Wednesday, March 20, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 11 - أصحاب في بيشتويا





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
11-أصحاب في بيشتويا
ربما كان مما يبعث على بعض الراحة، في صحوة قضية سالتاريللي، أنْ ينشغل فيروكيو بتنفيذ بعض الأعمال المهمة في مدينة بيستويا. وفي الخامس عشر من مايو 1476- وعلى وجه التحديد أثناء تلك الفترة الحاسمة بين الاتهام والتبرئة-  أُسندت إليه مهمة عمل نصب تذكاري هائل من الرخام في كاتدرائية بيستويا، تخليداً لذكرى الكاردينال نيكولو فورتاغويري. وقد كانت هنالك بعض الخلافات، حيث خصص قنصل بيستويا 300 فلورين لأداء العمل بينما كان فيروكيو يطلب 350. وفي بدايات عام 1477 قدم بيرو ديل بولايولو نموذجاً والذي قام القنصل بإعداده للقبول، ولكن تم الاحتكام في هذا الخلاف إلى لورينزو دي ميديتشي، الذي اصدر حكمه لصالح فيروكيو . 
وفي تلك الأثناء تقريباً، كان فيروكيو قد كُلف بصنع قطعة لتزيين المذبح في ذكرى أسقف بيستويوي سابق، هو دوناتو دي ميديتشي، وهو يمت للورينزو بصلة قرابة من بعيد. وقد كانت هذه اللوحة تتضمن رسماً للعذراء والطفل على طريقة فيروكيو، وحولهما القديسين دوناتوس ويوحنا المعمدان، وقد قام بتلوينها لورينزو دي كريدي- وهي أولى أعماله المؤكد تأريخها. وقد بدأ العمل عليها بحلول عام 1478، ولكن مرة أخرى كانت هنالك خلافات مالية، ولم يتم إنهاؤها قبل عام 1485 على الأغلب.كما كانت هنالك إشارات قوية على أنَّ ليوناردو قد اشترك في تصور الفكرة الأصلية لهذه اللوحة. حيث أنّ إحدى الدراسات الصغيرة الحديثة في الأصباغ بالنسبة لشكل القديس دوناتوس(الشخص الذي سُمّي أسقف آل ميديتشي تيمناً به، والذي تخلده اللوحة)، قد ذهبت إلى أنّه بريشة ليوناردو. كما أنّ هنالك رسماً للقديس يوحنا المعمدان بقلمٍ ذي سنٍّ فضية في متحف ويندسر، والذي يشبه إلى حد كبير رسم القديس يوحنا في لوحة كريدي الكنسية.  
كما أنّ لوحة البشارة الصغيرة المحفوظة في متحف اللوفر، والتي هي في الأصل إحدى اللوحات الدرجية( لوحات ملونة غير عريضة في القاعدة) في مذبح بيستويا، والتي على ما يبدو قد تم رسمها على طراز لوحة البشارة الليوناردية. ويقال أحياناً أن تلك النسخة من الدرجيات هي الأخرى من تنفيذ ليوناردو، ولكن من المحتمل أكثر أن تكون من أعمال كريدي تحت إشراف ليوناردو. 
وهذه العلاقات بين الصور تشير إلى اشتراك ليوناردو في أولى مراحل تنفيذ مشروع لوحة مذبح بيستويا. وقد كان بحلول ذاك الوقت أكثر الفنانين بروزاً في مرسم فيروكيو، وإنّه لمن الطبيعي أن نجد زميله الأصغر كريدي يعمل تحت إشرافه. فربما كان ليوناردو مشتركاً في المراحل الأولى للنصب التذكاري لآل فورتاغويري، وهنالك نموذج طيني للضريح في متحف فكتوريا وآلبرت والذي يعتقد البعض أنّه قد قام بتنفيذ جزء منه على الأقل. وهذه المشاريع البشتوية في الأعوام 1476-1477 قد قدمت لليوناردو التغيير المنشود في المشهد عقب تداعيات قضية سالتاريللي. 
وقد كانت بيستويا مدينة يعرفها ليوناردو من قبل: في الحقيقة يقيم فيها بعض من أفراد أسرته- فعمته فيولانتي قد تزوجت رجلاً من بيستويا. وقد كانت ليست سوى إحدى شواطيء المحافظة المنعزلة التي قد يلوذ بها الرجل الشاب- والذي قد مُني بطرده من العمل في غمرة عاصفة الفضيحة الفلورنسية. 
وفي ذات الورقة من المذكرات والرسومات التي تضم تلك الإشارة الشغوفة إلى فيورافانتي دي دومينيكو ما يؤكد على ذلك الأمر. ففي عقب الصفحة جملة متقطعة. وقد تمزق الجزء الأول منها، وبقيت عبارة "e chompa in pisstoja" " و صاحب من بيستويا". (Chompa  مفردة مناقضة للمقارنة، وهي كلمة مفعمة بالعاطفة، تعني الزميل أو الخليل.) وجزء آخر على الصفحة يحمل تأريخ 1478. وأحياناً قبل ذلك، على سبيل الاستنتاج، صادق ليوناردو بعض الأشخاص في بيستويا. ويجوز أن يكون ذلك الفيورافانتي نفسه واحداً منهم؛ كما يمكن أن يكون واحدا منهم، الشاعر البيستويوي أنطونيو كاميللي، والذي يبدو أنّه كان في رفقة ليوناردو بعد بضع سنوات من هذا التأريخ. وتعد هذه الخربشة التي تستعصى على القراءة دليلاً أقوى على أنَّ ليوناردو اغتنم الفرصة ليبقى على مسافة ما من فلورنسا في الفترة التي عقبت فضيحة سالتاريللي. 
وعلى بعد أميال قليلة إلى الغرب من بيستويا تقف قرية سان جينارو على قمة ربوة صغيرة، بكنيستها الرومانية، أو أبرشيتها التي قام بتأسيسها اللاجئون النابوليون الذين هربوا من انفجار فيزوف في بدايات القرن السادس عشر. وقد عرف ليوناردو القرية بالتأكيد وتدل على ذلك علامة تركها على موقعها في إحدى خرائطه لإقليم التوسكان الأوسط، وقد ارتبطت بمشروع لشقِّ قناة من نهر آرنو عبر بيستويا وسيرافالي . 
وداخل هذه الكنيسة، قاعدة منخفضة بجانب الباب الغربي، وهي عبارة عن تمثال صغير من الطين لأحد الملائكة. وقد تعرض للتجاهل على مدى قرون عدة، تم التعرف عليه قبل حوالي الخمسين سنة كأحد مخرجات " مدرسة فيروكيو، وقد قُبل الآن كأحد الأعمال التي نفذها ليوناردو بالكامل (لوحة 8). وهي قطعة بديعة، نابضة بالحياة، ومفعمة بالحركة. وبعض الأجزاء تم صنعها بدقة، والأخرى يبدو عليها الإهمال والعجلة والتي تناسب تمثالاً رديئاً غير متقن الصنع أكثر منها لمنحوتة مكتملة. 
إنَّ يد الملاك اليمنى هي انعكاس مذهل لتمثال لوحة البشارة، والشعر الطويل الأجعد هو البصمة المميزة لليوناردو. ولكم راعني مدى ما تنطوي عليه القدم اليمنى من إتقان وواقعية، والتي تمتد فويق الرصيف- المفاصل التي ضُبطت بدقة، والنعل الملائم لها، وانثناءة الأصبع الصغير باتجاه الأرض. وضعية الملاك تم عكسها في بعض الأشكال على صفحة من دفتر رسوم فرانشسكو فيرروتشي التمهيدية- وهو الدفتر ذاته الذي يشتمل على رسم مثال داؤود في لوحة فيروكيو، وهي شخصيات لم يرسمها ليوناردو، ولكنْ هنالك سطر مكتوب على الصفحة يبدو أنّه يعود إليه. 
ليس هنالك شيء معروف حول مصدر هذه القطعة. ولكنْ من المؤكد أنّها كانت في سان جينارو بحلول القرن الثامن عشر، وقد ظهرت لأول مرة في السجلات في 31 يوليو 1773، عندما وقع سُلَّم أحد العمال عليها وكسر الجزء الأعلى إلى عدة أجزاء. وقد تم ترميمه بشقِّ الأنفس على يد رجل من السكان يدعى بارسوتي. وما يزال بإمكان الناظر التعرف على خدش دقيق مثل ندبة حادث على جبين الملاك. وآثار اللون- أصفر، وأخضر، وأحمر- والتي يمكن رؤيتها على المنحوتة هي لمن قام بالترميم على الأرجح ولكنها قد تشير إلى لوحة أصلية كان ينقل منها: أي بعبارة أخرى أنّه كان في الأصل منحوتة متعددة الألوان، كما هو متعارف عليه في التماثيل الكنسية متى ما كانت المادة المستخدمة طيناً أو خشباً . ويظل السؤال حول ما أتى بمنحوتة  ليوناردو دا فينشي إلى هذا الركن المهمل دون حراسة في كنيسة ريفية بالقرب من بيستويا لغزاً محيّراً. وربما كانت إحدى الإجابات أنّه كان موجوداً هناك منذ البداية- وذلك يعني منذ صنعه، حوالي عام 1477، على يد فنان فلورنسي صغير لجأ إلى تلك المنطقة مؤقتاً، وكان سعيداً بتلك المهمة المحلية الصغيرة، ومغتبطاً بخضرة روابي التوسكان الفسيحة. 
في يوم من أيام أبريل عام 1477 دخل ليوناردو في عامه الخامس والعشرين. ويخال لي أنّه يحدّق في انعكاس وجهه في المرآة- وهو عمل سيحتار حول تعقيداته البصرية تحت بداية موضوع، " هب أنَّ ب وجه يرسل صورة زائفة إلى المرآة ج-د."   فهو يتساءل حول مدى إعجابه بما يرى. ولم يعد، بمقاييس توقع العمر في القرن الرابع عشر في فلورنسا، ذلك الرجل الشاب. فقد أصبح ذلك الرجل الذي سيكون عليه دائماً من وجهة نظر أخرى. 
وبالنسبة للآخرين، فذلك الوجه الذي يطلُّ من المرآة على درجة عالية من الجمال والعبقرية الشفيفة. وقد أجمع كتّاب السيرة الأوائل على هذا الشيء. باولو جيوفيو، والذي كان يعرفه شخصياً قال: " لقد كان لطيفاً للغاية بالطبيعة، ومهذباً وكريماً، وكان وجهاً جميلاً بشكل يفوق العادة". وقال كاتب فرنسي في التزلف إلى لويس الثاني عشر، جان لوماير متحدثاً عن "جمال" ليوناردو "الخارق لقوانين الطبيعة"- وهذا في قصيدة نُشرت في 1509، وهي على الأرجح انطباع لرؤيته بشكل مباشر.   ويقول المجهول الجادّيّ، " لقد كان فاتناً للغاية، متناسق الملامح، جميلاً ومليحاً،" بشعر جميل، مصفف على شكل حلقات، " ينسدل حتى منتصف صدره". ولم يشر أي من هذه المصادر إلى لحية طويلة والتي هي إحدى الأساطير التي حيكت حوله، والتي ربما كانت إضافة حديثة إلى مظهر ليوناردو.  
وقد كان فازاري مصرّاً إلى درجة المبالغة على أنَّ ليوناردو كان رجلاً ذا "جمال آخاذ"، و"بهاء لا حدَّ له" – " لقد كان ساحراً ووسيماً، ويبعث حضوره العظيم على الراحة في أكثر النفوس اضطراباً وحزناً... لم يك يملك شيئاً، قد يذكره المرء، ولم يعمل سوى قليلٍ، ولكنه دائماً كان يحتفظ بالخيول والخدم." فلو كان فازاري يكتب اليوم، ربما لخَّصَ ذلك " الحضور العظيم" الذي قد يسمو بأرواح الناس، وتلك النعماء الفطرية والتي "حاز بها على حب الجميع"، بالكاريزما. فازاري هو الآخر قدّم ليوناردو على أنّه: رجل ذو قوة ومهارة بدنية: لقد كان "قوياً جداً وقادراً على احتمال أي درجة من العنف، بيده اليمنى يستطيع ثني حلقة حديدية في جرس الباب، أو حدوة حصان، كما لو أنّها صنعت من الرصاص". وللمرء هنا أن يعزو بعض هذه المبالغة إلى نزعة فازاري لإضفاء البطولة على ليوناردو؛ فنرى هنا انعكاساً لشدة باتيستا البرتي البدنية المزعومة، والتي يجب أن تؤخذ أيضاً مع ذرة ملح. فهذا مجاز، وتعبير بلاغي يصور ليوناردو كبطل في كامل هيئته. وربما يشير هذا إلى رغبة فازاري لتصحيح نبرة الخنوثة التي وردت في أوصاف كُتَّاب السيرة الأوائل لجمال ليوناردو. 
وسواءً أكان قادراً على ثني حدوات الحصان بيديه العاريتين، فما قد أجمع عليه الجميع، هو أنّ ليوناردو كان مليحاً، طويلاً، وعظيم الجثة، فارساً محنكاً، ومشاءً لا يملُّ ولا يكلُّ. وقد كان أيضاً كما نعرف، مهندماً بشكل مميز- في بعض الأحيان بصورة تأسر الألباب. وشعره مصفف بعناية. وكان يرتدي القمصان الوردية القرنفلية، والمعاطف المحاطة بالفرو، وخواتم اليشب، وأحذية مصنوعة من جلد مجلوب من قرطبة. وفيه لمسة من التأنق الاحترافي: " خذ بعضاً من ماء الورد الطازج ورطِّبْ به يديك، ثم خذ زهرة خزامى وافركها بين كفيك، عندها ستصبحا زكيتين."  وفي واحدة من مقارناته بين الرسّام والنحات يصور الآخير مضمخاً بالعرق ومتسخاً من العمل " وجهه مغطىً بغبار الرخام، فيبدو مثل الخبّاز". أما الرسام فعلى النقيض، فهو يعمل في "راحة"؛ وهو "مهندم"، و"يحرك فرشاة خفيفة مغموسة في ألوان رقيقة" و" يزّين نفسه بما يتمناه من ملابس." 
ولكنّه لا يستطيع فهم هذا الرجل اليافع الأكثر حباً للظهور بدون رؤية ضغوط المجهول، والوحدة وعدم الرضا في الوجه الذي يطلّ من خلال المرآة، فهو يشعر بالغربة وعدم الانتماء حياله: غير شرعي، غير متعلم، محرّم جنسياً. وسوف تتوارى هذه الأمزجة بشكل أكثر استغلاقاً في هالة من الانطواء واللامبالاة. وقد لوحظت هذه الأشياء في عبارات متقطعة من مخطوطاته-  وميضات في العتمة: " إن كانت الحرية عزيزة عليك، فلا تقل بأنّ وجهي هو سجن الحب.." 

------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment