Wednesday, March 13, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 7 - أعياد ميلانو





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

7-أعياد ميلانو

لم يخف الفرنسيون حرصهم على استغلال تلك المواهب التي كان ليوناردو يتمتع بها، وكانت هنالك ملاهٍ وأقنعة- احتفالات قد ندعوها اليوم أعياداً. ومن بين من شهدوها الطبيب الشاب باولو جيوفيو الذي كتب لاحقاً في مؤلف له لسيرة ليوناردو: " كان مخترعاً باهراً، وخبيراً في الأناقة والمباهج المسرحية في كل مناحيها."
 وهنالك رسومات تمهيدية سريعة في مخطوطة أرونديل لمجموعة من الجبال الوعرة من الطراز الذي اشتهر به ليوناردو كان الغرض منها استخدامها خلفية للمسرح، وهي تتكشف عن مغارة ضخمة نصف دائرية الشكل. ويظهر الرسم البياني آلية عمل البكرات وموازنة الأثقال التي سيتم بها تحريك خلفيات المشاهد الرسومية هذه. وهنالك ملاحظات تشرح التأثيرات المسرحية: " جبل ينفتح، فيُكتشف بلوتو في مسكنه". هذه المغارة المسرحية هي "منزل" ملك هاديس: لمحة من الجحيم بشياطينه وأرواحه المنتقمة، وسيربيرس، و"الكثير من الأطفال العراة يبكون".  وهنالك تصميمات في الغالب تخص أوبريت أورفيو لأنجلو بوليزيانو. وقد شارك ليوناردو على الأرجح في إنتاج عرض سابق في مانتوفا عام 1490، وقد أدى دور البطولة اتالانتي ميغليوروتي، الذي كان ممن شملهم ليوناردو تحت رعايته. ويعيد إنتاجها الآن لتُعرض في بلاط شارل امبواز. وقد كان نصها من الشعر الفلورنسي الخفيف يحكي القصة القديمة لرحلة أورفيوس إلى العالم السفلي لإنقاذ زوجته يوريديس من قبضة بلوتو، رافق العرض عزف موسيقي يلائم القصة حيث تم توظيف آلة الكمان الأجهر مع دور أورفيوس بينما استخدم المفتاح الثلاثي على آلة الكمان مع دور يوريديس، والترمبون لبلوتو، والقيثارات لشارون، نوتيّ الموتى. وهنالك بعض الدراسات لأزياء في إحدى أوراق ويندسر، ووجه جانبي لشاب ذي شعر أجعد والذي ربما كان وجهاً للمثل الذي كان يؤدي دور أورفيوس. 
وهنالك رسم تمهيدي بالقلم والحبر يعتبر أثراً آخرَ لهذا العمل، يظهر فيه "أورفيوس وهو يتعرض لهجوم من قبل الأرواح المنتقمة". وقد ظهر هذا الرسم في عام 1998 ضمن مجموعة من مطبوعات ورسومات بيد ستيفانو ديلا بيلا، ولكن ورد في تقارير تعود لعام 2001 أنّه تضرر أثناء عملية ترميم غير ناجحة. وقد تم تنفيذه بالحبر الأخضر، الذي استخدمه ليوناردو في مستندات ورسومات أخرى في ذلك الوقت مثل تقديرات نصب تريفولزيو. 
وقد كانت هذه الأجزاء الشاردة هي كل ما تبقى من مسرحية ليوناردو الميلانية "أورفيو"، وهي في حد ذاتها نَصٌّ يعجّ بعناصر الحنين- لفلورنسا بوليزيانو، وللفتى الجميل اتالانتي- وربما لبعض أصداء وذكريات نصه الأقدم عن "المغارة" و"الخوف والرغبة" اللذين شعر بهما عند النظر في جوفها. 
ومن أعمال ليوناردو الأخرى موكب النصر يوم 1 يوليو عام 1509، والذي أقيم على شرف الملك لويس الثاني عشر بينما كان عائداً إلى ميلانو على رأس قواته بعد هزيمته النكراء للبندقية في اجناديلو منتصف مايو تلك السنة. وهنالك عرض رمزي لمعركة بين تنين (فرنسا) وأسد (البندقية)- وهو أحد الموضوعات التي وظف فيها ليوناردو الأسود، بيد أنّ الأسد في هذه الاحجية كان مهزوماً مدحوراً- بينما في قصر القلعة تم عرض "حصان هائل الحجم بطريقة الحفر البارز وعليه صورة الملك. ولقد علمنا هذا من أحد المؤرخين المعاصرين ومن جي. بي. لوماتسو، الذي يدلي بشهادته التي يبدو أنّه قد سمعها من فرانسسكو ميلزي مباشرة.  
في مخطوطة اتلانتكس ملاحظة مقتضبة تحمل رأياً مختلفاً جداً عن تلك الحروب الإيطالية وخسائرها التي ضاعت هباءً منثوراً: لقد تبجح أهل البندقية بإنفاقهم 36 مليوناً من الدوكات الذهبية في عشرة أعوام من الحرب ضد الأمبراطورية، والكنيسة وملوك اسبانيا وفرنسا. وهذا يعني إنفاق 300.000 دوكات في الشهر.  
  
الاستقامة الصارمة: تصميم لشعار، 1508-1509
وفي هذه المشاهد يظهر ليوناردو مرة أخرى في دور فنان البلاط الذي عاشه خلال عهد سفورزا. وفي السياق ذاته نجد بعض النقوش أو الشعارات التي رسمها في هذا الوقت. ولم يصل شعار عصر النهضة إلى أوجه بعد: والذي كان باولو جيوفو عاشق ليوناردو واحداً من أهم أنصاره، والذي عرف شكسبير كتاب شعاراته عن طريق ترجمة صمويل دانيال.  وقد عرّف اندريه اليشياتو- مؤلف كتاب الشعارات (1531) الشعار بأنّه صورة "مرسومة من التأريخ أو الطبيعة" والتي "ترمز إلى شيء ما بصورة أنيقة". ويتركب الشعار الحقيقي من جسد أو [corpo]، والذي يمثل صيغته الصورية المرئية، وروح أو [anima]، والتي هي الشعار اللفظي المرافق للصورة. ولا ينبغي أن يفصح الشعار اللفظي عن "معنى" أو [sentiment] الشعار بشكل صريح: فهو للأدباء من الرجال والنساء لتأملها وتدبّرها بأنفسهم".  ويكمن أثره في دلالته الشعرية على وجه الدقة، وينبثق جسد الشعار من أفكار ميتافيزيقية من خلال تعبير بسيط ومختصر. وشعار عصر النهضة مثل الهايكو الياباني عبارة عن صيغة فنية صقيلة تشرق في أفكار معقدة ذات دلالات فردية.
وقد حوت إحدى صفحات ويندسر ثلاثة شعارات مكتملة.   يحمل الأول منها رسم محراث، وعليه نقشت عبارة:"الاستقامة الصارمة". وجاء اعتناق هذا الشعار تجسيداً لأحد جوانب شخصية ليوناردو- تجريبيته الصارمة، ومزاجه الاستقصائي- لكنْ تشبيهه بحركات المحراث في خط مستقيم ليس موفقاً تماماً: فشخصية ليوناردو ذات أخاديد ومتاهات مثل نقوش أحلام دافنشي العُقدِية. ويظهر في الشعار الثاني رسم بوصلة أدارتها عجلة المياه، وتعلوها نجمة، عليها عبارة الاستقامة الصارمة- وتعني العبارة الأصلية حرفياً "الصرامة المحتومة"، ولكنها ترجمت بتصرف على أنّها "الطريق المستقيم". وهنالك ملاحظة بجانب هذين الرسمين تقول: "Non a revoluzione chi a tale stella e fisso"- من أراد نجمة مثلها لا يدير لها ظهره (أي لا يخضع للتقلبات". ووجود زهرة الزنبق الصغيرة داخل النجمة يدل على أنّها ترمز الملك الفرنسيّ .
والشعار الثالث يبين مصباحاً في جوفه شمعة، وريحًا تهب حوله من جميع اتجاهات البوصلة. ليس هنالك عبارة لفظية ولكن الرسم موجود في كراسة أخرى، ويحتوي على منافيخ تنفث الرياح والشعار "tal el mal che non mi noce quale il bene che non mi giova"- " الخير الذي لا ينفعني مثل الشر الذي لا يؤذيني."  والشعلة داخل المصباح لا تقوى الرياح القوية على إطفائها، وكذلك لا تصلها النسائم التي تزيدها اشتعالاً. ومرة أخرى لا يخلو هذا النوع من الحماية من صلة بالملك، النجمة الثابتة في الشعار السابق، بيد أنّ الأمر إن صح فهو يشير إلى إزدواجية طرفي الرعاية الملكية: فهي تقي الفنان من نوائب الدهر، ولكنها تعزله عن "النسائم" اللطيفة (التجربة؟ الطبيعة؟).
هنالك سلسلة أخرى من الرسومات التمهيدية الخفيفة تعود إلى الفترة ذاتها، ويظهر فيها شعارٌ يحتوي على رسم زهرة الزنبق الفلورنسية، ولفيفة داخل شكل دائرة. لقد حاول ليوناردو تنفيذ عدد من الشعارات-   الموت الأول هو التعب، وأنا لا أمل من العمل" Prima morte che tanchezza", " Non mi satio di servire', وغيرها. – ضمن مناقشته لموضوع التفاني في العمل. لكن هنالك ملاحظة هامشية، كمسرحية بجانب الجمهور، تشير إلى عنصر التهكم حول هذا التفاني: " اليد التي تنهمر عليها العملات الذهبية والجواهر مثل البَرَد لا تتعب من العمل، ولكن هذه الخدمات وليدة المصلحة فقط، ولا تُقدم لذاتها".  وعلى ظهر الورقة نجد بعض الرسومات النابضة بالحياة التي تستدعي إلى الأذهان صورة أحجيات اللذة والألم التي تعود إلى منتصف ثمانينيات القرن الخامس عشر. ففيها تظهر أقنعة تثبتها الأيدي أمام الوجوه، وقد أذابتها أشعة الشمس. ويقول المفتاح الأساسي: 
الحقيقة: الشمس
الزيف: القناع
مرة أخرى يعالج شعاراً مختلفاً، مثل "Nulla occulta sotto il sole"، لا شيء يخفى تحت الشمس". 
هل تعبّر هذه الشعارات عن خدمة ليوناردو للملك لويس، أم أنّها قد نفذت نزولاً على رغبة شخص ما يريد التعبير عن مشاعر كهذه- ربما صديقه العزيز غالياتسو سانسيرفيرينو، صهر الأسمر سابقاً، والذي حوّل ولاءه ببراعة وسخرية إلى حد ما ناحية الفرنسيين، ثم مشرفاً رئيساً على اسطبلات الملك في بلوا؟
العروض الموسيقية، ومواكب النصر، والشعارات البليغة: هذه هي بعض من أبسط الأعمال التي كان يكلف بها "رسام ومهندس البلاط الدائم"، مثلها مثل الواجبات الأخرى مثل رسم لوحات للسيدة العذراء، وتصميم القصور الصيفية، وإعادة توجيه القنوات المائية. ولدينا هنا بعض تفاصيل المكافآت المالية التي حصل عليها ليوناردو من تنفيذ هذه الأعمال. تبين قائمة مدفوعات من الخزينة الملكية أنّه تلقى ما مجموعه 390 سكودي في الفترة من يوليو 1508 وحتى أبريل 1509- وهو مبلغ كبير، لكنْ المبالغ المدفوعة مدرجة في نمط تنازلي يبعث على التشاؤم: 100، 100، 70، 50، 50، 20.  وربما كانت المبالغ المالية الأكبر في أواخر صيف عام 1508 ذات صلة بعرض اوبريت أورفيو. وقد ورد حساب منفصل داخل غلاف المخطوطة "و-F" كالتالي: في اليوم [  فراغ] من شهر أكتوبر 1508 تلقيت 30 سكودي." وعن هذا المبلغ يقول إنّه أقرض منه سالاي 13 قطعة "لإكمال مهر أخته". 


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment