردو ليس ببعيد عن رسم التمارين من حيث النظرية والتطبيق.
وقد أشارت القصة أيضاً إلى العلاقة التنافسية الشائكة بين الرسام وأبيه. ويستمتع ليوناردو بوضع سير بيرو في المقالب: فهو قد جعله يجفل خوفاً عند إماطته اللثام عن التنين. فالأب بالمقابل يرد المقلب بآخر خفيّ، لأنّ القصة تنتهي به وهو يبيع الدرع خلسة: " لقد اشترى درعاً آخر من أحد الباعة الجائلين، ومنقوش عليه بالألوان شكل قلب مثقوب بسهم، وأعطاها للفلاح، الذي كان ممتناً طيلة الأيام الباقية من حياته. وقام لاحقاً ولكن في السرّ، ببيع درع ليوناردو لبعض التجار في فلورنسا مقابل مائة قطعة ذهبية [دوكات]." والرابح مادياً هو سير بيرو، كعادته، ولكنه من جهة أخرى خاسر: لقد خرج من القصة مثل متهكم أوسكار وايلد، " الذي يعرف ثمن كل شيء ولا يعرف قيمة أي شيء". فالخدعة الخفية الحقيقية التي لعبها سير بيرو في ذاك الوقت هي أن يعود لدوره كأبٍ لليوناردو. وفي 1475 تزوج للمرة الثالثة، وفي السنة التالية، قبل أسابيع قليلة من عيد ميلاده الخامس عشر، تبددت غمّة العقم الزوجي التي أظلتهم لفترة طويلة بميلاد ابن. وقد تم تعميد الطفل بحسب العرف باسم انطونيو، تيمناً بذكرى والد سير بيرو، وتأكيداً لوضعه كابن ووريث لسير بيرو- أول مولود له من ناحية شرعية وليس بيولوجية. وكان لهذا الأمر وقع الصدمة بالنسبة لليوناردو. لقد رسّخ عدم شرعيته كإبن. وكان حتى ذلك الوقت قد تمتع بحماية وتشجيع أبيه الذي تم التعبير عنه بشيء من الخشونة على أية حال: ربما كان يأمل أنّه في حالة عدم إنجاب أي طفل لسير بيرو فسيصبح وريثه في النهاية.
وبميلاد انطونيو سير بيرو دا فينشي في 1476 تم حرمان ليوناردو من الإرث. ولقد اصبح مرة أخرى ابناّ منبوذاً، ومواطناً من الدرجة الثانية. وإلى حدٍ ما، بدون قصد في الحقيقة، تتناول قصة فازاري هذا- الأب المخادع، والنعمة المزدراة سراً، والإرث الضائع الذي يصل إلى مائة قطعة ذهبية [دوكات]. يسير السير بيرو في الشارع حاملاً اللوحة تحت إبطه، سعيداً بخروجه من تلك الغرفة المعتمة التي تنبعث منها رائحة العظايا النافقة.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment