Monday, March 18, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 9 - الأكاديمية





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

9-الأكاديمية

ليس لأحد أن يقرأني ما لم يكن خبيراً بالرياضيات
فورستر3، ص82
---------- 
ألقت سنة 1496 بظلالها على عمل العشاء الأخير بكل عظمته، كما شهدت ازدهار علاقة صداقة عظيمة بوصوله إلى ميلانو مع خبير الرياضيات "الأخ  لوكا باكيولي"- المعلم لوكا كما يدعوه ليوناردو. 
كان باكيولي القادم من قرية بورغو سان سيبولكرو الصغيرة على الطرف الجنوبي من إقليم التوسكان في أوائل الخمسينيات من عمره. وتتلمذ في شبابه على يد بييرو ديلا فرانسسكا، الذي كان لديه مرسم صغير هناك، وقد تأثر إلى حدٍ عميق بكتابات بيرو الرياضية عن المنظور، وفي رأي فازاري، أنه قد سطا عليها في ما كتبه هو نفسه لاحقاً. وتخلى عن وظيفة واعدة كمحاسب في أواسط سبعينيات القرن الخامس عشر لينضم إلى الإخوة الرهبان الفرنسسكان، فالتزم الزهد، وصار باحثاً سائحاً طيلة إثني عشر عاماً، يلقي الدروس في الفلسفة والرياضة، وشوهد في بيرجيا وروما، وأوربينو، وزادار في الشق الكرواتي من البندقية. وفي 1494 نشر كتابه الأول الموسوعي الخلاصة في الرياضة والهندسة والتناسب. والذي حوى 600 صفحة، في أوراق مطوية باللغة الإيطالية. وبالتالي فهي جزء من التيار الحديث الذي ابتعد عن اللغة اللاتينية. وقد سجل ليوناردو في ملاحظة ضمتها مخطوطة اتلانتكس؛ شراءه نسخة من كتاب ("الرياضيات للمعلم لوكا") مقابل 6 ليرات، وهنالك الكثير من الاقتباسات من هذا الكتاب في مدوناته، ربما يتعلق بعضها بالهندسة الإنشائية للوحة العشاء الأخير.  وكما يقول العنوان، فهو ملخص أكثر من كونه عملاً ذا قدر من الأصالة. ففيه أقسام حول الرياضيات النظرية والتطبيقية، والجبر، والهندسة وعلم حساب المثلثات، ولقد كانت لديه اطروحة من ستة وثلاثين فصلاً حول المحاسبة ثنائية القيد، وبعض المناقشات الرائعة حول ألعاب الصدفة، وجدول للتحويلات يظهر العملات، والأوزان، والمقاييس المستخدمة في شتى الولايات الإيطالية. ونسبة لوضعه المعاصر كفيلسوف، فالأخ لوكا يتمتع بنزعة عملية قوية، وكثيراً ما يُذكر بمقولته بأنّ "المحاسبة المنتظمة تحافظ على دوام الصداقات."

الأخ لوكا باكيولي في صورة شخصية بريشة جاكوبو دي بارباري، 1495.
واللوحة التي رسمها له جاكوبو دي بارباري مؤرخة في 1495. ويظهر فيها بزيه الفرنسسكاني، ويضع يده على أحد كتب الهندسة بينما تشير الأخرى إلى لوحٍ صخري عليه شكل هندسي واسم "إقليدس" محفور على الجانب. وعلى المكتب أدوات صنعة الهندسة: الطباشير والاسفنج، ومجموعة من المربعات، وبوصلة. ويتدلى فويق كتفه الأيمن نموذج ثلاثي الأبعاد لشكل متعدد الأوجه مثل بلورة عملاقة. ومحفور على الكتاب الضخم ذي الغلاف الجلدي على الطاولة  عبارة "LI. RI. LUC. BUR." (أي [Liber reverend Luca Burgensis] كتاب الموّقر لوكا البيرجيني) مشيراً إلى خلاصته، المنشورة في السنة السابقة. والرجل الوسيم الذي يقف خلفه هو غويوبالدو دا مونتيفيلترو دوق أوربينو على الأرجح، والذي أهدى إليه كتابه "الخلاصة".
وصل باكيولي إلى ميلانو في أواخر عام 1495 أو 1496، وعليه فإنّ هيئته في هذه اللوحة تشير إلى العمر الذي عرف فيه ليوناردو للمرة الأولى. وكان قد تلقى دعوة شخصية من الأسمر، ولكن من الجائز أن يكون ليوناردو قد لعب دوراً في التوصية بهذا المعلم الرياضيّ الجديد. ويبدو أنّهما أصبحا صديقين في فترة وجيزة، وبحلول السنة التالية جمع بينهما عمل مشترك. كان باكيولي يعمل على كتابة مؤلفه العظيم التناسب الإلهي، ويقدم له ليوناردو الرسوم الإيضاحية الهندسية. وقد اكتملت أول ثلاثة كتب له بنهاية عام 1498، وقد قُدمت نسختان مخطوطتان تعودان إلى 14 ديسمبر 1498 إلى لودوفيكو وغالياتسو سانسيفيرينو. وفي تقديم الطبعة الصادرة في عام 1509، يؤكد باكيولي بأنَّ الأشكال الإيضاحية " جميع الأشكال المنتظمة والمعتمدة" (أي المضلعات المنتظمة وشبه المنتظمة) قد نُفذت من قبل أكثر الفنانين جدارة، والخبير بعلم المنظور والعمارة والموسيقى وسيد المناقب كلها [de tutte le virtu doctato] ليوناردو دا فينشي الفلورنسي، في مدينة ميلانو، حيث عملنا معاً على نفقة دوق المدينة الأكثر تميزاً لودوفيكو ماريا سفورزا انجلو، في الأعوام المباركة التي حلت علينا منذ 1496 حتى 1499."  تظهر هذه الرسومات بالحبر والألوان المائية في المخطوطات التقديمية: وهي على الأرجح منسوخة من قبل المساعدين. ويظهر حفر لها في نصَّ مطبوع من عام 1509، عليه فهذه المضلعات ومتعددات الوجوه تعتبر أولى أعمال ليوناردو المنشورة بين دفتي كتاب: أول إنتاج متسلسل. 

ثنعشري الأوجه من تصميم ليوناردو، في نقش من كتاب التناسب الإلهي لباكيولي(1509).
وكتب ليوناردو :" تقدم الرياضيات أعلى درجة من المعلومية".  ولقد كانت جزءاً من التدريب الأساسي بمرسمه، ولكن الآن وتحت كنف لوكا باكيولي، بدأ التعمّق أكثر في عالم الهندسة الأكثر تجريداً، كتاب قوانين الانسجام والتناسب. ودراسته إقليدس عن كثب، واضحة في كتيبين من أواخر تسعينيات القرن الخامس عشر- مخطوطتي باريس M، وI- بيد أنّه كان مدركاً لثغرات معرفته بالإجراءات الأساسية، وأصدر واحدة من مذكراته الخاصة بالتعلّم الذاتي:
" تعلّم من المعلم لوكا كيف تضاعف الجذر التربيعي." 
كان التعاون المشترك بين ليوناردو ولوكا باكيولي- موثقاً في مدونة ليوناردو، وقد ذُكر صراحة في تمهيد باكيولي لكتابه التناسب الإلهي- واحد من الأسس التأريخية لأكاديمية ليوناردو السامية. إنَّ وجود هذه الأكاديمية مثار جدل كبير: وجُلُّ ما يستطيع المرء قوله إنّها كانت موجودة على الورق بكل تأكيد، في تلك السلسلة من التصاميم العقدية الجميلة التي تتسم بها الكلمات "أكاديمية ليوناردو فينشي" (تختلف التهجئة ويتم اختصارها في بعض الأحيان). ويبدو أنّ المقصود منها جهازاً أو شعاراً لجسد أوغسطس الرنان، ولكن يعتقد الكثيرون أنّها كانت من أضغاث أحلام ليوناردو.  
وكانت التصميمات مقصورة على نقوش( انظر صفحة 41)، ومعظمها تم تنفيذه في البندقية في مطلع القرن السادس عشر: هنالك دليل قوي على أنَّ البرشت ديرر قد رأى طبعات منها في زيارته للبندقية في عام 1504-1505.  أما الأصول التي نفذت الرسومات على أساسها فلم تنج، ولكن هنالك روايات معقولة عن أنّها قد نفذت في ميلانو في أواخر تسعينيات القرن الخامس عشر، وأنّ ليوناردو قد جلبها معه عندما زار مدينة البندقية- للمرة الأولى، على حد علمنا- في عام 1500. وعليه فإنَّ الأصل قد تزامن مع نقوش سقف  قاعة البرج المتشابكة، والتي كان يعمل ليوناردو على تنفيذها في 1498، والتي وصفها لوماتسو "بالاختراع الجميل للأنماط العقدية الغريبة". كما أنّها تتزامن أيضاً مع تصاميم الأشكال متعددة الأوجه التي نُفذت من أجل كتاب التناسب الإلهي لباكيولي، والمرسومة في ميلانو في أو قبل عام 1498، وتم نقشها لاحقاً في البندقية.  
ويبدو أنّ التصاميم الأصلية "لشعار الأكاديمية" تنتمي للسياق التعاوني بين ليوناردو وباكيولي ذاته. فالفكرة هي أنَّ الرجلين شكّلا نواة مجموعة فكرية متمايزة أو طائفة انفرط عقدها بسهولة شديدة على ما يبدو.  
في الحقيقة هناك مشهد مستقل لها في كتاب صغير مبهم تم نشره في مطلع القرن السابع عشر: Il supplilmento della nobilita di Milano,  بقلم غيرالومو بورسيري. ويشير المؤلف في هذا الكتاب إلى " أكاديمية سفورزا للفنون والمعمار"، وإلى الدور الذي اضطلع به ليوناردو بين جنباتها: " لقد رأيت بنفسي وعلى يدي جيدو مازينتا عدداً من المحاضرات [lettioni هي الكلمة المستخدمة وترجمتها الحرفية :الدروس]، في موضوعات المنظور، والآلات، والمباني، والمكتوبة بحرف فرنسي ولكن باللغة الإيطالية، والتي صدرت من هذه الأكاديمية من قبل وتُنسب إلى ليوناردو نفسه."  وقد توفي مازنتا المولع بالمكتبات- والذي امتلك العديد من مخطوطات ليوناردو دون شك- في عام 1613. في وقت ما قبل هذا التأريخ كان قد عرض على بورسيري مخطوطة تحوي محاضرات معينة أو دروساً منسوبة إلى ليوناردو. ويبدو أنَّ المخطوطات تعود إلى القرن السادس عشر- فحرفها الفرنسي يشير إلى أنّها قد صدرت أثناء فترة الحكم الفرنسي على ميلانو- ولكن المحاضرات التي احتوت عليها قد قدمت في الأصل أو "صدرت" في عهد "أكاديمية سفورزا" هذه. والتي لا يمكن أن تكون موجودة إلا قبل سقوط لودوفيكو سفورزا في عام 1499. وهذه الحقائق جميعها تقودنا إلى الأخذ بشهادة بورسيري شكلياً. فالمخطوطة التي وصفها اختفت، ووصفه لأصلها لا يمكن التحقق منه. وفوق هذا وذاك فهذه شهادة مستقلة عن "أكاديمية" ليوناردو وعن جميع المواد التي نوقشت هناك: المنظور، الآلات والعمارة. 
مَنْ أيضاً يمكن أن يلتحق بهذه المناقشات رفيعة المستوى؟ دوناتو برامانتي، معماري الغرايزي هو أحد المرشحين الذين لا تخطئهم العين، والبارع في الهندسة الإقليدية، ومفسّر دانتي، وفي الحقيقة هو أحد مؤسسي الأنماط العقدية أو الجَدْل. ( تشير مذكرة مخطوطة ليوناردو إلى "قروبي دي برامانتي" بعينه، ولوماتسو يذكر مهارته في تطبيق هذه التقنية.)  والنجم الآخر الذي يحتمل أن يكون قد دار في هذه الفلك هو شاعر البلاط المثقف جاسباري فيسكونتي الذي كان صديقاً حميماً لبرامانتي، الذي كتب عنه، " سوف يتسنى لك إحصاء الأرواح المقدسة في السماوات بشكل أكثر سهولة من حصر جميع المعارف التي تكمن بين جنبي برامانتي."  وكان ليوناردو قد اقتنى نسخة من "أغنيات السيد غاسباري بيسكونتي" (المذكورة في قائمة كتب مدريد)، والتي ربما تشير إلى أنغام فيسكونتي المنشورة في ميلانو في 1493. وربما جاز لنا أن نضيف أيضاً ألمع تابعي ليوناردو- بولترافيو أو برامانتينو- أما إن كان هنالك مجال للاستعراضية الزورواسترية لتوماسو ماسيني، فهذا شيءٌ لم أستيقن منه. الأعضاء المحتملون الآخرون قد نجدهم في ذكر باكيولي للمناظرة- " مبارزة علمية مميزة"، كما يعبّر عنها- والتي جرت في القلعة، في حضور الدوق، في 8 فبراير 1498.  وكان من ضمن المشاركين رجلا الدين الفرنسسكان دومينيكو بونزوني وفرانسسكو بوستي دا لودي، ومنجّم البلاط امبروغيو فاريزي دا روزاتي، والأطباء أندريه دا نوفارا، وغابريلي بيروفانو، ونيكولو كوزانو و ألفيزي مارليانو، والمعماري الفيراري غياكومو اندريه. 
وآخر ثلاثة في هذه القائمة كانوا بالتأكيد معروفين لدى ليوناردو. نيكولو كوزانو، طبيب للبلاط السفورزي، وهو مذكور بشكل مقتضب في إحدى الملاحظات باعتباره ("الطبيب كوزانو")، وكذلك ابنه غيرولامو، الذي بعث إليه ليوناردو بالتحايا مع ميلزي في عام 1508.  ذُكرت عائلة آل مارليانو بشكل متكرر في ملاحظاته، وغالباً في ما يتعلق بالكتب-
كتاب الجبر الذي بحوزة آل مارلياني، من تأليف والدهم.
في ما يخص العظام، من تأليف آل مارلياني
الكينو في التناسب، مع حواشي بيد مارليانو، من السيد فازيو
لدى المعلم غوليانو دا مارليانو أعشاب جميلة. وهو يعيش قبالة آل سترامي، النجارين.
غوليانو دا مارليانو الطبيب...لديه مضيف بيد واحدة. 
غوليانو هو الطبيب المحتفى به ومؤلف كتب الجبر، والفيس الذي شارك في المبارزة في القلعة في 1498، هو واحد من أنجاله. المعماري غياكومو اندريه كان مضيفَ ليوناردو في صيف 1490، وفي ذلك العشاء الذي كسر فيه القنفذ سالاي قناني الزيت.
وبالإضافة إلى هؤلاء يحضر صهر الأسمر غالياتسو سانسيفيرينو هذا المنتدى بالقلعة، الوسيم المهندم المثقف، والمغني المطرب، والبطل الشهير في قوائم المسابقة، إنّه "محظيّ" الأسمر الأول. وقد عرفه ليوناردو منذ عام 1491 على أقل تقدير، عندما صمم موكب "الرجال المتوحشين" لمبارزة غالياتسو، وعندما كان مهتماً بالخيول في إسطبله إلى درجة كبيرة، باعتبارها نماذجَ لتمثال حصان اسفورزا. كان غالياتسو هو الآخر راعياً لباكيولي الذي استضافه في منزله عندما وصل إلى ميلان، وقد أهديت إليه إحدى مخطوطات كتاب التناسب الإلهي، وقد صرح باكيولي هو الآخر بذلك، من خلال ستة من الأجسام الهندسية التي صممت من قبل ليوناردو من أجل تلك الأطروحة، تم تنفيذ مجموعة منها من أجل غالياتسو. فإن كان المرء يسعى لأن يعطي بعض الواقعية لهذه الأكاديمية الصغيرة قصيرة الأجل، فسيسعني القول أنَّ سانسيفيرينو هو راعٍ محتمل أو شخصية رئيسية بها. ويبدو أنَّ باكيولوي يقول الشيء ذاته من خلال مقدمته لكتاب التناسب الألهي: " نجد بين معارف الدوق وغالياتسو سانسيفيرينو الفلاسفة، ورجال الدين، والأطباء، والمنجمّين، والمعماريين، والمهندسين، والمخترعين العباقرة للجديد من الأمور".
وفي مخطوطة ليوناردو الموجودة اليوم بمتحف المتروبوليتان بمدينة نيويورك قائمة ممثلين لمشهد جوبيتر وداناي، مع الرسوم الأولية. وقد كانت المسرحية في الغالب الأعم هي "الملهاة" التي أُديت في منزل غيانفرانسسكو الأخ الأكبر لسانسيفيرينو، كونت كاياتسو، في الحادي والثلاثين من يناير عام 1496، في حضور الدوق.  
وقد كتبت على هيئة جمعت بين المقاطع الشعرية الثلاثية والثمانية، بقلم بالداساري تاكوني مستشار لودوفيكو (الذي ورد ذكر قصيدته حول حصان سفورزا في ما سبق) كما ورد اسمه أيضاً في قوائم ممثلي ليوناردو- تاكون- باعتباره أحد الممثلين. ويلعب صبيٌ يدعى فرانسسكو رومانو دورَ داناي، و يلعب دورَ جوبيتر؛ القس غيانفرانسسكو تانزي، الراعي الأسبق للشاعر بيلنشيوني،. وقد تكون هذه الملهاة الصغيرة المتقنة بأسلوب كلاسيكي والمؤداة في بيت سانسيفيرينو، ثمرةً أخرى من "أكاديمية سفورزا".
الكلمات المحفورة على التصميمات العقدية المتداخلة "أكاديمية ليوناردو فينشي" قد لا تشير إلى "نادٍ" مؤسس بشكل رسمي، ولكن يبدو أنّها كانت شيئاً أكثر من حلمٍ، لأنّ استخدام ليوناردو لمفردة "الأكاديمية" قد يدفعنا لاستحضار تلك الأكاديمية الإفلاطونية لفيشينو، والذي عرفه في فلورنسا لعشرين سنة خلت- حنين ربما غذاه مناخ فلورنسا المتطرف في عهد سافنارولا. وربما تخطر هذه "الأكاديمية" الميلانية بالبال لعلاقتها بذلك النموذج الفيتشيني: ولكن ربما كان مجالها أكثر سعةً، ومذاهبه أكثر تعدداً، وأكثر "علمية". وربما يظهر تأثر باكيولي بشكل أكبر هنا- الفيلسوف، وعالم الرياضيات الذي يعيد طرح الأفكار الافلاطونية لليوناردو الذي رفضها قبلاً لصالح مذهب التجربة والاستعلام الأكثر التصاقاً بأرسطو. ويرى المرء "الأكاديمية" كمجموعة متماسكة بشكل كبير من المفكرين الذين كانوا يجتمعون ويناقشون ويقدمون الدروس والقراءات، في القلعة أحياناً وفي منزل غالياتسو سانسيفيرينو خارج بوابة فيرسيلينا أحياناً أخرى، وفي بعض الأحيان- بدون شك- في المحكمة القديمة – مصنع المعجزات العظام حيث دائماً ما يكون هنالك بعض الأجهزة الجديدة العجيبة لتجربتها، وحيث هنالك رسوم ومنحوتات لمشاهدتها، وكتب للإشارة إليها، وموسيقى للانصات إليها. والعنصر الصاخب للحاشية- "عصابة المراهقين" تلك- لقد انزوت إلى الهامش، و تلقَّى زوراسترو أوامر تقضي بالتزامه الأدب. وقد بدت قاعة الرقص القديمة المتهالكة في حال أفضل تحت ضوء المصباح. بيد أنّ تلك "الأنشطة الأكاديمية" كانت في وقت ما ومن خلال المباريات الذهنية تسهم في إضفاء بعض الألق عليها. 
ويبدو أنّ هنالك عملين عجيبين- قصيدة ولوحة جصّية- ينبعان من داخل هذه "الأكاديمية" الميلانية. القصيدة في كتيب من ثماني صفحات يدعى (آثار روما من ناحية منظورية)[Antiquarie prospetiche romane] مجهولة المؤلف.  وهي غير مؤرخة ولكن ثمة دليل داخلي يشير إلى أنّها قد كتبت في أواخر تسعينيات القرن الخامس عشر- فلا يمكن أن تكون قبل 1495، إذ أنّها تذكر حادثة وقعت أثناء وجود قوات تشارلز الثامن في روما (1494). والكاتب المجهول يصف نفسه "بالمصور المنظوري الميلاني"، والذي قد يعتبره المرء لقباً كوميدياً، أو وصفاً ذاتياً. وقد كتبت القصيدة بأسلوب اطلق عليه أحد المحررين الجدد "الثلاثين شبه الوحشية"، فهي تعجُّ بالأساليب العامّية اللومباردية الغامضة، ومن ضمن الأمور الغامضة فيها شيء مؤكد: أنَّ القصيدة تخاطب ليوناردو دا فينشي بلهجة تتسم بالود الجليّ- "cordial caro ameno socio/Vinci mie caro" (" الغالي العزيز المحبور، عزيزي فينشي). لقد وضع الكاتب إذن نفسه في موقع عضو مجتمع ليوناردو، وبالتالي فهو يشير إلى واحد آخر على الأقل من تلك الدائرة- غيرواسترو، الذي يفترض أنّه زورواسترو. وهنالك أيضاً إشارات مشفرة ل"غجرية فيروكيو" أو "Zingara del Verrocchio". 
إنَّ القصيدة ضرب من ضروب أدب الرحلات، تصف آثار روما الأصلية، وتدعو ليوناردو لمقابلة الكاتب هناك، ليستكشف معه "ما تبقى من تلك الآثار". (ويعتبر من الجدل القول بما إذا كانت قد كتبت بالفعل في روما: فمن الواضح أنّها موجهة إلى الجمهور الميلاني، وربما كتبت في ميلانو، فهي تزخر بمدح ليوناردو بما في ذلك التورية المألوفة في فينشي وفينسير أي "الغزو" والاقتحام. ولقد مدحه كنحات "استمد الإلهام من الآثار" بشكل خاص: فهو يستطيع ابتداع "مخلوق بقلب حي، وروح إلهية أكثر من أي نقش آخر"- ربما يشير إلى حصان سفورزا. كما مدحه أيضاً بشكل مثير للاهتمام باعتباره كاتباً ومتحدثاً
Vinci, tu victore
Vinci colle parole un proprio cato..
Tal che dell arte tua orni autore
Resta dal vostro still vinto e private
[يا فينشي، أنت الفاتح الظافر بكلماتك، مثل رعد هادر، ستتهزم مهارتك الجميع ويطفيء أسلوبُك نورَهم.]
ربما كانت هذه الأبيات تشير إلى مناظرات "الأكاديمية" ومحاضراتها.
يعتقد البعض أنَّ مؤلف كتاب الآثار هو دوناتو برامانتي، المعروف بأنّه تحول إلى كتابة الشعر التهكمي: ولكن لم يكن برامانتي ميلانيّاً. وتنسب الأشياء الأخرى لامبروغيو دي بيرديس، وبرامانتينو، وبيرناردو زينالي، والمعماري الشاب الواعد سيزاري سيزارينو، الذي تضمنت كتاباته اللاحقة حول فيتروفيوس، حفراً لنسخة ليوناردو من الرجل الفيتروفي بعضو ذكري منتصب. وربما لم يدع ليوناردو أحداً من هؤلاء باستثناء دي بيرديس شريكاً أو زميلاً، كما يعرف عنه زيارته لروما مرة واحدة على الاقل في تسعينيات القرن الخامس عشر. والحروف الأولى (P.M.) التي تظهر على صفحة العنوان يفترض أنّها تشير إلى عبارة "المنظور الميلاني Prospectivo Melanese" ولكنها قد تشير إلى أي شيء آخر مشابه مثل "بيرديس ميديولانينسيس" أيضاً.  وتحتوي صفحة العنوان على حفر عجيب يظهر فيه رجلٌ عارٍ يجثو على إحدى ركبتيه في وضعية تستحضر شخصية القديس سانت جيروم لليوناردو. فهو يحمل زوجاً من البوصلات في يده اليمنى، وكرة في يده اليسرى، ويجلس داخل دائرة تظهر داخلها أشكالٌ هندسية.  وفي الخلفية جزء من معبد مستدير ذي أعمدة على النحو الموجود في مخطوطة باريس ب، والذي يرتبط أيضاً ببرامانتي. والصخور في الخلفية ربما تذكرنا بعذراء الصخور. وتترى الدلائل التي تشير إلى اهتمامات "الأكاديمية" الميلانية- المنظور، العمارة، الهندسة، التلوين- والنغمة بأكملها تشير إلى إنتاج نخبوي لمجتمع خاص من المنتمين إليها. وربما كان كتاب الآثار "Libro danticaglie" الذي يظهر في قائمة مدريد سجلاً لنسخة ليوناردو الخاصة منه.
وربما رأيت صلة بين هذه الجمعية أو الأكاديمية وجصّية برامانتي "الرجال المسلحون"، والموجودة الآن في معرض بريرا ولكنها كانت قبله في كازا بانيغارولا في شارع لانزوني. الدائرة التي تقف داخلها الشخصيات السبعة في منافذ وهمية، وصورة شخصية نصفية لاثنين من الفلاسفة اليونانيين، هما ديمقريطس وهيراقليطس. وقد نجا اثنان فقط من الدائرة بكاملها: واحد منهما خادم يحمل صولجاناً، والثاني محارب في درعه يصقل سيفاً كبيراً. أما الآخرون فقد فقدوا النصف الأسفل من أجسادهم فأصبح من الصعب تمييزهم، ولكن يبدو أنّ الذي يضع على رأسه إكليلاً من ورق اللاوري هو شاعر، وهنالك آخر مغنٍّ. وبحسب بيترو ماراني، فإنّ الدائرة تمثل فكرة "البطل" في الإفلاطونية الحديثة، والذي ينبع امتيازه من التعامل مع القوى البدنية (المحارب مع أسلحته) والسمو الروحي(المغني والشاعر).  
والحرف "LX" خلف الفلاسفة قد يشير إلى القانون [Lex]، ومرة أخرى يغلب الطابع الإفلاطوني الذي يشير فيه "القانون" فلسفياً إلى النظام التوافقي الداخلي للأشياء. تأريخ الجصّيات غير معروف، وكذلك صاحب المنزل الذي نُفذت فيه.  ولكن في الأشكال شبه بلوحة برامانتي الجميلة المسيح في العامود (هي الأخرى موجودة في بريرا)، وبشكل عام يعود تأريخها إلى تسعينيات القرن الخامس عشر، ويبدو أنّ الطقس الفلسفي ينتمي إلى سنوات "الأكاديمية". 
يتركز اهتمامي على ذلك الرسم المزدوج للفلاسفة ديموقريطس وهيراقليطس، جالسين إلى طاولة وبينهما مجسّم للكرة الأرضية. ولقد تميزت هوية كلٌ منهما بالصفات التقليدية لهما من الميل إلى البكاء والضحك. 
لقد قيل إنَّ ديموقريطس قد ضحك على أخطاء البشر، وهيراقليطس كان مشهوراً بلقب "الفيلسوف الباكي" بسبب نظرته التشاؤمية لحال الإنسان. ولهذه اللوحة علاقة أكثر دقة بالأكاديمية الفيشينية، لأنّ هنالك لوحة تتناول الموضوع ذاته معلقة في ما يطلق عليه فيشينو [the gymanasium] أي قاعة محاضرات الأكاديمية في كاريجي.
ويكتب فيشينو، في نسخته اللاتينية من أفلاطون، " هل رأيت، المجسّم الكرّوي للعالم مرسوماً في قاعة محاضراتي، والتي يجلس فيها ديمقريطس وهيراقليطس كُلٌ إلى أحد جانبيها؟ كان أحدهما يضحك والآخر يبكي."  ومن قبل أفلاطون تأريخياً كان الفيلسوفان يمثلان استجابتين متضادتين لأحوال الإنسان بشكل أساسي- ثنائية أخرى حاول الضليعون في الفلسفة الافلاطونية رفعها والسمو بها أو كبحها إلى حد التوازن.
ولدى نقل اللوحة الجصّية إلى بريرا في 1901، كانت الصورة الشخصية للفيلسوفين معلقة فوق المدفأة في الغرفة التي تحوي بقية الجدارية، ولكنْ هنالك وصف من القرن الثامن عشر لكازا بانيقارولا يقول بأنّ " هيراقليطس وديموقريطس كانا في صورة معلقة فوق الباب في الغرفة المجاورة"، وقبل نقلها من قبل المالك آنذاك إلى الغرفة المجصصّة.  عليه فإنَّ الصورة كانت في الأصل نوعاً من التعريف بجصّية الرجال المسلحين: بينا أنت تسير باتجاه تلك الغرفة المزدانة بفخامة، ويدعوك الفيلسوفان بعد التحية إلى الدخول من الباب، وبشكل عام يضفيان على التجربة طابعاً خاصاً- والذي يشمل أيضاً، بالنسبة لمن يعرفون هذا النوع من الأشياء، إشارة مباشرة لصور أكاديمية فيشينو الفلورنسية.  
ووفقاً للوماتسو؛ فإنَّ الشخصيات الظاهرة في لوحة الرجال المسلحين كانت عبارة عن وجوه لمجايليه من الميلانيين. وقد مال التحقيق الفني لتأكيد هذا الشيء: فكل رأس كان يمثل حصاد عمل يوم كامل (عمل يوم في التلوين يقاس بقطعة منفصلة من اللاصق)، وهو الشيء الذي يبين أنّ بارامنتي كان يعتني بتقاسيم هذه الوجوه إلى حد كبير. وقد كان للفلاسفة مظهر معاصر بلا شك. لم يكن لديهما السمات المعتادة للفلاسفة القدماء- ليس هنالك من لحىً طويلة، أو ثياب فضفاضة عتيقة الطرار. فهم حليقو اللحية، وفي حالة هيراقليطس، فهو يرتدي زياً من اختراع عصر النهضة. وهنالك حالة جميلة عند أخذ وجه ديمقريطس كصورة ذاتية. مقارنة بصورة رافائيل لبرامانتي في لوحة مدرسة أثينا الجصّية في الفاتيكان، حيث يبدو كإقليدس، وفي صورة مماثلة بالطبشور في اللوفر. تظهره هذه الصور مستدير الوجه، وأصلعَ تماماً. 
رُسمت لوحة مدرسة أثينا في حوالي عام 1509، بعد أكثر من عشر سنوات من جصّية البانيغارولا، ولكن التشابه العام بينهما قويّ جداً: يلاحظ المرء في ديمقريطس بشكل خاص بوادر الصلع.
إنْ كان ديمقريطس هو برامانتي، فمن هو هيراقليطس؟ لابد أنّه صديقه وزميله الفيلسوف ليوناردو دافنشي، الذي قد يجعله ولعه بالحركة والانسياب في موازاة مع فلسفة هيراقليطس (" جميع الأشياء في حركة، ليس هنالك من ساكن)، والذي قد تكسبه هالته العامة من الغموض والحكمة كنية هيراقليطس الأخرى، " الفيلسوف الغامض" 

صورتين يحتمل أنهما لليوناردو في ميلانو. الفيلسوف هيراقليطس من جصّية من عمل دوناتو بارامانتي(إلى اليسار) ووجه الرجل الفيتروفي. 
وهنالك دلائل أخرى على هذا التمييز. الأولى أنّه قد لوحظ أنّ الكتاب الموضوع أمام هيراقليطس على المكتب كان مكتوباً من اليمين إلى اليسار: فالحرف الكبير الباديء للنص من الواضح أنّه على جانب اليد اليمنى من أعلى الصفحة. والثانية أنَّ تصوير الفلاسفة يتوافق بشكل دقيق مع تعليمات ليوناردو نفسه في الأطروحة حول التلوين: " من يذرف الدموع يرفع حاجبه إلى حد الاقتران، ويرسمهما معاً، الشيء الذي يصنع التغضنات بينهما وفوقهما، وتُقلب زاويتا الفم إلى الأسفل، ولكن من يضحك يجعل زاويتي الفم تتجهان إلى الأعلى، ويكون حاجباه مفتوحين ومسترخيين."  ومن الملاحظ أيضاً أنّه في اللوحات الميلانية اللاحقة التي تصوّر هيراقليطس وديموقريطس، منسوبة للوماتسو، وكان هيراقليطس في الغالب ليس سوى صورة ليوناردو وفقاً لآخر قالب للحكيم ذي اللحية الطويلة، مشيراً إلى صلة في عقل لوماتسو والتي ربما نشأت تأثراً بجصّية برامانتي. 
قم بإزالة الدموع والتغضنات، والعيون الغائرة- سمات الأسى الهيرقليطية- وسوف نرى هنا صورة ذاتية جصّية لليوناردو دافنشي رسمت بريشة واحد من أقرب أصدقائه إليه (أعلاه) فهي تظهره في اواسط أربعينياته، بشعر داكن طويل أجعد، وثوب مقصوص من الفراء، وأصابع أيديه الطويلة تتشابك في أناقة معاً. إنّها واحدة من صورتين اثنتين فقط لليوناردو نجتا من تلك السنوات في ميلانو، والأخرى هي الرجل الفيتروفي التي تعود لعام 1490، والتي تحمل وجهاً يمت بصلة شبه قوية لهيراقليطس.


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment