Wednesday, March 13, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 11 - بورتريه للفنان في عمر الستين





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

11- بورتريه للفنان في عمر الستين
خلال فترة العزلة على ضفاف نهر الادا هذه، وفي يوم 15 شهر أبريل 1512 بلغ ليوناردو الستين من عمره. هناك رسم شهير في ويندسر يعود إلى هذا الوقت تقريباً، إذ أنّ على ظهر الورقة رسومات معمارية تتعلق بقصر ميلزي.  ويظهر فيها وجه شيخ ذي لحية، عليه سيماء الإرهاق والتأمل معاً، يجلس على صخرة واضعاً ساقه على الأخرى، وترتاح كفاه على عصا طويلة. وثمة دوامات مياه بالقرب منه، ربما ظننت لأول وهلة أنّ الشيخ يحدق فيها.
ليس هذا سوى محض وهم، وذلك لأنّ ثمة طية بادية في الصفحة، ومن الواضح أنَّ رسم وجه الشيخ ودراسة المياه، عملان متمايزان، وربما رُسما في وقتين مختلفين. ولكن هذا لا ينفي أنّهما- صدفة أو عمداً- يصبحان رسماً واحداً عندما يتم فرد الورقة على طولها- إنّها تحفة تعلن عن الحزن والغواية؛ ربما لغز أو أحجية حلها هو "كبر السن".
ماهي القصة المعقولة لتجانب الشيخ ودوامات المياه؟ هل يحدق في المياه في الأسفل، أم ينظر إلى عين عقله؟ النص المكتوب أسفل دراسات المياه يفسر المقارنة النظرية بين تيارات المياه والشعر المجدول- "لاحظ الحركة المتموجة [moto del vello] للمياه، وكيف تشبه تموج الشعر"- إذن فالقصة- إن كانت هنالك قصة- ربما تتضمن تذكر العجوز بشيء من الحزن حبيبة ذهبت. يبدو الشعر مثل الجدائل الرائعة في رسوم ليدا، وما يتسرب من سحر الكريمونية إلى داخل الإطار، ولكن يفكر المرء أيضاً بشعر الغلام سالاي بالتفافاته على هيئة حلقات والتي "أحبّها" ليوناردو. 

دراستان لرجل مسن ومياه، ربما رُسمت في فابريو
هذه هي حيل التفاسير- ولكنها لا تفتقر إلى المعقولية بالكامل، فربما كان التقابل بين الصورتين يشير إلى صفات يتسم بها الرجل العجوز بالفعل: مزاج الحنين، والذكرى التي تعاوده. لقد تمتع ليوناردو بقوة الخيال في بناء المعنى من العشوائية- لقد كتب عن رؤية البقع على سطح أحد الجدران كما لو أنّها مناظر طبيعية جميلة- عليه فإنّ الصورة "الموجودة" على الورقة المطوية يسهل ملاحظتها إن لم يكن يقصد ذلك.
ويقال أحياناً إنّ رسم الرجل العجوز هو رسم شخصي ذاتي، ولكن هذا تضليل؛ فهو أكبر من أن يكون تصويراً دقيقاً لليوناردو في عامه الستين أو الحادي والستين: إنّه أقرب إلى صورة رمزية لرسم تورين الشخصي، والذي ربما يعود تأريخه إلى أواخر سني عمر الفنان، بيد أنّه خالٍ من الفخامة المؤلمة التي تسري في مزاج ذلك الرسم. إنّه كما يقول كينيث كلارك، " كاريكاتير شخصي" أكثر منه رسم شخصي: تصوير ملؤه الأسى له وهو يتداعى، حزيناً، محبطاً، ومهمشاً. 
كان لليوناردو دائماً صورة لا تخلو من سخرية لنفسه كرجل عجوز- تلك الشخصية الكوميدية على طراز "كسارة البندق"، في مقابلة لعوبة مع عنفوان الشباب في الناحية المقابلة وهو الآن وفجأة في الستين، ويعرف هذا الشعور.
هنالك ثلاث صور ذاتية يجوز القول بأنّها تحمل صورة حقيقية لليوناردو في حوالي الستين من عمره، وجميعها من عمل تلاميذه. اثنتان منها في مجموعة ويندسر، والثالثة كانت نسخة من لوحة، وهي تحمل لنا هنا للمرة الأولى شبهاً أصيلاً لليوناردو. 

رسم تمهيدي ذاتي لليوناردو من عام 1510
والرسم الذاتي الجميل والشهير بالطبشور الأحمر (لوحة 15)، منقوش تحته  بحروف كبيرة وخط معاصر أنيق "Leonardo Vinci"، وهو يعتبر " أكثر ما نجا من رسومات الفنان الكبير الذاتية دقةً و موضوعية"، وهي رسم جانبي نموذجي أصبح صورة قياسية لليوناردو في أواسط القرن السادس عشر (بأسلوب الحفر على الخشب الذي استخدمه فازاري وجيوفيو على سبيل المثال).   ولا غبار على نسبته إلى فرانسسكو ميلزي. إنّه رسم متقن جداً، وهو بالتأكيد أحدث من رسم ميلزي السابق الذي يعود إلى واسط عام 1510. الشعر المتموج الطويل ينسدل مشيراً إلى النحافة، ويبدو أنّه قد ابيضَّ الآن أو تحول إلى اللون الفضي- ليس بوسعنا التحديد فالطبشور أحمر، ولكنه يعطي ذلك الانطباع؛ بيد أنّه ما زال غزيراً وقوياً، والعين مستقرة، وشيء يسير من الأنوثة يظلل شفتيه، الشارب ممشط بعناية. إنّه رسم لرجل كان جميلا في صباه (كما تؤكد الروايات السابقة عن ليوناردو) وما زال وسيماً إلى حدٍ يثير الدهشة. وهو لم يصل بعد إلى صورة الشيخ في بورتريه تورين، في الحقيقة ما زال وجهه خاليًا من التجاعيد بوضوح. وإني لأقول إنّه رسم شخصي لليوناردو في حوالي الستين من العمر، رسمه ميلزي في فابريو دادا عام 1512 أو 1513. وكما هو معتاد في مجموعة ويندسر فإنّ الورقة قد قصّت من الزوايا بسبب زيادتها، وعلى ظهرها ما يشير إلى أنّها كانت ملصقة على مسند. يحتمل جداً أنّها هي الرسم الذي رآه فازاري عندما زار ميلزي في فابريو عام 1566، فكتب "يقدّر فرانسسكو تلك الأوراق باعتبارها من آثار ليوناردو ويحفظها إلى جانب الصورة الشخصية لذلك الفنان صاحب تلك الذكرى السعيدة."
وهنالك رسم تمهيدي صغير بالقلم والحبر أقل شهرة وأكثر مراوغة تظهر فيه سيقان "أحصنة". 
هذا هي صورة لليوناردو بشكل مؤكد على الأغلب بريشة أحد تلاميذه (تم التظليل باليد اليمنى، لذلك فهو ليس بيد ليوناردو). ويبدو فيه ثلاثة أرباع الوجه بميلان نحو اليسار، ولكن الملامح تشبه إلى حدٍ كبير الوجه المرسوم بالطبشور الأحمر. وربما كانت لدراسات سيقان "الأحصنة" صلة بمشروع ليوناردو لصرح تريفولزيو في الفترة من 1508-1511، لقد كان رسم الصورة في الاتجاه الثاني إلى الجانب الأعلى من دراسات الحصان، بيد أنّه لا يمكن الجزم بأيهما كان قبل الآخر. يبدو ليوناردو أصغر ببضع سنوات عنه في صورة ميلزي، عليه فإنَّ تأريخ ذلك حوالي 1510 قد يكون معقولاً. ويظهر في الرسم وهو يرتدي قبعة من نوع ما، وهو شيء مثير للاهتمام، ويدل عليها الخط المتموج عبر جبينه، والظل الملقي وراء خده الأيمن. معظم صور ليوناردو الشخصية في القرن السادس عشر، بيد أنّها بلا شك قائمة على صورة ميلزي له، تظهره وهو يرتدي قبعة. في الرسم المحفور على الخشب في حيوات فازاري كان يرتدي بيريتا بغطاء للأذنين، والتي ربما كانت نوعاً من أدوات الرأس المشار إليها في الرسم التمهيدي بويندسر. ربما اشتقت هذه التفصيلة في "صورة" ليوناردو من رسومات الوجه التي كان هذا الرسم التمهيدي من آثارها الناجية.
وإنّي لأشك بكل تأكيد في وجود رسم يظهر سمات رسم ويندسر بالعكس- مثلا ثلاثة أرباع الوجه إلى اليمين. ويمكن إعادة رسمه ببساطة عن طريق تعقب خطوط رسم ويندسر من الجانب الآخر للورقة (لوحة 25)، وهذا الأسلوب موجود بكثرة في رسومات ليوناردو نفسه.  وهذه النسخة العكسية من رسم ويندسر التمهيدي ليست مفقودة تماماً- فسماتها محفوظة بدقة في شخصية القديس جيروم ذي اللحية التي رسمها تلميذ ليوناردو الميلانيّ جيوفاني بيترو ريزولي، أو جيامبيترينو(لوحة26).
وبمعزل عن الاتجاهات المعاكسة للوجه بثلاثة أرباع الحجم، فإنّ جيروم يشبه رسم ويندسر التمهيدي في كل شيء آخر- خط الأنف، العينين المزاجيتين، اللحية، وحتى خط القبعة (يعتمر القديس جيروم قبعة الكرادلة بحسب العرف) والقلنسوة.
واللوحة هي صورة المذبح التي تظهر فيها العذراء والطفل مع القديس جيروم والقديس يوحنا المعمدان. وقد رسمها جيامبيترينوم في عام 1515، وقد كُلف بها بأمر جيرومي لكنيسة في اسبيداليتو لوديجيانو، بالقرب من مدينة لودي اللومباردية، وهي ما زالت معلقة في الكنيسة.  ومن الواضح تأثرها بليوناردو، مثلها مثل جميع أعمال جيامبيترينو. المسيح الطفل يلعب مع حمل؛ مقتبسة من العذراء والطفل والقديسة حنّة الموجودة في اللوفر، ووجه السيدة العذراء قد حوكي بشكل كبير في لوحة عذراء الصخور بلندن، وهذان كلاهما من العهد الميلاني الثاني لليوناردو، عندما التحق جيامبيترينو بمرسمه. وكما رأينا فإنّ نسخة جيامبيترينو الخاصة من ليدا الجاثية رُسمت فوق جزء من مجموعة القديسة حنّة، ويمكن رؤيته الآن بالأشعة السينية فقط. ويجوز تأريخ رسم ويندسر التمهيدي إلى حوالي عام 1510، وهو بشكل عام مقارب للزمن الذي رسمت فيه لوحة القديسة حنّة ونسخ ليدا باللوفر- بالتزامن مع مشاركة جيامبيترينو في الورشة. والرسم التمهيدي في حد ذاته ليس ذا أهمية ولكنه خربشة في شيء من التفصيل لا غير. وهو مهم لأنّه يعتبر صورة شخصية حقيقية لليوناردو، ولأنّها عُكست في صورة القديس جيروم في الاوبسيداليتو لوديجيانو، والتي بالتالي أصبحت رسماً منكسراً له. 
الرابط المحتمل بينهم هو رسم ليوناردو المفقود بيد جيامبيترينو. لقد كان أساساً لرسم ويندسر التمهيدي، والذي توجد منه نسخة معكوسة صغيرة، وقد استخدمها جيامبيترينو كنموذج أو كارتون لملامح القديس جيروم في زينة مذبح لوديجيانو- تحية لمعلمه العجوز، الذي كان وقتها في روما، ولكنه يرى في اللوحة كما لو أنّه سيُرى في ميلانو، يقترب من الستين: اللحية المشوبة بلمعة الفضة، والوجه المحفور، وقوة العينين، والولع بالقبعات.


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment