Wednesday, March 20, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - الاستقلال 1477-1482





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

الاستقلال
1477-1482

يا له من مسكين، التلميذ الذي لا يتفوق على معلمه
مخطوطة فورستر 3، صفحة 66
1- مرسم ليوناردو
في حوالي عام 1477 أعدّ ليوناردو مرسمه الجديد في فلورنسا. وقد كان هذا تطوراً طبيعياً: فلقد أمضى عشرة أعوام مع فيروكيو كتلميذ، ومتدرب، ومساعد. ولوحة وجه جنيفرا تشهد له بالخروج من القمقم- وقد كانت علاقتها بحقبة فيروكيو واضحة للعيان، ولكن نبرته الشاعرية بدت جديدة تماماً. فهو يدخل الآن إلى أول فترة استقلال لا يمكن وصفها بالسهلة: معلم صغير في سوق مزدحم وتحتدم فيه المنافسة. 
إنَّ أولى إشارات استقلاله الجديد الجلية كانت عقداً وقَّعه في 10 يناير 1478، ولكن كانت هنالك وثيقة أخرى، تم اكتشافها مؤخراً، والتي تعطينا دليلاً عجيباً على جو ورشة ليوناردو. إنها خطاب من جيوفاني بينتيفوغليو، لورد بولونيا، إلى لورينزو دي ميديتشي، وهو يخصُّ رجلاً شاباً يُذكر اسمه في الخطاب على أنّه " باولو دي ليوناردو دي فينشي الفلورنسي".  وقد عمت الصحافة الإيطالية لمسة من حماس عندما ظهر هذا الخطاب في تسعينيات القرن العشرين، ولا عجب فقد كانت صيغة اسمه تشير إلى أنَّ باولو كان حتى تلك اللحظة ابناً لا ريب في بنوته لليوناردو دا فنشي. وهو الاحتمال الذي سوف يتلاشى بعد أول لحظة من التفكير: وذلك لأسباب تستشف ضمناً من الخطاب، فولادة باولو لا يمكن أن تكون قد حدثت بعد عام 1462 بوقت طويل، عندما كان ليوناردو في العاشرة من عمره. والاحتمال الأرجح أنّه كان صبياً لليوناردو. وكما ورد آنفاً فإنّ من المتعارف عليه بين المتدربين أن يدعوا بأسماء معلميهم، كما فعل فيروكيو.  
وعليه فيبدو أنّ لدينا هنا اسماً واحداً من تلاميذ ليوناردو الأوائل، ومع الاسم تأتي قصة. فمن خطاب بينتيفوغليو، والمؤرخ في 4 فراير 1479، نعرف أنَّ باولو قد ابتعث خارج فلورنسا في "وقت ما قبل ذلك"، بسبب "الأسلوب الوقح الذي كان يتبعه في حياته هناك". وقد كان هذا المنفى "لإصلاحه" و"إبعاده عن رفقاء السوء الذين انضم إليهم". وكان يبدو أنَّ لورينزو دي ميديتشي شخصياً متورط في هذا الأمر، وذلك لأنّ باولو كان قد احتجز لدى وصوله إلى بولونيا، ويقول بينتيفوغليو إنّ ذلك قد حدث بناء على طلب من لورينزو تحديداً: " ووفقاً للخطابات التي وردت إلينا من فخامتكم تم حبسه." لقد أمضى باولو ستة أشهر في السجن، ولكن بعد إطلاق سراحه، " مطّهراً نفسه من خطاياه، كرّس نفسه لفن تطعيم الخشب، والذي كان قد بدأ تعلمه هناك بالفعل[ يعني في فلورنسا]، ولذلك أصبح حرفياً ماهراً، ومارس ذلك الفن كمهنة له." وهو الآن قلقٌ من الرجوع إلى فلورنسا، وقد كتب إخوته إلى بينتيفوغليو ينشدون عودته. كان هذا هو الدافع لكتابة خطاب بينتيفوغليو التماساً "لسماح لورينزو الكريم، وعفوه النبيل" حتى يستطيع باولو العودة. فهو الآن أكثر صلاحاً من ذي قبل، ويقول بيتيفوغليو، لقد وعد "بأن يكون رجلاً مستقيماً، ويسلك حياة نظام والتزام" من الآن فصاعداً. 
وهي قصة مثيرة، تقودنا مرة أخرى إلى ليوناردو، الذي أصبح حليفاً عائلياً باعتباره معلماً لباولو، وباعتبار أنّه كان في السجن في بولونيا لستة أشهر، وقد أصبح مذاك متدرباً ومعتمداً على نفسه من خلال ممارسة فن تطعيم الخشب أو النقش عليه، وبإمكاننا القول إنَّ تأريخ الخروج المخزي لباولو من فلورنسا لابد أنّه كان يسبق تأريخ الخطاب بسنة على الأقل إن لم يزد على ذلك- أي أواخر 1477 أو بدايات 1478. وعليه فيمكننا إعادة ترتيب الوضع بأثر رجعي كما يلي: في 1477 كان لليوناردو، متدربٌ فلورنسيٌ أو خادمٌ يدعى باولو. وكان على الأرجح مازال في سني مراهقته. كان له إخوة ذوو مركز اجتماعي مرموق: ذكرهم بينتيفوغليو مرتين في خطابه. وربما لم يكن له أبٌ، فالأخوة يقومون بذاك الدور على ما يبدو في هذا الشأن- وهذا سيرتبط بوضعه كابن "متبنى" لليوناردو داخل المرسم. وقد كان الصبي قد تلقى بالفعل تدريباً في مجال تطعيم الخشب، وفي فن النقش على الخشب الذي كان يتطلب مهارة عالية وقدرة فائقة. وعاش، على أية حال، حياة " لا تخلو من الوقاحة"، وكان له "رفقاء سوء" أو كما عبر عنها بالإيطالية (mala conversatione)، و بحلول أوائل عام 1478، كان قد اضطر إلى الخروج من المدينة. لم يتم الإفصاح عن طبيعة "الوقاحة" المذكورة في الحقيقة، ولكنها على الأرجح كناية عن المثلية الجنسية. وهنالك تهمة بعد فوق ذلك- مجرد تهمة، ولكن من الصعب الإفلات منها- وهي أنّ صحبة السوء التي يتعين إنقاذ الصبي باولو من براثنها كانت تشمل معلمه، ليوناردو دا فينشي. وعليه زد على اسماء جاكوبو سالتاريلي، وفيورافانتي دي دومينيكو، عشيقاً آخرَ لليوناردو دا فنشي. وأنّه كان في حدود تقاليد الورشة "ابن" ليوناردو، وهو شيء كان فرويد ليسعد بدراسته وتحليله. إذن فلفحات الفضيحة لم تستثن مرسم ليوناردو الناشيء. وبعد سنة أو أكثر قليلاً من احتكاكه بضباط الليل، طالته تهمة المثلية مرة أخرى. وربما انتبه لورينزو دي مديتيشي للفضيحة الأولى، إذ أنها طالت أيضاً عضواً من أسرته لأمه، وقد كان متورطاً في إقصاء باولو دي ليوناردو بشكل أكثر تحديداً. 
وعلى الرغم من هذا الطابع الميمون، فقد تلقى ليوناردو أول تكليف موثق له كرسام في العاشر من يناير عام 1478.  ولقد كان تكليفاً من مجلس السيادة بصنع لوحة كبيرة للمذبح لتعلق في كنيسة القصر القديم، كنيسة سان برناردو. ولم يكن بالتأكيد هو الخيار الأول لمجلس السيادة لأداء هذه المهمة- لقد تم رفض التكليف في الشهر السابق من قبل بيرو ديل بولايولو. وكان يبدو عرضاً فائق الفخامة، وقد عُزز بمُقدَّمٍ نقدي يصل إلى 25 فلورينا، تم دفعها في منتصف مارس، وعليه فمن الغريب أنَّ ليوناردو لم يقم على الإطلاق بتسليم العمل. إنّه أول مشاريعه غير المكتملة، وأول تراجع له عن اتفاق مبرم الشيء الذي سوف يضر بموقفه المهني.  
قطعة المذبح الجميلة كانت لتحل محل لوحة سابقة لبرناردو دادي والتي تسجل ظهور العذراء للقديس بيرنارد، وتشير الاتفاقية إلى أنَّ ليوناردو كان ملتزماً بإنتاج لوحة تتناول الموضوع ذاته. لا يوجد بين رسومات ليوناردو أي أثر لأي رسم تمهيدي أو دراسة لرؤيا القديس برنارد، ولكن ربما أمكن سماع رجع بعض الصدى لهذا العمل الغامض في لوحة لفيليبينو ليبي. وبحسب المجهول الجادي، فقد بدأ ليوناردو العمل على اللوحة بالفعل، وأنّها اكتملت لاحقاً من رسوماته التمهيدية التي أجراها فيلبينو. كما أنَّ هنالك قطعة لتزيين المذبح بالفعل بريشة فيلبينو تظهر رؤيا القديس برنارد: وهو عمل رائع يوجد الآن في دير فلورنسا. ولقد تم رسمها في أواسط ثمانينيات القرن الخامس عشر لكنيسة آل بوغليز العائلية في مارينيول، بالقرب من فلورنسا؛ أما المتبرع، فهو بيرو ديل بوغليز، يبدو أسفل اليمين. هل كان المجهول الجادّي محقاً؟ هل تلك اللوحة الكارتونية لليوناردو من عام 1478؟ أمن الممكن، وعلى الرغم من أنَّ أحد الملائكة، ذو شبه كبير بذلك الذي في لوحة البشارة لليوناردو، فلا توجد هنالك أي حاجة بعد للوحة وهمية مفقودة من أجل تفسير بصمة ليوناردو عليها . 
على تلك الصفحة من الرسومات والمذكرات جملة مطموسة جزئياً يرد بها ذِكرُ فيورفانتي دي دومينيكو وتقول: ""[…]mbre 1478 inchomincai le 2 vergini marie'. ". ربما كان التأريخ سبتمبر، أو نوفمبر، أو ديسمبر 1478. أيٌّ "المريمين العذراوين" أو السيدتين اللتين بدأ ليوناردو العمل عليهما في ذلك الوقت؟ وهل هما السيدتان ذاتهما اللتان تظهران في قائمته لعام 1482، والتي تورد عدة أعمال كان قد نفذها في فلورنسا وهو بصدد أخذها معه إلى إلى ميلانو؟ إنهما موصوفتان في قائمته على أنّها " اكتملت السيدة"، و"أخرى على وشك أن تكتمل، وهي التي تظهر في الصورة الجانبية". 
يعتقد كينيث كلارك أنَّ السيدة التي في اللوحة الشخصية هي العذراء المرضعة، والموجودة الآن في سان بطرسبيرج. أما اللوحة المكتملة فقد جاءت لاحقاً بالتأكيد: إنّها من أعمال مرسم ليوناردو في ميلانو، وعلى الأرجح منذ بداية ثمانينيات القرن الخامس عشر. ولكن يحتج كلارك بأنّها كانت قد بُدئت في فلورنسا، وتم جلبها إلى ميلانو بذات الحالة من عدم الاكتمال التي ذكرت في قائمة عام 1482. وفي صيغتها المكتملة ظهرت فيها لمسات غير ليوناردية، مثل رأس الطفل المستبدل الغريب: هذه هي من عمل أحد تلاميذه الميلانيين، جيوفاني انطونيو بولترافيو، أو ماركو دوغ جونو. ولكن هنالك رسم برأس فضي من رسومات المرسم لرأس السيدة، تم تنفيذه على قطعة ورق خضراء، وهو بالتأكيد بيد ليوناردو.  
سفر التكوين الفلورنسي الخاص بلوحة السيدة المرضعة يظل يعوزه الدليل. ونحن على ثقة أكبر بخصوص لوحة أخرى لليوناردو في الصومعة- السيدة العروس(لوحة9). ومن ناحية أساليبية فهي تنتمي إلى حقبة ليوناردو الفلورنسية الأولى. فهي على الأرجح واحدة من العذراوين اللتين بدأ العمل بهما في 1478، بيد أنّ تحديد اللوحة المكتملة للسيدة والمذكورة في قائمة عام 1482؛ شيء ينقصه التأكيد: فبعض نواحي اللوحة بالفعل ما زالت قيد الإنهاء. 
تم نسخ هذه اللوحة الزيتية الصغيرة (19×12بوصة) على نحو يفتقر إلى الخبرة إلى حدٍ ما وتنفيذها على قماش في القرن التاسع عشر، وهي واحدة من أكثر أعمال ليوناردو إهمالاً. وفيها طلاوة، ربما بسبب كل عيوب تفاصيلها، وهي طازجة ومليئة بالحركة التي تعلو بها عن وضعية وأناقة سيدات فيروكيو بشعورهن الشقراء وأصابعهن الصغيرة المرفوعة. فهذه السيدة على ما يبدو طفلة، ليست بالجميلة حتى. فشعرها الكستنائي الطويل المصفف على شكل جدائل، ينسدل إلى ما تحت كتفها الأيسر، ويوحي للوهلة الأولى بهيئة سيمونيتا كاتاني- ولكن فقط لهنيهة قصيرة: ومرة أخرى يعتري المرء حس لدور النماذج البشرية الذي كان يرفضه ليوناردو بوضوح. فهي تناقض سيدات بوتشيلي الضعاف، الجميلات، ذوات الأعين اللوزية. أما بيرنارد بيرينسون العظيم- والذي طالما كان يؤثر لوحات ليوناردو على لوحاته هو- فقد اعتبرها صريحة القبح: " امرأة ذات جبين أصلع، وخد منتفخ، وابتسامة بلا أسنان، وعينين دامعتين، وعنق متغضن".
كما أنّه من الغريب على فيروكيو مظهر اللوحة القاتمة الجديد، والدرجة المخملية للرسم. فالأشكال مضاءة بشكل كبير وسط الألوان الرمادية والخمرية الموحية للخلفية. فالسمة العامة صامتة، متواضعة، أليفة. والاختبار الفني يبين وجود رسم تمهيدي في الأسفل باللون البني المصفر الداكن، والألوان تمتد فوقه " على شكل ترسبات مثل قطرات الندى".  
وهنالك غموض في التفصيل. فقد أعيد رسم بعض أجزاء اللوحة: فعنق السيدة ويد الطفل اليمنى تُظهران علامات صقل بالفرشاة في وقت لاحق، كما أنّ الجزء السفلي من البزّة هو الآخر قد تعرض لإزالة شيء منه. ولكن الفم هو ما يثير المشاكل لدى الناظر إلى اللوحة في معظم الأحيان. فالعذراء تبدو، مثلما يؤكد بيرينسون في حزم، بلا أسنان. ووفقاً لدي ليبارت، والذي أخضع العمل للدراسة في1909، فإنَّ ثغرها نصف المفتوح كشف عن "وجود أسنانها المرسومة بدقة عالية على الرسم التمهيدي باللون الأسود في الطبقة السفلى من اللوحة"، ولكن يبدو أنّ هذه البقايا قد اختفت الآن بالكامل نسبة لتأكسد الطلاء.  كما أنّ منظر النافذة الخالي هو الآخر مدعاة للانزعاج. هل تمت تغطية شيء أكبر هنا، أم أنّها إحدى خدع ليوناردو الأصلية؟
إنَّ حرمانها من المنظر هو المتوقع، لأنّ العين تعود حسيرة بحس متجدد لباطن المشهد. الارتفاع الذي تم وضع النافذة عليه يعطي الاثنين حساً بالعزلة. فليس ثمة مرأى للعالم: وإنّه لامتياز أن نحظى منهما بتلك اللمحة. ويعزز من هذا الشيء غياب التقاء الأعين- فلا يتجه نظر الأم ولا نظر الطفل إلى اتجاه المتفرج، فالمشهد كله ينحصر بينهما، وهو يرتكز على الزهرة التي يتأملها الطفل. فهذه الزهرة البيضاء الصغيرة ليست- كما يقال في بعض الأحيان- غُصيناً من ياسمين، والتي هي خماسية البتلات( وقد رسمت كذلك في لوحة ليدا المحفوظة بالأوفيزي)، ولكنها تنتمي إلى عائلة الزهور رباعية البتلات والمعروفة بالصليبية (Cruciferae). وبحسب عالم النبات ويليام إمبولدين، فهي على الأرجح الجرجير المر، Eruca sativa، والتي ترمز بشكل تقليدي إلى آلم المسيح، من خلال شكلها الصليبي ومراراتها معاً.  وكما في السيدة التي تغزل، يتأمل الطفل رمزاً لعذابه المستقبلي. فالأم التي كانت تمد يدها بالزهرة تفعل ذلك في غفلة؛ فهي محجوبة عن إدراك كنه مستقبلها المأساوي، وكذلك الطفل.
واللوحة( كما كانت في الأصل) لديها قصة من التقلبات الرومانسية. فلم يكن مكانها معروفاً حتى بدايات القرن التاسع عشر، بيد أنّها ربما كانت لوحة السيدة والطفل الموصوفة في 1591 باعتبارها "لوحة صغيرة بألوان الزيت بيد ليوناردو"، والتي كانت آنذاك في منزل عائلة آل بوتي في فلورنسا. وفي عام 1820 ظهرت بشكل غير متوقع في محافظة القرم التابعة لاستراخان. وبحسب إحدى الشهادات فقد وصلت هناك ضمن متاع موسيقيٍّ إيطاليّ متجول. وبحلول عام 1824 أضحت في حيازة عائلة آل سابجنيكوف؛ فقد كان في هذا التأريخ، بحسب سجلات العائلة، أنه قد تم نقلها إلى قماش بواسطة مرمم لوحات يدعى كوروتكوف، وأنَّ الرسم أصبح لاحقاً في فرنسا، في مجموعة الفنان ليون بينوا، والذي كانت زوجته تنتمي إلى عائلة سابجنيكوف. وبعد وفاته عادت إلى سان بترسبرغ. سيدة آل بنوا، كما تسمى الآن عُرضت هنالك للمرة الأولى في عام 1908، وتم شراؤها لصالح الصومعة بواسطة تسار نيكولاس الثاني في 1914.
وهنالك ثلاث لوحات ترتبط بشكل وثيق بسيدة آل بينوا: رأس طفل في الأوفيزي، والذي يصوّر عزم الطفل بينما يتفحص الزهرة، والسيدة والطفل وطبق الفاكهة الموجودة في اللوفر، وصفحة من الدراسات في المتحف البريطاني.   وقد أدت هذه اللوحات بالمقابل إلى رسومات تمهيدية أخرى تتعلق بالسيدة والطفل (أو على أي حال الأم والطفل) والتي تعود لتلك الفترة. وفي رسم جميل ومغمور في كلية الفنون الجميلة في أوبورتو شيء من لمسة البينوا، فهو يظهر الطفل جالساً في حجر الأم بينما هي تغسل قدميه في أحد الأحواض. وحتى وقت قريب كان هذا العمل يُنسب إلى رافاييلينو دا ريجو، وهو من أتباع تاديو زوكارو في منتصف القرن السادس عشر. وفي عام 1965 تم تحديد نسبتها لليوناردو من قبل فيليب باونسي، والذي لاحظ بعض آثار كتابات ليوناردو تظهر عليها من الخلف. بينما كانت اللوحة موضوعة على الأرض وظهرها للأعلى، ولم يكن بالإمكان إزالتها من حاملها دون المخاطرة بسلامتها، فكان أن تم فقط فك شفرة جزءٍ من نص ليوناردو على الجزء الخلفي من اللوحة. (في عالم مرايا ليوناردو، بالطبع، يمكن قراءة الكلمات التي تظهر على المرآة من اليسار إلى اليمين). إنّها قائمة من المفردات. يمكن قراءة سبع كلمات منها، كلها تبدأ بحرف ال A [affabile, armonia, etc.] . وهذا يربط بين لوحة أوبورتو بلوحة أخرى في ويندسر، والتي تظهر طفلاً بديناً يجلس على ذراعي أمه المنحنيين والتي كانت بها هي الأخرى قوائم من الكلمات المرتبة هجائياً على الجزء الخلفي منها.  
وجزء آخر من هذه السلسلة من اللوحات التي تعود إلى أواخر سبعينيات القرن الخامس عشر هو رسم تمهيدي للسيدة والطفل مع القديس يوحنا الطفل، وهو الآخر في ويندسر. وربما يكون هذا الأخير قد أنهي رسمه في لوحة كاملة من الكرتون، أو ربما حتى تم تلوينه بالكامل، إذ أنَّ لوحة السيدة والطفل قد أعيد رسمها بالكامل تقريباً بريشة اندريه دا ساليرنو في نابولي. وقد تم ضغط الأشكال الثلاثة في الرسم على هيئة هرم، وهو وحدة إنشائية عاد إليها ليوناردو في جماعة القديسة آن بعد عشرين عاماً. هنالك إشارة لمنظر يقع خلف الشخوص البادية في اللوحة، والتي تظهر حُبَّه غير المسبوق للهضاب المتحدرة. وهذا الرسم هو النسخة الأولى من مجموعة ظلت انعكاساتها تظهر في أعمال ليوناردو- أجتماع المسيح ويوحنا المعمدان كطفلين (حلقة لم توجد إلا في الأبوكريفا أو الأسفار التي اعتبرتها الكنيسة محرّفة). وهي تعود لتظهر في سيدة الصخور، ولاحقاً في رسم على الكارتون للسيدة العذراء والطفل والقديسة آن والقديس يوحنا المعمدان والمحفوظ في المعرض الوطني. ويعد هذا النوع من التجميع، نادراً في الفن الإيطالي في ذلك الوقت: فليوناردو يبتكر، أو يجترح أسلوباً آخر، ويأتي إليه التجميع من مكان ما غير ما تعارف عليه في فن التصوير. وباستحضار الظروف التي حفت طفولته، فقد يتساءل المرء إن كان هذا الطفل "الآخر" الذي ظل يتردد في لوحات ليوناردو، هذا الغريب الذي يتأمل في الثنائي المكمّل لذاته والمتجسد في شخصي السيدة العذراء والمسيح، إنّه انعكاس لليوناردو بالتحديد، والذي تبدو علاقته بوالدته مشحونة بالخوف من الرفض.
ولكن لم يكن الرفض طابعاً لدراسات الأم والطفل الفلورنسيين هذه بل الاحتفاء: التدليل، الإطعام، والغسل، و- إن كانت السيدة المرضعة هي حقاً جزء من هذه المجموعة- إرضاع طفلها. والأكثر مدعاة للفرح من كل ذلك هي سلسلة السيدة والطفل والقط. فكما في سيدة آل بنوا، هنالك تركيز على شباب الأمّ العذراء- المرأة الصغيرة تكاد تكون فتاة ما زالت. (قد يفكر المرء بمريم الفلاحة المراهقة في الأنجيل وفقاً لرواية متى لبازوليني). هذه الرسومات التمهيدية تعتبر من أكثر أعمال ليوناردو الفلورنسية حيوية. فما تتسم به من سرعة وحنان يجعلها تكاد تقفز قفزاً من الصفحة: فهي تنتمي إلى واقع اللحظة التي رُسمت فيها- بطريقة لا تتوفر في اللوحات المكتملة. فهؤلاء الأشخاص حاضرون بالفعل، في المرسم أو في غرفة ما. هنالك أربع صفحات من الرسوم التمهيدية التي أنجزت بسرعة فائقة: خليط من القلم، والفحم والرؤوس المعدنية. وتتداخل الشخوص- باليه من الحركات- بينما تنهمك نية الرجل الشاب في الخربشة، يهرع قلم الحبر إلى التقاط صدق لحظي لأجسادهما وإيماءات حياتهما. وعندها تأتي أربع داراسات أكثر اكتمالاً، تم تتبع واحدة منها إلى الجزء الخلفي منها، حيث يقوم ليوناردو بتجريب موقع مختلف لرأس الأم: والأكثر اكتمالاً ودقة وسكوناً من بينها جميعاً، هو الرسم المخفف قليلاً بالقلم والحبر في الأوفيزي. 

أمهات وأطفال، 1478-1480 أعلى اليسار رأس طفل، على الأرجح من رسم تمهيدي للمسيح الطفل في لوحة سيدة آل بينوا. أعلى اليمين رسم أوبورتو والمعروف ب إل بانيتو [وقت الحمام). أما أسفل اليمين فهو رسم لطفل وقطة. وأسفل اليمين دراسة للسيدة والطفل والقطة.  
وليس ثمة ما يدل على أنَّ هذه الرسومات الرائعة قد أفضت إلى أية لوحات على الإطلاق، ماعدا كونها تعتبر حتى الآن مراحل باتجاه أعظم لوحاته الفلورنسية الأولى: تبجيل المجوس، حيث كان الطفل المشرئب من حجر والدته به كثير من الشبه بالرسم التمهيدي. ولكن القطة اختفت، وأخذت معها الحيوية، ملاحظة حول الرسم لا تخلو من دعابة.


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment