Wednesday, March 13, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 9 - المدارس الطبية





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

9-المدارس الطبية
يكتب ليوناردو في إحدى صفحات الرسوم التشريحية: " In questa vernata del mille 510 credo spedire tutta la notomia"- [ في هذا الربيع من عام 1510 أتوقع إتمام العمل في موضوع التشريح كله"  وربما كتبت هذه العبارة في بافيا، حيث وعلى مدى بضعة شهور حضر ليوناردو دروس التشريح على ماركانتونيو ديلا توري، وهو معلم جديد في المجال. وقد وصف فازاري علاقتهما بأنّها كانت ذات منفعة متبادلة: " قدم كلٌّ منهما المساعدة وتلقاها من الآخر." ويشير ليوناردو إلى ديلا توري على أنّه "السيد ماركانتونيو" في ملاحظة تتعلق بكتاب الأمواه [Libro dell'aque] . وربما كان هذا الكتاب عن تشخيص البول، وقد كان استخدامه شائعاً  من قبل الأطباء في ذلك الوقت. 
كان ماركانتونيو في أواخر العشرينيات من العمر، من مدينة فيرونيا. والده، غيرولامو كان معلماً مشهوراً في بادوفا، حيث بدأ ماركانتونيو مسيرته المهنية. وفي عام 1509 هاجر إلى بافيا، وهناك- في أواخر العام على الأرجح- وصل ليوناردو ليدرس معه أو على يديه في الجامعة القديمة الشهيرة. كانت بافيا مدينة الذكريات الجميلة- لقد أمضى فيها بضعة أيامٍ في عام 1490 مع فرانسسكو دي جورجيو مارتيني (متوفٍ منذ 1502)، حيث قاما بأخد قياسات الكاتدرائية، والاستمتاع برؤية حصان ريجيزولي الوثاب الشهير، ومشاهدة العمال يقومون باستبدال أجزاء الجسر على طول نهر تيشينو الذي يشق المدينة. 
ولنا أن نتخيل أنَّ ماركانتونيو قد منح ليوناردوا مكاناً شرفياً في غرفة عمليات التشريح. بينما يقوم مساعدوه بتشريح الجثة ويحاضر هو تلاميذه حول مختلف أجزاء الجسم.  يسجّل ليوناردو المشاهدات برسوماته السريعة. وقد كان ضمن تلاميذ ديل توري الشاب باولو جيوفيو، والذي كانت تعليقاته حول أعمال ليوناردو التشريحية نابعة على الأرجح من معرفة مباشرة:  
لقد كرس نفسه للعمل المتوحش والمثير للاشمئزاز في تشريح جثث المجرمين في المدارس الطبية، حتى يتنسى له رسم شتى المفاصل والعضلات بينما تنثني وتتمدد وفقاً لقوانين الطبيعة. ولقد قام بتنفيذ رسومات علمية على درجة مدهشة من الإتقان لجميع أجزاء الجسم حتى أنّه بين فيها أدق الأوردة وتجاويف العظام. 
هذه التشريحات التي أجريت "في المدارس الطبية" ربما هي التي أشار إليها ليوناردو على وجه التحديد في بافيا. في عام 1508 قال ليوناردو إنّه قد قام بتشريح ما "يربو على عشرة" من الأجساد البشرية، وبعد تسع سنوات في حوار له مع الكاردينال لويجي الآراجوني، يرفع ليوناردو الرقم إلى ثلاثين. وبهذا الإحصاء- الخاص به- فإنّه قد نفَّذ حوالي عشرين عملية تشريح في الفترة من عام 1508 إلى 1517: وربما جرت بعض من هذه العمليات في "مدارس" في بافيا، وبعضها في روما، حيث كان يتحدث عن عمله "في المستشفى".
وقد تعرض الكثير من أعمال ديلا توري المكتوبة للتلف، ولكن القطعة الوحيدة التي نجت هي هجوم حماسي بطريقة "المختزلون"- أي بكلمات أخرى أولئك الذين يجمعون المعارف السابقة ببساطة في صيغة يسهل فهمها. وقد كان الكاتب موندينوس دي لويزي مصدر قلقه ورعبه، والذي نشرت أعماله في التشريح في بافيا عام 1478، والذي اقتبس منه ليوناردو شخصياً في بضع مناسبات.  لقد حث ديل توري على العودة إلى النصوص الأصلية لغالين والتي قام موندينوس بالكاد بإعادة صياغتها. وربما كان لهذا صلة بخطب ليوناردو شديدة اللهجة ضد هؤلاء "المختزلين" أنفسهم. وعلى ورقة من الملاحظات المكتوبة بعناية حول عمل القلب نقرأ هذا التعليق الهامشي:" أدِ محاضرة تقريع ضد الباحثين ممن يناهضون الدراسات التشريحية، والمختزلين منهم." وعلى ظهر الورقة تعليق آخر" أولئك الذين يختزلون أعمالاً كهذه يجب ألا يدعون "مختزلين" بل "ماحين" ["obliatori" وتعني حرفياً أولئك الذين يمحون/أو يجلبون النسيان]. والمحاضرة المتوعدة على الأرجح ليست سوى الخطبة المسهبة العنيفة المكتوبة على ورقة تشريحية أخرى:
مختزلو الأعمال يسيئون إلى الحب والمعرفة معاً، فهم يرون أنّ حبّ شيء ما هو وليد المعرفة به. وأنّه لمن الصحيح أنَّ العجلة أم البلادة، يمتدح الإيجاز، كما لو أننا لا نملك عمراً بكامله نسعى للإحاطة علماً بموضوع واحد، مثل جسم الإنسان." 
تشتمل الصفحة على اثنتين من الرسومات التي يظهر فيها قلبٌ مشرّحاً ومفتوحاً مثل حبة فاكهة مقطعة إلى شرائح. 
والمختزلون ضيقو الآفاق يشكلون إهانة لليوناردو بينما يجمع ويحتسب مخزونه المضني من الملاحظات والرسومات، والتي أصبح الهدف منها واضحاً الآن: لإخراج مؤلف متميز جداً في مجال التشريح، ويصلح للنشر، ويقدم للمرة الأولى وصفاً مرئياً مفصّلاً لوظائف الجسم البشري. كان هذا هو ابتكار ليوناردو الرائع- ليس فقط لوصف التشريح بأدوات اللغة القاصرة، كما في كتابات العصور الوسطى في المجال، ولكن أيضاً لعرضه في تفاصيل مرئية واضحة، بعيدة عن التجريد، والرمزية والفوضى الذهنية التي تميل إليها اللغة دائماً- كما كان دائماً يشعر.
أيها الكاتب! ماهي الكلمات التي تستطيع العثور عليها لتصف تركيب [القلب مثلا] بالكامل كما فعلتُ في هذا الرسم؟ ونسبة للنقص في المعرفة الحقيقية فإنّك تصفه بشكل مثير للحيرة، وتنقل جزءاً قليلاً من العلم بالشكل الحقيقي للأشياء. ...نصيحتي إليك ألا تتعب نفسك مع الكلمات ما لم تكن تخاطب العُميْ. 

لقد قام بتطوير أسلوب يتركب من عرض متعدد، يتدرج من المنظر الكامل إلى الشفافية، ومن بين الأقسام إلى الفروقات الطفيفة الدقيقة للشكل المعنيّ:
المعرفة الحقة بشكل أي جسم كان تنتج من رؤيته من نواحٍ شتّى. وعليه وحتى نبين الشكل الحقيقي لأي من أطراف الإنسان...سوف أتبع القاعدة المذكورة آنفاً: أصنع أربع رسومات للجوانب الأربعة من كل طرف. أما مع العظام فأصنع خمسة، وأقطعها إلى نصفين مع إظهار تجويف كلٍ منها، المملوء بالنخاع، والنصف الثاني اسفنجياً أو خالياً أو صلباً. 
تعددية وجهات النظر- في بض الأحيان تصل إلى ثماني زوايا نظر مختلفة- تنشيء سلسلة يجوز وصفها بالسينمائية.
وفي عمل التشريح "الوحشي والمقزز"، بما فيه من نشر للعظام وتفتيش بين الأحشاء واندفاع الشحوم المتكدسة عند شق الجلد، نجد ليوناردو بعيداً كل البعد عن صورة الفنان النزِق، المضمخ بشذى ماء الورد، الذي كان عليه في أول عهده. الرسومات التشريحية هي ثمرة جهد ليوناردو في تجريبيته الأكثر قتامة. وفي ذلك يكتب إدوارد لوسي-سميث: " إنّه يضع مهاراته في خدمة الحقيقة أكثر منها في مثال ما للجمال... الرسومات التشريحية المعنية هنا ليست بالجميلة على الإطلاق، ولكنها تجسد الأسلوب الذي يقضي بالتضحية بالجمال الحسي بالضرورة في سبيل ذلك النوع من الحقيقة الذي لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال المسلخ. " 
ولكل هذا لم ينكر ليوناردو على الإطلاق افتتانه بالتناظرات بين البنيات التشريحية والأشكال الهندسية (كما تُرى في رسومه التي تسعى إلى الربط بين الصمام ثلاثي الشرفات للقلب والكون نصف الدائري) بين الإنسان وأجزاء النبات (كما في الرسم الذي يضع فيه نبتات الفاصوليا المشتولة بجانب دراسة للقصبة الهوائية في الإنسان.) 
وصل العمل المشترك العظيم بين ليوناردو وماركانتونيو ديلا توري إلى نهايته فجأة بموت ماركانتونيو في عام 1511، في التاسعة والعشرين من العمر. وكان قد مات في شواطيء بحيرة غاردا، ضحية للطاعون الذي اجتاح إقليم فيرونا- مسقط رأسه- في تلك السنة. وقد أصيب بالعدوى على الأرجح بينما كان يقوم بخدمة المرضى.


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment