ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
11-"بِعْ ما لا يمكنك حمله..."
بينما تحتشد القوات الفرنسية على حدود إيطاليا، بدأ ليوناردو تصفية شؤونه. ففي الأول من أبريل 1499 قام بسداد بعض الأموال:
سالاي 20 ليرة
من أجل فازو 2 ليرة
بارتولوميو 4 ليرات
أريجو 15 ليرة
من بين هؤلاء؛ كان فازو على الأرجح هو فازو كاردانو، والد عالم الرياضيات غيرولامو كاردانو: وربما بدا هنا كما لو أنّه دائن. أما الآخرون فهم المساعدون: سالاي، في التاسعة عشرة آنذاك، وبارتولوميو، الذي ربما كان بارامانتينو، وأريجو، اسم جديد، ربما كان ألمانياً مثل جوليو. ("أريجو" هو هاري في الأصل، من هينريتش، ويستحضر المرء هنا جِدَ ليوناردو الألماني، أريجو دي جيوفاني تيديسكو.) ويبدو الاسم مرة أخرى على إحدى قوائم ليوناردو التي تعود للفترة من 1506-1508.
وعلى الورقة ذاتها، يجمع ليوناردو الأموال في صندوق نقوده، بمختلف العملات- دوكات، فلورين، غروسوني، إلخ. ويصل مجموع المبلغ إلى 1280 ليرة. ثم يقوم بلفِّ المال في حزم ورقية، بعضها أبيض وبعضها أزرق. ويوزعها في نواحي المرسم- واحدة بالقرب من صندوق يحتفظ فيه بالمسامير، والأخريات في كلٍ من طرفي "رفَ طويل"، بينما يضع في خزانة النقود لديه، بضعَ "حفنات من الامبروزيني"، وهي عملات معدنية ميلانية صغيرة، ملفوفة في قطعة من القماش. وهذه لقطة حية: المعلم يرتّب رحلة بحث عن المنزل، فوضعه للحزم الملونة لا يختلف كثيراً عن ذلك الأمر. فهو يتخيل اللصوص والسارقين- سوف يصلون إلى هنا في القريب. وسوف يجدون خزينة المال، وبالطبع، لن يجدوا الحزم المخبأة بشكل عبثي بين الأثاثات. إنها خطة ماكرة، بيد أنّها لا تخلو من توتر "المثابرة" الفرويدي، تمويه الضغط النفسي أو تشتيته من خلال الأفعال المتكررة الصاخبة.
دخل الفرنسيون إيطاليا في مايو، وبحلول أواخر يوليو، كانوا قد استولوا على آستي، ووصلوا إلى قلعة آراتسو، ما يعني الطرف الأقصى للدوقية. ثم كانت مفاجأة انشقاق جيانفرانسسكو سانسيفيرينو، أخ غلياتسو، والذي كان ليوناردو يؤدي في منزله تمثيلية جوبيتر وداناي. وهنالك مذكرة ربما تعود إلى هذا الوقت من التوتر العسكري: " رأيت قذيفة مدفع تزن 700 رطلٍ في حديقة دوق ميلانو، من ارتفاع ذراع واحد. وقد قفزت 28 مرة، كان طول كل قفزة يتناسب مع طول السابقة، بينما الارتفاع يتناسب مع القفزة التالية."
" في أول يوم من شهر أغسطس عام 1499"- يكتب ليوناردو بهدوء على ورقة في مخطوطة أتلانتكس- "كتبت هنا عن الحركة والوزن." وقد كانت هذه الصفحة في الحقيقة ملأى بالملاحظات حول هذا الموضوع: دراسات ترتبط بالدراسات الميكانيكية لمخطوطة مدريد الأولى، والطبيعة ("علم الأوزان") في مدوّنات فورستر. وعلى الورقة ذاتها نجد بعض الرسوم التمهيدية وملاحظات حول "بيت حمام الدوقة"، وفي إحدى المدونات المعاصرة، تحت عنوان "بيت الحمام" يكتب: " لتسخين المياه من أجل موقد الدوقة أضف ثلاثة أجزاء من الماء الساخن إلى أربعة أجزاء من الماء البارد.
لابدّ أنّ الدوقة هي إيزابيلا الآراغونية، أرملة جيان غلياتسو. لقد كانت تسكن في الجوار، إذ تقيم في جزء آخر من المحكمة القديمة، مع ابنها المريض، فرانسسكو "الدوق الصغير". ربما كان لمساعدة ليوناردو في مسألة تزويدها بالماء الساخن، جانبٌ نفعي. فلم تكن تحظى بصداقة الأسمر الذي أبقاها حبيسة في مقر إقامتها، وهو أيضاً محل اتهامها بدسِّ السم لزوجها. وسوف يكون ابنها من أول "المحررين" بعد الاحتلال الفرنسي. إذن فقد كان ليوناردو قريباً من شخص تطلَّع إلى وصول الغزاة.
استمر تقدم الفرنسيين. سقطت فالنزا في 19 أغسطس، ثم الاسكندرية. وفي 30 أغسطس عمت الفوضى مدينة ميلانو، بعد انتفاضة أثارها فصيل مناهض لآل سفورزا، بقيادة جيانجياكومو تريفولزو. وقُتل أنطونيو لاندرياني أمين خزينة الدوق. وفي 2 سبتمبر، هرب لودوفيكو سفورزا من ميلانو بدون حاجة لمُنجِّم ليقرأ له طالعه. اتجه ناحية الشمال، قاصداً إنسبروك، حيث كان يأمل في الحصول على دعم الإمبراطور ماكسيميليان. كان حارس القلعة بيرناردينو دا كورتي قد سلّم موقعه، وفي 6 سبتمبر وبدون أية مقاومة تذكر، سقطت ميلانو في يد الفرنسيين. وكتب المؤرخ كوريو في اليوم التالي:
تجمهر الغزاة في بيت امبروجيو كيرزو، وحطموه تماماً، حتى أنّه لم يعد بالإمكان إيجاد أي شيء ذي قيمة هناك، وفعلوا نفس الشيء بحديقة بيرغونزيو بوتا، مدير دفعيات الدوق، وقصر واسطبلات غلياتسو سانسيفيرينو، ومنزل ماريولو، حاجب لودوفيكو، والذي كان حديث البناء، ولم يكتمل بعد.
عرف ليوناردو جميع هؤلاء الرجال كما عرف عائلاتهم. لقد عرف بيوتهم، وربما كان هو مصمم عمارة بيت ماريولو، الذي يقع مباشرة وراء حديقة أعنابه. لقد عرف كلَّ واحد من الخيول المذعورة في سطبلات غلياستو.
وفي 6 اكتوبر دخل لويس الثاني عشر المدينة فاتحاً ظافراً. ولبث فيها حوالي 6 أسابيع- أسابيع الاحتلال التي كان يحدق فيها شبح الخطر، خاصة بمن كانوا ذوي علاقة بالأسمر. هل تعامل ليوناردو مع الفرنسيين؟ هل ساوم؟ في أغلب الأحوال فعل.
وهنالك مسألة "مذكرة ليجيني" الغامضة، ورقة في مخطوطة اتلانتكس يكتب فيها:" اعثر على إنجيل واخبره أنك سوف تنتظره في أمور وسوف تذهب إليه في يلوبان." الاسم المشفّر الأول- حتى الآن من خلال كتابته عكسياً- هو "ليجيني"، والذي هو لوي دي لوكسمبورغ القائد العسكري الفرنسي، كومتي دي ليجيني. وإنّه لمن الجائز أنّ ليوناردو قابله في 1494، عندما اصطحب ليجيني ابن عمه تشارلز الثامن في تلك الغارة الفرنسية لأولى الأكثر دبلوماسية، إلى ميلانو. ويريد ليوناردو الآن الحديث إليه، وفي الحقيقة اصطحابه في بعض المصالح المقترحة إلى نابولي ("إيلوبان"). وفي الورقة ذاتها يصمم على " الحصول على طريقة التلوين الجاف، وطريقته لصنع أوراق ملونة". جان دي باريس كان هو الرسام الفرنسي البارز جان بارييل، الذي رافق البعثة.
وفي مكان آخر من المخطوطة نجد "ذكرى للمعلم ليوناردو"، ومن جانب آخر، الشيء الذي كان يحثّه على " الإسراع في كتابة تقرير عن الأحوال في فلورنسا، بشكل خاصٍ هو الاسلوب والشكل الذي اتبعه الأب الموقر الراهب جيرونيمو [سفانارولا] في تنظيم دولة فلورنسا." وطلب المعلومات السياسية ربما يحمل إشارة إلى ذلك التقارب مع الفرنسيين.
عقب ذلك بسنتين كان ليوناردو يرسم السيدة ذات المغزل في فلورنسا لحساب فلوريموند روبرتيه المقرّب من ملك فرنسا، وكان يرفض التكليفات الأخرى نسبة لما لديه من "التزامات"- لم يحددها- تجاه الملك نفسه. فإنْ كان هذا يعكس لنا الاتصال الشخصي مع الملك لويس ومع روبرتيه، فإنَّ تلك الاتصالات قد نشأت في ميلانو في 1499. وربما كان أيضاً قد قابل سيزار بورغيا صاحب الشخصية القوية، " إل فالينتينو"، وهو آنذاك آمراً لفرقة من الخيالة الفرنسية، وسيصبح فيما بعد مخدمه في مسرح الحرب.
ظل ليوناردو في ميلانو حتى ديسمبر. والورقة التي تحتوي على مذكرة ليجيني اشتملت أيضاً على قائمة من الأشياء المراد تنفيذها بينما كان يعدّ العدة للرحيل:
الإيعاز بصنع صندوقين
ألحفة موليتيير، أو افضل، استخدم الملاءات، هنالك ثلاث منها، وسوف تترك واحدة في فينشي.
خذ بوتقة النحاس من كنيسة الغرازي.
احضر مسرح فيرونا من جيوفاني لومباردو
اشتر مفارش للطاولات ومناشف، وقبعات، وأحذية وأربعة أزواج من الخراطيم، وسترات من الشامواه، وقماشاً لخياطة المزيد منها.
مخرطة اليخاندرو
بِعْ ما لا يمكنك حمله.
في 14 ديسمبر قام بتحويل ما جملته 600 فلورين إلى حساب في فلورنسا لدى مستشفى القديسة مريم الجديدة. كان صيارفته الميلانيون هم عائلة دينو: وتم تحويل المال من خلال صكي صرف بمبلغ 300 فلورين لكلٍ، وسوف يستغرق وصول المال وإيداعه في فلورنسا بأمان ما لا يقل عن بضعة أسابيع.
كان تعجله الرحيل على الأرجح بسبب إشاعات بعودة الأسمر الوشيكة إلى ميلانو. وكان القادة الفرنسيون قد رحلوا إلى فرنسا في شيء من الرضا، بينما تحول الجيش بقيادة ستيوارت دابيجني وبورغيا إلى فيرارا- وكانت فصائل المخلصين تصوّت لعودة الدوق، تدعمها المليشيات السويسرية والتعزيزات الإمبريالية من جهة ماكسيميليان.
وقد كانت مناسبة عودة الأسمر قصيرة وباهتة، ولكن ليوناردو لم ينتظرها. لقد كان هو الشخص الذي ظل أثناء الاحتلال الفرنسي، والشخص الذي يجوز القول بأنّه " تعاون" مع المحتلّين. فهو لا يتوقع الكثير من التعاطف من الأسمر العائد. عليه فقد كان لاجئاً من الظروف السيئة بقدر ما كان هارباً من راعيه الأسبق، فغادر ليوناردو ميلانو في أواخر عام 1499. كان نقل مدخراته في 14 ديسمبر على الأرجح هو آخر إجراء قام به في ميلانو: آخر حساب، بما يقارب 18 سنة بعد وصوله الطموح وهو يحمل حزمة رسوماته، وقيثارته المصنوعة بشكل فريد، وحاشيته من الخدم الفلورنسيين اليافعين. إنّه ليوناردو آخر الذي يرحل الآن: في السابعة والأربعين، بسترته المصنوعة من قماش الشامواه والمزررة لتبقيه دافئاً في برد الشتاء، متخلياً عن انجازات غير معروفة في حقبة آل سفورزا ليدلف إلى مستقبل أكثر غموضاً.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment